الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٣١] ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ " أيْ: مِنَ اللِّباسِ ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ " أيْ: بَيْتٍ بُنِيَ لِلْعِبادَةِ، عَلى أنَّهُ اسْمُ مَكانٍ، أوْ مَصْدَرٌ بِمَعْنى السُّجُودِ، مُرادًا بِهِ الصَّلاةُ والعِبادَةُ، فَإنَّ العِبادَةَ أوْلى أوْقاتِ التَّزَيُّنِ ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ " أيّامَ الحَجِّ تَقَوِّيًا عَلى العِبادَةِ ﴿ولا تُسْرِفُوا﴾ " أيْ: إسْرافًا يُوجِبُ الِانْهِماكَ في الشَّهَواتِ ويَشْغَلُ عَنِ العِبادَةِ، أوْ لا تُحَرِّمُوا الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ واللَّحْمِ والدَّسَمِ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ " المُعْتَدِينَ. تَنْبِيهاتٌ: الأوَّلُ: كَما أسْلَفْنا في مُقَدِّمَةِ هَذا التَّفْسِيرِ، أنَّ مِن فَوائِدِ مَعْرِفَةِ سَبَبَ النُّزُولِ الوُقُوفَ عَلى المَعْنى، وإزالَةَ الإشْكالِ، وهَذِهِ الآيَةُ إنَّما أجْمَلْنا تَفْسِيرَها بِما ذَكَرْنا، لِأنَّها نَزَلَتْ في ذَلِكَ. (p-٢٦٥٨)فَقَدْ رَوى مُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانَتِ المَرْأةُ تَطُوفُ بِالبَيْتِ وهي عُرْيانَةٌ، فَتَقُولُ: مَن يُعِيرُنِي تِطْوافًا؟ تَجْعَلُهُ عَلى فَرْجِها وتَقُولُ: ؎اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ وما بَدا مِنهُ فَلا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ " الآيَةَ. ونَزَلَتْ ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ [الأعراف: ٣٢] " الآيَةَ. وعِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانُوا يَطُوفُونَ عُراةً، الرِّجالُ بِالنَّهارِ، والنِّساءُ بِاللَّيْلِ، وكانَتِ المَرْأةُ تَقُولُ: ؎اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ ∗∗∗ فَما بَدا مِنهُ فَلا أُحِلُّهُ فَنَزَلَتْ ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ " . قالَ في (اللُّبابِ): وفي رِوايَةٍ أُخْرى عَنْهُ: فَأمَرَهُمُ اللَّهُ تَعالى أنْ يَلْبَسُوا ثِيابَهم ولا يَتَعَرَّوْا ورَوى العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أيْضًا في الآيَةِ قالَ: كانَ رِجالٌ يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً، فَأمَرَهُمُ اللَّهُ بِالزِّينَةِ، والزِّينَةُ اللِّباسُ، وهو ما يُوارِي السَّوْأةَ، وما سِوى ذَلِكَ مِن جَيِّدِ البَزِّ والمَتاعِ، فَأُمِرُوا أنْ يَأْخُذُوا زِينَتَهم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ. وأخْرَجَ أبُو الشَّيْخِ عَنْ طاوُسٍ قالَ: أُمِرُوا بِلَبْسِ الثِّيابِ، وأخْرَجَ مِن وجْهٍ آخَرَ عَنْهُ قالَ: الشَّمْلَةُ (p-٢٦٥٩)مِنَ الزِّينَةِ، وقالَ مُجاهِدٌ: كانَ حَيٌّ مِن أهْلِ اليَمَنِ إذا قَدِمَ أحَدُهم حاجًّا أوْ مُعْتَمِرًا يَقُولُ: لا يَنْبَغِي لِي أنْ أطُوفَ في ثَوْبٍ قَدْ عَصَيْتُ فِيهِ، فَيَقُولُ: مَن يُعِيرُنِي مِئْزَرًا؟ فَإنْ قَدَرَ عَلَيْهِ وإلّا طافَ عُرْيانًا. فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ ما تَسْمَعُونَ: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ " الآيَةَ. وقالَ الزُّهْرِيُّ: إنَّ العَرَبَ كانَتْ تَطُوفُ بِالبَيْتِ عُراةً إلّا الحُمْسَ -وهم قُرَيْشٌ وأحْلافُهُمْ- فَمَن جاءَ مِن غَيْرِ الحُمْسِ، وضَعَ ثِيابَهُ، وطافَ في ثَوْبٍ أحْمَسِيٍّ، ويَرى أنَّهُ لا يَحِلُّ لَهُ أنْ يَلْبَسَ ثِيابَهُ، فَإنْ لَمْ يَجِدْ مَن يُعِيرُهُ مِنَ الحُمْسِ فَإنَّهُ يُلْقِي ثِيابَهُ، ويَطُوفُ عُرْيانًا. وإنْ طافَ في ثِيابِ نَفْسِهِ ألْقاها، إذا قَضى طَوافَهُ وحَرَّمَها، أيْ جَعَلَها حَرامًا عَلَيْهِ؛ فَلِذَلِكَ قالَ تَعالى ﴿خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ " . والمُرادُ مِنَ الزِّينَةِ الثِّيابُ الَّتِي تَسْتُرُ العَوْرَةَ. قالَ مُجاهِدٌ: ما يُوارِي عَوْراتِكُمْ، ولَوْ عَباءَةً - انْتَهى - قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: هَكَذا قالَ مُجاهِدٌ وعَطاءٌ وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ، وسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ وقَتادَةُ والسُّدِّيُّ، والضَّحّاكُ ومالِكٌ عَنِ الزُّهْرِيِّ وغَيْرُ واحِدٍ مِن أئِمَّةِ السَّلَفِ في تَفْسِيرِها: أنَّها نَزَلَتْ في طَوافِ المُشْرِكِينَ بِالبَيْتِ عُراةً –انْتَهى-. فَظَهَرَ أنَّ المُرادَ بِالزِّينَةِ ما يَسْتُرُ العَوْرَةَ لِأنَّهُ اللّازِمُ المَأْمُورُ بِهِ الَّذِي بَيَّنَهُ سَبَبُ النُّزُولِ، دُونَ لِباسِ التَّجَمُّلِ المُتَبادِرِ مِنهُ، لِأنَّ المُسْتَفادَ مِن " خُذُوا " هو وُجُوبُ الأخْذِ، ولِباسُ التَّجَمُّلِ مَسْنُونٌ -قالَهُ الشِّهابُ - وأقُولُ دَلَّتِ الآيَةُ بِما أفادَهُ سَبَبُ نُزُولِها عَلى أنَّ الزِّينَةَ لا تَخْتَصُّ لُغَةً بِالجَيِّدِ مِنَ اللِّباسِ كَما تُوُهِّمَ، وبَيَّنَ ذَلِكَ العَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ فِيما نَقَلْناهُ. وفِي (التَّهْذِيبِ): الزِّينَةُ اسْمٌ جامِعٌ لِكُلِّ شَيْءٍ يَتَزَيَّنُ بِهِ. ومِثْلُهُ في (الصِّحاحِ) و(القامُوسِ) وعِبارَتُهُ: الزِّينَةُ ما يَتَزَيَّنُ بِهِ. وقالَ الحَرّانِيُّ: الزِّينَةُ تَحْسِينُ الشَّيْءِ بِغَيْرِهِ مِن لُبْسَةٍ أوْ حِلْيَةٍ أوْ هَيْئَةٍ. وقالَ الرّاغِبُ: الزِّينَةُ الحَقِيقِيَّةُ ما لا يَشِينُ الإنْسانَ في شَيْءٍ مِن أحْوالِهِ، ولا في الدُّنْيا ولا في الآخِرَةِ -انْتَهى. وقَدْ نَقَلَ الرّازِيُّ إجْماعَ المُفَسِّرِينَ عَلى أنَّ المُرادَ بِ(الزِّينَةِ) لُبْسُ الثِّيابِ الَّتِي تَسْتُرُ العَوْرَةَ. (p-٢٦٦٠)قالَ: والزِّينَةُ لا تَحْصُلُ إلّا بِالسَّتْرِ التّامِّ لِلْعَوْراتِ. قالَ: وأيْضًا إنَّهُ تَعالى قالَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ: ﴿قَدْ أنْـزَلْنا عَلَيْكم لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكم ورِيشًا﴾ [الأعراف: ٢٦] فَبَيَّنَ أنَّ اللِّباسَ الَّذِي يُوارِي السَّوْأةَ مِن قَبِيلِ الرِّياشِ والزِّينَةِ. ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أمَرَ بِأخْذِ الزِّينَةِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذِهِ الزِّينَةِ هو الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في تِلْكَ الآيَةِ. وأيْضًا فَقَوْلُهُ ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ " أمْرٌ، والأمْرُ لِلْوُجُوبِ. فَثَبَتَ أنَّ أخْذَ الزِّينَةِ واجِبٌ، وكُلُّ ما سِوى اللُّبْسِ فَغَيْرُ واجِبٍ، فَوَجَبَ حَمْلُ الزِّينَةِ عَلى اللُّبْسِ عَمَلًا بِالنَّصِّ بِقَدْرِ الإمْكانِ. ولا يُقالُ: إنَّ قَوْلَهُ ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ " أمْرُ إباحَةٍ، فَيَكُونُ المَعْطُوفُ عَلَيْهِ كَذَلِكَ، لِأنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن تَرْكِ الظّاهِرِ في المَعْطُوفِ، تَرْكُهُ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ. هَذا، وقَدْ رَوى الحافِظُ ابْنُ مَرْدُوَيْهِ مِن حَدِيثِ سَعِيدِ بْنِ بَشِيرٍ والأوْزاعِيِّ عَنْ قَتادَةَ «عَنْ أنَسٍ مَرْفُوعًا: أنَّها نَزَلَتْ في الصَّلاةِ في النِّعالِ» . وكَذا أخْرَجَهُ أبُو الشَّيْخِ عَنْهُ، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مِثْلُهُ، قالَ ابْنُ كَثِيرٍ: وفي صِحَّتِهِ نَظَرٌ -واللَّهُ أعْلَمُ- قُلْتُ: لا نَظَرَ، لِأنَّ ذَلِكَ مِمّا تَشْمَلُهُ الزِّينَةُ، وقَدْ أسْلَفْنا في المُقَدِّمَةِ أنَّ قَوْلَهُمْ: (نَزَلَتْ في كَذا)، لا يُقْصَدُ بِهِ أنَّ حُكْمَ الآيَةِ مَخْصُوصٌ بِهِ، بَلْ مَخْصُوصَةٌ بِنَوْعِهِ، فَتَعُمُّ ما أشْبَهَهُ، فَتَذَكَّرْ. والأحادِيثُ في مَشْرُوعِيَّةِ الصَّلاةِ في النَّعْلِ كَثِيرَةٌ جِدًّا، مِنها: عَنْ أبِي مَسْلَمَةَ سَعِيدِ بْنِ يَزِيدَ، قالَ: «سَألْتُ أنَسًا: أكانَ النَّبِيُّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وسَلَّمَ يُصَلِّي في نَعْلَيْهِ؟ قالَ: نَعَمْ» . (مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ). قالَ العِراقِيُّ في (شَرْحِ التِّرْمِذِيِّ ): ومِمَّنْ كانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ -يَعْنِي لُبْسَ النَّعْلِ في الصَّلاةِ- عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وعُثْمانُ بْنُ عَفّانَ وعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ وعُوَيْمِرُ بْنُ ساعِدَةَ وأنَسُ بْنُ مالِكٍ وسَلَمَةُ بْنُ الأكْوَعِ وأوْسٌ الثَّقَفِيُّ، ومِنَ التّابِعِينَ: سَعِيدُ بْنُ المُسَيِّبِ والقاسِمُ وعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ وسالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وعَطاءُ بْنُ يَسارٍ، وعَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ ومُجاهِدٌ وطاوُسٌ وشُرَيْحٌ القاضِي، وأبُو مِجْلَزٍ وأبُو عُمَرَ الشَّيْبانِيُّ والأسْوَدُ بْنُ يَزِيدَ وإبْراهِيمُ النَّخَعِيُّ وإبْراهِيمُ التَّيْمِيُّ وعَلِيُّ بْنُ الحُسَيْنِ وابْنُهُ أبُو جَعْفَرٍ. انْتَهى. (p-٢٦٦١)وقَدْ أخْرَجَ أبُو داوُدَ مِن حَدِيثِ أبِي سَعِيدٍ أنَّهُ قالَ: قالَ ﷺ: ««إذا جاءَ أحَدُكم إلى المَسْجِدِ فَلْيَنْظُرْ فَإنْ رَأى في نَعْلَيْهِ قَذَرًا أوْ أذًى فَلْيَمْسَحْهُ ولْيُصَلِّ فِيهِما»» . «وحَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: رَأيْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يُصَلِّي حافِيًا ومُنْتَعِلًا» . أخْرَجَهُ أبُو داوُدَ وابْنُ ماجَهْ. الثّانِي: دَلَّتِ الآيَةُ عَلى وُجُوبِ السَّتْرِ عِنْدَ الطَّوافِ، لِأنَّهُ سَبَبُ النُّزُولِ، قالُوا: واللَّفْظُ شامِلٌ لِلصَّلاةِ لِأنَّها مَفْعُولَةٌ في المَسْجِدِ. الثّالِثُ: حاوَلَ بَعْضُهُمُ اسْتِنْباطَ التَّجَمُّلِ عِنْدَ الصَّلاةِ مِنها حَيْثُ قالَ: لَمّا دَلَّتْ عَلى وُجُوبِ أخْذِ الزِّينَةِ بِسَتْرِ العَوْرَةِ في الصَّلاةِ، فُهِمَ مِنها، في الجُمْلَةِ، حُسْنُ التَّزَيُّنِ بِلُبْسِ ما فِيهِ حُسْنٌ (p-٢٦٦٢)وجَمالٌ فِيها. قالَ الكَيا الهَرّاسِيُّ: ظاهِرُ الآيَةِ الأمْرُ بِأخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، لِلْفَضْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ والفِعْلِ الواقِعِ فِيهِ، مِثْلَ الِاعْتِكافِ والصَّلاةِ والطَّوافِ. وقالَ ابْنُ الفُرْسِ: اسْتَدَلَّ مالِكٌ بِالآيَةِ عَلى كَراهِيَةِ الصَّلاةِ في مَساجِدِ القَبائِلِ بِغَيْرِ أرْدِيَةٍ، واسْتَدَلَّ بِها قَوْمٌ مِنَ السَّلَفِ عَلى أنَّهُ لا يَجُوزُ لِلْمَرْأةِ أنْ تُصَلِّيَ بِغَيْرِ قِلادَةٍ أوْ قُرْطَيْنِ، كَذا في (الإكْلِيلِ)، والأخِيرُ مِنَ الغُلُوِّ في النَّزْعِ. وقالَ ابْنُ كَثِيرٍ: ولِهَذِهِ الآيَةِ وما ورَدَ في مَعْناها مِنَ السُّنَّةِ، يُسْتَحَبُّ التَّجَمُّلُ عِنْدَ الصَّلاةِ، ولا سِيَّما يَوْمُ الجُمُعَةِ ويَوْمُ العِيدِ. والطِّيبُ لِأنَّهُ مِنَ الزِّينَةِ، والسِّواكُ لِأنَّهُ مِن تَمامِ ذَلِكَ. ومِن أفْضَلِ اللِّباسِ البَياضُ لِما رَوى الإمامُ أحْمَدُ وأبُو داوُدَ والتِّرْمِذِيُّ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««البَسُوا مِن ثِيابِكُمُ البَياضَ، فَإنَّها مِن خَيْرِ ثِيابِكم وكَفِّنُوا فِيها مَوْتاكم. وإنَّ مِن خَيْرِ أكْحالِكُمُ الإثْمَدَ، يَجْلُو البَصَرَ ويُنْبِتُ الشَّعَرَ»» ولِأحْمَدَ وأهْلِ السُّنَنِ، عَنْ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««عَلَيْكم بِالثِّيابِ البِيضِ فالبَسُوها فَإنَّها أطْهَرُ وأطْيَبُ، وكَفِّنُوا فِيها مَوْتاكُمْ»» . ورَوى الطَّبَرانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ، عَنْ قَتادَةَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أنَّ تَمِيمًا الدّارِيَّ اشْتَرى رِداءً بِألْفٍ، وكانَ يُصَلِّي فِيهِ. الرّابِعُ: وجْهُ تَأثُّرِ الأمْرِ بِأخْذِ الزِّينَةِ، بِالأمْرِ بِالأكْلِ والشُّرْبِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ " ما رَواهُ الكَلْبِيُّ «أنَّ بَنِي عامِرٍ كانُوا لا يَأْكُلُونَ في أيّامِ حَجِّهِمْ إلّا قُوتًا، ولا يَأْكُلُونَ دَسِمًا، يُعَظِّمُونَ بِذَلِكَ حَجَّهم. فَقالَ المُسْلِمُونَ: نَحْنُ أحَقُّ أنْ نَفْعَلَ ذَلِكَ يا رَسُولَ اللَّهِ. (p-٢٦٦٣)فَأنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ "» . وقالَ السُّدِّيُّ: كانَ الَّذِينَ يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً يُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمُ الوَدِكَ ما أقامُوا في المَوْسِمِ. فَقالَ اللَّهُ تَعالى لَهُمْ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ " الآيَةَ. الخامِسُ: فَسَّرَ الإسْرافَ بِمُجاوَزَةِ الحَدِّ فِيما أحَلَّ، وذَلِكَ بِتَحْرِيمِهِ، وقالَ الجَشْمِيُّ اليَمَنِيُّ في تَفْسِيرِهِ (التَّهْذِيبِ): تَدُلُّ الآيَةُ عَلى المَنعِ مِنَ الإسْرافِ. وذَلِكَ عَلى وجْهَيْنِ: أوَّلُهُما: إنْفاقٌ في مَعْصِيَةٍ كالفَخارِ واللَّعِبِ والزِّنى والخَمْرِ ونَحْوَها. وثانِيهُما: أنْ يَتَعَدّى الحُدُودَ وذَلِكَ مُخْتَلِفٌ بِحالِ اليَسارِ والإعْسارِ. لِأنَّ مَن لَهُ قَدْرٌ يَسِيرٌ، لَوْ أنْفَقَهُ في ضِيافَةٍ أوْ طِيبٍ أوْ ثِيابِ خَزٍّ، وهو وعِيالُهُ يَحْتاجُونَ إلَيْهِ، فَهو سَرَفٌ مُحَرَّمٌ. ومِثْلُهُ في المُوسِرِينَ لا يُقَبَّحُ ولا يَكُونُ سَرَفًا. وتَدُلُّ عَلى أنَّ الأشْياءَ عَلى الإباحَةِ. والعَقْلُ يَدُلُّ عَلى ذَلِكَ. لِأنَّهُ تَعالى خَلَقَهُ لِمَنافِعِهِمْ، والسَّمْعُ ورَدَ مُؤَكِّدًا، ولِذَلِكَ قالَ ﴿مَن حَرَّمَ﴾ [الأعراف: ٣٢] " مُطالِبًا بِدَلِيلٍ سَمْعِيٍّ اهـ. وقَدْ رَوى الإمامُ أحْمَدُ عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: ««كُلُوا واشْرَبُوا والبَسُوا وتَصَدَّقُوا مِن غَيْرِ مَخْيَلَةٍ ولا سَرَفٍ، فَإنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أنْ يَرى نِعْمَتَهُ عَلى عَبْدِهِ»» . وأخْرَجَ النَّسائِيُّ وابْنُ ماجَهْ نَحْوَهُ. وقالَ البُخارِيُّ: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلْ ما شِئْتَ والبَسْ ما شِئْتَ ما أخْطَأتْكَ اثْنَتانِ: (p-٢٦٦٤)سَرَفٌ أوْ مَخْيَلَةٌ. ورَواهُ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْهُ أيْضًا بِلَفْظِ: أحَلَّ اللَّهُ الأكْلَ والشُّرْبَ ما لَمْ يَكُنْ سَرَفًا أوْ مَخْيَلَةً. قالَ الشِّهابُ: هَذا (أيْ ما قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ ) لا يُنافِي ما ذَكَرَهُ الثَّعالِبِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ الأُدَباءِ؛ أنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإنْسانِ أنْ يَأْكُلَ ما يَشْتَهِي، ويَلْبَسُ ما يَشْتَهِيهِ النّاسُ، كَما قِيلَ: ؎نَصِيحَةٌ نَصِيحَةٌ ∗∗∗ قالَتْ بِها الأكْياسُ ؎كُلْ ما اشْتَهَيْتَ والبَسَ ∗∗∗ نَّ ما اشْتَهَتْهُ النّاسُ فَإنَّهُ لِتَرْكِ ما لَمْ يُعْتَدْ بَيْنَ النّاسِ، وهَذا لِإباحَةِ كُلِّ ما اعْتادُوهُ. و(المَخْيَلَةُ: الكِبْرُ). و(ما) دَوّامِيَّةٌ زَمانِيَّةٌ. و(أخْطَأتْكَ)، مِن قَوْلِهِمْ: أخْطَأ فُلانٌ كَذا، إذا عَدِمَهُ. وفِي الأساسِ: مِنَ المَجازِ لَنْ يُخْطِئَكَ ما كُتِبَ لَكَ وأخْطَأ المَطَرُ الأرْضَ: لَمْ يُصِبْها، وتَخاطَأتْهُ النَّبْلُ: تَجاوَزَتْهُ وتَخَطَّأتْهُ. انْتَهى. وفِي قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ " وعِيدٌ وتَهْدِيدٌ لِمَن أسْرَفَ في هَذِهِ الأشْياءِ. لِأنَّ مَن لَمْ يُحِبُّهُ اللَّهُ لَمْ يَرْضَ عَنْهُ. السّادِسُ: تَناقَلَ المُفَسِّرُونَ وغَيْرُهم ما قِيلَ إنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ " الآيَةَ، جَمَعَ الطِّبَّ كُلَّهُ. وأصْلُهُ ما حَكاهُ الزَّمَخْشَرِيُّ والكِرْمانِيُّ في عَجائِبِهِ؛ أنَّ الرَّشِيدَ كانَ لَهُ طَبِيبٌ نَصْرانِيٌّ حاذِقٌ، فَقالَ لِعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ واقِدٍ: لَيْسَ في كِتابِكم مِن عِلْمِ الطِّبِّ شَيْءٌ، والعِلْمُ عِلْمانِ: عِلْمُ الأبْدانِ، وعِلْمُ الأدْيانِ. فَقالَ لَهُ: قَدْ جَمَعَ اللَّهُ الطِّبَّ كُلَّهُ في نِصْفِ آيَةٍ مِن كِتابِهِ. قالَ: وما هِيَ؟ قالَ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا﴾ فَقالَ النَّصْرانِيُّ: ولا يُؤْثَرُ مِن رَسُولِكم شَيْءٌ في الطِّبِّ ! فَقالَ: قَدْ جَمَعَ رَسُولُنا ﷺ الطِّبَّ في ألْفاظٍ يَسِيرَةٍ. قالَ: وما هِيَ؟ قالَ قَوْلُهُ: ««المَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ، والحَمِيَّةُ (p-٢٦٦٥)رَأْسُ الدَّواءِ، وأعْطِ كُلَّ بَدَنٍ ما عَوَّدْتَهُ»» فَقالَ النَّصْرانِيُّ: ما تَرَكَ كِتابُكم ولا نَبِيُّكم لِجالِينُوسَ طِبًّا. قالَ في (العِنايَةِ): وتَرَكَ بَعْضُهم تَمامَ القِصَّةِ، لِأنَّ في ثُبُوتِ هَذا الحَدِيثِ كَلامًا لِلْمُحَدِّثِينَ. وفِي شُعَبِ الإيمانِ لِلْبَيْهَقِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ««المَعِدَةُ حَوْضُ البَدَنِ، والعُرُوقُ إلَيْها وارِدَةٌ، فَإذا صَحَّتِ المَعِدَةُ صَدَرَتِ العُرُوقُ بِالصِّحَّةِ، وإذا فَسَدَتِ المَعِدَةُ صَدَرَتِ العُرُوقُ بِالسَّقَمِ»» . انْتَهى. أقُولُ: إنْ صَحَّتْ هَذِهِ الحِكايَةُ، فَصَوابُ جَوابِ النَّصْرانِيِّ في سُؤالِهِ الثّانِي بِالتَّفْنِيدِ والفِرْيَةِ، فَإنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أُثِرَ عَنْهُ مِن بَدائِعِ الطِّبِّ وأصْنافِ العِلاجِ ما لَمْ يُؤْثَرْ عَنْ نَبِيٍّ قَطُّ، ولِلْمُحَدِّثِينَ في عَهْدِ السَّلَفِ مِنهُ قِسْمٌ كَبِيرٌ في جَوامِعِهِمْ ومَسانِيدِهِمْ. وأمّا أعْلامُ المُتَأخِّرِينَ فَقَدِ اضْطَرَّهم وفْرَةُ ما رُوِيَ في ذَلِكَ إلى تَدْوِينِهِ في أسْفارٍ مُطَوَّلَةٍ ومُخْتَصَرَةٍ بِعُنْوانِ (الطِّبِّ النَّبَوِيِّ). وقَدْ بَيَّنَ الإمامُ ابْنُ القَيِّمِ: عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، اشْتِمالَ التَّنْزِيلِ العَزِيزِ عَلى أُصُولِ الطِّبِّ، والسُّنَّةِ المُطَهَّرَةِ عَلى بَدائِعِهِ، في كِتابِهِ (زادُ المَعادِ)، بَيانًا يُدْهِشُ الألْبابَ، وفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ، قالَ عَلَيْهِ الرِّضْوانُ في كِتابِهِ (زادُ المَعادِ في هَدْيِ خَيْرِ العِبادِ): فَصْلٌ قَدْ أتَيْنا عَلى جُمَلٍ مِن هَدْيِهِ ﷺ في المَغازِي والسِّيَرِ والبُعُوثِ والسَّرايا والرَّسائِلِ والكُتُبِ الَّتِي كَتَبَ بِها إلى المُلُوكِ ونُوّابِهِمْ، ونَحْنُ نَتَّبِعُ ذَلِكَ بِذِكْرِ فُصُولٍ نافِعَةٍ في هَدْيِهِ في الطِّبِّ الَّذِي تَطَبَّبَ بِهِ، ووَصَفَهُ لِغَيْرِهِ، ونُبَيِّنُ ما فِيهِ مِنَ الحِكْمَةِ الَّتِي يَعْجِزُ أكْثَرُ عُقُولِ أكْثَرِ الأطِبّاءِ عَنِ الوُصُولِ إلَيْها، وأنَّ نِسْبَةَ طِبِّهِمْ إلَيْها كَنِسْبَةِ طِبِّ العَجائِزِ إلى طِبِّهِمْ، فَنَحْنُ نَقُولُ وبِاللَّهِ المُسْتَعانُ: المَرَضُ نَوْعانِ: مَرَضُ القُلُوبِ، ومَرَضُ الأبْدانِ، وهُما مَذْكُورانِ في القُرْآنِ. ومَرَضُ (p-٢٦٦٦)القَلْبِ نَوْعانِ: مَرَضُ شُبْهَةٍ وشَكٍّ، ومَرَضُ شَهْوَةٍ وغَيٍّ، وكِلاهُما في القُرْآنِ. قالَ تَعالى في مَرَضِ الشُّبْهَةِ: ﴿فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا﴾ [البقرة: ١٠] وقالَ تَعالى: ﴿ولِيَقُولَ الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ والكافِرُونَ ماذا أرادَ اللَّهُ بِهَذا مَثَلا﴾ [المدثر: ٣١] وقالَ تَعالى في حَقِّ مَن دُعِيَ إلى تَحْكِيمِ القُرْآنِ والسُّنَّةِ فَأبى وأعْرَضَ: ﴿وإذا دُعُوا إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهم إذا فَرِيقٌ مِنهم مُعْرِضُونَ﴾ [النور: ٤٨] ﴿وإنْ يَكُنْ لَهُمُ الحَقُّ يَأْتُوا إلَيْهِ مُذْعِنِينَ﴾ [النور: ٤٩] ﴿أفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أمِ ارْتابُوا أمْ يَخافُونَ أنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ورَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظّالِمُونَ﴾ [النور: ٥٠] فَهَذا مَرَضُ الشُّبُهاتِ والشُّكُوكِ. وأمّا مَرَضُ الشَّهَواتِ فَقالَ تَعالى: ﴿يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأحَدٍ مِنَ النِّساءِ إنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي في قَلْبِهِ مَرَضٌ وقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا﴾ [الأحزاب: ٣٢] فَهَذا مَرَضُ شَهْوَةِ الزِّنى - واللَّهُ أعْلَمُ ـ. وأمّا مَرَضُ الأبْدانِ فَقالَ تَعالى: ﴿لَيْسَ عَلى الأعْمى حَرَجٌ ولا عَلى الأعْرَجِ حَرَجٌ ولا عَلى المَرِيضِ حَرَجٌ﴾ [النور: ٦١] وذَكَرَ مَرَضَ البَدَنِ في الحَجِّ والصَّوْمِ والوُضُوءِ لِسِرٍّ بَدِيعٍ، يُبَيِّنُ (p-٢٦٦٧)ذَلِكَ عَظَمَةَ القُرْآنِ والِاسْتِغْناءَ بِهِ، لِمَن فَهِمَهُ وعَقِلَهُ، عَنْ سِواهُ، وذَلِكَ أنَّ قَواعِدَ طِبِّ الأبْدانِ ثَلاثَةٌ: حِفْظُ الصِّحَّةِ، والحِمْيَةُ عَنِ المُؤْذِي، واسْتِفْراغُ المَوادِّ الفاسِدَةِ. فَذَكَرَ سُبْحانَهُ هَذِهِ الأُصُولَ الثَّلاثَةَ في هَذِهِ المَواضِعِ الثَّلاثَةِ. فَقالَ في آيَةِ الصَّوْمِ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِن أيّامٍ أُخَرَ﴾ [البقرة: ١٨٤] فَأباحَ الفِطْرَ لِلْمَرِيضِ لِعُذْرِ المَرَضِ، والمُسافِرِ، طَلَبًا لِحِفْظِ صِحَّتِهِ وقُوَّتِهِ، لِئَلّا يُذْهِبَها الصَّوْمُ في السَّفَرِ، لِاجْتِماعِ شِدَّةِ الحَرَكَةِ وما يُوجِبُهُ مِنَ التَّحْلِيلِ وعَدَمِ الغِذاءِ الَّذِي يُخْلِفُ ما تَحَلَّلَ، فَتَخُورُ القُوَّةُ وتَضْعُفُ، فَأباحَ لِلْمُسافِرِ الفِطْرَ حِفْظًا لِصِحَّتِهِ وقُوَّتِهِ عَمّا يُضْعِفُها. وقالَ في آيَةِ الحَجِّ: ﴿فَمَن كانَ مِنكم مَرِيضًا أوْ بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِن صِيامٍ أوْ صَدَقَةٍ أوْ نُسُكٍ﴾ [البقرة: ١٩٦] فَأباحَ لِلْمَرِيضِ، ومَن بِهِ أذًى مِن رَأْسِهِ، مِن قَمْلٍ أوْ (p-٢٦٦٨)حَكَّةً أوْ غَيْرِهِما، أنْ يَحْلِقَ رَأْسَهُ في الإحْرامِ اسْتِفْراغًا لِمادَّةِ الأبْخِرَةِ الرَّدِيئَةِ الَّتِي أوْجَبَتْ لَهُ الأذى في رَأْسِهِ بِاحْتِقانِها تَحْتَ الشَّعَرِ، وإذا حَلَقَ رَأْسَهُ تَفَتَّحَتِ المَسامّاتُ فَخَرَجَتْ تِلْكَ الأبْخِرَةُ مِنها. فَهَذا الِاسْتِفْراغُ يُقاسُ عَلَيْهِ كُلُّ اسْتِفْراغٍ يُؤْذِي انْحِباسُهُ. والأشْياءُ الَّتِي يُؤْذِي انْحِباسُها ومُدافَعَتُها عَشَرَةٌ: الدَّمُ إذا هاجَ، والمَنِيُّ إذا سَبَغَ، والبَوْلُ والغائِطُ والرِّيحُ والقَيْءُ والعُطاسُ والنَّوْمُ والجُوعُ والعَطَشُ. وكُلُّ واحِدٍ مِن هَذِهِ العَشَرَةِ يُوجِبُ حَبْسُهُ داءً مِنَ الأدْواءِ بِحَبْسِهِ، وقَدْ نَبَّهَ سُبْحانَهُ بِاسْتِفْراغِ أدْناها وهو البُخارُ المُحْتَقِنُ في الرَّأْسِ، عَلى اسْتِفْراغِ ما هو أصْعَبُ مِنهُ، كَما هي طَرِيقَةُ القُرْآنِ، التَّنْبِيهُ بِالأدْنى عَلى الأعْلى. وأمّا الحِمْيَةُ، فَقالَ في آيَةِ الوُضُوءِ: ﴿وإنْ كُنْتُمْ مَرْضى أوْ عَلى سَفَرٍ أوْ جاءَ أحَدٌ مِنكم مِنَ الغائِطِ أوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا﴾ [المائدة: ٦] فَأباحَ لِلْمَرِيضِ العُدُولَ عَنِ الماءِ إلى التُّرابِ حِمْيَةً لَهُ أنْ يُصِيبَ جَسَدَهُ ما يُؤْذِيهِ. وهَذا تَنْبِيهٌ عَلى الحِمْيَةِ عَنْ كُلِّ مُؤْذٍ لَهُ، مِن داخِلٍ أوْ خارِجٍ. فَقَدْ أرْشَدَ سُبْحانَهُ عِبادَهُ إلى أُصُولِ الطِّبِّ، ومَجامِعِ قَواعِدِهِ. ونَحْنُ نَذْكُرُ هَدْيَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ في ذَلِكَ ونُبَيِّنُ أنَّ هَدْيَهُ فِيهِ أكْمَلُ هَدْيٍ. فَأمّا طِبُّ القُلُوبِ، فَمُسَلَّمٌ إلى الرُّسُلِ صَلَواتُ اللَّهِ وسَلامُهُ عَلَيْهِمْ، ولا سَبِيلَ إلى حُصُولِهِ إلّا مِن جِهَتِهِمْ، وعَلى أيْدِيهِمْ، فَإنَّ صَلاحَ القُلُوبِ أنْ تَكُونَ عارِفَةً بِرَبِّها وفاطِرِها، وبِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ وأفْعالِهِ وأحْكامِهِ، وأنْ تَكُونَ مُؤْثِرَةً لِمَرْضاتِهِ ولِمَحابِّهِ، مُتَجَنِّبَةً لِمَناهِيهِ ومَساخِطِهِ. ولا صِحَّةَ لَها ولا حَياةَ لَها البَتَّةَ إلّا بِذَلِكَ، ولا سَبِيلَ إلى تَلَقِّيهِ إلّا مِن جِهَةِ الرُّسُلِ. وما يُظَنُّ مِن حُصُولِ صِحَّةِ القَلْبِ بِدُونِ اتِّباعِهِمْ، فَغَلَطٌ مِمَّنْ يَظُنُّ ذَلِكَ، وإنَّما ذَلِكَ حَياةُ نَفْسِهِ (p-٢٦٦٩)البَهِيمِيَّةِ الشَّهْوانِيَّةِ وصِحَّتُها وقُوَّتُها، وحَياةُ قَلْبِهِ وصِحَّتُهُ وقُوَّتُهُ عَنْ ذَلِكَ بِمَعْزِلٍ. ومَن لَمْ يُمَيِّزْ بَيْنَ هَذا وبَيْنَ هَذا، فَلْيَبْكِ عَلى حَياةِ قَلْبِهِ، فَإنَّهُ مِنَ الأمْواتِ، وعَلى نُورِهِ، فَإنَّهُ مُنْغَمِسٌ في بِحارِ الظُّلُماتِ -انْتَهى. وقَدْ قَرَّرَ رَحِمَهُ اللَّهُ هَذا المَقامَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ في كِتابِهِ (طَرِيقُ الهِجْرَتَيْنِ) نُورِدُهُ أيْضًا لِبَداعَةِ أُسْلُوبِهِ قالَ عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ: ولَمّا كانَ مَرَضُ البَدَنِ خِلافَ صِحَّتِهِ وصَلاحِهِ، وهو خُرُوجُهُ عَنِ اعْتِدالِهِ الطَّبِيعِيِّ بِفَسادٍ يَعْرِضُ لَهُ، يَفْسُدُ بِهِ إدْراكُهُ وحَرَكَتُهُ الطَّبِيعِيَّةُ، فَإمّا أنْ يَذْهَبَ إدْراكُهُ بِالكُلِّيَّةِ كالعَمى والصَّمَمِ والشَّلَلِ، وإمّا أنْ يَنْقُصَ إدْراكُهُ لِضَعْفٍ في آلاتِ الإدْراكِ مَعَ اسْتِقامَةِ إدْراكِهِ، وإمّا أنْ يُدْرِكَ الأشْياءَ عَلى خِلافِ ما هي عَلَيْهِ، كَما يُدْرِكُ الحُلْوَ مُرًّا، والخَبِيثَ طَيِّبًا، والطَّيِّبَ خَبِيثًا. وأمّا فَسادُ حَرَكَتِهِ الطَّبِيعِيَّةِ، فَمِثْلُ أنْ تَضْعُفَ قُوَّتُهُ الهاضِمَةُ أوِ الماسِكَةُ أوِ الدّافِعَةُ أوِ الجاذِبَةُ. فَيَحْصُلُ لَهُ مِنَ الألَمِ بِحَسَبِ خُرُوجِهِ عَنْ الِاعْتِدالِ، ولَكِنْ مَعَ ذَلِكَ لَمْ يَصِلْ إلى حَدِّ المَوْتِ والهَلاكِ، بَلْ فِيهِ نَوْعُ قُوَّةٍ عَلى الإدْراكِ والحَرَكَةِ؛ وسَبَبُ هَذا الخُرُوجِ عَنْ الِاعْتِدالِ، إمّا فَسادٌ في الكَمِّيَّةِ أوْ في الكَيْفِيَّةِ، فالأوَّلُ إمّا نَقْصٌ في المادَّةِ فَيَحْتاجُ إلى زِيادَتِها، وإمّا زِيادَةٌ فِيها فَيَحْتاجُ إلى نُقْصانِها. والثّانِي إمّا بِزِيادَةِ الحَرارَةِ أوِ البُرُودَةِ، أوِ الرُّطُوبَةِ أوِ اليُبُوسَةِ أوْ نُقْصانِها عَنِ القَدْرِ الطَّبِيعِيِّ، فَيُداوى بِمُقْتَضى ذَلِكَ، ومَدارُ الصِّحَّةِ عَلى حِفْظِ القُوَّةِ والحِمْيَةِ عَنِ المُؤْذِي، واسْتِفْراغِ المَوادِّ الفاسِدَةِ، ونَظَرُ الطَّبِيبِ دائِرٌ عَلى هَذِهِ الأُصُولِ الثَّلاثَةِ. وقَدْ تَضَمَّنَها الكِتابُ العَزِيزُ، وأرْشَدَ إلَيْها مَن أنْزَلَهُ شِفاءً ورَحْمَةً. فَأمّا حِفْظُ القُوَّةِ فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أمَرَ المُسافِرَ والمَرِيضَ أنْ يُفْطِرا في رَمَضانَ، ويَقْضِيَ المُسافِرُ إذا قَدِمَ، والمَرِيضُ إذا بَرَأ، حِفْظًا لِقُوَّتِهِما عَلَيْهِما. فَإنَّ الصَّوْمَ يَزِيدُ المَرِيضَ ضَعْفًا، والمُسافِرُ مُحْتاجٌ إلى تَوْفِيرِ قُوَّتِهِ عَلَيْهِ لِمَشَقَّةِ السَّفَرِ، فالصَّوْمُ يُضْعِفُها. فَأمّا الحِمْيَةُ عَنِ المُؤْذِي، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ حَمى المَرِيضَ عَنِ اسْتِعْمالِ الماءِ البارِدِ في الوُضُوءِ والغُسْلِ إذا كانَ يَضُرُّهُ، وأمَرَهُ بِالعُدُولِ إلى التَّيَمُّمِ، حِمْيَةً لَهُ (p-٢٦٧٠)عَنْ وُرُودِ المُؤْذِي عَلَيْهِ مِن ظاهِرِ بَدَنِهِ، فَكَيْفَ بِالمُؤْذِي لَهُ في باطِنِهِ؟ وأمّا اسْتِفْراغُ المادَّةِ الفاسِدَةِ، فَإنَّهُ سُبْحانَهُ أباحَ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي بِهِ أذًى مِن رَأسِهِ أنْ يَحْلِقَهُ، فَيَسْتَفْرِغُ الحَلْقُ الأبْخِرَةَ المُؤْذِيَةَ لَهُ، وهَذا مِن أسْهَلِ أنْواعِ الِاسْتِفْراغِ وأخَفِّها، فَنَبَّهَ بِهِ عَلى ما هو أحْوَجُ إلَيْهِ مِنهُ. وذاكَرْتُ مَرَّةً بَعْضَ رُؤَساءِ الطِّبِّ بِمِصْرَ بِهَذا فَقالَ: واللَّهِ، لَوْ سافَرْتُ إلى الغَرْبِ في مَعْرِفَةِ هَذِهِ الفائِدَةِ، لَكانَ سَفَرًا قَلِيلًا -أوْ كَما قالَ-. انْتَهى. ثُمَّ رَدَّ تَعالى عَلى مَن حَرَّمَ شَيْئًا مِنَ المَآكِلِ والمَشارِبِ والمَلابِسِ، مِن تِلْقاءِ نَفْسِهِ مِن غَيْرِ شَرْعٍ مِنَ اللَّهِ، تَأْكِيدًا لِما سَبَقَ، بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب