الباحث القرآني

﴿يابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً وكانُوا لا يَأْكُلُونَ في أيّامِ حَجِّهِمْ دَسَمًا، ولا يَنالُونَ مِنَ الطَّعامِ إلّا قُوتًا تَعْظِيمًا لِحَجِّهِمْ فَنَزَلَتْ، وقِيلَ: كانَ أحَدُهم يَطُوفُ عُرْيانًا ويَدَعُ ثِيابَهُ وراءَ المَسْجِدِ وإنْ طافَ وهي عَلَيْهِ ضُرِبَ وانْتُزِعَتْ مِنهُ؛ لِأنَّهم قالُوا: لا نَعْبُدُ اللَّهَ في ثِيابٍ أذْنَبْنا فِيها، وقِيلَ: تَفاؤُلًا لِيَتَعَرَّوْا مِنَ الذُّنُوبِ كَما تَعَرَّوْا مِنَ الثِّيابِ. والزِّينَةُ: فِعْلَةٌ مِنَ التَّزَيُّنِ وهو اسْمُ ما يُتَجَمَّلُ بِهِ مِن ثِيابٍ وغَيْرِها، كَقَوْلِهِ وازَّيَّنَتْ، أيْ: بِالنَّباتِ، والزِّينَةُ هُنا المَأْمُورُ بِأخْذِها هو ما يَسْتُرُ العَوْرَةَ في الصَّلاةِ، قالَهُ مُجاهِدٌ، والسُّدِّيُّ، والزَّجّاجُ، وقالَ طاوُسٌ: الشَّمْلَةُ مِنَ الزِّينَةِ، وقالَ مُجاهِدٌ: ما وارى عَوْرَتَكَ ولَوْ عَباءَةً فَهو زِينَةٌ. وقِيلَ: ما يَسْتُرُ العَوْرَةَ في الطَّوافِ، وفي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنْ عُرْوَةَ أنَّ العَرَبَ كانَتْ تَطُوفُ عُراةً إلّا الحُمْسَ وهم قُرَيْشٌ إلّا أنْ تُعْطِيَهُمُ الحُمْسُ ثِيابًا فَيُعْطِي الرِّجالُ الرِّجالَ والنِّساءُ النِّساءَ، وفي غَيْرِ مُسْلِمٍ: مَن لَمْ يَكُنْ لَهُ صَدِيقٌ بِمَكَّةَ يُعِيرُهُ ثَوْبًا طافَ عُرْيانًا، أوْ في ثِيابِهِ وألْقاها بَعْدُ فَلا يَمَسُّها أحَدٌ ويُسَمّى اللِّقاءُ. وقالَ بَعْضُهم: ؎كَفى حَزَنًا كَرِّي عَلَيْهِ كَأنَّهُ لَقًى بَيْنَ أيْدِي الطّائِفِينَ حَرِيمُ وكانَتِ المَرْأةُ تُنْشِدُ وهي تَطُوفُ عُرْيانَةً: ؎اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ ∗∗∗ وما بَدا مِنهُ فَلا أُحِلُّهُ فَلَمّا بَعَثَ اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ، وأنْزَلَ عَلَيْهِ: ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ أذَّنَ مُؤَذِّنُ الرَّسُولِ: «ألّا لا يَحُجَّ البَيْتَ بَعْدَ العامِ مُشْرِكٌ ولا يَطُوفَ بِالبَيْتِ عُرْيانٌ»، وكانَ النِّداءُ بِمَكَّةَ سَنَةَ تِسْعٍ، وقالَ عَطاءٌ، وأبُو رَوْقٍ: تَسْرِيحُ اللِّحى وتَنْوِيرُها بِالمُشْطِ والتَّرْجِيلِ، وقِيلَ: التَّزَيُّنُ بِأجْمَلِ اللِّباسِ في الجُمَعِ والأعْيادِ، ذَكَرَهُ الماوَرْدِيُّ، وقِيلَ: رَفْعُ اليَدَيْنِ في تَكْبِيرَةِ الإحْرامِ والرُّكُوعِ والرَّفْعِ مِنهُ، وقِيلَ: إقامَةُ الصَّلاةِ في الجَماعَةِ بِالمَساجِدِ وكانَ ذَلِكَ زِينَةً لَهم لِما في الصَّلاةِ مِن حُسْنِ الهَيْئَةِ ومُشابَهَةِ صُفُوفِ المَلائِكَةِ، ولِما فِيها مِن إظْهارِ الأُلْفَةِ وإقامَةِ شَعائِرِ الدِّينِ، وقِيلَ: لُبْسُ النِّعالِ في الصَّلاةِ وفِيهِ حَدِيثٌ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ، وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وما أحْسَبُهُ يَصِحُّ، وقالَ أيْضًا: الزِّينَةُ هُنا الثِّيابُ السّاتِرَةُ (p-٢٩٠)ويَدْخُلُ فِيها ما كانَ مِنَ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ والسِّواكِ وبَدَلِ الثِّيابِ، وكُلِّ ما أُوجِدَ اسْتِحْسانُهُ في الشَّرِيعَةِ ولَمْ يُقْصَدْ بِهِ الخُيَلاءُ، وعِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ يُرِيدُ عِنْدَ كُلِّ مَوْضِعِ سُجُودٍ، فَهو إشارَةٌ إلى الصَّلَواتِ وسَتْرِ العَوْرَةِ فِيها، هو مُهِمُّ الأمْرِ، ويَدْخُلُ في الصَّلاةِ مَواطِنُ الخَيْرِ كُلُّها، ومَعَ سَتْرِ العَوْرَةِ ما ذَكَرْنا مِنَ الطِّيبِ لِلْجُمُعَةِ. انْتَهى. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾، أيْ: رِيشَكم ولِباسَ زِينَتِكم ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ كُلَّما صَلَّيْتُمْ وكانُوا يَطُوفُونَ عُراةً. انْتَهى. والَّذِي يَظْهَرُ أنَّ الزِّينَةَ هو ما يُتَجَمَّلُ بِهِ ويُتَزَيَّنُ بِهِ عِنْدَ الصَّلاةِ ولا يَدْخُلُ فِيهِ ما يَسْتُرُ العَوْرَةَ؛ لِأنَّ ذَلِكَ مَأْمُورٌ بِهِ مُطْلَقًا ولا يَخْتَصُّ بِأنْ يَكُونَ ذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، ولَفْظَةُ ﴿كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ تَأْتِي أنْ يَكُونَ أيْضًا ما يَسْتُرُ العَوْرَةَ في الطَّوافِ لِعُمُومِهِ، والطَّوافُ إنَّما هو الخاصُّ وهو المَسْجِدُ الحَرامُ ولَيْسَ بِظاهِرٍ حَمْلُ العُمُومِ عَلى كُلِّ بُقْعَةٍ مِنهُ، وأيْضًا فَيا بَنِي آدَمَ عامٌّ وتَقْيِيدُ الأمْرِ بِما يَسْتُرُ العَوْرَةَ في الطَّوافِ مُفْضٍ إلى تَخْصِيصِهِ بِمَن يَطُوفُ بِالبَيْتِ، وقالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى فَرْضِ سَتْرِ العَوْرَةِ في الصَّلاةِ وهو قَوْلُ أبِي يُوسُفَ، وزُفَرَ، ومُحَمَّدٍ، والحَسَنِ بْنِ زِيادٍ، والشّافِعِيِّ لِقَوْلِهِ: ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ عَلَّقَ الأمْرَ بِهِ فَدَلَّ عَلى أنَّهُ السِّتْرُ لِلصَّلاةِ، وقالَ مالِكٌ، اللَّيْثُ: كَشْفُ العَوْرَةِ حَرامٌ، ويُوجِبانِ الإعادَةَ في الوَقْتِ اسْتِحْبابًا إنْ صَلّى مَكْشُوفَها، وقالَ الأبْهَرِيُّ: هي فَرْضٌ في الجُمْلَةِ وعَلى الإنْسانِ أنْ يَسْتُرَها في الصَّلاةِ وغَيْرِها وهو الصَّحِيحُ لِقَوْلِهِ ﷺ لِلْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ: «ارْجِعْ إلى قَوْمِكَ ولا تَمْشُوا عُراةً»، أخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾، قالَ الكَلْبِيُّ: مَعْناهُ كُلُوا مِنَ اللَّحْمِ والدَّسَمِ واشْرَبُوا مِنَ الألْبانِ، وكانُوا يُحَرِّمُونَ جَمِيعَ ذَلِكَ في الإحْرامِ، وقالَ السُّدِّيُّ: كُلُوا مِنَ البَحِيرَةِ وأخَواتِها، والظّاهِرُ أنَّهُ أمْرٌ بِإباحَةِ الأكْلِ والشُّرْبِ مِن كُلِّ ما يُمْكِنُ أنْ يُؤْكَلَ، أوْ يُشْرَبَ مِمّا يُحْظَرُ أكْلُهُ وشُرْبُهُ في الشَّرِيعَةِ وإنْ كانَ النُّزُولُ عَلى سَبَبٍ خاصٍّ كَما ذَكَرُوا مِنَ امْتِناعِ المُشْرِكِينَ مِن أكْلِ اللَّحْمِ والدَّسَمَ أيّامَ إحْرامِهِمْ، أوْ بَنِي عامِرٍ دُونَ سائِرِ العَرَبِ مِن ذَلِكَ، وقَوْلُ المُسْلِمِينَ بِذَلِكَ والنَّهْيُ عَنِ الإسْرافِ يَدُلُّ عَلى التَّحْرِيمِ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾، قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: الإسْرافُ الخُرُوجُ عَنْ حَدِّ الِاسْتِواءِ، وقالَ أيْضًا (لا تُسْرِفُوا) في تَحْرِيمِ ما أحَلَّ لَكم، وقالَ أيْضًا: «كُلْ ما شِئْتَ والبَسْ ما شِئْتَ ما أخْطَأتْكَ خَصْلَتانِ سَرَفٌ ومَخِيلَةٌ»، وقالَ ابْنُ زَيْدٍ: الإسْرافُ أكْلُ الحَرامِ، وقالَ الزَّجّاجُ الإسْرافُ الأكْلُ مِنَ الحَلالِ فَوْقَ الحاجَةِ، وقالَ مُقاتِلٌ: الإسْرافُ الإشْراكُ، وقِيلَ: الإسْرافُ مُخالَفَةُ أمْرِ اللَّهِ في طَوافِهِمْ عُراةً يُصَفِّقُونَ ويُصَفِّرُونَ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا: لَيْسَ في الحَلالِ سَرَفٌ إنَّما السَّرَفُ في ارْتِكابِ المَعاصِي، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: يُرِيدُ في الحَلالِ القَصْدَ، واللَّفْظَةُ تَقْتَضِي النَّهْيَ عَنِ السَّرَفِ مُطْلَقًا فِيمَن تَلَبَّسَ بِفِعْلِ حَرامٍ، فَتَأوَّلَ تَلَبُّسُهُ بِهِ حَصَلَ مِنَ المُسْرِفِينَ، وتَوَجَّهَ النَّهْيُ عَلَيْهِ ومَن تَلَبَّسَ بِفِعْلِ مُباحٍ فَإنْ مَشى فِيهِ عَلى القَصْدِ وأوْساطِ الأُمُورِ فَحَسَنٌ، وإنْ أفْرَطَ حَتّى دَخَلَ الضَّرَرُ حَصَلَ أيْضًا مِنَ المُسْرِفِينَ وتَوَجَّهَ النَّهْيُ عَلَيْهِ، مِثالُ ذَلِكَ أنْ يُفَرِطَ في شِراءِ ثِيابٍ، أوْ نَحْوِها ويَسْتَنْفِدُ في ذَلِكَ حِلَّ مالِهِ، أوْ يُعْطِي مالَهُ أجْمَعَ، ويُكابِدُ بِعِيالِهِ الفَقْرَ بَعْدَ ذَلِكَ، أوْ نَحْوِهِ فاللَّهُ عَزَّ وجَلَّ لا يُحِبُّ شَيْئًا مِن هَذا، وقَدْ نَهَتِ الشَّرِيعَةُ عَنْهُ. انْتَهى. وحَكى المُفَسِّرُونَ هُنا أنَّ نَصْرانِيًّا طَبِيبًا لِلرَّشِيدِ أنْكَرَ أنْ يَكُونَ في القُرْآنِ، أوْ في حَدِيثِ الرَّسُولِ شَيْءٌ مِنَ الطِّبِّ فَأُجِيبَ بِقَوْلِهِ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا﴾ وبِقَوْلِهِ «المَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ» و«الحِمْيَةُ رَأسُ كُلِّ دَواءٍ» و«أعْطِ كُلَّ بَدَنٍ ما عَوَّدْتَهُ» فَقالَ النَّصْرانِيُّ: ما تَرَكَ كِتابُكم ولا نَبِيُّكم لِجالِينُوسَ طِبًّا. ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾: ﴿زِينَةَ اللَّهِ﴾ ما حَسَّنَتْهُ الشَّرِيعَةُ وقَرَّرَتْهُ مِمّا يُتَجَمَّلُ بِهِ مِنَ الثِّيابِ وغَيْرِها وأُضِيفَتْ إلى اللَّهِ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي أباحَها، والطَّيِّباتُ هي المُسْتَلَذّاتُ مِنَ المَأْكُولِ والمَشْرُوبِ بِطَرِيقَةٍ (p-٢٩١)وهُوَ الحِلُّ، وقِيلَ: الطَّيِّباتُ المُحَلَّلاتُ، ومَعْنى الِاسْتِفْهامِ إنْكارُ تَحْرِيمِ هَذِهِ الأشْياءِ، وتَوْبِيخُ مُحَرِّمِيها، وقَدْ كانُوا يُحَرِّمُونَ أشْياءَ مِن لُحُومِ الطَّيِّباتِ وألْبانِها، والِاسْتِفْهامُ إذا تَضَمَّنَ الإنْكارَ لا جَوابَ لَهُ. وتَوَهُّمُ مَكِّيٍّ هُنا أنَّ لَهُ جَوابًا هُنا، وهو قَوْلُهُ: ﴿قُلْ هِيَ﴾ تَوَهُّمٌ فاسِدٌ، ومَعْنى (أخْرَجَ) أبْرَزَها وأظْهَرَها، وقِيلَ: فَصَلَ حَلالَها مِن حَرامِها. ﴿قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ﴾ قَرَأ قَتادَةُ: قُلْ هي لِمَن آمَنَ، وقَرَأ نافِعٌ (خالِصَةٌ) بِالرَّفْعِ، وقَرَأ باقِي السَّبْعَةِ بِالنَّصْبِ، فَأمّا النَّصْبُ فَعَلى الحالِ، والتَّقْدِيرُ: قُلْ هي مُسْتَقِرَّةٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا في حالِ خُلُوصِها لَهم يَوْمَ القِيامَةِ، وهي حالٌ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في الجارِّ والمَجْرُورِ الواقِعِ خَبَرًا لِهي و﴿فِي الحَياةِ﴾ مُتَعَلِّقٌ بِآمَنُوا ويَصِيرُ المَعْنى قُلْ هي خالِصَةٌ يَوْمَ القِيامَةِ لِمَن آمَنَ في الدُّنْيا ولا يَعْنِي بِيَوْمِ القِيامَةِ وقْتَ الحِسابِ، وخُلُوصُها كَوْنُهم لا يُعاقَبُونَ عَلَيْها، وإلى هَذا المَعْنى يُشِيرُ تَفْسِيرُ ابْنِ جُبَيْرٍ، وجَوَّزُوا فِيهِ أنْ يَكُونَ خَبَرًا بَعْدَ خَبَرٍ، والخَبَرُ الأوَّلُ هو ﴿لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ و﴿فِي الحَياةِ الدُّنْيا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِما تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّذِينِ، وهو الكَوْنُ المُطْلَقُ، أيْ: قُلْ هي كائِنَةٌ في الحَياةِ الدُّنْيا لِلْمُؤْمِنِينَ وإنْ كانَ يُشْرِكُهم فِيها في الحَياةِ الدُّنْيا الكُفّارُ و(خالِصَةً لَهم يَوْمَ القِيامَةِ) ويُرادُ بِيَوْمِ القِيامَةِ اسْتِمْرارُ الكَوْنِ في الجَنَّةِ، وهَذا المَعْنى مِن أنَّها لَهم ولِغَيْرِهِمْ في الدُّنْيا خالِصَةٌ لَهم يَوْمَ القِيامَةِ هو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ، والضَّحّاكِ، وقَتادَةَ، والحَسَنِ، وابْنِ جُرَيْجٍ، وابْنِ زَيْدٍ وعَلى هَذا المَعْنى فَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ، فَإنْ قُلْتَ: إذا كانَ مَعْنى الآيَةِ أنَّها لَهم في الدُّنْيا عَلى الشَّرِكَةِ بَيْنَهم وبَيْنَ الكُفّارِ فَكَيْفَ جاءَ ﴿قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾، فالجَوابُ: مِن وُجُوهٍ، أحَدِها: إنَّ في الكَلامِ حَذْفًا تَقْدِيرُهُ قُلْ هي لِلْمُؤْمِنِينَ والكافِرِينَ في الدُّنْيا خالِصَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ في القِيامَةِ لا يُشارَكُونَ فِيها. قالَهُ الكِرْمانِيُّ، الثّانِي: إنَّ ما تَعَلَّقَ بِهِ لِلَّذِينِ آمَنُوا لَيْسَ كَوْنًا مُطْلَقًا، بَلْ كَوْنًا مُقَيَّدًا يَدُلُّ عَلى حَذْفِهِ مُقابِلُهُ، وهو ﴿خالِصَةً﴾ تَقْدِيرُهُ قُلْ هي غَيْرُ خالِصَةٍ لِلَّذِينِ آمَنُوا. قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ قالَ: قُلْ هي لِلَّذِينِ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا غَيْرُ خالِصَةٍ لَهم؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ شُرَكاؤُهم فِيها، خالِصَةٌ يَوْمَ القِيامَةِ لا يُشْرِكُهم فِيها أحَدٌ، ثُمَّ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: هَلّا قِيلَ لِلَّذِينِ آمَنُوا ولِغَيْرِهِمْ، قُلْتُ: النِّيَّةُ عَلى أنَّها خُلِقَتْ لِلَّذِينِ آمَنُوا عَلى طَرِيقِ الأصالَةِ، وأنَّ الكَفَرَةَ تَبَعٌ لَهم كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أضْطَرُّهُ﴾ [البقرة: ١٢٦] . انْتَهى. وجَوابُ الزَّمَخْشَرِيُّ هو لِلتِّبْرِيزِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ، قالَ التِّبْرِيزِيُّ مَعْنى الآيَةِ أنَّها لِلْمُؤْمِنِينَ خالِصَةً في الآخِرَةِ لا يُشْرِكُهُمِ الكُفّارُ فِيها هَذا وإنْ كانَ مَفْهُومُهُ الشَّرِكَةَ بَيْنَ الَّذِينَ آمَنُوا والَّذِينَ أشْرَكُوا وهو كَذَلِكَ؛ لِأنَّ الدُّنْيا عَرَضٌ حاضِرٌ يَأْكُلُ مِنها البَرُّ والفاجِرُ، إلّا أنَّهُ أضافَ إلى المُؤْمِنِينَ ولَمْ يَذْكُرِ الشَّرِكَةَ بَيْنَهم وبَيْنَ الَّذِينَ أشْرَكُوا في الدُّنْيا تَنْبِيهًا عَلى أنَّهُ إنَّما خَلَقَها لِلَّذِينِ آمَنُوا بِطَرِيقِ الأصالَةِ، والكَفّارُ تَبَعٌ لَهم فِيها في الدُّنْيا ولِذَلِكَ خاطَبَ اللَّهُ المُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكم ما في الأرْضِ جَمِيعًا﴾ [البقرة: ٢٩] . انْتَهى. وقالَ أبُو عَلِيٍّ في الحُجَّةِ ويَصِحُّ أنْ يُعَلَّقَ قَوْلُهُ: ﴿فِي الحَياةِ الدُّنْيا﴾ بِقَوْلِهِ: ﴿حَرَّمَ﴾ [الأعراف: ٣٣] ولا يَصِحُّ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: ﴿أخْرَجَ لِعِبادِهِ﴾ ويَجُوزُ ذَلِكَ وإنْ فُصِلَ بَيْنَ الصِّلَةِ والمَوْصُولِ بِقَوْلِهِ: ﴿هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾؛ لِأنَّ ذَلِكَ كَلامٌ يَشُدُّ القِصَّةَ ولَيْسَ بِأجْنَبِيٍّ مِنها جِدًّا، كَما جازَ ذَلِكَ في قَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وتَرْهَقُهم ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٧] فَقَوْلُهُ: ﴿وتَرْهَقُهم ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٧] مَعْطُوفٌ عَلى كَسَبُوا داخِلٌ في الصَّلاةِ، والتَّعَلُّقُ بِأخْرَجَ هو قَوْلُ الأخْفَشِ، ويَصِحُّ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: ﴿والطَّيِّباتِ﴾ ويَصِحُّ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: ﴿مِنَ الرِّزْقِ﴾ . انْتَهى. وتَقادِيرُ أبِي عَلِيٍّ والأخْفَشِ فِيها تَفْكِيكٌ لِلْكَلامِ وسُلُوكٌ بِهِ غَيْرَ ما تَقْتَضِيهِ الفَصاحَةُ، وهي تَقادِيرُ أعْجَمِيَّةٌ بَعِيدَةٌ عَنِ البَلاغَةِ لا تُناسِبُ في كِتابِ اللَّهِ، بَلْ لَوْ قُدِّرَتْ في شِعْرِ الشَّنْفَرى ما ناسَبَ. والنُّحاةُ الصِّرْفُ غَيْرُ الأُدَباءِ بِمَعْزِلٍ عَنْ إدْراكِ الفَصاحَةِ، وأمّا تَشْبِيهُ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: ﴿والَّذِينَ كَسَبُوا﴾ [يونس: ٢٧] فَلَيْسَ ما قالَهُ بِمُتَعَيَّنٍ فِيهِ، بَلْ ولا ظاهِرٌ، بَلْ قَوْلُهُ: ﴿جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها﴾ [يونس: ٢٧] هو خَبَرٌ عَنِ النَّهْيِ، (p-٢٩٢)أيْ: جَزاءُ سَيِّئَةٍ مِنهم بِمِثْلِها، وحَذْفُ مِنهم لِدَلالَةِ المَعْنى عَلَيْهِ كَما حُذِفَ مِن قَوْلِهِمُ السَّمْنُ مَنَوانِ بِدِرْهَمٍ، أيْ: مَنَوانِ مِنهُ، وقَوْلُهُ: ﴿وتَرْهَقُهم ذِلَّةٌ﴾ [يونس: ٢٧] مَعْطُوفٌ عَلى ﴿جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها﴾ [يونس: ٢٧] وسَيَأْتِي تَوْضِيحُ هَذا بِأكْثَرَ في مَوْضِعِهِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى. ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾، أيْ: مِثْلُ تَفْصِيلِنا وتَقْسِيمِنا السّابِقِ نُقَسِّمُ في المُسْتَقْبَلِ لِقَوْمٍ لَهم عِلْمٌ وإدْراكٌ؛ لِأنَّهُ لا يَنْتَفِعُ بِذَلِكَ إلّا مَن عَلِمَ، لِقَوْلِهِ: ﴿وما يَعْقِلُها إلّا العالِمُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٣] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب