الباحث القرآني
(p-١٣٥)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ الآيَةَ: ٣١. ظاهِرُهُ الأمْرُ بِأخْذِ الزِّينَةِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لِلْفِعْلِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِالمَسْجِدِ، تَعْظِيمًا لِلْمَسْجِدِ والفِعْلِ الواقِعِ فِيهِ، مِثْلَ الِاعْتِكافِ والصَّلاةِ والطَّوافِ، ولا يَدُلُّ ظاهِرُ ذَلِكَ عَلى وُجُوبِ السَّتْرِ في الصَّلاةِ في المَسْجِدِ أوْ خارِجِ المَسْجِدِ، فَإنَّ القَدْرَ الَّذِي يَسْتُرُ العَوْرَةَ لا يُسَمّى زِينَةً وتَجَمُّلًا.
وكَثِيرٌ مِنَ المُتَكَلِّمِينَ في أحْكامِ القُرْآنِ زادُوا في ذَلِكَ دَلالَةً عَلى الوُجُوبِ لِلصَّلاةِ، لِأنَّ الَّذِي أمَرَنا بِذَلِكَ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ لَمْ يَكُنْ لِعَيْنِ المَسْجِدِ، وإنَّما كانَ لِلْفِعْلِ الواقِعِ في المَسْجِدِ، والَّذِي عَظُمَ المَسْجِدُ لِأجْلِهِ الطَّوافُ والصَّلاةُ، أمّا الطَّوافُ فَلا يَعُمُّ كُلَّ مَسْجِدٍ، وفي القُرْآنِ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ، والِاعْتِكافُ لَمْ يَشْرُفِ المَسْجِدُ لِأجْلِهِ بَلْ كانَ عِبادَةً لِأجْلِ المَسْجِدِ، فَلَمْ يَبْقَ إلّا الفِعْلُ الَّذِي يَشْرُفُ بِهِ المَسْجِدُ، ووَجَبَ تَعْظِيمُ المَسْجِدِ لِأجْلِهِ وهو الصَّلاةُ.
فَإذا قِيلَ: ﴿خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ عُرِفَ بِهِ أنَّهُ لَمْ يَجِبْ لِلْمَسْجِدِ، وإنَّما وجَبَ لِما عَظُمَ المَسْجِدُ لِأجْلِهِ وهو الصَّلاةُ، فَمَتى وجَبَ السَّتْرُ لِلصَّلاةِ كانَ شَرْطًا، إلّا أنَّ الدَّلِيلَ قامَ عَلى الزِّيادَةِ عَلى قَدْرِ السَّتْرِ، وأنَّها غَيْرُ واجِبَةٍ، فَبَقِيَ مِقْدارُ السَّتْرِ واجِبًا.
ومالِكٌ لا يُوجِبُ السَّتْرَ شَرْطًا لِلصَّلاةِ، ويَقُولُ: إنْ فُقِدَ السَّتْرُ لا يُبْطِلُ الصَّلاةَ، ويَقُولُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، رَوى الرُّواةُ أنَّهُ نَزَلَ في سَتْرِ الطَّوافِ والنَّهْيِ عَنْهُ عُرْيانًا، وهَذا فِيهِ نَظَرٌ، فَإنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، والطَّوافُ يَخْتَصُّ بِمَسْجِدٍ مُعَيَّنٍ. والثّانِي: أنَّهُ إنْ ورَدَ عَلى سَبَبٍ خاصٍّ، لا يَمْتَنِعُ لِأجْلِهِ التَّعَلُّقُ بِعُمُومِ اللَّفْظِ.
(p-١٣٦)ويَرُدُّ عَلى هَذا، أنَّ الَّذِي ورَدَ السِّتْرُ فِيهِ -لَمْ يَجْعَلْ السِّتْرَ شَرْطًا- وهو الطَّوافُ، فَكَيْفَ يُجْعَلُ شَرْطًا لِما سِواهُ؟
ويُجابُ عَنْهُ بِأنَّ وُجُوبَ السِّتْرِ لِأجْلِ الطَّوافِ ظاهِرٌ في كَوْنِهِ شَرْطًا لَهُ، وأنَّهُ يَمْتَنِعُ الِاعْتِدادُ بِهِ دُونَهُ، ولَكِنْ قامَ الدَّلِيلُ في الطَّوافِ عَلى خِلافِ الظّاهِرِ، وبَقِيَ ما عَداهُ عَلى ما يَقْتَضِيهِ الأصْلُ. وهَذا يَرُدُّ عَلَيْهِ، أنَّ الأصْلَ أنَّ ما وجَبَ لِغَيْرِهِ يُفْهَمُ مِنهُ أنَّهُ إذا أتى بِهِ دُونَهُ كانَ تارِكًا لِلْواجِبِ، فَمِن أيْنَ أنَّهُ لا تَجِبُ الصَّلاةُ، دُونَهُ؟ والَّذِي احْتَجَّ بِهِ مالِكٌ: أنَّ سَتْرَ العَوْرَةِ لَمْ يَجِبْ لِلصَّلاةِ، فَقَدْ رَوى بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ عَنْ أبِيهِ عَنْ جَدِّهِ قالَ: «قُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، عَوْراتُنا ما نَأْتِي مِنها وما نَذَرُ فَقالَ: احْفَظْ عَوْرَتَكَ إلّا مِن زَوْجَتِكَ أوْ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ. قالَ فَقُلْتُ: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَإذا كانَ أحَدُنا خالِيًا، فَقالَ: اللَّهُ أحَقُّ أنْ يُسْتَحى مِنهُ» . فَإذا لَمْ يَكُنِ السَّتْرُ مِن فُرُوضِ الصَّلاةِ لَمْ يَكُنْ وُجُوبُها مُتَعَلِّقًا بِالصَّلاةِ، فَإذا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِها لَزِمَ مِنهُ جَوازُ الصَّلاةِ دُونَهُ، وهَذا يَنْعَكِسُ في الطَّهارَةِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ وُجُوبُها إلّا لِلصَّلاةِ. فَعَلى هَذا، النَّهْيُ عَنِ الصَّلاةِ دُونَ السَّتْرِ، كالنَّهْيِ عَنِ الصَّلاةِ في البُقْعَةِ المَغْصُوبَةِ. الجَوابُ: إنَّ السَّتْرَ في غَيْرِ الصَّلاةِ إنَّما يَجِبُ عِنْدَ ظُهُورِهِ لِلنّاسِ، فَلَوِ اسْتَخْلى بِنَفْسِهِ، فَيَجُوزُ أنْ يَكْشِفَ فَخِذَهُ، وإنْ كانَ في السَّوْأتَيْنِ خِلافٌ، وإذا أرادَ الصَّلاةَ وجَبَ سَتْرُ جَمِيعِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّ السَّتْرَ وجَبَ لِلصَّلاةِ. (p-١٣٧)ورَوى أبُو هُرَيْرَةَ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «لا يُصَلِّيَنَّ أحَدُكم في ثَوْبٍ واحِدٍ لَيْسَ عَلى فَخِذِهِ مِنهُ شَيْءٌ» . وعَنْ عائِشَةَ أنَّها رَوَتْ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ صَلاةَ امْرَأةٍ إلّا بِخِمارٍ» . فَنَفى قَبُولَها لِمَن بَلَغَتِ الحَيْضَ، فَصَلَّتْها مَكْشُوفَةَ الرَّأْسِ، كَما نَفى قَبُولَها مَعَ عَدَمِ الطَّهارَةِ بِقَوْلِهِ: «لا يَقْبَلُ اللَّهُ الصَّلاةَ بِغَيْرِ طَهُورٍ» .
وقَدْ رُوِيَ عَنْ مالِكٍ أنَّهُ قالَ فِيمَن صَلّى في ثَوْبٍ نَجِسٍ أوْ عارِيًا: إنَّهُ يُعِيدُ ما دامَ الوَقْتُ، وهَذا يَتَعَلَّقُ بِهِ عَلَيْهِ، ويَدُلُّ عَلى بُطْلانِ قَوْلِهِ: أنَّهُ لا تَعَلُّقَ لَهُ بِالصَّلاةِ. فَهَذا تَمامُ هَذا الكَلامِ. وذَكَرَ إسْماعِيلُ بْنُ إسْحاقَ في نُصْرَةِ قَوْلِ مالِكٍ أنَّ صَلاةَ العُرْيانِ جائِزَةٌ، فَلَوْ كانَ السَّتْرُ شَرْطًا لَما جازَ، كَما لا يَجُوزُ صَلاةُ الحائِضِ، لِأنَّ الحَيْضَ يُنافِي الطَّهارَةَ. وهَذا غَلَطٌ فاحِشٌ، فَإنَّ صَلاةَ الأُمِّيِّ جائِزَةٌ مَعَ أنَّ القِراءَةَ شَرْطٌ لِلصَّلاةِ أوْ فَرْضِها، وأنَّ مُنافاةَ الحَيْضِ لِلصَّلاةِ لا لِمَكانِ عَدَمِ الطَّهارَةِ، فَإنَّ الحَيْضَ يُنافِي الصَّوْمَ أيْضًا، ولَيْسَ مِن شَرْطِهِ الطَّهارَةُ ولَكِنَّهُ مَحْضُ تَعَبُّدٍ.
ومِمّا نَعْلَقُ بِهِ أنَّ الوُضُوءَ لَمّا كانَ شَرْطًا لِلصَّلاةِ وجَبَ عَلَيْهِ أنْ يَنْوِيَ الطَّهارَةَ لِلصَّلاةِ، ولَوْ كانَ السَّتْرُ واجِبًا لِلصَّلاةِ، لَوَجَبَ أنْ يَنْوِيَ بِهِ الصَّلاةَ، ولَيْسَ كالِاسْتِقْبالِ، فَإنَّ الِاسْتِقْبالَ الواجِبَ يَقْتَرِنُ بِالصَّلاةِ بِخِلافِ السَّتْرِ، فَنِيَّةُ الصَّلاةِ تَشْتَمِلُ عَلى الِاسْتِقْبالِ، وقَدْ أجابَ عُلَماؤُنا (p-١٣٨)عَنْهُ بِأنَّ نِيَّةَ الصَّلاةِ تَشْتَمِلُ عَلَيْهِ، وهَذا قَرَّرْناهُ في مَسائِلِ الخِلافِ.
* * *
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا﴾ الآيَةَ: ٣١. ظاهِرُهُ يُوجِبُ الأكْلَ والشُّرْبَ مِن غَيْرِ إسْرافٍ، وقَدْ أُرِيدَ بِهِ الإباحَةُ في بَعْضِ الأحْوالِ والإيجابِ في بَعْضِها، فَأمّا الإيجابُ فَمِثْلُ أنْ يَضْعُفَ عَنْ أداءِ الواجِباتِ، فَواجِبٌ عَلَيْهِ أنْ يَأْكُلَ ما يَزُولُ مَعَهُ الضَّرَرُ، وظاهِرُ هَذا يَقْتَضِي الأكْلَ والشُّرْبَ في المَأْكُولاتِ والمَشْرُوباتِ إلّا أنْ يَحْظُرَهُ دَلِيلٌ بَعْدَ أنْ لا يَكُونَ مُسْرِفًا فِيما يَأْتِيهِ مِن ذَلِكَ، فَإنَّهُ أطْلَقَ الأكْلَ والشُّرْبَ عَلى شَرْطِ أنْ لا يَكُونَ مُسْرِفًا فِيهِما، والإسْرافُ هو مُجاوَزَةُ الحَدِّ، فَتارَةً يَتَجاوَزُ حَدَّ الحَلالِ إلى الحَرامِ، وتارَةً في الإنْفاقِ والتَّمْحِيقِ، كَما قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿إنَّ المُبَذِّرِينَ كانُوا إخْوانَ الشَّياطِينِ﴾ [الإسراء: ٢٧]، والإسْرافُ مَذْمُومٌ، ونَقِيضُهُ الإقْتارُ وهُما مَذْمُومانِ، والِاقْتِصادُ والتَّوَسُّطُ هو المَشْرُوعُ، ومِنهُ قِيلَ دِينُ اللَّهِ تَعالى بَيْنَ المُقَصِّرِ والغالِي وقَدْ قالَ تَعالى: ﴿والَّذِينَ إذا أنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا ولَمْ يَقْتُرُوا وكانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوامًا﴾ [الفرقان: ٦٧] . وقالَ لِنَبِيِّهِ ﷺ: ﴿ولا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ ولا تَبْسُطْها كُلَّ البَسْطِ﴾ [الإسراء: ٢٩] . ومِنَ الإسْرافِ في الأكْلِ، الأكْلُ فَوْقَ الشِّبَعِ، وكُلُّ ذَلِكَ مَحْظُورٌ.
{"ayah":"۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُوا۟ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ وَلَا تُسۡرِفُوۤا۟ۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق











