الباحث القرآني

﴿يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ أيْ ثِيابَكم لِمُواراةِ عَوْراتِكم لِأنَّ المُسْتَفادَ مِنَ الأمْرِ الوُجُوبُ والواجِبَ إنَّما هو سَتْرُ العَوْرَةِ ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ أيْ طَوافٍ أوْ صَلاةٍ وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ مُجاهِدٌ وأبُو الشَّيْخِ وغَيْرُهُما وسَبَبُ النُّزُولِ عَلى ما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ كانَ أُناسٌ مِنَ الأعْرابِ يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً حَتّى أنْ كانَتِ المَرْأةُ لَتَطُوفُ بِالبَيْتِ وهي عُرْيانَةٌ فَتُعَلِّقُ عَلى سُفْلِها سُيُورًا مِثْلَ هَذِهِ السُّيُورِ الَّتِي تَكُونُ عَلى وجْهِ الحُمُرِ مِنَ الذُّبابِ وهي تَقُولُ. ؎اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ وما بَدا مِنهُ فَلا أُحِلُّهُ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ وحَمَلَ بَعْضُهُمُ الزِّينَةَ عَلى لِباسِ التَّجَمُّلِ لِأنَّهُ المُتَبادَرُ مِنهُ ونُسِبَ لِلْباقِرِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ ورُوِيَ عَنِ الحَسَنِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ كانَ إذا قامَ إلى الصَّلاةِ لَبِسَ أجْوَدَ ثِيابِهِ فَقِيلَ لَهُ: يا ابْنَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ لِمَ تَلْبَسُ أجْوَدَ ثِيابِكَ فَقالَ إنَّ اللَّهَ تَعالى جَمِيلٌ يُحِبُّ الجَمالَ فَأتَجَمَّلُ لِرَبِّي وهو يَقُولُ ﴿خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ فَأُحِبُّ أنْ ألْبَسَ أجْمَلَ ثِيابِي ولا يَخْفى أنَّ الأمْرَ حِينَئِذٍ لا يُحْمَلُ عَلى الوُجُوبِ لِظُهُورِ أنَّ هَذا التَّزْيِينَ مَسْنُونٌ لا واجِبَ وقِيلَ إنَّ الآيَةَ عَلى الِاحْتِمالِ الأوَّلِ تُشِيرُ إلى سُنِّيَّةِ التَّجَمُّلِ لِأنَّها لَمّا دَلَّتْ عَلى وُجُوبِ أخْذِ الزِّينَةِ لِسَتْرِ العَوْرَةِ عِنْدَ ذَلِكَ فُهِمَ مِنهُ في الجُمْلَةِ حُسْنُ التَّزْيِينِ بِلُبْسِ ما فِيهِ حُسْنٌ وجَمالٌ عِنْدَهُ ونُسِبَ بَيْتُ الكَذِبِ إلى الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّ أخْذَ الزِّينَةِ التَّمْشِيطُ كَأنَّهُ قِيلَ تَمَشَّطُوا عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ ولَعَلَّ ذَلِكَ مِن بابِ الِاقْتِصارِ عَلى بَعْضِ الزِّينَةِ ولَيْسَ المَقْصُودُ حَصْرَها فِيما ذُكِرَ ومِثْلُ (p-110)ذَلِكَ ما أخْرَجَهُ ابْنُ عُدَيٍّ وابْنُ مَرْدُوَيْهِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ «خُذُوا زِينَةَ الصَّلاةِ قالُوا وما زِينَةُ الصَّلاةِ قالَ البَسُوا نِعالَكم فَصَلُّوا فِيها» . وأخْرَجَ ابْنُ عَساكِرَ وغَيْرُهُ عَنْ أنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ: في قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ .. إلَخْ. صَلُّوا في نِعالِكم وكُلُوا واشْرَبُوا مِمّا طابَ لَكم» قالَ الكَلْبِيُّ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ لا يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعامِ إلّا قُوتًا ولا يَأْكُلُونَ دَسَمًا في أيّامِ حَجِّهِمْ فَقالَ المُسْلِمُونَ: يا رَسُولَ اللَّهِ نَحْنُ أحَقُّ بِذَلِكَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى الآيَةَ ومِنهُ يَظْهَرُ وجْهُ ذِكْرِ الأكْلِ والشُّرْبِ هُنا ﴿ولا تُسْرِفُوا﴾ بِتَحْرِيمِ الحَلالِ كَما هو المُناسِبُ لِسَبَبِ النُّزُولِ أوْ بِالتَّعَدِّي إلى الحَرامِ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ أوْ بِالإفْراطِ في الطَّعامِ والشَّرَهِ كَما ذَهَبَ إلَيْهِ كَثِيرٌ وأخْرَجَ أبُو نُعَيْمٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ قالَ: إيّاكم والبِطْنَةَ مِنَ الطَّعامِ والشَّرابِ فَإنَّها مَفْسَدَةٌ لِلْجَسَدِ مُورِثَةٌ لِلسَّقَمِ مَكْسَلَةٌ لِلصَّلاةِ وعَلَيْكم بِالقَصْدِ فِيهِما فَإنَّهُ أصْلَحُ لِلْجَسَدِ وأبْعَدُ مِنَ السَّرَفِ وإنَّ اللَّهَ تَعالى لَيَبْغَضُ الحَبْرَ السَّمِينَ وإنَّ الرَّجُلَ لَنْ يَهْلَكَ حَتّى يُؤْثِرَ شَهْوَتَهُ عَلى دِينِهِ. وقِيلَ المُرادُ الإسْرافُ ومُجاوَزَةُ الحَدِّ بِما هو أعَمُّ مِمّا ذُكِرَ وعُدَّ مِنهُ أكْلُ الشَّخْصِ كُلَّما اشْتَهى وأكْلُهُ في اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ فَقَدْ أخْرَجَ ابْنُ ماجَهْ والبَيْهَقِيُّ عَنْ أنَسٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ مِنَ الإسْرافِ أنْ تَأْكُلَ كُلَّ ما اشْتَهَيْتَ» وأخْرَجَ الثّانِي وضَعَّفَهُ عَنْ عائِشَةَ قالَتْ: «رَآنِي النَّبِيُّ ﷺ وقَدْ أكَلْتُ في اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ فَقالَ يا عائِشَةُ أما تُحِبِّينَ أنْ يَكُونَ لَكِ شُغْلٌ إلّا في جَوْفِكِ الأكْلُ في اليَوْمِ مَرَّتَيْنِ مِنَ الإسْرافِ» وعِنْدِي أنَّ هَذا مِمّا يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ الأشْخاصِ ولا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ ما ذُكِرَ مِنَ الإفْراطِ في الطَّعامِ وعُدُّ مِنهُ طَبْخُ الطَّعامِ بِماءِ الوَرْدِ وطَرْحُ نَحْوِ المِسْكِ فِيهِ مَثَلًا مِن غَيْرِ داعٍ إلَيْهِ سِوى الشَّهْوَةِ وذَهَبَ بَعْضُهم إلى أنَّ الإسْرافَ المَنهِيَّ عَنْهُ يَعُمُّ ما كانَ في اللِّباسِ أيْضًا ورُوِيَ ذَلِكَ عَنْ عِكْرِمَةَ وأخْرَجَ ابْنُ أبِي شَيْبَةَ وغَيْرُهُ «عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما أنَّهُ قالَ كُلْ ما شِئْتَ والبَسْ ما شِئْتَ ما أخْطَأتْكَ خَصْلَتانِ سَرَفٌ ومَخِيلَةٌ» ورَواهُ البُخارِيُّ عَنْهُ تَعْلِيقًا وهو لا يُنافِي ما ذَكَرَهُ الثَّعالِبِيُّ وغَيْرُهُ مِنَ الأُدَباءِ أنَّهُ يَنْبَغِي لِلْإنْسانِ أنْ يَأْكُلَ ما يَشْتَهِي ويَلْبَسَ ما يَشْتَهِيهِ النّاسُ كَما قِيلَ: نَصَحْتُهُ نَصِيحَةً قالَتْ بِها الأكْياسُ كُلْ ما اشْتَهَيْتَ والبَسَنَّ ما تَشْتَهِيهِ النّاسُ فَإنَّهُ لِتَرْكِ ما لَمْ يُعْتَدَّ بَيْنَ النّاسِ وهَذا لِإباحَةِ كُلِّ ما اعْتادُوهُ وفي العَجائِبِ لِلْكَرْمانِيِّ قالَ طَبِيبٌ نَصْرانِيٌّ لِعَلِيِّ بْنِ الحُسَيْنِ بْنِ واقِدٍ لَيْسَ في كِتابِكم مِن عِلْمِ الطِّبِّ شَيْءٌ والعِلْمُ عِلْمانِ عِلْمُ الأبْدانِ وعِلْمُ الأدْيانِ فَقالَ لَهُ قَدْ جَمَعَ اللَّهُ تَعالى الطِّبَّ كُلَّهُ في نِصْفِ آيَةٍ مِن كِتابِهِ قالَ وما هي قالَ ( كُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا ) فَقالَ النَّصْرانِيُّ ولا يُؤْثَرُ مِن رَسُولِكم شَيْءٌ في الطِّبِّ فَقالَ: قَدْ جَمَعَ رَسُولُنا صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ الطِّبَّ في ألْفاظٍ يَسِيرَةٍ فَقالَ وما هي قالَ قَوْلُهُ ﷺ «المَعِدَةُ بَيْتُ الدّاءِ والحِمْيَةُ رَأْسُ كُلِّ دَواءٍ» «وأعْطِ كُلَّ بَدَنٍ ما عَوَّدْتَهُ» فَقالَ ما تَرَكَ كِتابُكم ولا نَبِيُّكم لَجِالِينُوسَ طِبًّا. انْتَهى. وما نَسَبَهُ إلى النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ هو مِن كَلامِ الحَرْثِ بْنِ كَلْدَةَ طَبِيبِ العَرَبِ ولا يَصِحُّ رَفْعُهُ إلى النَّبِيِّ ﷺ وفي الإحْياءِ مَرْفُوعًا البِطْنَةُ أصْلُ الدّاءِ والحِمْيَةُ أصْلُ الدَّواءِ وعَوْدٌ وأكْلٌ جَسُّ ما اعْتادَ وتَعَقَّبَهُ العِراقِيُّ قائِلًا لَمْ أجِدْ لَهُ أصْلًا. وفِي شُعَبِ الإيمانِ لِلْبَيْهَقِيِّ ولَقْطِ المَنافِعِ لِابْنِ الجَوْزِيِّ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا أيْضًا «المَعِدَةُ حَوْضُ البَدَنِ (p-111)والعُرُوقُ إلَيْها وارِدَةٌ فَإذا صَحَّتِ المَعِدَةُ صارَتِ العُرُوقُ بِالصِّحَّةِ وإذا فَسَدَتِ المَعِدَةُ صارَتِ العُرُوقُ بِالسَّقَمِ» . وتَعَقَّبَهُ الدّارَقُطْنِيُّ قائِلًا: نَعْرِفُ هَذا مِن كَلامِ النَّبِيِّ ﷺ وإنَّما هو مِن كَلامِ عَبْدِ المَلِكِ بْنِ سَعِيدِ بْنِ أبْحُرَ. وفِي الدُّرِّ المَنثُورِ أخْرَجَ مُحَمَّدٌ لِخَلّالٍ عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْها «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ دَخَلَ عَلَيْها وهي تَشْتَكِي فَقالَ لَها: يا عائِشَةُ الأزْمُ دَواءٌ والمَعِدَةُ بَيْتُ الأدْواءِ وعَوِّدُوا البَدَنَ ما اعْتادَ» ولَمْ أرَ مَن تَعَقَّبَهُ نَعَمْ رَأيْتُ في النِّهايَةِ لِابْنِ الأثِيرِ سَألَ عَمْرٌو الحَرْثَ بْنَ كِلْدَةَ ما الدَّواءُ قالَ: الأزْمُ يَعْنِي الحِمْيَةَ وإمْساكُ الأسْنانِ بَعْضِها عَلى بَعْضٍ نَعَمِ الأحادِيثُ الصَّحِيحَةُ مُتَضافِرَةٌ في ذَمِّ الشِّبَعِ وكَثْرَةِ الأكْلِ وفي ذَلِكَ إرْشادٌ لِلْأُمَّةِ إلى كُلِّ الحِكْمَةِ ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ (31) بَلْ يَبْغَضُهم ولا يَرْضى أفْعالَهم والجُمْلَةُ في مَوْضِعِ التَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ وقَدْ جَمَعَتْ هَذِهِ الآيَةُ كَما قِيلَ أُصُولَ الأحْكامِ الأمْرَ والإباحَةَ والنَّهْيَ والخَبَرَ. ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ مِنَ الثِّيابِ وكُلِّ ما يُتَجَمَّلُ بِهِ ﴿الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ﴾ أيْ خَلَقَها لِنَفْعِهِمْ مِنَ النَّباتِ كالقُطْنِ والكَتّانِ والحَيَوانِ كالحَرِيرِ والصُّوفِ والمَعادِنِ كالخَواتِمِ والدُّرُوعِ ﴿والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ أيِ المُسْتَلَذّاتِ وقِيلَ: المُحَلَّلاتُ مِنَ المَآكِلِ والمَشارِبِ كَلَحْمِ الشّاةِ وشَحْمِها ولَبَنِها واسْتُدِلَّ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الأصْلَ في المَطاعِمِ والمَلابِسِ وأنْواعِ التَّجَمُّلاتِ الإباحَةُ لِأنَّ الِاسْتِفْهامَ في ( مَن ) لِإنْكارِ تَحْرِيمِها عَلى أبْلَغِ وجْهٍ ونُقِلَ عَنِ ابْنِ الفُرْسِ أنَّهُ قالَ: اسْتَدَلَّ بِها مَن أجازَ لُبْسَ الحَرِيرِ والخَزِّ لِلرِّجالِ ورُوِيَ عَنْ زَيْنِ العابِدِينَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ أنَّهُ كانَ يَشْتَرِي كِساءَ الخَزِّ بِخَمْسِينَ دِينارًا فَإذا أصافَ تَصَدَّقَ بِهِ لا يَرى بِذَلِكَ بَأْسًا ويَقُولُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب