الباحث القرآني
* (فائدة)
قوله تعالى: ﴿يابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾
جمعت أصول أحكام الشريعة كلها، فجمع الأمر والنهي والإباحة والخبر.
(فائدة أخرى)
قالَ بَعْضُ المُتَقَدِّمِينَ مِن أئِمَّةِ الطِّبِّ: مَن أرادَ عافِيَةَ الجِسْمِ فَلْيُقَلِّلْ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ، ومَن أرادَ عافِيَةَ القَلْبِ فَلْيَتْرُكِ الآثامَ.
وَقالَ ثابِتُ بْنُ قُرَّةَ: راحَةُ الجِسْمِ في قِلَّةِ الطَّعامِ، وراحَةُ الرُّوحِ في قِلَّةِ الآثامِ، وراحَةُ اللِّسانِ في قِلَّةِ الكَلامِ.
والذُّنُوبُ لِلْقَلْبِ بِمَنزِلَةِ السُّمُومِ، إنْ لَمْ تُهْلِكْهُ أضْعَفَتْهُ، ولا بُدَّ وإذا ضَعُفَتْ قُوَّتُهُ، لَمْ يَقْدِرْ عَلى مُقاوَمَةِ الأمْراضِ، قالَ طَبِيبُ القُلُوبِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ:
؎رَأيْتُ الذُّنُوبَ تُمِيتُ القُلُوبَ ∗∗∗ وقَدْ يُورِثُ الذُّلَّ إدْمانُها
؎وَتَرْكُ الذُّنُوبِ حَياةُ القُلُوبِ ∗∗∗ وخَيْرٌ لِنَفْسِكَ عِصْيانُها
* (لطيفة)
سَألَ سهل التسترِي الرجل يَأْكُل في اليَوْم أكلَة؟ قالَ أكل الصديقين.
قيل لَهُ فأكلتين؟ قالَ أكل المُؤمنِينَ.
قيل لَهُ فَثَلاث أكلات؟ فَقالَ قل لأهله يبنوا لَهُ معلفا.
* [فَصْلٌ: المُفْسِدُ الرّابِعُ مِن مُفْسِداتِ القَلْبِ الطَّعامُ]
والمُفْسِدُ لَهُ مِن ذَلِكَ نَوْعانِ: أحَدُهُما ما يُفْسِدُهُ لِعَيْنِهِ وذاتِهِ كالمُحَرَّماتِ، وهي نَوْعانِ: مُحَرَّماتٌ لِحَقِّ اللَّهِ، كالمَيْتَةِ والدَّمِ، ولَحْمِ الخِنْزِيرِ، وذِي النّابِ مِنَ السِّباعِ والمِخْلَبِ مِنَ الطَّيْرِ، ومُحَرَّماتٌ لِحَقِّ العِبادِ، كالمَسْرُوقِ والمَغْصُوبِ والمَنهُوبِ، وما أُخِذَ بِغَيْرِ رِضا صاحِبِهِ، إمّا قَهْرًا وإمّا حَياءً وتَذَمُّمًا.
والثّانِي: ما يُفْسِدُهُ بِقَدْرِهِ وتَعَدِّي حَدِّهِ، كالإسْرافِ في الحَلالِ، والشِّبَعِ المُفْرِطِ، فَإنَّهُ يُثْقِلُهُ عَنِ الطّاعاتِ، ويَشْغَلُهُ بِمُزاوَلَةِ مُؤْنَةِ البِطْنَةِ ومُحاوَلَتِها، حَتّى يَظْفَرَ بِها، فَإذا ظَفِرَ بِها شَغَلَهُ بِمُزاوَلَةِ تَصَرُّفِها ووِقايَةِ ضَرَرِها، والتَّأذِّي بِثِقَلِها، وقَوّى عَلَيْهِ مَوادَّ الشَّهْوَةِ، وطُرُقَ مَجارِي الشَّيْطانِ ووَسَّعَها، فَإنَّهُ يَجْرِي مِنَ ابْنِ آدَمَ مَجْرى الدَّمِ، فالصَّوْمُ يُضَيِّقُ مَجارِيَهُ ويَسُدُّ عَلَيْهِ طُرُقَهُ، والشِّبَعُ يَطْرُقُها ويُوَسِّعُها، ومَن أكَلَ كَثِيرًا شَرِبَ كَثِيرًا، فَنامَ كَثِيرًا، فَخَسِرَ كَثِيرًا، وفي الحَدِيثِ المَشْهُورِ «ما مَلَأ آدَمِيٌّ وِعاءً شَرًّا مِن بَطْنِهِ، بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ لُقَيْماتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فَإنْ كانَ لا بُدَّ فاعِلًا فَثُلُثٌ لِطَعامِهِ، وثُلُثٌ لِشَرابِهِ، وثُلُثٌ لِنَفَسِهِ» ويُحْكى أنَّ إبْلِيسَ لَعَنَهُ اللَّهُ عَرَضَ لِيَحْيى بْنِ زَكَرِيّا عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فَقالَ لَهُ يَحْيى: هَلْ نِلْتَ مِنِّي شَيْئًا قَطُّ؟ قالَ: لا، إلّا أنَّهُ قُدِّمَ إلَيْكَ الطَّعامُ لَيْلَةً فَشَهَّيْتُهُ إلَيْكَ حَتّى شَبِعْتَ مِنهُ، فَنِمْتَ عَنْ وِرْدِكَ، فَقالَ يَحْيى: لِلَّهِ عَلَيَّ أنْ لا أشْبَعَ مِن طَعامٍ أبَدًا، فَقالَ إبْلِيسُ: وأنا، لِلَّهِ عَلَيَّ أنْ لا أنْصَحَ آدَمِيًّا أبَدًا.
* [فَصْلٌ: الأدَبُ هو الدِّينُ كُلُّهُ]
فَإنَّ سَتْرَ العَوْرَةِ مِنَ الأدَبِ. والوُضُوءَ وغُسْلَ الجَنابَةِ مِنَ الأدَبِ. والتَّطَهُّرَ مِنَ الخُبْثِ مِنَ الأدَبِ. حَتّى يَقِفَ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ طاهِرًا. ولِهَذا كانُوا يَسْتَحِبُّونَ أنْ يَتَجَمَّلَ الرَّجُلُ في صَلاتِهِ. لِلْوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ.
وَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَقُولُ: أمَرَ اللَّهُ بِقَدْرٍ زائِدٍ عَلى سَتْرِ العَوْرَةِ في الصَّلاةِ. وهو أخْذُ الزِّينَةِ. فَقالَ تَعالى ﴿خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٣١] فَعَلَّقَ الأمْرَ بِأخْذِ الزِّينَةِ، لا بِسَتْرِ العَوْرَةِ، إيذانًا بِأنَّ العَبْدَ يَنْبَغِي لَهُ: أنْ يَلْبَسَ أزْيَنَ ثِيابِهِ، وأجْمَلَها في الصَّلاةِ.
وَكانَ لِبَعْضِ السَّلَفِ حُلَّةٌ بِمَبْلَغٍ عَظِيمٍ مِنَ المالِ. وكانَ يَلْبَسُها وقْتَ الصَّلاةِ. ويَقُولُ: رَبِّي أحَقُّ مَن تَجَمَّلْتُ لَهُ في صَلاتِي.
وَمَعْلُومٌ: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ وتَعالى يُحِبُّ أنْ يَرى أثَرَ نِعْمَتِهِ عَلى عَبْدِهِ. لاسِيَّما إذا وقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ. فَأحْسَنُ ما وقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ بِمَلابِسِهِ ونِعْمَتِهِ الَّتِي ألْبَسَهُ إيّاها ظاهِرًا وباطِنًا.
وَمِنَ الأدَبِ: نَهى النَّبِيُّ ﷺ المُصَلِّيَ: «أنْ يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلى السَّماءِ».
فَسَمِعْتُ شَيْخَ الإسْلامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ - قَدَّسَ اللَّهُ رُوحَهُ - يَقُولُ: هَذا مِن كَمالِ أدَبِ الصَّلاةِ: أنْ يَقِفَ العَبْدُ بَيْنَ يَدَيْ رَبِّهِ مُطْرِقًا، خافِضًا طَرْفَهُ إلى الأرْضِ. ولا يَرْفَعَ بَصَرَهُ إلى فَوْقٍ.
قالَ: والجَهْمِيَّةُ - لَمّا لَمْ يَفْقَهُوا هَذا الأدَبَ، ولا عَرَفُوهُ - ظَنُّوا أنَّ هَذا دَلِيلٌ أنَّ اللَّهَ لَيْسَ فَوْقَ سَمَواتِهِ عَلى عَرْشِهِ. كَما أخْبَرَ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ. واتَّفَقَتْ عَلَيْهِ رُسُلُهُ وجَمِيعُ أهْلِ السُّنَّةِ.
قالَ: وهَذا مِن جَهْلِهِمْ. بَلْ هَذا دَلِيلٌ لِمَن عَقَلَ عَنِ الرَّسُولِ ﷺ عَلى نَقِيضِ قَوْلِهِمْ؛ إذْ مِنَ الأدَبِ مَعَ المُلُوكِ: أنَّ الواقِفَ بَيْنَ أيْدِيهِمْ يَطْرُقُ إلى الأرْضِ. ولا يَرْفَعُ بَصَرَهُ إلَيْهِمْ. فَما الظَّنُّ بِمَلِكِ المُلُوكِ سُبْحانَهُ؟
وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ - في نَهْيِهِ ﷺ عَنْ قِراءَةِ القُرْآنِ في الرُّكُوعِ والسُّجُودِ - إنَّ القُرْآنَ هو أشْرَفُ الكَلامِ. وهو كَلامُ اللَّهِ. وحالَتا الرُّكُوعِ والسُّجُودِ حالَتا ذُلٍّ وانْخِفاضٍ مِنَ العَبْدِ. فَمِنَ الأدَبِ مَعَ كَلامِ اللَّهِ: أنْ لا يُقْرَأ في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ. ويَكُونَ حالُ القِيامِ والِانْتِصابِ أوْلى بِهِ.
وَمِنَ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ: أنْ لا يَسْتَقْبِلَ بَيْتَهُ ولا يَسْتَدْبِرَهُ عِنْدَ قَضاءِ الحاجَةِ. كَما ثَبَتَ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ في حَدِيثِ أبِي أيُّوبَ وسَلْمانَ وأبِي هُرَيْرَةَ، وغَيْرِهِمْ. رَضِيَ اللَّهُ عَنْهم. والصَّحِيحُ: أنَّ هَذا الأدَبَ: يَعُمُّ الفَضاءَ والبُنْيانَ. كَما ذَكَرْنا في غَيْرِ هَذا المَوْضِعِ.
وَمِنَ الأدَبِ مَعَ اللَّهِ، في الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيْهِ في الصَّلاةِ: وضَعُ اليُمْنى عَلى اليُسْرى حالَ قِيامِ القِراءَةِ، فَفي المُوَطَّأِ لِمالِكٍ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أنَّهُ مِنَ السُّنَّةِ، وكانَ النّاسُ يُؤْمَرُونَ بِهِ ولا رَيْبَ أنَّهُ مِن أدَبِ الوُقُوفِ بَيْنَ يَدَيِ المُلُوكِ والعُظَماءِ. فَعَظِيمُ العُظَماءِ أحَقُّ بِهِ.
وَمِنها: السُّكُونُ في الصَّلاةِ. وهو الدَّوامُ الَّذِي قالَ اللَّهُ تَعالى فِيهِ: ﴿الَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ﴾ [المعارج: ٢٣]. قالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ المُبارَكِ عَنِ ابْنِ لَهِيعَةَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ أبِي حَبِيبٍ: أنَّ أبا الخَيْرِ أخْبَرَهُ قالَ: سَألْنا عُقْبَةَ بْنَ عامِرٍ عَنْ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿الَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ﴾ [المعارج: ٢٣] أهُمُ الَّذِينَ يُصَلُّونَ دائِمًا؟ قالَ: لا. ولَكِنَّهُ إذا صَلّى لَمْ يَلْتَفِتْ عَنْ يَمِينِهِ، ولا عَنْ شِمالِهِ ولا خَلْفَهُ.
قُلْتُ: هُما أمْرانِ. الدَّوامُ عَلَيْها. والمُداوَمَةُ عَلَيْها. فَهَذا الدَّوامُ. والمُداوَمَةُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿والَّذِينَ هم عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ﴾ [المعارج: ٣٤] وفُسِّرَ الدَّوامُ بِسُكُونِ الأطْرافِ والطُّمَأْنِينَةِ.
وَأدَبِهِ في اسْتِماعِ القِراءَةِ: أنْ يُلْقِيَ السَّمْعَ وهو شَهِيدٌ.
وَأدَبُهُ في الرُّكُوعِ: أنْ يَسْتَوِيَ. ويُعَظِّمَ اللَّهَ تَعالى، حَتّى لا يَكُونَ في قَلْبِهِ شَيْءٌ أعْظَمُ مِنهُ. ويَتَضاءَلَ ويَتَصاغَرَ في نَفْسِهِ. حَتّى يَكُونَ أقَلَّ مِنَ الهَباءِ.
والمَقْصُودُ: أنَّ الأدَبَ مَعَ اللَّهِ تَبارَكَ وتَعالى: هو القِيامُ بِدِينِهِ، والتَّأدُّبُ بِآدابِهِ ظاهِرًا وباطِنًا.
وَلا يَسْتَقِيمُ لِأحَدٍ قَطُّ الأدَبُ مَعَ اللَّهِ إلّا بِثَلاثَةِ أشْياءَ: مَعْرِفَتُهُ بِأسْمائِهِ وصِفاتِهِ، ومَعْرِفَتُهُ بِدِينِهِ وشَرْعِهِ، وما يُحِبُّ وما يَكْرَهُ. ونَفْسٌ مُسْتَعِدَّةٌ قابِلَةٌ لَيِّنَةٌ، مُتَهَيِّئَةٌ لِقَبُولِ الحَقِّ عِلْمًا وعَمَلًا وحالًا. واللَّهُ المُسْتَعانُ.
* [فَصْلٌ: هَدْيِهِ ﷺ في حِفْظِ الصِّحَّةِ]
لَمّا كانَ اعْتِدالُ البَدَنِ وصِحَّتُهُ وبَقاؤُهُ إنَّما هو بِواسِطَةِ الرُّطُوبَةِ المُقاوِمَةِ لِلْحَرارَةِ، فالرُّطُوبَةُ مادَّتُهُ، والحَرارَةُ تُنْضِجُها وتَدْفَعُ فَضَلاتِها، وتُصْلِحُها وتُلَطِّفُها، وإلّا أفْسَدَتِ البَدَنَ ولَمْ يُمْكِنْ قِيامُهُ، وكَذَلِكَ الرُّطُوبَةُ هي غِذاءُ الحَرارَةِ، فَلَوْلا الرُّطُوبَةُ لَأحْرَقَتِ البَدَنَ وأيْبَسَتْهُ وأفْسَدَتْهُ، فَقِوامُ كُلِّ واحِدَةٍ مِنهُما بِصاحِبَتِها، وقِوامُ البَدَنِ بِهِما جَمِيعًا، وكُلٌّ مِنهُما مادَّةٌ لِلْأُخْرى.
فالحَرارَةُ مادَّةٌ لِلرُّطُوبَةِ تَحْفَظُها وتَمْنَعُها مِنَ الفَسادِ والِاسْتِحالَةِ، والرُّطُوبَةُ مادَّةٌ لِلْحَرارَةِ تَغْذُوها وتَحْمِلُها، ومَتى مالَتِ احْداهُما إلى الزِّيادَةِ عَلى الأُخْرى حَصَلَ لِمِزاجِ البَدَنِ الِانْحِرافُ بِحَسَبِ ذَلِكَ، فالحَرارَةُ دائِمًا تُحَلِّلُ الرُّطُوبَةَ، فَيَحْتاجُ البَدَنُ إلى ما بِهِ يُخْلَفُ عَلَيْهِ ما حَلَّلَتْهُ الحَرارَةُ - لِضَرُورَةِ بَقائِهِ - وهو الطَّعامُ والشَّرابُ، ومَتى زادَ عَلى مِقْدارِ التَّحَلُّلِ، ضَعُفَتِ الحَرارَةُ عَنْ تَحْلِيلِ فَضَلاتِهِ، فاسْتَحالَتْ مَوادَّ رَدِيئَةً، فَعاثَتْ في البَدَنِ، وأفْسَدَتْ، فَحَصَلَتِ الأمْراضُ المُتَنَوِّعَةُ بِحَسَبِ تَنَوُّعِ مَوادِّها وقَبُولِ الأعْضاءِ واسْتِعْدادِها، وهَذا كُلُّهُ مُسْتَفادٌ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وَكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا﴾ [الأعراف: ٣١]، فَأرْشَدَ عِبادَهُ إلى إدْخالِ ما يُقِيمُ البَدَنَ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ عِوَضَ ما تَحَلَّلَ مِنهُ، وأنْ يَكُونَ بِقَدْرِ ما يَنْتَفِعُ بِهِ البَدَنُ في الكَمِّيَّةِ والكَيْفِيَّةِ، فَمَتى جاوَزَ ذَلِكَ كانَ إسْرافًا، وكِلاهُما مانِعٌ مِنَ الصِّحَّةِ جالِبٌ لِلْمَرَضِ، أعْنِي عَدَمَ الأكْلِ والشُّرْبِ، أوِ الإسْرافَ فِيهِ.
فَحِفْظُ الصِّحَّةِ كُلُّهُ في هاتَيْنِ الكَلِمَتَيْنِ الإلَهِيَّتَيْنِ، ولا رَيْبَ أنَّ البَدَنَ دائِمًا في التَّحَلُّلِ والِاسْتِخْلافِ، وكُلَّما كَثُرَ التَّحَلُّلُ ضَعُفَتِ الحَرارَةُ لِفَناءِ مادَّتِها، فَإنَّ كَثْرَةَ التَّحَلُّلِ تُفْنِي الرُّطُوبَةَ، وهي مادَّةُ الحَرارَةِ، وإذا ضَعُفَتِ الحَرارَةُ، ضَعُفَ الهَضْمُ، ولا يَزالُ كَذَلِكَ حَتّى تَفْنى الرُّطُوبَةُ، وتَنْطَفِئَ الحَرارَةُ جُمْلَةً، فَيَسْتَكْمِلُ العَبْدُ الأجَلَ الَّذِي كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أنْ يَصِلَ إلَيْهِ.
فَغايَةُ عِلاجِ الإنْسانِ لِنَفْسِهِ ولِغَيْرِهِ حِراسَةُ البَدَنِ إلى أنْ يَصِلَ إلى هَذِهِ الحالَةِ، لا أنَّهُ يَسْتَلْزِمُ بَقاءَ الحَرارَةِ والرُّطُوبَةِ اللَّتَيْنِ بَقاءُ الشَّبابِ والصِّحَّةِ والقُوَّةِ بِهِما، فَإنَّ هَذا مِمّا لَمْ يَحْصُلْ لِبَشَرٍ في هَذِهِ الدّارِ، وإنَّما غايَةُ الطَّبِيبِ أنْ يَحْمِيَ الرُّطُوبَةَ عَنْ مُفْسِداتِها مِنَ العُفُونَةِ وغَيْرِهِ، ويَحْمِيَ الحَرارَةَ عَنْ مُضْعِفاتِها، ويَعْدِلَ بَيْنَهُما بِالعَدْلِ في التَّدْبِيرِ الَّذِي بِهِ قامَ بَدَنُ الإنْسانِ، كَما أنَّ بِهِ قامَتِ السَّماواتُ والأرْضُ وسائِرُ المَخْلُوقاتِ، إنَّما قِوامُها بِالعَدْلِ، ومَن تَأمَّلَ هَدْيَ النَّبِيِّ ﷺ وجَدَهُ أفْضَلَ هَدْيٍ يُمْكِنُ حِفْظُ الصِّحَّةِ بِهِ، فَإنَّ حِفْظَها مَوْقُوفٌ عَلى حُسْنِ تَدْبِيرِ المَطْعَمِ والمَشْرَبِ، والمَلْبَسِ والمَسْكَنِ، والهَواءِ والنَّوْمِ، واليَقَظَةِ والحَرَكَةِ والسُّكُونِ، والمَنكَحِ والِاسْتِفْراغِ والِاحْتِباسِ، فَإذا حَصَلَتْ هَذِهِ عَلى الوَجْهِ المُعْتَدِلِ المُوافِقِ المُلائِمِ لِلْبَدَنِ والبَلَدِ والسِّنِّ والعادَةِ، كانَ أقْرَبَ إلى دَوامِ الصِّحَّةِ أوْ غَلَبَتِها إلى انْقِضاءِ الأجَلِ.
وَلَمّا كانَتِ الصِّحَّةُ والعافِيَةُ مِن أجَلِّ نِعَمِ اللَّهِ عَلى عَبْدِهِ، وأجْزَلِ عَطاياهُ، وأوْفَرِ مِنَحِهِ، بَلِ العافِيَةُ المُطْلَقَةُ أجَلُّ النِّعَمِ عَلى الإطْلاقِ، فَحَقِيقٌ لِمَن رُزِقَ حَظًّا مِنَ التَّوْفِيقِ مُراعاتُها وحِفْظُها وحِمايَتُها عَمّا يُضادُّها، وقَدْ رَوى البُخارِيُّ في " صَحِيحِهِ " مِن حَدِيثِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «نِعْمَتانِ مَغْبُونٌ فِيهِما كَثِيرٌ مِنَ النّاسِ: الصِّحَّةُ والفَراغُ».
وَفِي الترمذي وغَيْرِهِ مِن حَدِيثِ عبيد الله بن محصن الأنصاري، قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «مَن أصْبَحَ مُعافًى في جَسَدِهِ، آمِنًا في سِرْبِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأنَّما حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيا».
وَفِي الترمذي أيْضًا مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: «أوَّلُ ما يُسْألُ عَنْهُ العَبْدُ يَوْمَ القِيامَةِ مِنَ النَّعِيمِ، أنْ يُقالَ لَهُ: ألَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ، ونَرْوِكَ مِنَ الماءِ البارِدِ».
وَمِن هاهُنا قالَ مَن قالَ مِنَ السَّلَفِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ لَتُسْألُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر: ٨]، قالَ: عَنِ الصِّحَّةِ.
وَفِي " مُسْنَدِ الإمامِ أحْمَدَ " أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ للعباس: «يا عباس، يا عَمَّ رَسُولِ اللَّهِ! سَلِ اللَّهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ».
وَفِيهِ عَنْ أبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ يَقُولُ: «سَلُوا اللَّهَ اليَقِينَ والمُعافاةَ، فَما أُوتِيَ أحَدٌ بَعْدَ اليَقِينِ خَيْرًا مِنَ العافِيَةِ»، فَجَمَعَ بَيْنَ عافِيَتَيِ الدِّينِ والدُّنْيا، ولا يَتِمُّ صَلاحُ العَبْدِ في الدّارَيْنِ إلّا بِاليَقِينِ والعافِيَةِ، فاليَقِينُ يَدْفَعُ عَنْهُ عُقُوباتِ الآخِرَةِ، والعافِيَةُ تَدْفَعُ عَنْهُ أمْراضَ الدُّنْيا في قَلْبِهِ وبَدَنِهِ.
وَفِي " سُنَنِ النَّسائِيِّ " مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ يَرْفَعُهُ: «سَلُوا اللَّهَ العَفْوَ والعافِيَةَ
والمُعافاةَ، فَما أُوتِيَ أحَدٌ بَعْدَ يَقِينٍ خَيْرًا مِن مُعافاةٍ».
وَهَذِهِ الثَّلاثَةُ تَتَضَمَّنُ إزالَةَ الشُّرُورِ الماضِيَةِ بِالعَفْوِ، والحاضِرَةِ بِالعافِيَةِ، والمُسْتَقْبَلَةِ بِالمُعافاةِ، فَإنَّها تَتَضَمَّنُ المُداوَمَةَ والِاسْتِمْرارَ عَلى العافِيَةِ.
وَفِي الترمذي مَرْفُوعًا: «ما سُئِلَ اللَّهُ شَيْئًا أحَبَّ إلَيْهِ مِنَ العافِيَةِ».
وَقالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أبِي لَيْلى: عَنْ أبِي الدَّرْداءِ، قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ! لَأنْ أُعافى فَأشْكُرَ أحَبُّ إلَيَّ مِن أنْ أُبْتَلى فَأصْبِرَ، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «وَرَسُولُ اللَّهِ يُحِبُّ مَعَكَ العافِيَةَ».
وَيُذْكَرُ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ أعْرابِيًّا جاءَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ لَهُ: ما أسْألُ اللَّهَ بَعْدَ الصَّلَواتِ الخَمْسِ؟ فَقالَ: " «سَلِ اللَّهَ العافِيَةَ "، فَأعادَ عَلَيْهِ، فَقالَ لَهُ في الثّالِثَةِ: سَلِ اللَّهَ العافِيَةَ في الدُّنْيا والآخِرَةِ».
{"ayah":"۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُوا۟ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ وَلَا تُسۡرِفُوۤا۟ۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق