الباحث القرآني
قال تعالى: ﴿يابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ﴾ [الأعراف: ٣١].
نزَلَتْ هذه الآيةُ في حالِ العربِ في الجاهليَّةِ، أنّهم كانوا يَقصِدُونَ الكَعْبةَ عُراةً، ويطُوفونَ عندَها بلا لِباسٍ، فأنزَلَ اللهُ على نبيِّه هذه الآيةَ، كما صحَّ مِن حديثِ ابنِ عبّاسٍ، كما في مسلمٍ وغيرِه، عنه، قال: كانُوا يَطُوفُونَ بِالبَيْتِ عُراةً، الرِّجالُ والنِّساءُ: الرِّجالُ بِالنَّهارِ، والنِّساءُ بِاللَّيْلِ، وكانَتِ المَرْأَةُ تَقُولُ:
ألْيَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أوْ كُلُّهُ
وما بَدا مِنهُ فَلا أُحِلُّهُ[[أخرجه مسلم (٣٠٢٨)، والطبري في «تفسيره» (١٠ /١٥٠)، واللفظ له.]]
وكانتْ قريشٌ لا تَفْعَلُ ذلك هي ومَن حالَفَها، وأمّا غيرُهُمْ مِن قبائلِ العربِ الذين يأتُونَ مِن اليمنِ وغيرِها كالأعرابِ، فقد كانوا يُؤمَرونَ بأخذِ لِباسٍ يستُرُهُمْ مِن لباسِ قريشٍ، إمّا شِراءً أو عارِيَّةً، أو يطُوفُونَ عُراةً، كما عند مسلمٍ والبخاريِّ، عن هشامِ بنِ عُرْوةَ، عن أبيهِ، قال: كانَتِ العَرَبُ تَطُوفُ بِالبَيْتِ عُراةً، إلاَّ الحُمْسَ، والحُمْسُ قُرَيْشٌ وما ولَدَتْ، كانُوا يَطُوفُونَ عُراةً، إلاَّ أنْ تُعْطِيَهُمُ الحُمْسُ ثِيابًا، فَيُعْطِي الرِّجالُ الرِّجالَ، والنِّساءُ النِّساءَ[[أخرجه البخاري (١٦٦٥)، ومسلم (١٢١٩).]].
وصحَّ نحوُهُ عن الزُّهْريِّ.
ويُروى أنّ قريشًا كانتْ تقولُ: نحنُ أهلُ الحَرَمِ، فلا ينبغي لأحدٍ مِن العربِ أنْ يطُوفَ إلاَّ في ثِيابِنا، ولا يأكُلَ إذا دخَلَ أرضَنا إلاَّ مِن طعامِنا[[«تفسير القرطبي» (٩ /١٩٢).]].
وليس فعلُ قريشٍ هذا على أثارَةٍ مِن سَلَفٍ لهم، وإنّما جاهليَّةٌ ابتدَعُوها، لتُعظِّمَهُمُ العربُ، ويَسُودُوا عليهم بالجاهِ والمالِ.
وقولُ اللَّهِ تعالى في الآيةِ: ﴿يابَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ﴾، جعَلَ الخِطابَ فيه لبني آدمَ، تذكيرًا لهم بحالِ أبيهِم آدمَ ومَكْرِ إبليسَ به وبزوجِهِ حتى انكشَفَتْ سَوْءاتُهما، التي قد ذكَرَها اللهُ قريبًا في هذه السورةِ، وأنّ فِعْلَ كفّارِ قريشٍ مِن تسويلِ الشيطانِ مِن جنسِ ما فعَلَهُ بأبيهِم، وفِعْلُهُمْ أعظَمُ، لأنّ آدمَ لم يَكشِفْ سَوْءَتَهُ بنفسِه، وإنّما عُوقِبَ بكَشْفِها، وقريشٌ فعَلَتْ ذلك تديُّنًا وتعبُّدًا، وفي حَرَمِ اللهِ، وأمامَ الناظِرِين.
وفي الخِطابِ بـ ﴿يابَنِي آدَمَ﴾ تذكيرٌ بأنّ السترَ واللِّباسَ فِطْرةٌ آدميَّةٌ تشترِكُ فيها جميعُ البشريَّةِ، لا تحتاجُ إلى دليلٍ مِن الوحيِ يُثْبِتُها، ولو رجَعُوا إلى فِطْرتِهِمْ بعقولٍ صحيحةٍ، لَوَجَدُوا ذلك وبان لهم تَعَدِّيهِم.
وقولُ اللَّهِ تعالى: ﴿خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾:
المرادُ به: المسجدُ الحرامُ، ويدخُلُ في حُكْمِهِ كلُّ مسجدٍ، للاشتراكِ فـي العِلَّةِ، وقـولُه: ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾، أيْ: مـوضعٍ تتعبَّدونَ اللهَ فيه، ويكونُ المرادُ به القصدَ، كلَّما قصَدتُّمُ المسجدَ، فخُذُوا زينتَكُمْ في كلِّ مرَّةٍ، فجعَلَ الموضعَ الواحدَ في كلِّ مرةٍ مسجدًا، ويُؤيِّدُ هذا قولُهُ تعالى قبل ذلك: ﴿وأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ [الأعراف: ٢٩]، أي: عندَ كلِّ مرةٍ تتعبَّدونَ اللهَ فيها للصَّلاةِ والدُّعاءِ ولو كان الموضعُ واحدًا.
أخذُ زينةِ اللباسِ للعبادةِ ومكانُها:
ويدخُلُ في معنى الآيةِ أخذُ الزِّينةِ لغَرَضَيْنِ:
الأوَّلُ: لموضعِ العبادةِ، سواءٌ كان لغرضِ العبادةِ أو لغيرِها، وللعبادةِ آكَدُ، لاجتماعِ الأمرَيْنِ، وذلك أنّ مواضعَ العبادةِ محتَرَمةٌ معظَّمةٌ، فيُستحَبُّ التزيُّنُ لها وعدمُ دخولِها مع كشفِ عورةٍ أو رائحةٍ نَتْنَةٍ، تعظيمًا لها وللملائكةِ وللمُصلِّينَ والمُعتكِفينَ والذاكِرِين.
الثاني: للعبادةِ، وهي الصلاةُ، فيُستحَبُّ أخذُ الزِّينةِ لها ولو لم يكنْ ذلك في موضعِ عبادةٍ، وهو المسجِدُ، فالمقصدُ مِن الزِّينةِ العبادةُ، لأنّ دُورَ العبادةِ لم تُتَّخَذْ إلاَّ لأجلِ العبادةِ، وإنّما عُظِّمَتِ المساجدُ لأجلِ العبادةِ فيها، ولو لم يكنْ فيها عبادةٌ، لم تكنْ معظَّمةً، فمَن أرادَ الصلاةَ، استُحِبَّ له أخذُ الزِّينةِ لها، والاستتارُ ولو كان المصلِّي في بيتِهِ لا يراهُ أحدٌ.
الأصلُ حِلُّ اللباسِ:
وفي الآيةِ: دليلٌ على أنّ الأصلَ في اللِّباسِ: الحِلُّ، فسمّى اللهُ اللِّباسَ بالزِّينةِ ولم يَستَثْنِ منه شيئًا، وإذا ورَدَ النصُّ بإطلاقِ الحِلِّ على عَيْنٍ، دَلَّ على أنّ الأصلَ فيها الحِلُّ، وأنّ الاستثناءَ فيها قليلٌ، وقد صرَّحَتِ الآيةُ بعدَ ذلك بقولِهِ تعالى: ﴿قُلْ مَن حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أخْرَجَ لِعِبادِهِ والطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ [الأعراف: ٣٢].
والزِّينةُ: كلُّ لِباسٍ اجتمَعَ فيه أمرانِ: سَتْرُ البدنِ أو عضوٍ منه، وأنْ يكونَ اللِّباسُ حسَنًا:
أمّا سَترُ البدنِ أو عضوٍ منه: فلا يدخُلُ فيه الزِّينةُ التي لا تستُرُ، فليستْ ملبوسًا للبَدَنِ ولا لعضوٍ منه، كالكُحْلِ والخِضابِ ومِكْياج المرأةِ وحُلِيِّها، ولا يدخُلُ فيه ما لا يستُرُ البدنَ ولا عضوًا منه، كالخاتمِ، فهذا غيرُ مقصودٍ مِن الزِّينةِ.
ويُستحَبُّ ما ستَرَ البدنَ أو أكثَرَهُ، كالإزارِ والرِّداءِ والقميصِ والثوبِ، أو عضوًا منه، كالعِمامةِ والنعلَيْنِ، ورُوِيَ عن أبي هريرةَ، عن النبيِّ ﷺ، أنّه قال ذاتَ يومٍ: (خُذُوا زِينَةَ الصَّلاةِ)، قيل: وما زِينَةُ الصَّلاةِ؟ قال: (البَسُوا نِعالَكُمْ، فَصَلُّوا فِيها) [[أخرجه أبو نعيم في «حلية الأولياء» (٥ /٨٣).]].
وأمّا حُسْنُ اللِّباسِ: فلا يدخُلُ فيه قبيحُ اللِّباسِ ولو غلا ثمنُهُ، ولا اللِّباسُ الحرامُ، كالحريرِ للرَّجُلِ وجلودِ الخِنْزيرِ والكلابِ وما دَلَّ الدليلُ على تحريمِه، لأنّ المحرَّمَ لا يُسمِّيهِ الشارعُ لباسًا بإطلاقٍ إلاَّ مع تقييدِ تحريمِهِ، فضلًا عن تسميتِهِ زِينةً.
وأمّا إزالةُ النجاسةِ والرِّيحِ الخبيثةِ مِن البدنِ والثوبِ، فذلك ممّا يدُلُّ عليه مفهومُ الآيةِ، لا منطوقُها، لأنّ لازمَ الزِّينةِ إزالةُ الخبيثِ، والزِّينةُ تُتَّخَذُ، وخبيثُ الرائحةِ يُرفَعُ ويُزالُ، وذلك عكسُ الاتِّخاذِ.
وكذلك استعمالُ الطِّيبِ، فدليلُهُ خاصٌّ متواتِرٌ.
ويُستحَبُّ لُبْسُ ساترِ الثيابِ وجميلِهِ في الصلاةِ وفي المساجدِ، وقد فضَّلَ النبيُّ ﷺ مِن ألوانِ الثيابِ البَياضَ، كما في «المسنَدِ»، و«السُّننِ»، مِن حديثِ ابنِ عبّاسٍ مرفوعًا: (البَسُوا مِن ثِيابِكُمُ البَياضَ، فَإنَّها مِن خَيْرِ ثِيابِكُمْ) [[أخرجه أحمد (١ /٢٤٧)، وأبو داود (٣٨٧٨)، والترمذي (٩٩٤).]].
سَتْرُ العَوْرةِ للصلاةِ:
وفي الآيةِ: دليلٌ على وجوبِ سترِ العورةِ للصَّلاةِ، فإذا وجَب التستُّرُ عندَ موضعِ العبادةِ، فإنّ سَتْرَها للعبادةِ مِن بابِ أولى، وسببُ نزولِ الآيةِ دالٌّ على ذلك، وبهذه الآيةِ استدَلَّ بعضُ السلفِ كمُجاهِدٍ، قال: «الزِّينةُ ما وارى عورتَكَ ولو عباءةً»[[«تفسير الطبري» (١٠ /١٥٢)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٤٦٥).]].
وعورةُ المرأةِ تختلِفُ عن عورةِ الرجُلِ في الصلاةِ، والسَّتْرُ في الصلاةِ يختلِفُ عن السترِ خارجَها عندَ بعضِ الفقهاءِ:
فأمّا عورةُ الرجُلِ، فكما تقدَّمَ في قصةِ آدمَ أنّ عورتَهُ بينَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبةِ على الصحيحِ، وهو قولُ جماهيرِ العلماءِ، وقولُ الأئمَّةِ الأربعةِ في المشهورِ.
عورةُ الرجلِ في الصلاة:
واختلَفوا في عورتِهِ في الصلاةِ: هل هي عَيْنُ عورتِهِ خارجَها، أو أنّ عورةَ الرجُلِ في الصلاةِ ليستْ عورةً له في خارجِ الصلاةِ؟ على قولَيْنِ:
ذهَبَ جمهورُ العلماءِ ـ وهو قولُ أبي حنيفةَ والشافعيِّ وأحمدَ ـ: إلى أنّ عورةَ الرجُلِ في الصلاةِ ما بينَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبةِ.
وذهَبَ مالكٌ: إلى أنّ عورةَ الرجلِ خارجَ الصلاةِ ليستْ عورتَهُ في الصلاةِ، فيَرى أصحابُ مالكٍ: أنّ كشْفَ ما بينَ السُّرَّةِ إلى الرُّكْبةِ محرَّمٌ خارجَ الصلاةِ، وينجرُّ الحُكْمُ في الصلاةِ تَبَعًا وليس استقلالًا للصلاةِ إن كان هناك مَن يراهُ، فلا يعلَّقُ الحُكْمُ بالصلاةِ بخصوصِها، وجماعةٌ مِن أصحابِ مالكٍ يَجْعلونَ كشفَ السَّوْءَتَيْنِ محرَّمًا في الصلاةِ ولو كان وحدَهُ، ويَجْعلونَ كشْفَهما مبطِلًا لها.
وعلى ظاهرِ قولِ المالكيَّةِ لا تبطُلُ صلاةُ مَن بَدَتْ فخذُهُ، وجاء عن مالكٍ ـ وقال به بعضُ أصحابِه ـ: أنّ عليه الإعادةَ ما دام في الوقتِ، ومنهم مَن يَستحبُّها.
وجمهورُ العلماءِ: يَرَوْنَ عورتَهُ خارجَ الصلاةِ هي عورتَهُ داخِلَ الصلاةِ ولو كان مصلِّيًا وحدَهُ، فمَن صلّى وبَدَتْ له فخذُهُ لنفسِهِ هو، وجَبَ عليه الإعادةُ، بخلافِ المالكيَّةِ، فيرَوْنَ أنّ سترَ العورةِ واجبٌ، لا شرطٌ لصحةِ الصلاةِ.
عورةُ المرأةِ في الصلاة:
وأمّا عورةُ المرأةِ في الصلاةِ: فما سوى الوجهِ والكَفَّيْنِ، وهذا بالاتِّفاقِ، وإنّما يختلِفُ العلماءُ في بُدُوِّ القدمَيْنِ في الصلاةِ، وجمهورُ العلماءِ: على وجوبِ تغطيةِ قدمَيْها في الصلاةِ، خلافًا لأبي حنيفةَ وبعضِ أهلِ الرأيِ، يقولونَ بأنّ كشفَ القدمَيْنِ لا يُبطِلُ الصلاةَ، ولا تَأثَمُ به.
وما ظهَرَ مِن عَوْرةِ الرجُلِ والمرأةِ في الصلاةِ وسُتِرَ ولم يَطُلْ كشفُهُ، فلا تبطُلُ به الصلاةُ على الصحيحِ مِن أقوالِ الفقهاءِ، ولأنّ في إبطالِها بما يبدُو مِن العورةِ لَحْظةً ـ مشقَّةً، ويُغتفَرُ مِن العورةِ اليسيرُ، كخَرْقٍ يسيرٍ في ثوبٍ يُبدِي شَعَرَ المرأةِ أو ساعِدَها، أو فخذَ الرجُلِ، وبه قال أحمدُ.
وقولُهُ تعالى: ﴿وكُلُوا واشْرَبُوا ولا تُسْرِفُوا إنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ ﴾، أمَرَ اللهُ بالأكلِ والشربِ بعدَما أمَرَ بأخذِ الزِّينةِ، لأنّ كفّارَ قريشٍ كانتْ قد بدَّلتْ في اللِّباسِ، فحرَّمتْ على غيرِها وغيرِ حُلَفائِها الطوافَ بغيرِ لِباسِها، وحرَّمتْ بعضَ الطعامِ، فجاءَ الأمرُ مُبطِلًا لفسادِ فِعْلِهم.
الإسرافُ في الطعامِ:
ثمَّ نهى اللهُ عن الإسرافِ في الطعامِ والشرابِ، وأكَّدَ النهيَ بأنّه لا يُحبُّ المُخالفِينَ لأمرِه، المُسرِفينَ في المأكلِ والمشربِ.
والسَّرَفُ: مُجاوَزةُ الحدِّ المعروفِ في الشيءِ، ويقرُبُ مِن معناهُ التبذيرُ، وهو: إنفاقُ المالِ في غيرِ حقِّه، كما قالهُ الشافعيُّ وغيرُهُ.
حدودُ الإسرافِ الممنوع:
والسَّرَفُ على مَراتبَ، ومنه: ما هو بيِّنٌ ظاهرٌ يَعرِفُهُ العاقلُ صاحبُ الفِطْرةِ، ومنه: ما هو خفيٌّ يشُقُّ على الناسِ بل كثيرٍ مِن المُتعلِّمينَ معرفتُهُ، لأنّ منه ما يَشتبِهُ على فاعلِهِ، لاختلافِ أحوالِ الناسِ غِنًى وفقرًا، وأحوالِ الناسِ جِدَةً وعدَمًا، واختلافِ مقاصدِ الناسِ مِن الانتفاعِ، ولا يمكِنُ معرِفةُ السَّرَفِ الممنوعِ إلاَّ بالنظرِ إلى جهاتٍ أربعٍ:
الجهةُ الأُولى: النظرُ إلى الفاعلِ، فلا بدَّ مِن معرفةِ غِناهُ وفَقْرِه، ومقدارِ انتِفاعِهِ ممّا يبذُلُ عليه، فسَرَفُ الغنيِّ غيرُ سَرَفِ الفقيرِ، فالغنيُّ الذي يجدُ طعامَهُ وشرابَه، ولِباسَهُ ومَسْكَنَهُ ومَرْكَبَه: لو وضَع مِئَةَ دِينارٍ فيما ينتفعُ فيه مِن غيرِ ضروريّاتِه، لم يُعَدَّ مُسرِفًا، ولو أنفَقَ الفقيرُ الذي لا يجدُ ما يستُرُ عورتَهُ ويُشبِعُ بطنَهُ دِينارًا في فضولِ الانتفاعِ، لكان مُسرِفًا، ولو كان عينُ ما اشتراهُ الغنيُّ هو عينَ ما اشتراهُ الفقيرُ.
وبهذا كان يَحُدُّ الإسرافَ السلفُ، كما روى عبيد الله بن حُميْد، قال: مَرَّ جدِّي على عمر بنِ الخطاب، وعليه بُرْدةٌ، فقال: بكم ابتعْتَ بُرْدَكَ هذا؟ قال: بستِّين دِرْهمًا، قال: كم مالُك؟ قال: ألفُ درهم، قال: فقام إليه بالدِّرَّةِ، فجعَلَ يضربُهُ ويقولُ: رأسُ مالِكَ ألفُ درهمٍ، وتبتاعُ ثوبًا بستِّين درهمًا؟! رأسُ مالك ألفُ درهمٍ وتبتاعُ ثوبًا بستينَ درهمًا؟![[أخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (١١١).]]
وكذلك فإنّ حاجةَ الواحدِ مِن الناسِ إلى الانتفاعِ تختلفُ عن حاجةِ غيرِهِ مِن سلعةٍ واحدةٍ، فمَن يَشترِي بدرهمٍ شيئًا لا ينتفِعُ منه لِيَرْمِيَهُ أو يُهمِلَهُ ـ يُعَدُّ مُسرِفًا، ولكنَّ شراءَ غيرِهِ إنِ انتفَعَ مِن تلك السلعةِ ولو بأكثَرَ مِن درهمٍ جائزٌ، وقد كان بعضُ السلفِ يَعُدُّ شراءَ الإنسانِ لكلِّ ما يشتهيهِ سَرَفًا، كما قال عُمَرُ بن الخطّاب: «كفى بالمرء سَرَفًا أنْ يأكُلَ كلَّ ما اشتهى!»[[أخرجه ابن أبي الدنيا في «إصلاح المال» (١٠١)، وابن المبارك في «الزهد» (٢٦٦).]].
الجهةُ الثانيةُ: العينُ المُنتفَعُ بها، إمّا أن تكونَ حرامًا، وإمّا أن تكونَ حلالًا، فكلُّ مالٍ يُنفَقُ في حرامٍ، فهو إسرافٌ ولو كان وزنَ بُرَّةٍ، ولذا يقولُ مجاهدُ بنُ جَبْرٍ: «لو أنفَقْتَ مِثلَ أبي قُبَيْسٍ ذهبًا في طاعةِ اللهِ، لم يكنْ إسرافًا، ولو أنفَقتَ صاعًا في معصيةِ اللهِ، كان إسرافًا»[[«تفسير الطبري» (١٧ /٤٩٨)، و«تفسير ابن أبي حاتم» (٥ /١٤٦٥).]].
الجهةُ الثـالثةُ: القيمةُ المبذولةُ: فكلُّ عينٍ مباحةٍ لها قيمةٌ، فمَنِ اشترى ما لا قيمةَ له أو بالَغَ في قيمةِ ما قيمتُهُ حقيرةٌ، كمَنِ اشترى الحَصى والترابَ والعِظامَ، ولا انتفاعَ له به، فذلك إسرافٌ محرَّمٌ، ومِثلُهُ مَن يَشتري ما قيمتُهُ حقيرةٌ كدِرْهمٍ ويَشتريهِ بمئةِ دِينارٍ بقصدِ المباهاةِ والمُفاخَرةِ، فهذا محرَّمٌ ولو كانتِ العينُ المُشتراةُ مباحةً، ولو كان له انتفاعٌ بها، فانتفاعُهُ بها لا يُساوِي قيمتَها في العُرْفِ، فهو مُسرِفٌ بمقدارِ ما زادَ فيها.
ولا يُوجَدُ شيءٌ مِن المباحِ رخَّصَ الشارعُ في الإسرافِ فيه، وما يذكُرُهُ بعضُ الناسِ ويَرفعونَهُ إلى النبيِّ ﷺ وتارَةً إلى عمرَ: «أنّ مَن أنفَقَ مالَهُ كلَّه أو ثُلُثَهُ في الطِّيبِ، لم يكنْ ذلك سَرَفًا»، فهذا لا أصلَ له.
الجهةُ الرابعةُ: محيطُ الإنسانِ وواقعُهُ، فبمِقدارِ ما يُفَوِّتُهُ الفاعلُ مِن الواجبِ عليه بإنفاقِهِ على المباحِ يكونُ مُسرِفًا، إذا كان ليس لدَيْهِ إلاَّ مالٌ لا يكفي إلاَّ لقضاءِ منفعتَيْنِ، فالإنفاقُ على سترِ العورةِ أوجَبُ مِن إشباعِ النفسِ بالطعامِ، ولو كان الشِّبَعُ مباحًا، لأنّ سترَ العورةِ واجبٌ يَفُوتُ بالشِّبَعِ، فالإنفاقُ على الشِّبَعِ سَرَفٌ محرَّمٌ.
ومِثلُ ذلك: مَن يُهدِي إلى الأَبْعَدِينَ وهو مفوِّتٌ لواجبِ النفقةِ على الوالدَيْنِ والأهلِ والذريَّةِ، فهو بإهدائِهِ إلى الأبعَدِينَ مُسرِفٌ.
السَّرَفُ في الطاعاتِ:
ولا يدخُلُ السَّرَفُ في الطاعاتِ ولو أنفَقَ الإنسانُ عليها مالَهُ كلَّه، كمَن يبني المساجدَ، ويُطعِمُ الأيتامَ، ويُنفِقُ مالَهُ في سبيلِ اللهِ، وقد أنفَقَ أبو بكرٍ مالَهُ كلَّه، ولم يُنكِرْ عليه النبيُّ ﷺ، ولم يَعُدَّ ذلك سَرَفًا، وقد ذكَرَ النبيُّ ﷺ أنّه لا يفضُلُ العملَ في ذي الحِجَّةِ إلاَّ مَن خرَجَ بنفسِهِ ومالِهِ ولم يَرجِعْ مِن ذلك بشيءٍ[[أخرجه البخاري (٩٦٩).]].
ويخرُجُ مِن ذلك: مَن يُسرِفُ على ما يَتخلَّلُ الطاعةَ ممّا ليس منها، كمَن يبني المساجدَ ويُسرِفُ في تحليتِها وتصفيرِها، وكذلك مَن يَطبعُ المصاحفَ ويُسرِفُ في تحليتِها، فهو قد أسرَفَ في شيءٍ يظُنُّهُ عبادةً، لكونِهِ تخلَّلَها، وليس منها.
وأمّا إنْ كان الإنفاقُ على عبادةٍ يُفَوِّتُ ما هو أوجَبُ منها، فذلك سَرَفٌ لا يجوزُ، كمَن يتوسَّعُ في النفقةِ على بناءِ المساجدِ بما يتعطَّلُ به الجهادُ، فذلك سَرَفٌ منهيٌّ عنه، ولهذا جعَلَ النبيُّ ﷺ السَّرَفَ يَلحَقُ العبادةَ مِن هذا النوعِ، كما في حديثِ عمرِو بنِ شُعَيْبٍ، عن أبيهِ، عن جدِّه، قال ﷺ: (كُلُوا واشْرَبُوا، وتَصَدَّقُوا والبَسُوا، فِي غَيْرِ مَخِيلَةٍ ولا سَرَفٍ، فَإنَّ اللهَ يُحِبُّ أنْ تُرى نِعْمَتُهُ عَلى عَبْدِهِ)، رواهُ أحمدُ وأصحابُ «السنن»[[أخرجه أحمد (٢ /١٨٢)، والنسائي (٢٥٥٩)، وابن ماجه (٣٦٠٥).]].
ومَن أسقَطَ الواجبَ الأَعْلى عليه مِن العبادةِ والنفقةِ، فله أنْ يُنفِقَ على ما دُونَها مِن العبادةِ والحاجةِ، وقد صحَّ عن محمدِ بنِ سِيرينَ: «أنّ تميمًا الداريَّ اشترى رِداءً بألفٍ، وكان يُصلِّي فيه»[[أخرجه الطبراني في «الكبير» (١٢٤٨).]].
حضورُ مجالسِ السَّرَفِ:
ولا يَصْلُحُ للقُدْوةِ حضورُ مجالسِ السَّرَفِ والتبذيرِ، والأماكنِ التي صُنِعَتْ بالتبذيرِ والسَّرَفِ، كإقامةِ مجالسِ العِلْمِ في مساجدَ محلاَّةٍ بالزَّخْرفةِ الفاحشةِ، والمزاداتِ التي تُوضَعُ للمُغالاةِ والمُباهاةِ. والمواضعُ والأماكنُ التي فيها سَرَفٌ على نوعَيْنِ:
النوعُ الأوَّلُ: أماكنُ جاء السَّرَفُ فيها تَبَعًا ولم يأتِ استقلالًا، وذلك كالمساجدِ الموقوفةِ التي دخَلَها السَّرَفُ بزَخْرفتِها، فهذه يجوزُ دخولُها والصلاةُ فيها للعامَّةِ دونَ القُدْوةِ، فدخولُها منه على سبيلِ الاعتراضِ أهوَنُ مِن دخولِها على سبيلِ الدوامِ.
النوعُ الثاني: أماكنُ جاء السَّرَفُ فيها استقلالًا، كالمَزاداتِ والمَتاجِرِ التي تُوضَعُ للمُباهاةِ بينَ أهلِ البَطَرِ والكِبْرِ، وتَبِيعُ ما لا قيمةَ له بقيمةٍ، كألْبِسةِ وبقايا المشهورِينَ، مِن مَنادِيلِهم ومَسابِحِهم وأقلامِهم وأوانِيهم، ولو كانتْ بلا قيمةٍ في الناسِ لو كانتْ لغيرِهم، فهذا لا يليقُ بعاقلٍ غِشْيانُهُ، فضلًا عن القُدْوةِ الذي يتأسّى به الناسُ.
{"ayah":"۞ یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُوا۟ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ وَكُلُوا۟ وَٱشۡرَبُوا۟ وَلَا تُسۡرِفُوۤا۟ۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُسۡرِفِینَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق