الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿يابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ اللَّهَ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالقِسْطِ في الآيَةِ الأُولى، وكانَ مِن جُمْلَةِ القِسْطِ أمَرَ اللِّباسَ وأمَرَ المَأْكُولَ والمَشْرُوبَ، لا جَرَمَ أتْبَعَهُ بِذِكْرِهِما، وأيْضًا لَمّا أمَرَ بِإقامَةِ الصَّلاةِ في قَوْلِهِ: ﴿وأقِيمُوا وُجُوهَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وكانَ سَتْرُ العَوْرَةِ شَرْطًا لِصِحَّةِ الصَّلاةِ، لا جَرَمَ أتْبَعَهُ بِذِكْرِ اللِّباسِ. وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: «إنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ مِن قَبائِلِ العَرَبِ كانُوا يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً: الرِّجالُ بِالنَّهارِ، والنِّساءُ بِاللَّيْلِ، وكانُوا إذا وصَلُوا إلى مَسْجِدِ مِنًى، طَرَحُوا ثِيابَهم وأتَوُا المَسْجِدَ عُراةً. وقالُوا: لا نَطُوفُ في ثِيابٍ أصَبْنا فِيها الذُّنُوبَ، ومِنهم مَن يَقُولُ: نَفْعَلُ ذَلِكَ تَفاؤُلًا حَتّى نَتَعَرّى عَنِ الذُّنُوبِ كَما تَعَرَّيْنا عَنِ الثِّيابِ، وكانَتِ المَرْأةُ مِنهم تَتَّخِذُ سِتْرًا تُعَلِّقُهُ عَلى حِقْوَيْها، لِتَسْتَتِرَ بِهِ عَنِ الحُمْسِ، وهم قُرَيْشٌ، فَإنَّهم كانُوا لا يَفْعَلُونَ ذَلِكَ، وكانُوا يُصَلُّونَ في ثِيابِهِمْ، ولا يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعامِ إلّا قُوتًا، ولا يَأْكُلُونَ دَسَمًا، فَقالَ المُسْلِمُونَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، فَنَحْنُ أحَقُّ أنَّ نَفْعَلَ ذَلِكَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ، أيْ: ”البَسُوا ثِيابَكم وكُلُوا اللَّحْمَ والدَّسَمَ واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا“» . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُرادُ مِنَ الزِّينَةِ لُبْسُ الثِّيابِ، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ. قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ﴾ (النُّورِ: ٣١) يَعْنِي الثِّيابَ، وأيْضًا فالزِّينَةُ لا تَحْصُلُ إلّا بِالسَّتْرِ التّامِّ لِلْعَوْراتِ، ولِذَلِكَ صارَ التَّزْيِينُ بِأجْوَدِ الثِّيابِ في الجَمْعِ والأعْيادِ سُنَّةً، وأيْضًا إنَّهُ تَعالى قالَ في الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ: ﴿قَدْ أنْزَلْنا عَلَيْكم لِباسًا يُوارِي سَوْآتِكم ورِيشًا﴾ (p-٥١)فَبَيَّنَ أنَّ اللِّباسَ الَّذِي يُوارِي السَّوْءَةَ مِن قَبِيلِ الرِّياشِ والزِّينَةِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى أمَرَ بِأخْذِ الزِّينَةِ في هَذِهِ الآيَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِن هَذِهِ الزِّينَةِ هو الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في تِلْكَ الآيَةِ فَوَجَبَ حَمْلُ هَذِهِ الزِّينَةِ عَلى سَتْرِ العَوْرَةِ، وأيْضًا فَقَدْ أجْمَعَ المُفَسِّرُونَ عَلى أنَّ المُرادَ بِالزِّينَةِ هَهُنا لُبْسُ الثَّوْبِ الَّذِي يَسْتُرُ العَوْرَةَ، وأيْضًا فَقَوْلُهُ: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ أمْرٌ، والأمْرُ لِلْوُجُوبِ، فَثَبَتَ أنَّ أخْذَ الزِّينَةِ واجِبٌ، وكُلُّ ما سِوى اللُّبْسِ فَغَيْرُ واجِبٍ، فَوَجَبَ حَمْلُ الزِّينَةِ عَلى اللُّبْسِ عَمَلًا بِالنَّصِّ بِقَدْرِ الإمْكانِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ أمْرٌ، وظاهِرُ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ، فَهَذا يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ سَتْرِ العَوْرَةِ عِنْدَ إقامَةِ كُلِّ صَلاةٍ، وهَهُنا سُؤالانِ: السُّؤالُ الأوَّلُ: إنَّهُ تَعالى عَطَفَ عَلَيْهِ قَوْلَهُ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ ولا شَكَّ أنَّ ذَلِكَ أمْرُ إباحَةٍ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾ أمْرَ إباحَةٍ أيْضًا. وجَوابُهُ: إنَّهُ لا يَلْزَمُ مِن تَرْكِ الظّاهِرِ في المَعْطُوفِ تَرْكُهُ في المَعْطُوفِ عَلَيْهِ، وأيْضًا فالأكْلُ والشُّرْبُ قَدْ يَكُونانِ واجِبَيْنِ أيْضًا في الحُكْمِ. السُّؤالُ الثّانِي: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في المَنعِ مِنَ الطَّوافِ حالَ العُرْيِ. والجَوابُ: أنّا بَيَّنّا في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ العِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ، لا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: قَوْلُهُ: ﴿خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ يَقْتَضِي وُجُوبَ اللُّبْسِ التّامِّ عِنْدَ كُلِّ صَلاةٍ؛ لِأنَّ اللُّبْسَ التّامَّ هو الزِّينَةُ. تُرِكَ العَمَلُ بِهِ في القَدْرِ الَّذِي لا يَجِبُ سَتْرُهُ مِنَ الأعْضاءِ إجْماعًا، فَبَقِيَ الباقِي داخِلًا تَحْتَ اللَّفْظِ، وإذا ثَبَتَ أنَّ سَتْرَ العَوْرَةِ واجِبٌ في الصَّلاةِ وجَبَ أنْ تَفْسُدَ الصَّلاةُ عِنْدَ تَرْكِهِ؛ لِأنَّ تَرْكَهُ يُوجِبُ تَرْكَ المَأْمُورِ بِهِ، وتَرْكُ المَأْمُورِ بِهِ مَعْصِيَةٌ، والمَعْصِيَةُ تُوجِبُ العِقابَ عَلى ما شَرَحْنا هَذِهِ الطَّرِيقَةَ في الأُصُولِ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: تَمَسَّكَ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ في مَسْألَةِ إزالَةِ النَّجاسَةِ بِماءِ الوَرْدِ، فَقالُوا: أمَرَنا بِالصَّلاةِ في قَوْلِهِ: ﴿أقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ (الأنْعامِ: ٧٢) والصَّلاةُ عِبارَةٌ عَنِ الدُّعاءِ، وقَدْ أتى بِها، والإتْيانُ بِالمَأْمُورِ بِهِ يُوجِبُ الخُرُوجَ عَنِ العُهْدَةِ، فَمُقْتَضى هَذا الدَّلِيلِ أنْ لا تَتَوَقَّفَ صِحَّةُ الصَّلاةِ عَلى سَتْرِ العَوْرَةِ، إلّا أنّا أوْجَبْنا هَذا المَعْنى عَمَلًا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكم عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ ولُبْسُ الثَّوْبِ المَغْسُولِ بِماءِ الوَرْدِ عَلى أقْصى وُجُوهِ النَّظافَةِ أخْذُ الزِّينَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ كافِيًا في صِحَّةِ الصَّلاةِ. وجَوابُنا: إنَّ الألِفَ واللّامَ في قَوْلِهِ: ﴿أقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ يَنْصَرِفانِ إلى المَعْهُودِ السّابِقِ، وذَلِكَ هو عَمَلُ الرَّسُولِ ﷺ، فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ صَلّى في الثَّوْبِ المَغْسُولِ بِماءِ الوَرْدِ ؟ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ فاعْلَمْ أنّا ذَكَرْنا أنَّ أهْلَ الجاهِلِيَّةِ كانُوا لا يَأْكُلُونَ مِنَ الطَّعامِ في أيّامِ حَجِّهِمْ إلّا القَلِيلَ، وكانُوا لا يَأْكُلُونَ الدَّسَمَ، يُعَظِّمُونَ بِذَلِكَ حَجَّهم، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ لِبَيانِ فَسادِ تِلْكَ الطَّرِيقَةِ. والقَوْلُ الثّانِي: إنَّهم كانُوا يَقُولُونَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى حَرَّمَ عَلَيْهِمْ شَيْئًا مِمّا في بُطُونِ الأنْعامِ فَحَرَّمَ عَلَيْهِمُ البَحِيرَةَ والسّائِبَةَ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى هَذِهِ الآيَةَ بَيانًا لِفَسادِ قَوْلِهِمْ في هَذا البابِ. (p-٥٢)واعْلَمْ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا﴾ مُطْلَقٌ يَتَناوَلُ الأوْقاتَ والأحْوالَ، ويَتَناوَلُ جَمِيعَ المَطْعُوماتِ والمَشْرُوباتِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ الأصْلُ فِيها هو الحِلَّ في كُلِّ الأوْقاتِ، وفي كُلِّ المَطْعُوماتِ والمَشْرُوباتِ إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ المُنْفَصِلُ، والعَقْلُ أيْضًا مُؤَكِّدٌ لَهُ؛ لِأنَّ الأصْلَ في المَنافِعِ الحِلُّ والإباحَةُ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تُسْرِفُوا﴾ فَفِيهِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: أنْ يَأْكُلَ ويَشْرَبَ بِحَيْثُ لا يَتَعَدّى إلى الحَرامِ، ولا يُكْثِرُ الإنْفاقَ المُسْتَقْبَحَ ولا يَتَناوَلُ مِقْدارًا كَثِيرًا يَضُرُّهُ ولا يَحْتاجُ إلَيْهِ. والقَوْلُ الثّانِي: وهو قَوْلُ أبِي بَكْرٍ الأصَمِّ: إنَّ المُرادَ مِنَ الإسْرافِ، قَوْلُهم بِتَحْرِيمِ البَحِيرَةِ والسّائِبَةِ، فَإنَّهم أخْرَجُوها عَنْ مِلْكِهِمْ، وتَرَكُوا الِانْتِفاعَ بِها، وأيْضًا إنَّهم حَرَّمُوا عَلى أنْفُسِهِمْ في وقْتِ الحَجِّ أيْضًا أشْياءَ أحَلَّها اللَّهُ تَعالى لَهم، وذَلِكَ إسْرافٌ. واعْلَمْ أنَّ حَمْلَ لَفْظِ الإسْرافِ عَلى الِاسْتِكْثارِ، مِمّا لا يَنْبَغِي أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى المَنعِ مِمّا لا يَجُوزُ ويَنْبَغِي. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ﴾ وهَذا نِهايَةُ التَّهْدِيدِ؛ لِأنَّ كُلَّ ما لا يُحِبُّهُ اللَّهُ تَعالى بَقِيَ مَحْرُومًا عَنِ الثَّوابِ؛ لِأنَّ مَعْنى مَحَبَّةِ اللَّهِ تَعالى العَبْدَ إيصالُهُ الثَّوابَ إلَيْهِ، فَعَدَمُ هَذِهِ المَحَبَّةِ عِبارَةٌ عَنْ عَدَمِ حُصُولِ الثَّوابِ، ومَتى لَمْ يَحْصُلِ الثَّوابُ، فَقَدْ حَصَلَ العِقابُ؛ لِانْعِقادِ الإجْماعِ عَلى أنَّهُ لَيْسَ في الوُجُودِ مُكَلَّفٌ، لا يُثابُ ولا يُعاقَبُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ ظاهِرُها اسْتِفْهامٌ، إلّا أنَّ المُرادَ مِنهُ تَقْرِيرُ الإنْكارِ، والمُبالَغَةُ في تَقْرِيرِ ذَلِكَ الإنْكارِ، وفي الآيَةِ قَوْلانِ: القَوْلُ الأوَّلُ: إنَّ المُرادَ مِنَ الزِّينَةِ في هَذِهِ الآيَةِ اللِّباسُ الَّذِي تُسْتَرُ بِهِ العَوْرَةُ، وهو قَوْلُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما، وكَثِيرٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ. والقَوْلُ الثّانِي: إنَّهُ يَتَناوَلُ جَمِيعَ أنْواعِ الزِّينَةِ، فَيَدْخُلُ تَحْتَ الزِّينَةِ جَمِيعُ أنْواعِ التَّزْيِينِ، ويَدْخُلُ تَحْتَها تَنْظِيفُ البَدَنِ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ، ويَدْخُلُ تَحْتَها المَرْكُوبُ، ويَدْخُلُ تَحْتَها أيْضًا أنْواعُ الحُلِيِّ؛ لِأنَّ كُلَّ ذَلِكَ زِينَةٌ، ولَوْلا النَّصُّ الوارِدُ في تَحْرِيمِ الذَّهَبِ والفِضَّةِ والإبْرِيسَمِ عَلى الرِّجالِ لَكانَ ذَلِكَ داخِلًا تَحْتَ هَذا العُمُومِ، ويَدْخُلُ تَحْتَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ كُلُّ ما يُسْتَلَذُّ ويُشْتَهى مِن أنْواعِ المَأْكُولاتِ والمَشْرُوباتِ، ويَدْخُلُ أيْضًا تَحْتَهُ التَّمَتُّعُ بِالنِّساءِ وبِالطِّيبِ. ورُوِيَ «عَنْ عُثْمانَ بْنِ مَظْعُونٍ: أنَّهُ أتى الرَّسُولَ ﷺ، وقالَ: غَلَبَنِي حَدِيثُ النَّفْسِ، عَزَمْتُ عَلى أنْ أخْتَصِيَ، فَقالَ: مَهْلًا يا عُثْمانُ، إنَّ خِصاءَ أُمَّتِي الصِّيامُ، قالَ: فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي بِالتَّرَهُّبِ. قالَ: إنَّ تَرَهُّبَ أُمَّتِي القُعُودُ في المَساجِدِ لِانْتِظارِ الصَّلاةِ، فَقالَ: تُحَدِّثُنِي نَفْسِي بِالسِّياحَةِ، فَقالَ: سِياحَةُ أُمَّتِي الغَزْوُ والحَجُّ والعُمْرَةُ، فَقالَ: إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ أخْرُجَ مِمّا أمْلِكُ، فَقالَ: الأوْلى أنْ تَكْفِيَ نَفْسَكَ وعِيالَكَ وأنْ تَرْحَمَ اليَتِيمَ والمِسْكِينَ فَتُعْطِيَهُ أفْضَلَ مِن ذَلِكَ. فَقالَ: إنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ أُطَلِّقَ خَوْلَةَ، فَقالَ: إنَّ الهِجْرَةَ في أُمَّتِي هِجْرَةُ ما حَرَّمَ اللَّهُ، قالَ: فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لا أغْشاها. قالَ: إنَّ المُسْلِمَ (p-٥٣)إذا غَشِيَ أهْلَهُ أوْ ما مَلَكَتْ يَمِينَهُ، فَإنْ لَمْ يُصِبْ مِن وقْعَتِهِ تِلْكَ ولَدًا كانَ لَهُ وصَيْفٌ في الجَنَّةِ، وإذا كانَ لَهُ ولَدٌ ماتَ قَبْلَهُ أوْ بَعْدَهُ كانَ لَهُ قُرَّةَ عَيْنٍ، وفَرِحَ يَوْمِ القِيامَةِ، وإنْ ماتَ قَبْلَ أنْ يَبْلُغَ الحِنْثَ كانَ لَهُ شَفِيعًا ورَحْمَةً يَوْمَ القِيامَةِ. قالَ: فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لا آكُلَ اللَّحْمَ، قالَ: مَهْلًا إنِّي آكُلُ اللَّحْمَ إذا وجَدْتُهُ، ولَوْ سَألْتُ اللَّهَ أنْ يُطْعِمَنِيهِ كُلَّ يَوْمٍ فَعَلَهُ. قالَ: فَإنَّ نَفْسِي تُحَدِّثُنِي أنْ لا أمَسَّ الطِّيبَ. قالَ: مَهْلًا فَإنَّ جِبْرِيلَ أمَرَنِي بِالطِّيبِ غَبًّا، وقالَ: لا تَتْرُكْهُ يَوْمَ الجُمُعَةِ، ثُمَّ قالَ: يا عُثْمانُ، لا تَرْغَبْ عَنْ سُنَّتِي، فَإنَّ مَن رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي وماتَ قَبْلَ أنْ يَتُوبَ صَرَفَتِ المَلائِكَةُ وجْهَهُ عَنْ حَوْضِي» . واعْلَمْ أنَّ هَذا الحَدِيثَ يَدُلُّ عَلى أنَّ هَذِهِ الشَّرِيعَةَ الكامِلَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ جَمِيعَ أنْواعِ الزِّينَةِ مُباحٌ مَأْذُونٌ فِيهِ، إلّا ما خَصَّهُ الدَّلِيلُ، فَلِهَذا السَّبَبِ أدْخَلْنا الكُلَّ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ﴾ . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: مُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ أنَّ كُلَّ ما تَزَيَّنَ الإنْسانُ بِهِ، وجَبَ أنْ يَكُونَ حَلالًا، وكَذَلِكَ كُلُّ ما يُسْتَطابُ وجَبَ أنْ يَكُونَ حَلالًا، فَهَذِهِ الآيَةُ تَقْتَضِي حِلَّ كُلِّ المَنافِعِ، وهَذا أصْلٌ مُعْتَبَرٌ في كُلِّ الشَّرِيعَةِ؛ لِأنَّ كُلَّ واقِعَةٍ تَقَعُ، فَإمّا أنْ يَكُونَ النَّفْعُ فِيها خالِصًا، أوْ راجِحًا أوِ الضَّرَرُ يَكُونُ خالِصًا أوْ راجِحًا، أوْ يَتَساوى الضَّرَرُ والنَّفْعُ، أوْ يَرْتَفِعا. أمّا القِسْمانِ الأخِيرانِ، وهو أنْ يَتَعادَلَ الضَّرَرُ والنَّفْعُ، أوْ لَمْ يُوجَدا قَطُّ فَفي هاتَيْنِ الصُّورَتَيْنِ، وجَبَ الحُكْمُ بِبَقاءِ ما كانَ عَلى ما كانَ، وإنْ كانَ النَّفْعُ خالِصًا، وجَبَ الإطْلاقُ بِمُقْتَضى هَذِهِ الآيَةِ، وإنْ كانَ النَّفْعُ راجِحًا والضَّرَرُ مَرْجُوحًا يُقابَلُ المِثْلُ بِالمِثْلِ، ويَبْقى القَدْرُ الزّائِدُ نَفْعًا خالِصًا، فَيَلْتَحِقُ بِالقِسْمِ الَّذِي يَكُونُ النَّفْعُ فِيهِ خالِصًا، وإنْ كانَ الضَّرَرُ خالِصًا، كانَ تَرْكُهُ خالِصَ النَّفْعِ، فَيَلْتَحِقُ بِالقِسْمِ المُتَقَدِّمِ، وإنْ كانَ الضَّرَرُ راجِحًا بَقِيَ القَدْرُ الزّائِدُ ضَرَرًا خالِصًا، فَكانَ تَرْكُهُ نَفْعًا خالِصًا، فَبِهَذا الطَّرِيقِ صارَتْ هَذِهِ الآيَةُ دالَّةً عَلى الأحْكامِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها في الحِلِّ والحُرْمَةِ، ثُمَّ إنْ وجَدْنا نَصًّا خالِصًا في الواقِعَةِ، قَضَيْنا في النَّفْعِ بِالحِلِّ، وفي الضَّرَرِ بِالحُرْمَةِ، وبِهَذا الطَّرِيقِ صارَ جَمِيعُ الأحْكامِ الَّتِي لا نِهايَةَ لَها داخِلًا تَحْتَ النَّصِّ ثُمَّ قالَ نُفاةُ القِياسِ: فَلَوْ تَعَبَّدَنا اللَّهُ تَعالى بِالقِياسِ، لَكانَ حُكْمُ ذَلِكَ القِياسِ: إمّا أنْ يَكُونَ مُوافِقًا لِحُكْمِ هَذا النَّصِّ العامِّ، وحِينَئِذٍ يَكُونُ ضائِعًا؛ لِأنَّ هَذا النَّصَّ مُسْتَقِلٌّ بِهِ، وإنْ كانَ مُخالِفًا كانَ ذَلِكَ القِياسُ مُخَصِّصًا لِعُمُومِ هَذا النَّصِّ، فَيَكُونُ مَرْدُودًا لِأنَّ العَمَلَ بِالنَّصِّ أوْلى مِنَ العَمَلِ بِالقِياسِ. قالُوا: وبِهَذا الطَّرِيقِ يَكُونُ القُرْآنُ وحْدَهُ وافِيًا بِبَيانِ كُلِّ أحْكامِ الشَّرِيعَةِ، ولا حاجَةَ مَعَهُ إلى طَرِيقٍ آخَرَ، فَهَذا تَقْرِيرُ قَوْلِ مَن يَقُولُ: القُرْآنُ وافٍ بِبَيانِ جَمِيعِ الوَقائِعِ. واللَّهُ أعْلَمُ. * * * وأمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قُلْ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: تَفْسِيرُ الآيَةِ هي لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا غَيْرَ خالِصَةٍ لَهم؛ لِأنَّ المُشْرِكِينَ شُرَكاؤُهم فِيها خالِصَةً يَوْمَ القِيامَةِ لا يَشْرَكُهم فِيها أحَدٌ. فَإنْ قِيلَ: هَلّا قِيلَ لِلَّذِينَ آمَنُوا ولِغَيْرِهِمْ ؟ قُلْنا: فُهِمَ مِنهُ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّها خُلِقَتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا عَلى طَرِيقِ الأصالَةِ، وأنَّ الكَفَرَةَ تَبَعٌ لَهم، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ومَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أضْطَرُّهُ إلى عَذابِ النّارِ﴾ (البَقَرَةِ: ١٢٦) والحاصِلُ: إنَّ ذَلِكَ تَنْبِيهٌ عَلى أنَّ هَذِهِ النِّعَمَ إنَّما تَصْفُو عَنْ شَوائِبِ الرَّحْمَةِ يَوْمَ القِيامَةِ، أمّا في الدُّنْيا فَإنَّها تَكُونُ مُكَدَّرَةً مَشُوبَةً. (p-٥٤)المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ نافِعٌ (خالِصَةٌ) بِالرَّفْعِ، والباقُونَ بِالنَّصْبِ، قالَ الزَّجّاجُ: الرَّفْعُ عَلى أنَّهُ خَبَرٌ بَعْدَ خَبَرٍ، كَما تَقُولُ: زَيْدٌ عاقِلٌ لَبِيبٌ، والمَعْنى: قُلْ هي ثابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةٌ يَوْمَ القِيامَةِ. قالَ أبُو عَلِيٍّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: (خالِصَةٌ) خَبَرَ المُبْتَدَأِ، وقَوْلُهُ: (لِلَّذِينَ آمَنُوا) مُتَعَلِّقًا بِـ (خالِصَةٌ) . والتَّقْدِيرُ: هي خالِصَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا في الحَياةِ الدُّنْيا. وأمّا القِراءَةُ بِالنَّصْبِ، فَعَلى الحالِ. والمَعْنى: أنَّها ثابِتَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا في حالِ كَوْنِها خالِصَةً لَهم يَوْمَ القِيامَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ ومَعْنى تَفْصِيلِ الآياتِ قَدْ سَبَقَ، وقَوْلُهُ: ﴿لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ أيْ لِقَوْمٍ يُمْكِنُهُمُ النَّظَرُ بِهِ والِاسْتِدْلالُ حَتّى يَتَوَصَّلُوا بِهِ إلى تَحْصِيلِ العُلُومِ النَّظَرِيَّةِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب