هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ ردٌّ عَلَى الْمُشْرِكِينَ فِيمَا كَانُوا يَعْتَمِدُونَهُ مِنَ الطَّوَافِ بِالْبَيْتِ عُراة، كَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ جَرِيرٍ [[في أ: "ابن ماجة".]] -وَاللَّفْظُ لَهُ -مِنْ حَدِيثِ شُعْبَةَ، عَنْ سَلَمَةَ بْنِ كُهَيْل، عَنْ مُسْلِمٍ البَطِين، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانُوا يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ: الرِّجَالُ بِالنَّهَارِ، وَالنِّسَاءُ بِاللَّيْلِ. وَكَانَتِ الْمَرْأَةُ تَقُولُ:
اليومَ يبدُو بعضُه أَوْ كُلّه ... وَمَا بَدَا مِنْه فَلَا أحِلّهُ ...
فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [[صحيح مسلم برقم (٣٠٢٨) وسنن النسائي (٥/٢٣٣) وتفسير الطبري (١٢/٣٩٠) .]]
وَقَالَ العَوْفي، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ [تَعَالَى] [[زيادة من أ.]] ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ الْآيَةَ، قَالَ: كَانَ رِجَالٌ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، فَأَمَرَهُمُ اللَّهُ بِالزِّينَةِ -وَالزِّينَةُ: اللِّبَاسُ، وَهُوَ مَا يُوَارِي السَّوْأَةَ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ جَيّد البزِّ وَالْمَتَاعِ -فَأُمِرُوا أَنْ يَأْخُذُوا زِينَتَهُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ.
وَكَذَا قَالَ مُجَاهِدٌ، وَعَطَاءٌ، وَإِبْرَاهِيمُ النَّخعي، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْر، وَقَتَادَةُ، والسُّدِّي، والضحاك، وَمَالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ، وَغَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَئِمَّةِ السَّلَفِ فِي تَفْسِيرِهَا: أَنَّهَا أُنْزِلَتْ فِي طَوَائِفِ الْمُشْرِكِينَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً.
وَقَدْ رَوَى الْحَافِظُ بْنُ مَرْدُويه، مِنْ حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ وَالْأَوْزَاعِيِّ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسٍ مَرْفُوعًا؛ أَنَّهَا أُنْزِلَتْ [[في أ: "نزلت".]] فِي الصَّلَاةِ فِي النِّعَالِ. وَلَكِنْ فِي صِحَّتِهِ نَظَرٌ [[ورواه العقيلي في الضعفاء الكبير (٣/١٤٣) من طريق عباد بن جويرية، عن الأوزاعي، عن قتادة به. وعباد بن جويرية قال فيه الإمام أحمد: "كذاب أفاك".
ورواه الخطيب في تاريخ بغداد (١٤/٢٨٧) من طريق يعقوب، الدعاء عن يحيى بن عبد الله الدمشقي، عن الأوزاعي به.
ويعقوب وشيخه لا يعرفان.]] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلِهَذِهِ الْآيَةِ، وَمَا وَرَدَ فِي مَعْنَاهَا مِنَ السُّنَّةِ، يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلَاةِ، وَلَا سِيَّمَا يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَيَوْمَ الْعِيدِ، وَالطِّيبُ لِأَنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، وَالسِّوَاكُ لِأَنَّهُ مِنْ تَمَامِ ذَلِكَ، وَمِنْ أَفْضَلِ الثِّيَابِ [[في د، ك، م، أ: "اللباس".]] الْبَيَاضُ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ عَاصِمٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيم، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "الْبَسُوا مِنْ ثِيَابِكُمُ الْبَيَاضَ، فَإِنَّهَا مِنْ خير ثيابكم، وكَفِّنوا فيها موتاكم، وإن خَيْرِ أَكْحَالِكُمُ الإثْمِد، فَإِنَّهُ يَجْلُو الْبَصَرَ، وَيُنْبِتُ الشَّعْرَ".
هَذَا حَدِيثٌ جَيِّدُ الْإِسْنَادِ، رِجَالُهُ [[في م: "رجاله كلهم ثقات".]] عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ. وَرَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُثْمَانَ بْنِ خُثَيم، بِهِ [[المسند (١/٢٤٧) وسنن أبي داود برقم (٤٠٦١) وسنن الترمذي برقم (٩٤٤) وسنن ابن ماجة برقم (١٤٧٢) .]] وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَلِلْإِمَامِ أَحْمَدَ أَيْضًا، وَأَهْلِ السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ، عَنْ سَمُرَة بْنِ جُنْدَب قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "عَلَيْكُمْ بِالثِّيَابِ الْبَيَاضِ فَالْبَسُوهَا؛ فَإِنَّهَا أَطْهَرُ وَأَطْيَبُ، وَكَفِّنُوا فِيهَا مَوْتَاكُمْ" [[المسند (٥/٧) وسنن النسائي (٨/٢٠٥) .]]
وَرَوَى الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ [[في م: "بإسناد".]] صَحِيحٍ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ تَمِيمًا الدَّارِيَّ اشْتَرَى رِدَاءً بِأَلْفٍ، فَكَانَ يُصَلِّي فِيهِ.
* * *
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] ﴾ [[زيادة من ك، م، أ. وفي هـ: "الآية".]] الْآيَةَ. قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ فِي نِصْفِ آيَةٍ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا﴾
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: كُلْ مَا شِئْتَ، وَالْبَسْ مَا شِئْتَ، مَا أَخْطَأَتْكَ خَصْلَتَانِ: سرَف ومَخِيلة.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ ثَوْر، عَنْ مَعْمَر، عَنِ
ابْنِ طَاوُسٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: أَحَلَّ اللَّهُ الْأَكْلَ وَالشُّرْبَ، مَا لَمْ يَكُنْ سرَفًا أو مَخِيلة. إسناده صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا بَهْز، حَدَّثَنَا هَمّام، عَنْ قَتَادَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْب، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِي غَيْرِ مَخِيلة وَلَا سرَف، فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يَرَى [[في ك: "ترى".]] نِعْمَتَهُ عَلَى عَبْدِهِ" [[المسند (٢/١٨٢) .]]
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ، مِنْ حَدِيثِ قَتَادَةُ، عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: "كُلُوا وَتَصَدَّقُوا وَالْبَسُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلة" [[سنن النسائي (٥/٧٩) وسنن ابن ماجة برقم (٣٦٠٥) .]]
وَقَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا أَبُو الْمُغِيرَةِ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ سُلَيْمٍ الكِناني، حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ جَابِرٍ الطَّائِيُّ [[في أ: "الطائي قال".]] سَمِعْتُ الْمِقْدَامَ بن معد يكرب الْكِنْدِيَّ [[في ك: "العبدي".]] قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: "مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنِهِ، حَسْبُ ابْنِ آدَمَ أَكَلَاتٌ يُقِمْنَ صُلبه، فَإِنْ كَانَ فَاعِلًا لَا مَحَالَةَ، فَثُلْثٌ طعامٌ، وَثُلُثٌ شرابٌ، وَثُلُثٌ لِنَفَسَهِ".
وَرَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ، مِنْ طُرُقٍ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ، بِهِ [[المسند (٤/١٣٢) النسائي في السنن الكبرى برقم (٦٧٦٨) وسنن الترمذي برقم (٢٣٨٠) .]] وَقَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَسَنٌ -وَفِي نُسْخَةٍ: حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وَقَالَ الْحَافِظُ أَبُو يَعْلَى الْمَوْصِلِيُّ فِي مُسْنَدِهِ: حَدَّثَنَا سُوَيْد بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ [[في جميع النسخ: "سويد بن عبد العزيز" وصوابه: "سويد بن سعيد" كما في مسند أبي يعلى وكتب الرجال.]] حَدَّثَنَا بَقِيَّة، عَنْ يُوسُفَ ابْنِ أَبِي كَثِيرٍ، عَنْ نُوحِ بْنِ ذَكْوان، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "إِنَّ مِنْ السَّرف أَنْ تَأْكُلَ كُلَّ مَا اشْتَهَيْتَ".
وَرَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ فِي الْأَفْرَادِ، وَقَالَ: هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ بَقِيَّةُ. [[مسند أبي يعلى (٥/١٥٤) وأطراف الغرائب والأفراد لابن القيسراني (ق٧٢) ورواه ابن ماجة في السنن برقم (٣٣٥٢) من طريق سويد بن سعيد به. وقال البوصيري في الزوائد (٣/٩٥) : "هذا إسناد ضعيف" وهو مسلسل بالعلل.]]
وَقَالَ السُّدِّي: كَانَ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالْبَيْتِ عُرَاةً، يُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمُ الودَكَ مَا أَقَامُوا فِي الْمَوْسِمِ؛ فَقَالَ اللَّهُ [تَعَالَى] [[زيادة من م.]] لَهُمْ: ﴿وَكُلُوا وَاشْرَبُوا [وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ] ﴾ [[زيادة من ك، م، أ. وفي هـ "الآية".]] يَقُولُ: لَا تُسْرِفُوا فِي التَّحْرِيمِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ: أَمَرَهُمْ أَنْ يَأْكُلُوا وَيَشْرَبُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ.
وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ: ﴿وَلا تُسْرِفُوا﴾ يَقُولُ: وَلَا تَأْكُلُوا حَرَامًا، ذَلِكَ الْإِسْرَافُ.
وَقَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: ﴿وَكُلُوا [[في م: "كلوا".]] وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾
فِي الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ.
وَقَالَ ابْنُ جَرِيرٍ: وَقَوْلُهُ: ﴿إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ يَقُولُ اللَّهُ: إِنَّ اللَّهَ [تَعَالَى] [[زيادة من ك.]] لَا يُحِبُّ الْمُتَعَدِّينَ [[في ك، م: "المعتدين".]] حَدَّه فِي حَلَالٍ أَوْ حَرَامٍ، الْغَالِينَ فِيمَا أَحَلَّ أَوْ حَرّم، بِإِحْلَالِ الْحَرَامِ وَبِتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، وَلَكِنَّهُ يُحِبُّ أَنْ يُحَلَّلَ مَا أَحَلَّ، وَيُحَرَّمَ مَا حَرَّمَ، وَذَلِكَ الْعَدْلُ الَّذِي أَمَرَ بِهِ.
{"ayah":"۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُوا۟ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ وَلَا تُسۡرِفُوۤا۟ۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ"}