الْآيَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:
قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنفال: 61].
فِيهَا خَمْسُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: السَّلْمُ: بِفَتْحِ السِّينِ وَكَسْرِهَا وَإِسْكَانِ اللَّامِ، وَبِفَتْحِ السِّينِ وَاللَّامِ، وَبِزِيَادَةِ الْأَلْفِ أَيْضًا: هُوَ الصُّلْحُ، وَقَدْ يَكُونُ السَّلَامُ بِالْأَلِفِ وَاللَّامِ مِنْ التَّسْلِيمِ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةٌ أَقْوَالٍ:
الْأَوَّلُ: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] وَنَحْوِهِ.
الثَّانِي: إنْ دَعَوْك إلَى الصُّلْحِ فَأَجِبْهُمْ؛ قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ وَالسُّدِّيُّ.
الثَّالِثُ: إنْ جَنَحُوا إلَى الْإِسْلَامِ فَاجْنَحْ لَهَا؛ قَالَهُ ابْنُ إِسْحَاقَ.
قَالَ مُجَاهِدٌ: وَعَنَى بِهِ قُرَيْظَةَ؛ لِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُقْبَلُ مِنْهُمْ، فَأَمَّا الْمُشْرِكُونَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهُمْ شَيْءٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: أَمَّا قَوْلُ مَنْ قَالَ: إنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] فَدَعْوَى، فَإِنَّ شُرُوطَ النُّسَخِ مَعْدُومَةٌ فِيهَا، كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي مَوْضِعِهِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنْ دَعَوْكَ إلَى الصُّلْحِ فَأَجِبْهُمْ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ الْجَوَابُ فِيهِ؛ وَقَدْ قَالَ اللَّهُ: {فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ} [محمد: 35].
فَإِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى عِزَّةٍ، وَفِي قُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ، وَمَقَانِبَ عَدِيدَةٍ، وَعُدَّةٍ شَدِيدَةٍ: فَلَا صُلْحَ حَتَّى تُطْعَنَ الْخَيْلُ بِالْقَنَا، وَتُضْرَبَ بِالْبِيضِ الرِّقَاقِ الْجَمَاجِمُ، وَإِنْ كَانَ لِلْمُسْلِمِينَ مَصْلَحَةٌ فِي الصُّلْحِ لِانْتِفَاعٍ يُجْلَبُ بِهِ، أَوْ ضُرٍّ يَنْدَفِعُ بِسَبَبِهِ فَلَا بَأْسَ أَنْ يَبْتَدِئَ الْمُسْلِمُونَ بِهِ إذَا احْتَاجُوا إلَيْهِ، وَأَنْ يُجِيبُوا إذَا دُعُوا إلَيْهِ وَقَدْ صَالَحَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَهْلَ خَيْبَرَ عَلَى شُرُوطٍ نَقَضُوهَا، فَنَقَضَ صُلْحَهُمْ، وَقَدْ وَادَعَ الضَّمْرِيُّ، وَقَدْ صَالَحَ أُكَيْدِرَ دَوْمَةَ، وَأَهْلَ نَجْرَانَ، وَقَدْ هَادَنَ قُرَيْشًا لِعَشَرَةِ أَعْوَامٍ حَتَّى نَقَضُوا عَهْدَهُ، وَمَا زَالَتْ الْخُلَفَاءُ وَالصَّحَابَةُ عَلَى هَذِهِ السَّبِيلِ الَّتِي شَرَعْنَاهَا سَالِكَةً، وَبِالْوُجُوهِ الَّتِي شَرَحْنَاهَا عَامِلَةً.
[مَسْأَلَة هَلْ عَقْدُ الصُّلْحِ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْمُسْلِمِينَ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: عَقْدُ الصُّلْحِ لَيْسَ بِلَازِمٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا هُوَ جَائِزٌ بِاتِّفَاقِهِمْ أَجْمَعِينَ: إذْ يَجُوزُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ لِلْإِمَامِ أَنْ يَبْعَثَ إلَيْهِمْ، فَيَقُولَ: نَبَذْت إلَيْكُمْ عَهْدَكُمْ، فَخُذُوا مِنِّي حِذْرَكُمْ، وَهَذَا عِنْدِي إذَا كَانُوا هُمْ الَّذِينَ طَلَبُوهُ؛ فَإِنْ طَلَبَهُ الْمُسْلِمُونَ لِمُدَّةٍ لَمْ يَجُزْ تَرْكُهُ قَبْلَهَا إلَّا بِاتِّفَاقٍ.
[مَسْأَلَة هَلْ لِلْمُسْلِمِينَ عَقْدُ الصُّلْحِ بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لِلْعَدُوِّ]
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: وَيَجُوزُ عِنْدَ الْحَاجَةِ لِلْمُسْلِمِينَ عَقْدُ الصُّلْحِ بِمَالٍ يَبْذُلُونَهُ لِلْعَدُوِّ: وَالْأَصْلُ فِي ذَلِكَ مُوَادَعَةُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعُيَيْنَةَ بْنِ حِصْنٍ وَغَيْرِهِ يَوْمَ الْأَحْزَابِ، عَلَى أَنْ يُعْطِيَهُ نِصْفَ تَمْرِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ لَهُ السَّعْدَانِ: يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ إنْ كَانَ هَذَا الْأَمْرُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ فَامْضِ لَهُ، وَإِنْ كَانَ أَمْرًا لَمْ تُؤْمَرْ بِهِ، وَلَك فِيهِ هَوًى فَسَمْعٌ وَطَاعَةٌ، وَإِنْ كَانَ هَذَا الرَّأْيَ وَالْمَكِيدَةَ، فَأَعْلِمْنَا بِهِ.
فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّمَا هُوَ الرَّأْيُ وَالْمَكِيدَةُ؛ لِأَنِّي رَأَيْت الْعَرَبَ قَدْ رَمَتْكُمْ بِقَوْسٍ وَاحِدَةٍ فَأَرَدْت أَنْ أَدْفَعَهَا عَنْكُمْ إلَى يَوْمٍ».
فَقَالَ السَّعْدَانِ: إنَّا كُنَّا كُفَّارًا، وَمَا طَمِعُوا مِنْهَا بِتَمْرَةٍ إلَّا بِشِرَاءٍ أَوْ بِقِرًى، فَإِذَا أَكْرَمَنَا اللَّهُ بِك فَلَا نُعْطِيهِمْ إلَّا السَّيْفَ؛ وَشَقَّا الصَّحِيفَةَ الَّتِي كَانَتْ كُتِبَتْ.
{"ayah":"۞ وَإِن جَنَحُوا۟ لِلسَّلۡمِ فَٱجۡنَحۡ لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى ٱللَّهِۚ إِنَّهُۥ هُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ"}