الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿إنّا أنْزَلْنا إلَيْكَ الكِتابَ بِالحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا واسْتَغْفِرِ اللَّهَ إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا ولا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ إنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كانَ خَوّانًا أثِيمًا ﴾ [النساء: ١٠٥ ـ ١٠٧].
في الآيةِ: تعظيمُ القرآنِ وحُكْمِ اللهِ فيه، وأنّ اللهَ أنزَلَهُ حقًّا لا شائبةَ باطلٍ فيه، وبيَّنَ المقصدَ من ذلك، وهو الحُكْمُ بينَ الناسِ والفَصْلُ بينَهم في شأنِ دينِهم ودُنياهم.
تقديمُ القرآنِ على الرأي:
وفي قولِه تعالى: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ﴾ دليلٌ قاطعٌ على تحريمِ تقديمِ الرَّأْيِ على الوَحْيِ، فاللهُ أمَرَ نبيَّه أن يحكُمَ بما يُريهِ اللهُ، لا بما يَراهُ هو بلا وحيٍ، مع كونِ النبيِّ ﷺ أصحَّ الناسِ عقلًا، وأزكاهُم نفسًا، وأسَدَّهم رأيًا، لأنّ الأمرَ ربَّما يتعلَّقُ بغيبٍ يؤثِّرُ العِلْمُ به في الحُكْمِ المشاهَدِ، فلو صحَّ عقلُ الإنسانِ وزكَتْ نفسُه، لن يُصيبَ الحقَّ في ذلك، لغيابِ بعضِ أطرافِهِ عنه.
وقد روى عِكْرِمَةُ، عنِ ابنِ عبَّـاسٍ، قال: «إيّاكم والرَّأيَ، قال اللَّهُ لنبيِّه: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ﴾، ولم يَقُلْ: بما رأيتَ»، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٤/١٠٥٩).]].
وحمَلَ ابنُ عبّاسٍ في وجهٍ آخَرَ الذي أراهُ اللهُ على أنّه الكتابُ المُنزَّلُ[[المرجع السابق.]].
وتدلُّ الآيةُ بدليلِ الخطابِ: أنّ ما لم يَقْضِ اللهُ به في وحيِه، فلِلنَّبِيِّ ﷺ الحُكْمُ فيه بما يَراهُ، لأنّ الأمرَ مقيَّدٌ بما بانَتْ حُجَّتُهُ مِن الكتابِ، وظهَرَ مرادُ اللهِ فيه.
روى مالكٌ، عن ربيعة الرأيِ قولَهُ: «أنزَلَ اللهُ القرآنَ وترَكَ فيه موضعًا للسُّنَّةِ، وسَنَّ الرسولُ ﷺ السُّنَّةَ وترَكَ فيها موضعًا للرأيِ»، رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ[[المرجع السابق.]].
وما أرى اللهُ نبيَّه في قولِه: ﴿بِما أراكَ اللَّهُ﴾ يَدخُلُ فيه الأمرانِ:
ـ الأحكامُ القطعيَّةُ على نتائجِ الأشياءِ، فلا تُبحَثُ ولا تُنظَرُ، كالنَّهْيِ عنِ الشِّرْكِ والسِّحْرِ والخمرِ والزِّنى والسَّرِقةِ، ووجوبِ الصلاةِ والزكاةِ والصيامِ والحجِّ، والمُباحاتِ، كحِلِّ البيوعِ والمعامَلاتِ والملبوساتِ، فهذه قطعيَّةٌ لا تُبحَثُ أدواتُ إثباتِ حُكْمِها، لأنّ اللهَ قضى فيها.
ـ أدواتُ الحُكْمِ الموصِّلةُ إليه، وذلك مِن معرفةِ البيِّناتِ، كالشُّهودِ والإقرارِ واليمينِ وغيرِها، ممّا دلَّ الدليلُ على أنّه أداةٌ موصِّلةٌ إلى الحُكْمِ، فيُؤخَذُ بها ولو مالَتِ النفسُ أو عَلِمَتْ غيرَها، فلا يَجوزُ للحاكمِ أن يَحكُمَ بعِلْمِه، ولا بما يُحِبُّ، ولا بِتَرْكِ ما يَكرَهُ، ولذا قال مطرٌ في قولِه: ﴿بِما أراكَ اللَّهُ﴾، قال: «بالبيِّناتِ والشهودِ»[[«تفسير ابن أبي حاتم» (٤/١٠٥٩).]].
خطأُ الحاكمِ إذا اجتهَدَ:
ومَن حكَمَ بأدواتِ الحقِّ التي أمرَ اللهُ بها، حكَمَ بما أراهُ اللهُ، ونجا وبرِئَتْ ذمَّتُه، ولو لم يكُنْ ذلك الحُكْمُ في باطنِهِ يُوافِقُ حُكْمَ اللهِ، لأنّ اللهَ أمَرَ بالحُكْمِ بما يَراهُ الإنسانُ مِن أدواتِ الحقِّ التي أمَرَ اللهُ بها، وأن يَستفرِغَ وُسعَهُ في تحقيقِها، فيحكُمَ بها، وبهذا كان قضاءُ النبيِّ ﷺ كما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أمِّ سَلمةَ، أنّ رسولَ اللهِ ﷺ سَمِعَ جَلَبَةَ خَصْمٍ بِبابِ حُجْرَتِهِ، فَخَرَجَ إلَيْهِمْ، فَقالَ: (إنَّما أنا بَشَرٌ، وإنَّهُ يَأْتِينِي الخَصْمُ، فَلَعَلَّ بَعْضَهُمْ أنْ يَكُونَ أبْلَغَ مِن بَعْضٍ، فَأَحْسِبُ أنَّهُ صادِقٌ، فَأَقْضِي لَهُ، فَمَن قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ مُسْلِمٍ، فَإنَّما هِيَ قِطْعَةٌ مِنَ النّارِ، فَلْيَحْمِلْها أوْ يَذَرْها)[[أخرجه البخاري (٢٤٥٨) (٣/١٣١)، ومسلم (١٧١٣) (٣/١٣٣٧).]].
سبَبُ عدمِ تساوي أجرِ المجتهدين:
ويؤجَرُ الحاكمُ المجتهِدُ بأدواتِ الحقِّ ولو لم يُصِبْ، وأَجْرُ المُصِيبِ أجرانِ، وأجرُ المُخطِئِ المُجتهِدِ أجرٌ واحدٌ لاجتهادِه، وإنّما لم يتَساوَيا في الأجرِ مع أنّ كلَّ واحدٍ منهما أخَذَ ما ظهَرَ له، حتّى لا يُقصِّرَ الحاكمُ في استفراغِ وُسْعِهِ في طلَبِ البيِّناتِ أو الغَفْلةِ عن سماعِ الحُجَجِ، فتُعْجِلُهُ نفسُهُ في الحُكْمِ، لاستواءِ الأجرَينِ للمُصيبِ والمخطِئِ، فإنّ النفوسَ تتساهلُ في سلوكِ أيِّ الطريقَيْنِ إذا كانَتْ غايتُهما واحدةً.
وإذا ظهَرَ حُكْمُ اللهِ القطعيُّ في كتابِهِ في شيءٍ، فلا يجوزُ النظرُ في أدواتِه، لأنّ اللهَ اختصَرَ الطريقَ للحُكْمِ بإلغاءِ أدواتِه، فلا يُحِلُّ أحدٌ الزِّنى والحريرَ ولُبْسَ الذَّهَبِ للرِّجالِ والسُّفُورَ للمرأةِ والاختلاطَ والخَلْوةَ بها، ونحوَ ذلك.
خطأُ القاضِي لا يغيِّرُ الحقوقَ:
ولو حكَمَ الحاكمُ بما ظهَرَ له، وخالَفَ حُكْمَ اللهِ باطنًا، لم يَجُزْ للمحكومِ له ـ إنْ كان عالِمًا بأنّ الحقَّ ليس له ـ أنْ يَأكُلَهُ بحُجَّةِ حُكْمِ القاضي، فإنّ حُكْمَ القاضي يُبرِّئُ ذمَّتَهُ لا ذمَّةَ المتخاصِمَيْنِ، وقد قال النبيُّ ﷺ لرجُلَيْنِ اختصَما في مواريثَ بينَهما قد دَرَسَتْ ليس بينَهما بيِّنةٌ، فقال لهما نحوَ ما في حديثِ أمِّ سَلَمةَ، ثمَّ ترَكَ كلُّ واحدٍ حقَّه لصاحِبِهِ باكيًا، قال: (أما إذْ قُلْتُما، فاذْهَبا فاقْتَسِما، ثُمَّ تَوَخَّيا الحَقَّ، ثُمَّ اسْتَهِما، ثُمَّ لْيَحْلِلْ كُلُّ واحِدٍ مِنكُما صاحِبَهُ)، أخرَجَهُ أحمدُ وأبو داودَ[[أخرجه أحمد (٢٦٧١٧) (٦/٣٢٠)، وأبو داود (٣٥٨٤) (٣/٣٠١).]].
وتقدَّمَ في سورةِ البقرةِ التفصيلُ في ذلك عندَ قولِهِ تعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالباطِلِ وتُدْلُوا بِها إلى الحُكّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِن أمْوالِ النّاسِ﴾ [١٨٨].
حكمُ القاضِي بعلمِهِ:
وفي قولِه تعالى: ﴿لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّاسِ بِما أراكَ اللَّهُ﴾ عدمُ جوازِ حُكمِ الحاكمِ بعِلْمِه، وإنّما يأخُذُ بحكمِ اللهِ الذي يقضي بالنتيجةِ، أو بحكمِ اللهِ الذي هو أدواتُ الوصولِ إلى الحقِّ، ولو خالَفَ ما يَعْلَمُهُ بنَفْسِه مِن الحقِّ، وإنّما منَعَ اللهُ مِن حُكْمِ الحاكمِ بعِلْمِه، لئلاَّ يكونَ ذلك ذريعةً إلى أخذِ الحقوقِ ببُرْهانٍ غائبٍ، فيُؤدِّيَ إلى فسادِ دُنيا الناسِ بفسادِ قُضاتِهم، فيقَعُ الظُّلْمُ، وتُؤكَلُ الحقوقُ، ويُحالُ إلى برهانٍ ودليلٍ لا يَعْلَمُهُ إلاَّ الحاكمُ، فيقعُ الحُكْمُ بالهوى.
ثمَّ إنّ في حكمِ الحاكمِ بعِلْمِه ـ ولو كان يقينًا ـ تُهَمةً له وسهولةً للوقيعةِ في عِرْضِه، والطَّعْنِ في دينِهِ وأمانتِه، فالناسُ يَجحَدونَ الحقوقَ وعليها بيِّناتٌ شاهدةٌ، ويتَّهِمونَ القُضاةَ بالمَيْلِ لِخُصُومِهم ومعَهم بيِّناتٌ، فكيف والبيِّناتُ غيرُ ظاهرةٍ لا يعلَمُها إلاَّ الحاكمُ بها؟! فإنّ هذا يفتَحُ بابًا عريضًا لتُهَمةِ الحُكّامِ والقُضاةِ، فصانَ اللهُ عِرْضَهم وبرَّأَ ذمَّتَهم بأمْرِهم ألاَّ يَحْكُموا بعِلْمِهم.
وإنّما نهى اللهُ نبيَّه عن ذلك مع عَدْلِهِ وعِصْمَتِه، لأنّه مشرِّعٌ لأمَّتِهِ وقدوةٌ لِمَن بعدَهُ مِن الحُكّامِ والقضاةِ، فجرى عليه ما يَجري عليهم، حتّى لا يستَنَّ به مُبطِلٌ، ويَظُنَّ أنّه مِثلُه.
وحُكْمُ الحاكمِ والقاضي بعِلْمِهِ ممّا اختَلَفَ فيه الفقهاءُ.
والجمهورُ: على أنّه لا يحكُمُ بعِلْمِهِ قبلَ مجلسِ قضائِه، فكلُّ ما عَلِمَهُ قبلَ ولايتِهِ لا يحكُمُ به، وهو قولُ مالكٍ وأبي حنيفةَ وأحمدَ.
خلافًا للشافعيِّ، فقد أجازَ حُكْمَ القاضي بعِلْمِه، وله قولانِ:
أحدُهمـا: قيَّدَ ذلك بالأموالِ فقَطْ.
والثـاني: أطلَقَهُ في جميعِ الأحكامِ مِن الأموالِ والحدودِ.
والأوَّلُ مِن قولَيْهِ هو قولُ أبي يوسُفَ ومحمَّدِ بنِ الحسَنِ أصحابِ أبي حنيفةَ.
وقولُ الشافعيِّ بمِصْرَ يُقيِّدُ حُكْمَ الحاكمِ بعِلْمِهِ إذا كان الحاكمُ مشهورًا بالعَدْلِ بعيدًا عَنِ التُّهَمةِ.
واختلَفَ المانِعونَ مِن حُكْمِ الحاكمِ بعِلْمِه في حُكْمِ القاضي بما يَعْلَمُهُ بعدَ ولايتِه للحُكْمِ، يَعني: بما بانَ له مِن دليلٍ في أثناءِ الحُكْمِ، ولو جحَدَهُ صاحِبُهُ ولم يسمَعْهُ غيرُ القاضي، فهل له أن يحكُمَ به؟ على قولينِ:
الأوَّلُ: قالوا بجوازِ حُكْمِ الحاكمِ بعِلْمِهِ بعدَ ولايتِهِ للقضيَّةِ ولو لم يَسمَعْهُ إلاَّ هو، ولو جحَدَهُ صاحبُهُ، وقيَّدُوه بالأموالِ خاصَّةً، لا في الحدودِ، وبهذا قال أبو حنيفةَ والأوزاعيُّ وجماعةٌ مِن أصحابِ مالكٍ.
الثَّـاني: قالوا: إنّه لا يَحكُمُ بعِلمِه مُطلَقًا ولو كان في مجلِسِ قضائِهِ وبعدَ ولايتِهِ للحُكْمِ في قضيَّتِه، وهو قولُ أحمدَ وإسحاقَ وأبي عُبَيْدٍ، ومِنَ التابعينَ شُرَيْحٌ والشَّعْبيُّ.
ومَن أجازَ حُكْمَ الحاكمِ في قضيَّةٍ بعِلْمِهِ قبلَ مجلسِ قضائِه، يقولُ بجوازِه بعدَ ولايتِهِ للحُكْمِ فيها مِن بابِ أوْلى، ومَن منَعَ منه في مجلسِ قضائِه، فإنّه يَمنعُ مِن حُكْمِهِ بما يَعْلَمُهُ قبلَهُ مِن بابِ أوْلى.
وقد كان الشافعيُّ ـ وهو المخالِفُ للجمهورِ في قضاءِ القاضي بعِلْمِه ـ يقولُ: «لولا قُضاةُ السُّوءِ، لقُلْتُ: إنّ للحاكمِ أن يَحكُمَ بعِلمِه!»[[«فتح الباري» (١٣/١٦٠).]].
وهذا مِن فِقْهِه، فإنّ أصلَ منعِ القاضي أنْ يَحكُمَ بعِلْمِهِ هو تُهَمَتُه، ولو رَضِيَ الناسُ حُكْمَه، ولم يَختَلِفوا عليه ولم يتَنازَعُوا مِن بَعْدِه، مع عِلْمِه وديانتِه، وبُعْدِه عن التُّهَمةِ ـ: لم يَرِدْ نهيٌ قاطعٌ في الشريعةِ، ولا في قولِ السلفِ عن ذلك.
وفي الأزمِنَةِ المتأخِّرةِ مع ضعفِ أمانةِ كثيرٍ مِن الحُكّامِ والقُضاةِ، فإنّ منعَ حُكْمِ الحاكمِ بعِلْمِهِ هو المتعيِّنُ الذي لا ينبغي حكايةُ الخلافِ عليه، ولو كان الخلافُ متقدِّمًا، فإنّ خلافَ السَّلَفِ والفقهاءِ في عَيْنِ المسألةِ.
وأمّا مع تحقُّقِ التُّهَمةِ وضعفِ الأمانةِ والنِّزاعِ والخُصُومةِ، فلا أُراهم يَختلِفونَ في مَنعِ الحاكمِ أن يحكُمَ بعِلْمِه، فإنّ هذا ولو لم يَجْرِ على فروعِهم، فإنّه يجري على أصولِهم، وقد أشار غيرُ واحدٍ مِن العلماءِ إلى هذا المعنى، كابنِ القيِّمِ، فقد قال: «وحتّى لو كان الحقُّ هو حُكْمَ الحاكمِ بعِلْمِهِ، لوَجَبَ مَنعُ قُضاةِ الزَّمانِ مِن ذلك»[[«الطرق الحكمية» (ط. عالم الفوائد) (٢/٥٣٠).]].
وقد ترجَمَ البخاريُّ في «صحيحِه» على مِثْلِ هذا القيدِ وهذا المعنى، بقولِه: «بابُ مَن رَأى لِلْقاضِي أنْ يَحْكُمَ بِعِلْمِهِ فِي أمْرِ النّاسِ، إذا لَمْ يَخَفِ الظُّنُونَ والتُّهَمَةَ، كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِهِنْدٍ: (خُذِي ما يَكْفِيكِ ووَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ)، وذَلِكَ إذا كانَ أمْرًا مَشْهُورًا»[[«صحيح البخاري» (٩/٦٦).]]، وقد حكَمَ النبيُّ لهِنْدٍ أن تأخُذَ مِن مالِ زوجِها بغيرِ إذنِهِ بحقٍّ، كما في حديثِ عائشةَ: أنّ هندَ بنتَ عُتبةَ أتَتِ النبيَّ ﷺ فقالَتْ: يا رسولَ اللهِ، إنّ أبا سُفْيانَ رجلٌ شَحيحٌ، وليسَ لي مِنه إلاَّ ما يَدخُلُ بيتي! فقال النبيُّ ﷺ: (خُذِي ما يَكْفِيكِ ووَلَدَكِ بِالمَعْرُوفِ).
والبخاريُّ حمَلَ ذلك على انتِفاءِ التُّهَمةِ، لكَوْنِهِ حُكْمًا خاصًّا، لا يَتْبَعُهُ خِلافٌ ولا جحودٌ ولا نزاعٌ.
ومِنَ العلماءِ: مَن يَحمِلُ قولَ النبيِّ ﷺ لهِندٍ على أنّه فُتيا لا حُكْمٌ بينَ مُتخاصِمَيْنِ.
وعند أدنى التُّهَمِ لم يكُنِ النبيُّ ﷺ يقضي بعِلْمِهِ وهو الصادقُ المصدوقُ، فقد ثبَتَ عنِ النبيِّ ﷺ: أنّه اشتَرى فرَسًا، فجحَدَهُ البائعُ، فلم يحكُمْ عليه بعِلْمِهِ، وقال: (مَن يَشهَدُ لي؟)، فقامَ خُزَيْمةُ فشَهِدَ، فحَكَم[[أخرجه أحمد (٢١٨٨٣) (٥/٢١٥)، وأبو داود (٣٦٠٧) (٣/٣٠٨)، والنسائي (٤٦٤٧) (٧/٣٠١).]].
وبنحوِ هذا يَعمَلُ أبو بكرٍ وعمرُ بنُ الخطّابِ رضي الله عنهما، فقد روى ابنُ أبي شَيْبةَ وغيرُهُ، مِن حديثِ عَمْرِو بنِ إبراهيمَ الأنصاريِّ، عَن عمِّه الضَّحّاكِ، قال: اخْتَصَمَ رَجُلانِ إلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ ادَّعَيا شَهادَتَهُ، فَقالَ لَهُما عُمَرُ: «إنْ شِئْتُما شَهِدتُّ ولَمْ أقْضِ بَيْنَكُما، وإنْ شِئْتُما قَضَيْتُ ولَمْ أشْهَدْ»[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢١٩٣٠) (٤/٤٤١).]].
وبمعنى هذا قال شُرَيْحٌ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢١٩٣٢) (٤/٤٤١).]] والشَّعْبيُّ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (ط. عوامة) (٢٢٣٦٣) (١١/٢٩٤).]].
وما كان مِن حقِّ اللهِ وحدودِه وأحكامِه، كأحكامِ الطَّلاقِ والعِدَّةِ وحدودِ الخَمْرِ والقَذْفِ والزِّنى والسَّرِقةِ، فإنّها أوْلى بِمَنعِ الحاكمِ أن يحكُمَ بعِلْمِهِ فيها، لأنّ حقَّ اللهِ مبنيٌّ على المُسامَحةِ لعبادِهِ والسَّتْرِ عليهم، والشَّرِيعةُ تتشوَّفُ إلى دَفْعِها بالشبهاتِ، بخلافِ حقوقِ الآدَميِّينَ، فهي مبنِيَّةٌ على المشاحَّةِ، وقد روى البيهقيُّ وغيرُهُ، عن أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ، أنّه قال: «لو وجَدتُّ رجلًا على حدٍّ مِن حدودِ اللهِ، لم أحُدَّهُ حتى يكونَ معي غيري»[[أخرجه البيهقي في «السنن الكبرى» (١٠/١٤٤)، وابن المنذر في «الأوسط» (١٢/٤٥٩).]].
الدفاعُ والمحاماةُ عن الظالمِ:
وفي قولِه تعالى: ﴿ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا ﴾ نهيٌ عن نُصْرةِ أهلِ الباطلِ، و ﴿خَصِيمًا ﴾، يَعني: مُدافِعًا مُناصِرًا.
وقد جاء في نزولِ هذه الآيةِ مِن حديثِ ابنِ عبّاسٍ عندَ ابنِ مَرْدَوَيْهِ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٧/٤٦٣)، و«تفسير ابن كثير» (٢/٤٠٥).]]، ومِن حديثِ قَتادةَ بنِ النُّعْمانِ عندَ ابنِ إسحاقَ، وعنه التِّرْمِذيُّ[[ينظر: «سنن الترمذي» (٣٠٣٦) (٥/٢٤٤)، و«تفسير الطبري» (٧/٤٥٩)، و«تفسير ابن كثير» (٢/٤٠٥).]]: أنّ رجلًا سرَقَ دِرْعَ رجلٍ وهُمْ في غزوةٍ، فشَكا صاحبُ الدِّرْعِ السارِقَ ـ وكان مِن بني أُبَيْرِقٍ ـ فلمّا سَمِعَ السارِقُ، وضَعَ الدِّرْعَ في بيتِ رجلٍ بريءٍ، وجاء قومُهُ يُدافِعُونَ عنه ويُخاصِمونَ وهم يَعلَمونَ أنّه السارِقُ، فطَلَبُوا إلى النبيِّ ﷺ أن يَعْذِرَ صاحِبَهُمْ، ويُجادِلَ عنه أمامَ الناسِ، فنزَلَتِ الآيةُ، وفي سندِ القِصَّةِ لِينٌ.
ويعضُدُه ما جاء مُرسَلًا مِن حديثِ ابنِ أبي نَجِيحٍ عن مجاهِدٍ[[«تفسير الطبري» (٧/٤٥٨).]]، وأسباطٍ عنِ السُّدِّيِّ[[«تفسير الطبري» (٧/٤٦٦).]]، وابنِ جُريجٍ عن عِكْرِمَةَ[[«تفسير الطبري» (٧/٤٦٨).]]، ومَعمَرٍ عن قتادةَ[[«تفسير الطبري» (٧/٤٧١).]]، رواها ابنُ جريرٍ، ورواهُ جُوَيْبِرٌ عن الضحّاكِ، أخرَجَهُ ابنُ شَبَّةَ[[«أخبار المدينة» لابن شبة (١/٢٣٠).]]، وفيه أنّ مَنِ اتُّهِمَ بذلك يهوديٌّ وهو بريءٌ مِنه.
واللهُ أمَرَ بالعدلِ في الحقوقِ حتّى مع الكافرِ، فلا يُقضى لمسلِمٍ لأنّه مسلِمٌ وهو ظالِمٌ، ولا يُقضى على الكافرِ لأنّه كافرٌ وهو مظلومٌ، فإذا كان الولاءُ للمؤمنِ لا يُجِيزُ نُصرَتَهُ على ظُلْمِهِ إلاَّ بِدَفْعِه، وولاءُ الإيمانِ أعظَمُ مِن ولاءِ النَّسَبِ والحَسَبِ، والأَرْضِ والعِرْقِ، فإنّ الانتصارَ للظالمِ لِوَلاءٍ دونَ ولاءِ الإيمانِ أعظَمُ جُرْمًا، وأشَدُّ إثمًا.
حكمُ الوَكالَةِ والنيابةِ في الخصومةِ:
وفي قولِه تعالى: ﴿ولا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيمًا ﴾، والآيةِ التي بَعدَها: ﴿ولا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أنْفُسَهُمْ﴾ دليلٌ على جوازِ الوَكالةِ، بدليلِ الخِطابِ، فاللهُ نهى عن المُخاصَمةِ نيابةً عن الخائنِ، وهذا يدلُّ على جوازِها عن صاحبِ الحقِّ والمظلومِ، ويدلُّ على هذا الآيةُ التاليةُ في قولِه تعالى: ﴿فَمَن يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ القِيامَةِ أمْ مَن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وكِيلًا ﴾ [النساء: ١٠٩]، يَعني: كنتُم وُكلاءَ عنهم في الدُّنيا بالباطلِ، ولن تكونوا كذلك في الآخِرةِ، وهذا يتضمَّنُ صحَّةَ الوَكالةِ في الخصومةِ وغيرِها في الدُّنيا في الحقوقِ، والوَكالةُ هي: النِّيابةُ عن أحدٍ في أمرِهِ بإذْنِه.
والوَكالةُ لا خلافَ في صِحَّتِها، وقد ذكَرَها اللهُ في مواضعَ كقِصَّةِ أصحابِ الكَهْفِ: ﴿فابْعَثُوا أحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إلى المَدِينَةِ﴾ [الكهف: ١٩]، وقد توكَّلَ عنهم جميعًا بالبيعِ والشِّراءِ.
وفي ذلك: صحَّةُ وكالةِ الواحدِ عن الجماعةِ، وكذلك تصحُّ الوكالةُ في مصالحِ المُسلِمينَ، كما في عَمالةِ جابي الزَّكاةِ ومُقسِّمِها، كما في قولِه تعالى: ﴿والعامِلِينَ عَلَيْها﴾ [التوبة: ٦٠].
وقد احتجَّ الشافعيُّ للوكالةِ بآيةِ الحكَمَيْنِ، وبما جاء عن عليٍّ في بَعْثِهِ الحكَمَيْنِ في الشِّقاقِ بينَ الزوجَيْنِ.
وقد جاء في السُّنَّةِ الصحيحةِ ذلك كثيرًا، مِن ذلك ما في حديثِ جابرٍ، أنّه أراد الخروجَ إلى خَيْبَرَ، فقال له النبيُّ ﷺ: (إذا أتَيْتَ وكِيلِي، فَخُذْ مِنهُ خَمْسَةَ عَشَرَ وسْقًا، فَإنِ ابْتَغى مِنكَ آيَةً، فَضَعْ يَدَكَ عَلى تَرْقُوَتِهِ)، رواهُ أبو داودَ[[أخرجه أبو داود (٣٦٣٢) (٣/٣١٤).]].
وقد وكَّلَ النبيُّ ﷺ حَكِيمَ بنَ حِزامٍ في شِراءِ شاةٍ[[أخرجه أبو داود (٣٣٨٦) (٣/٢٥٦)، والترمذي (١٢٥٧) (٣/٥٥٠).]]، ووكَّلَ النبيُّ ـ كما في حديثِ أبي هُرَيْرةَ ـ في قضاءِ دَيْنِهِ، كما في «الصحيحِ»، فقال: (أعْطُوهُ سِنًّا مِثْلَ سِنِّهِ) [[أخرجه البخاري (٢٣٠٦) (٣/٩٩).]]، وقد وكَّلَ النبيُّ ﷺ بعضَ الصحابةِ على خَيبرَ، وقد قام عُمرُ وابنُهُ بالتوكيلِ في الصَّرْفِ، وتصحُّ الوكالةُ في عقودِ الأَنْكِحَةِ، كما تَصِحُّ في عقودِ البُيوعِ، كما وكَّل النبيُّ ﷺ عَمْرَو بنَ أُمَيَّةَ الضَّمْرِيَّ بالعقدِ له على أمِّ حبيبةَ بنتِ أبي سُفْيانَ في الحَبَشةِ، لمّا تُوُفِّيَ زَوْجُها عُبيدُ اللهِ بنُ جَحْشٍ بالحبَشةِ وقد هاجرَ بها إليها.
وتَصِحُّ الوكالةُ في الحدودِ، كما في قولِ النبيِّ ﷺ: (اغْدُ يا أُنَيْسُ إلى امْرَأَةِ هَذا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها) [[أخرجه البخاري (٢٣١٤) (٣/١٠٢)، ومسلم (١٦٩٧) (٣/١٣٢٤).]]، وتجوزُ الوَكالةُ في كلِّ ما تصحُّ فيه النِّيابةُ، وقد تقدَّمَت الإشارةُ إلى شيءٍ مِن ذلك في سورةِ آلِ عِمرانَ عندَ قولِه: ﴿ومِن أهْلِ الكِتابِ مَن إنْ تَأْمَنهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إلَيْكَ﴾ [٧٥].
والآيةُ في جوازِ الوَكالةِ في التقاضي والترافُعِ والخصوماتِ، وبيانِ حُرْمَتِها عندَ معرِفةِ ظُلْمِ الموكِّلِ وبَغْيِه، وكلُّ مالٍ يُؤخَذُ على وكالةٍ في ظلمٍ وخيانةٍ، فهو سُحْتٌ، وفي غيرِ ذلك فالأصلُ الإباحةُ، وقد كان عليٌّ يُوَكِّلُ في خُصومتِهِ عَقِيلَ بنَ أبي طالبٍ وعبدَ اللهِ بنَ جعفرٍ، وكان لا يَحْضُرُها بنَفْسِه، ويقولُ: «إنّ للخُصُومةِ قُحَمًا يَحْضُرُها الشَّيْطانُ»، رواهُ ابنُ أبي شيبةَ والبيهقيُّ[[أخرجه ابن أبي شيبة في «مصنفه» (٢٣١٧٧) (٥/٥)، والبيهقي في «السنن الكبرى» (٦/٨١).]].
{"ayahs_start":105,"ayahs":["إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا","وَٱسۡتَغۡفِرِ ٱللَّهَۖ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ غَفُورࣰا رَّحِیمࣰا","وَلَا تُجَـٰدِلۡ عَنِ ٱلَّذِینَ یَخۡتَانُونَ أَنفُسَهُمۡۚ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّانًا أَثِیمࣰا"],"ayah":"إِنَّاۤ أَنزَلۡنَاۤ إِلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ لِتَحۡكُمَ بَیۡنَ ٱلنَّاسِ بِمَاۤ أَرَىٰكَ ٱللَّهُۚ وَلَا تَكُن لِّلۡخَاۤىِٕنِینَ خَصِیمࣰا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق