الباحث القرآني

يَقُولُ تَعَالَى: إِذَا خِفْتَ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ، فَإِنِ اسْتَمَرُّوا عَلَى حَرْبِكَ وَمُنَابِذَتِكَ فَقَاتِلْهُمْ، ﴿وَإِنْ جَنَحُوا﴾ أَيْ: مَالُوا ﴿لِلسَّلْمِ﴾ أَيْ: الْمُسَالَمَةِ وَالْمُصَالَحَةِ وَالْمُهَادَنَةِ، ﴿فَاجْنَحْ لَهَا﴾ أَيْ: فَمِلْ إِلَيْهَا، وَاقْبَلْ مِنْهُمْ ذَلِكَ؛ وَلِهَذَا لَمَّا طَلَبَ الْمُشْرِكُونَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ الصُّلْحَ وَوَضْعَ الْحَرْبِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ تِسْعَ سِنِينَ؛ أَجَابَهُمْ إِلَى ذَلِكَ مَعَ مَا اشْتَرَطُوا مِنَ الشُّرُوطِ الْأُخَرِ. وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْإِمَامِ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي بَكْرٍ الْمُقَدَّمِيُّ، حَدَّثَنَا فُضَيْلُ بْنُ سُلَيْمَانَ -يَعْنِي: النُّمَيْرِيَّ -حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي يَحْيَى، عَنْ إِيَاسِ بْنِ عَمْرٍو الْأَسْلَمِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلم: "أنه سَيَكُونُ بِعْدِي اخْتِلَافٌ -أَوْ: أَمْرٌ -فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَكُونَ السِّلْمُ، فَافْعَلْ" [[زوائد المسند (١/٩٠) وقال الهيثمي في المجمع (٧/٢٣٤) : "رجاله ثقات".]] وَقَالَ مُجَاهِدٌ: نَزَلَتْ في بني قريظة. وَهَذَا فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ السِّيَاقَ كُلَّهُ فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ، وَذِكْرُهَا مُكْتَنِفٌ لِهَذَا كُلِّهِ. وَقَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَمُجَاهِدٍ، وَزَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، وَعَطَاءٍ الْخُرَاسَانِيِّ، وَعِكْرِمَةَ، وَالْحَسَنِ، وقَتَادَةَ: إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ بِآيَةِ السَّيْفِ فِي "بَرَاءَةَ": ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ الْآيَةَ [التَّوْبَةِ:٢٩] فِيهِ نَظَرٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّ آيَةَ بَرَاءَةَ فِيهَا الْأَمْرُ بِقِتَالِهِمْ إِذَا أَمْكَنَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْعَدُوُّ كَثِيفًا، فَإِنَّهُ تَجُوزُ مُهَادَنَتُهُمْ، كَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ، وَكَمَا فَعَلَ النَّبِيُّ ﷺ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، فَلَا مُنَافَاةَ وَلَا نَسْخَ وَلَا تَخْصِيصَ، واللَّهُ أَعْلَمُ. * * * وَقَوْلُهُ: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ أَيْ: صَالِحْهُمْ وَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ كَافِيكَ وَنَاصِرُكَ، وَلَوْ كَانُوا يُرِيدُونَ بِالصُّلْحِ خَدِيعَةً لِيَتَقَوَّوْا وَيَسْتَعِدُّوا، ﴿فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ أَيْ: كَافِيكَ وَحْدَهُ. ثُمَّ ذَكَرَ نِعْمَتَهُ عَلَيْهِ بِمَا أَيَّدَهُ بِهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ فَقَالَ: ﴿هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ أَيْ: جَمَعَهَا عَلَى الْإِيمَانِ بِكَ، وَعَلَى طَاعَتِكَ وَمُنَاصَرَتِكَ وَمُوَازَرَتِكَ ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ أَيْ: لِمَا كَانَ بَيْنَهُمْ مِنَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ كَانَتْ بَيْنَهُمْ حُرُوبٌ كَثِيرَةٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، بَيْنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَأُمُورٌ يَلْزَمُ مِنْهَا التَّسَلْسُلُ فِي الشَّرِّ، حَتَّى قَطَعَ اللَّهُ ذَلِكَ بِنُورِ الْإِيمَانِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ [آلِ عِمْرَانَ: ١٠٣] . وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم لما خَطَبَ الْأَنْصَارَ فِي شَأْنِ غَنَائِمِ حُنَيْنٍ قَالَ لَهُمْ: "يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ، أَلَمْ أَجِدْكُمْ ضُلَّالًا فَهَدَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَعَالَةً فَأَغْنَاكُمُ اللَّهُ بِي، وَكُنْتُمْ مُتَفَرِّقِينَ فَأَلَّفَكُمُ اللَّهُ بِي" كُلَّمَا قَالَ شَيْئًا قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمَنَّ. [[صحيح البخاري برقم (٤٣٣٠) وصحيح مسلم برقم (١٠٦١) من حديث عبد الله بن يزيد بن عاصم، رضي الله عنه.]] وَلِهَذَا قَالَ تَعَالَى: ﴿وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ أَيْ: عَزِيزُ الْجَنَابِ، فَلَا يُخَيِّبُ رَجَاءَ مَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ، حَكِيمٌ فِي أَفْعَالِهِ وَأَحْكَامِهِ. قَالَ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ بِشْرٍ الصَّيْرَفِيُّ الْقَزْوِينِيُّ فِي مَنْزِلِنَا، أَنْبَأَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ [[في جميع النسخ "الحسين" والتصويب من الشعب والميزان.]] الْقِنْدِيلِيُّ الْإِسْتِرَابَاذِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ النُّعْمَانِ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا مَيْمُونُ بْنُ الْحَكَمِ، حَدَّثَنَا بَكْرُ بْنُ الشَّرُودِ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ مُسْلِمٍ الطَّائِفِيِّ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مَيْسَرَةَ، عَنْ طَاوُسٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَرَابَةُ الرَّحِمِ تُقْطَعُ، وَمِنَّةُ النِّعْمَةِ تُكْفَرُ، وَلَمْ يُرَ مِثْلُ تَقَارُبِ الْقُلُوبِ؛ يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ وَذَلِكَ مَوْجُودٌ فِي الشِّعْرِ: إِذَا مَتَّ ذُو الْقُرْبَى إليك برحمهفَغَشَّك واستَغْنى فَلَيْسَ بِذِي رَحِمِ وَلَكِنَّ ذَا الْقُرْبَى الذي إن دعوتهأجاب ومن يرمي العدو الذي ترمي قَالَ: وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْقَائِلِ: وَلَقَدْ صَحِبْتُ الناس ثم سبرتهموبلوت مَا وَصَلُوا مِنَ الْأَسْبَابِ فِإِذَا الْقَرَابَةُ لَا تُقَرّب قاطعاوإذا الْمَوَدَّةُ أَقْرَبُ الأسْبَاب قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: لَا أَدْرِي هَذَا مَوْصُولٌ بِكَلَامِ ابْنِ عَبَّاسٍ، أَوْ هُوَ مِنْ قَوْلِ مَنْ دُونَهُ مِنَ الرُّوَاةِ؟ [[شعب الإيمان للبيهقي برقم (٩٠٣٤) .]] وَقَالَ أَبُو إِسْحَاقَ السَّبِيعِيُّ، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، رَضِيَ اللَّهُ عنه، سمعته يقول: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: هُمُ الْمُتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ، وَفِي رِوَايَةٍ: نَزَلَتْ فِي الْمُتَحَابِّينَ فِي اللَّهِ. رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ في مستدركه، وقال: صحيح [[النسائي في السنن الكبرى برقم (١١٢١٠) والمستدرك (٢/٣٢٩) .]] وقال عبد الرازق: أَخْبَرَنَا مَعْمَر، عَنِ ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: إِنَّ الرَّحِمَ لَتُقْطَعُ، وَإِنَّ النِّعْمَةَ لَتُكْفَرُ، وَإِنَّ اللَّهَ إِذَا قَارَبَ بَيْنَ الْقُلُوبِ لَمْ يُزَحْزِحْهَا شَيْءٌ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَيْضًا. وَقَالَ أَبُو عَمْرٍو الْأَوْزَاعِيُّ: حَدَّثَنِي عَبْدَةُ بْنُ أَبِي لُبَابة، عَنْ مُجَاهِدٍ -وَلَقِيتُهُ فَأَخَذَ بِيَدِي فَقَالَ: إِذَا تَرَاءَى الْمُتَحَابَّانِ فِي اللَّهِ، فَأَخَذَ أَحَدُهُمَا بِيَدِ صَاحِبِهِ، وَضَحِكَ إِلَيْهِ، تَحَاتَّتْ خَطَايَاهُمَا كَمَا يَتَحَاتُّ وَرَقُ الشَّجَرِ. قَالَ عَبْدَةُ: فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ هَذَا لَيَسِيرٌ! فَقَالَ: لَا تَقُلْ ذَلِكَ؛ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ !. قَالَ عَبْدَةُ: فَعَرَفْتُ أَنَّهُ أَفْقَهُ مِنِّي [[رواه الطبري في تفسيره (١٤/٤٦) .]] وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، حَدَّثَنَا ابْنُ يَمَانٍ [[في هـ: "حدثنا أبو يمان" والتصويب من د، ك، م، والطبري.]] عَنْ إِبْرَاهِيمَ الْخُوزِيِّ [[في د، ك: "الجزري".]] عَنِ الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي مُغِيثٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ فَتَصَافَحَا غُفِرَ لَهُمَا، قَالَ: قُلْتُ لِمُجَاهِدٍ: بِمُصَافَحَةٍ يُغْفَرُ لَهُمَا؟ فَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَا سَمِعْتَهُ يَقُولُ: ﴿لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ ؟ فَقَالَ الْوَلِيدُ لِمُجَاهِدٍ: أَنْتَ أَعْلَمُ مِنِّي. وَكَذَا رَوَى طَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّف، عَنْ مُجَاهِدٍ. وَقَالَ ابْنُ عَوْنٍ، عَنْ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كُنَّا نُحَدِّثُ [[في د، ك: "نتحدث".]] أَنَّ أَوَّلَ مَا يُرْفَعُ مِنَ النَّاسِ -[أَوْ قَالَ: عَنِ النَّاسِ] [[زيادة من الطبري.]] -الْأُلْفَةُ. وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْقَاسِمِ سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الطَّبَرَانِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ: حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ إِسْحَاقَ التُّسْتَرِيُّ، حَدَّثَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، حَدَّثَنَا سَالِمُ بْنُ غَيْلَانَ، سَمِعْتُ جَعْدًا أَبَا عُثْمَانَ، حَدَّثَنِي أَبُو عُثْمَانَ النَّهْدِيُّ، عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "إِنَّ الْمُسْلِمَ إِذَا لَقِيَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ، فَأَخَذَ بِيَدِهِ، تَحَاتَّتْ عَنْهُمَا ذُنُوبُهُمَا، كَمَا يَتَحَاتُّ الْوَرَقُ عَنِ الشَّجَرَةِ الْيَابِسَةِ فِي يَوْمِ رِيحٍ عَاصِفٍ، وَإِلَّا غُفِرَ لَهُمَا وَلَوْ كَانَتْ ذُنُوبُهُمَا مِثْلَ زَبَدِ الْبِحَارِ [[في د، ك، أ: "البحر".]] [[المعجم الكبير (٦/٢٥٦) وفيه: "مثل زبد البحر" وقال الهيثمي في المجمع (٨/٣٧) : "رجاله رجال الصحيح غير سالم بن غيلان وهو ثقة".]]
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب