الباحث القرآني

(p-٥٤٨)الجُنُوحُ: المَيْلُ، يُقالُ: جَنَحَ الرَّجُلُ إلى الرَّجُلِ: مالَ إلَيْهِ، ومِنهُ قِيلَ: لِلْأضالِعِ جَوانِحُ لِأنَّها مالَتْ إلى الحَنْوَةِ، وجَنَحَتِ الإبِلُ: إذا مالَتْ أعْناقُها في السَّيْرِ، ومِنهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ: ؎إذا ماتَ فَوْقَ الرَّحْلِ أحْيَيْتُ رُوحَهُ بِذِكْراكَ والعِيسُ المَراسِيلُ جُنَّحُ ومِثْلُهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ: ؎جَوانِحُ قَدْ أيْقَنَّ أنَّ قَبِيلَهُ ∗∗∗ إذا ما التَقى الجَمْعانِ أوَّلَ غالِبٍ يَعْنِي الطَّيْرَ، والسَّلْمُ: الصُّلْحُ. قَرَأ الأعْمَشُ وأبُو بَكْرٍ وابْنُ مُحَيْصِنٍ والمُفَضَّلُ بِكَسْرِ السِّينِ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِها. وقَرَأ العُقَيْلِيُّ " فاجْنُحْ " بِضَمِّ النُّونِ، وقَرَأ الباقُونَ بِفَتْحِها، والأُولى لُغَةُ قَيْسٍ، والثّانِيَةُ لُغَةُ تَمِيمٍ. قالَ ابْنُ جِنِّيٍّ: ولُغَةُ قَيْسٍ هي القِياسُ، والسَّلْمُ تُؤَنَّثُ كَما تُؤَنَّثُ الحَرْبُ، أوْ هي مُؤَوَّلَةٌ بِالخَصْلَةِ، أوِ الفِعْلَةِ. وقَدِ اخْتَلَفَ أهْلُ العِلْمِ هَلْ هَذِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةٌ أمْ مُحْكَمَةٌ ؟ فَقِيلَ: هي مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ﴾ وقِيلَ: لَيْسَتْ بِمَنسُوخَةٍ؛ لِأنَّ المُرادَ بِها قَبُولُ الجِزْيَةِ، وقَدْ قَبِلَها مِنهُمُ الصَّحابَةُ فَمَن بَعْدَهم، فَتَكُونُ خاصَّةً بِأهْلِ الكِتابِ، وقِيلَ: إنَّ المُشْرِكِينَ إنْ دَعَوْا إلى الصُّلْحِ جازَ أنْ يُجابُوا إلَيْهِ، وتَمَسَّكَ المانِعُونَ مِن مُصالَحَةِ المُشْرِكِينَ بِقَوْلِهِ - تَعالى -: ﴿فَلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إلى السَّلْمِ وأنْتُمُ الأعْلَوْنَ واللَّهُ مَعَكم﴾ ( مُحَمَّدٍ: ٣٥ ) . وقَيَّدُوا عَدَمَ الجَوازِ بِما إذا كانَ المُسْلِمُونَ في عِزَّةٍ وقُوَّةٍ لا إذا لَمْ يَكُونُوا كَذَلِكَ، فَهو جائِزٌ كَما وقَعَ مِنهُ ﷺ مِن مُهادَنَةِ قُرَيْشٍ، وما زالَتِ الخُلَفاءُ والصَّحابَةُ عَلى ذَلِكَ، وكَلامُ أهْلِ العِلْمِ في هَذِهِ المَسْألَةِ مَعْرُوفٌ مُقَرَّرٌ في مَواطِنِهِ ﴿وتَوَكَّلْ عَلى اللَّهِ﴾ في جُنُوحِكَ لِلسَّلْمِ ولا تَخَفْ مِن مَكْرِهِمْ، فَ إنَّهُ - سُبْحانَهُ - هو السَّمِيعُ لِما يَقُولُونَ العَلِيمُ بِما يَفْعَلُونَ. ﴿وإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ﴾ بِالصُّلْحِ، وهم مُضْمِرُونَ الغَدْرَ والخَدْعَ ﴿فَإنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ﴾ أيْ كافِيَكَ ما تَخافُهُ مِن شُرُورِهِمْ بِالنَّكْثِ والغَدْرِ، وجُمْلَةُ ﴿هُوَ الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ﴾ تَعْلِيلِيَّةٌ، أيْ لا تَخَفْ مِن خَدْعِهِمْ ومَكْرِهِمْ، فَإنَّ اللَّهَ الَّذِي قَوّاكَ عَلَيْهِمْ بِالنَّصْرِ فِيما مَضى، وهو يَوْمُ بَدْرٍ، هو الَّذِي سَيَنْصُرُكَ ويُقَوِّيكَ عَلَيْهِمْ عِنْدَ حُدُوثِ الخَدْعِ والنَّكْثِ، والمُرادُ بِالمُؤْمِنِينَ المُهاجِرُونَ والأنْصارُ. ثُمَّ بَيَّنَ كَيْفَ كانَ تَأْيِيدُهُ بِالمُؤْمِنِينَ فَقالَ: ﴿وألَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ وظاهِرُهُ العُمُومُ وأنَّ ائْتِلافَ قُلُوبِ المُؤْمِنِينَ هو مِن أسْبابِ النَّصْرِ الَّتِي أيَّدَ اللَّهُ بِها رَسُولَهُ. وقالَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: المُرادُ الأوْسُ والخَزْرَجُ، فَقَدْ كانَ بَيْنَهم عَصَبِيَّةٌ شَدِيدَةٌ وحُرُوبٌ عَظِيمَةٌ فَألَّفَ اللَّهُ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ بِالإيمانِ بِرَسُولِ اللَّهِ ﷺ، وقِيلَ: أرادَ التَّأْلِيفَ بَيْنَ المُهاجِرِينَ والأنْصارِ، والحَمْلُ عَلى العُمُومِ أوْلى، فَقَدْ كانَتِ العَرَبُ قَبْلَ البِعْثَةِ المُحَمَّدِيَّةِ يَأْكُلُ بَعْضُهم بَعْضًا ولا يَحْتَرِمُ مالَهُ ولا دَمَهُ، حَتّى جاءَ الإسْلامُ فَصارُوا يَدًا واحِدَةً، وذَهَبَ ما كانَ بَيْنَهم مِنَ العَصَبِيَّةِ، وجُمْلَةُ ﴿لَوْ أنْفَقْتَ ما في الأرْضِ جَمِيعًا ما ألَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ مُقَرِّرَةٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَها. والمَعْنى أنَّ ما كانَ بَيْنَهم مِنَ العَصَبِيَّةِ والعَداوَةِ قَدْ بَلَغَ إلى حَدٍّ لا يُمْكِنُ دَفْعُهُ بِحالٍ مِنَ الأحْوالِ، ولَوْ أنْفَقَ الطّالِبُ لَهُ جَمِيعَ ما في الأرْضِ، لَمْ يَتِمَّ لَهُ ما طَلَبَهُ مِنَ التَّأْلِيفِ؛ لِأنَّ أمْرَهم في ذَلِكَ قَدْ تَفاقَمَ جِدًّا ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ ألَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ بِعَظِيمِ قُدْرَتِهِ وبَدِيعِ صُنْعِهِ إنَّهُ عَزِيزٌ لا يُغالِبُهُ مُغالِبٌ، ولا يَسْتَعْصِي عَلَيْهِ أمْرٌ مِنَ الأُمُورِ حَكِيمٌ في تَدْبِيرِهِ ونُفُوذِ نَهْيِهِ وأمْرِهِ. وقَدْ أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ﴾ قالَ: قُرَيْظَةُ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنِ السُّدِّيِّ، في الآيَةِ قالَ: نَزَلَتْ في بَنِي قُرَيْظَةَ نَسَخَتْها ﴿فَلا تَهِنُوا وتَدْعُوا إلى السَّلْمِ﴾ ( مُحَمَّدٍ: ٣٥ ) إلى آخِرِ الآيَةِ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: السَّلْمُ الطّاعَةُ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ، عَنْهُ في الآيَةِ قالَ: إنْ رَضُوا فارْضَ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، في الآيَةِ قالَ: إنْ أرادُوا الصُّلْحَ فَأرِدْهُ. وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، في الآيَةِ قالَ: نَسَخَتْها هَذِهِ الآيَةُ: ﴿قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ولا بِاليَوْمِ الآخِرِ﴾ ( التَّوْبَةِ: ٢٩ ) إلى قَوْلِهِ: ﴿وهم صاغِرُونَ﴾ ( التَّوْبَةِ: ٥ ) . وأخْرَجَ عَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ المُنْذِرِ، والنَّحّاسُ، في ناسِخِهِ وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ قَتادَةَ، قالَ: ثُمَّ نَسَخَ ذَلِكَ ﴿فاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وجَدْتُمُوهم﴾ ( التَّوْبَةِ: ٥ ) . وأخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، عَنْ مُجاهِدٍ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ يُرِيدُوا أنْ يَخْدَعُوكَ﴾ قالَ: قُرَيْظَةُ. وأخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ، عَنِ السُّدِّيِّ، في قَوْلِهِ: ﴿وبِالمُؤْمِنِينَ﴾ قالَ: بِالأنْصارِ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ النُّعْمانِ بْنِ بَشِيرٍ نَحْوَهُ. وأخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، نَحْوَهُ أيْضًا. وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ، عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ قالَ: مَكْتُوبٌ عَلى العَرْشِ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، أنا اللَّهُ وحْدِي لا شَرِيكَ لِي، ومُحَمَّدٌ عَبْدِي ورَسُولِي أيَّدْتُهُ بِعِلْمِي، وذَلِكَ قَوْلُهُ: ﴿هُوَ الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ﴾ . وأخْرَجَ ابْنُ المُبارَكِ وابْنُ أبِي شَيْبَةَ، وابْنُ أبِي الدُّنْيا والنَّسائِيُّ، والبَزّارُ، وابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والحاكِمُ وصَحَّحَهُ وابْنُ مَرْدَوَيْهِ، والبَيْهَقِيُّ في الشُّعَبِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في المُتَحابِّينَ في اللَّهِ ﴿لَوْ أنْفَقْتَ ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ أبُو عُبَيْدٍ وابْنُ المُنْذِرِ، وأبُو الشَّيْخِ، والبَيْهَقِيُّ في شُعَبِ الإيمانِ، واللَّفْظُ لَهُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، قالَ: قَرابَةُ الرَّحِمِ تُقْطَعُ، ومِنَّةُ المُنْعِمِ تُكْفَرُ، ولَمْ نَرَ مِثْلَ تَقارُبِ القُلُوبِ، يَقُولُ اللَّهُ: ﴿لَوْ أنْفَقْتَ ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ الآيَةَ. وأخْرَجَ ابْنُ المُبارَكِ وعَبْدُ الرَّزّاقِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وأبُو الشَّيْخِ، والحاكِمُ والبَيْهَقِيُّ عَنْهُ نَحْوَهُ، ولَيْسَ في هَذا عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ، ما يَدُلُّ عَلى أنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ، ولَكِنَّ الشَّأْنَ في قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في المُتَحابِّينَ في اللَّهِ مَعَ أنَّ الواقِعَ قَبْلَها ﴿هُوَ الَّذِي أيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبِالمُؤْمِنِينَ﴾ والواقِعَ بَعْدَها ﴿ياأيُّها النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ ومَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ المُؤْمِنِينَ﴾ ( الأنْفالِ: ٦٤ ) (p-٥٤٩)ومَعَ كَوْنِ الضَّمِيرِ في قَوْلِهِ: ﴿ما ألَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ﴾ يَرْجِعُ إلى المُؤْمِنِينَ المَذْكُورِينَ قَبْلَهُ بِلا شَكٍّ ولا شُبْهَةٍ، وكَذَلِكَ الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ: ﴿ولَكِنَّ اللَّهَ ألَّفَ بَيْنَهُمْ﴾ فَإنَّ هَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ التَّأْلِيفَ المَذْكُورَ هو بَيْنَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ أيَّدَ اللَّهُ بِهِمْ رَسُولَهُ ﷺ .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب