الباحث القرآني
(p-٦٢٢)بِسْمِ اللهِ الرَحْمَنِ الرَحِيمِ
تَفْسِيرُ سُورَةِ العنكَبُوتِ
هَذِهِ السُورَةُ مَكِّيَّةٌ إلّا الصَدْرَ مِنها، العَشْرَ الآياتِ، فَإنَّها مَدَنِيَّةٌ، نَزَلَتْ في شَأْنِ مَن كانَ مِنَ المُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ، وفي هَذا اخْتِلافٌ.
قوله عزّ وجلّ:
﴿الم﴾ ﴿أحَسِبَ الناسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ ﴿وَلَقَدْ فَتَنّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا ولَيَعْلَمَنَّ الكاذِبِينَ﴾
تَقَدَّمَ القَوْلَ في الحُرُوفِ المُقَطَّعَةِ في أوائِلِ السُوَرِ، وقَرَأ ورْشٌ: "الم احْسِبَ الناسُ أنْ يُتْرَكُوا" بِفَتْحِ المِيمِ مِن غَيْرِ هَمْزٍ بَعْدَها، وذَلِكَ عَلى تَخْفِيفِ الهَمْزَةِ وإلْقاءِ حَرَكَتِها عَلى المِيمِ.
وهَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في قَوْمٍ مِنَ المُؤْمِنِينَ كانُوا بِمَكَّةَ، وكانَ الكُفّارُ مِن قُرَيْشٍ يُؤْذُونَهم ويُعَذِّبُونَهم عَلى الإسْلامِ، فَكانَتْ صُدُورُهم تَضِيقُ لِذَلِكَ، ورُبَّما اسْتُنْكِرَ أنْ يُمَكِّنَ اللهُ الكَفَرَةَ مِنَ المُؤْمِنِينَ، قالَ مُجاهِدٌ وغَيْرُهُ: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ مُسَلِّيَةً ومُعْلِمَةً أنَّ هَذِهِ السِيرَةَ (p-٦٢٣)هِيَ سِيرَةُ اللهِ تَبارَكَ وتَعالى في عِبادِهِ اخْتِبارًا لِلْمُؤْمِنِينَ وقْتَئِذٍ؛ لِيَعْلَمَ الصادِقَ ويَرى ثَوابَ اللهِ تَعالى لَهُ، ويَعْلَمَ الكاذِبَ ويَرى عِقابَهُ إيّاهُ.
قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ:
وهَذِهِ الآيَةُ -وَإنْ كانَتْ نَزَلَتْ بِهَذا السَبَبِ، وفي هَذِهِ الجَماعَةِ- فَهي بِمَعْناها باقِيَةٌ في أُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ، مَوْجُودٌ حُكْمُها بَقِيَّةَ الدَهْرِ، وذَلِكَ أنَّ الفِتْنَةَ مِنَ اللهِ تَعالى باقِيَةٌ في ثُغُورِ المُسْلِمِينَ بِالأسْرِ ونِكايَةِ العَدُوِّ وغَيْرِ ذَلِكَ، وإذا اعْتُبِرَ أيْضًا كُلُّ مَوْضِعٍ فَفِيهِ ذَلِكَ بِالأمْراضِ وأنْواعِ المِحَنِ، ولَكِنَّ الَّتِي تُشْبِهُ نازِلَةَ المُؤْمِنِينَ مَعَ قُرَيْشٍ هي ما ذَكَرْناهُ مَعَ أمْرِ العَدُوِّ في كُلِّ ثَغْرٍ.
وقالَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُما: نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في عَمّارِ بْنِ ياسِرٍ ؛ -إذْ كانَ يُعَذَّبُ في اللهِ- ونُظَرائِهِ. وقالَ الشَعْبِيُّ: سَبَبُ الآيَةِ ما كُلِّفَهُ المُؤْمِنُونَ، أمّا الفِتْنَةُ فَهي الهِجْرَةُ الَّتِي لَمْ يُتْرَكُوا دُونَها؛ لا سِيَّما وقَدْ لَحِقَهم بِسَبَبِها أنِ اتَّبَعَهُمُ الكُفّارُ ورَدُّوهم وقاتَلُوهُمْ، فَقُتِلَ مَن قُتِلَ ونَجا مَن نَجا. وقالَ السُدِّيُّ: نَزَلَتْ في مُسْلِمِينَ كانُوا بِمَكَّةَ وكَرِهُوا الجِهادَ والقِتالَ حِينَ فُرِضَ عَلى النَبِيِّ ﷺ.
و"حَسِبَ" مَعْناهُ: ظَنَّ، و"أنْ" نُصِبَ بِـ "حَسِبَ"، وهي والجُمْلَةُ الَّتِي بَعْدَها تَسُدُّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "حَسِبَ"، و"أنْ" الثانِيَةُ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى تَقْدِيرِ إسْقاطِ حَرْفِ الخَفْضِ، وتَقْدِيرُهُ: "بِأنْ يَقُولُوا"، ويُحْتَمَلُ أنْ يُقَدَّرَ: "لِأنْ يَقُولُوا"، والمَعْنى في الباءِ واللامِ مُخْتَلِفٌ، وذَلِكَ أنَّهُ في الباءِ كَما تَقُولُ: "تَرَكْتُ زَيْدًا بِحالِهِ"، وهي في اللامِ بِمَعْنى: "مِن أجْلِ"، أيْ: حَسِبُوا أنَّ إيمانَهم عِلَّةٌ لِلتُّرْكِ.
و﴿الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ يُرِيدُ بِهِمُ المُؤْمِنِينَ مَعَ الأنْبِياءِ في سالِفِ الدَهْرِ.
وقَرَأ الجُمْهُورُ: "فَلَيَعْلَمْنَّ" بِفَتْحِ الياءِ واللامِ الثانِيَةِ، ومَعْنى ذَلِكَ: لَيُظْهِرَنَّ عِلْمَهُ ويُوجِدُ ما عَلِمَهُ أزَلًا، وذَلِكَ أنَّ عِلْمَهُ بِهَذا أزَلًا قَدِيمٌ، وإنَّما هو عِبارَةٌ عَنِ الإيجادِ بِالحالَةِ الَّتِي تَضَمَّنَها العِلْمُ القَدِيمُ، والصِدْقُ والكَذِبُ عَلى بابِهِما، أيْ: مَن صَدَقَ فِعْلُهُ (p-٦٢٤)وَقَوْلُهُ ومَن كَذَبَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: إنَّما هي اسْتِعارَةٌ، وإنَّما أرادَ بِهِما الصَلابَةَ في الدِينِ، أوِ الِاضْطِرابِ فِيهِ وفي جِهادِ العَدُوِّ، ونَحْوِ هَذا، ونَظِيرُ هَذا قَوْلُ زُهَيْرٍ:
؎ لَيْثٌ بِعَثَّرَ يَصْطادُ الرِجالَ إذا ما كَذَّبَ اللَيْثُ عن أقْرانِهِ صَدَقا
قالَ النَقّاشُ: وقِيلَ: إنَّ الإشارَةَ بِـ "صَدَقُوا" إلى مِهْجَعِ مَوْلى عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ رَضِيَ اللهُ تَعالى عنهُ؛ لِأنَّهُ أوَّلُ قَتِيلٍ قُتِلَ مِنَ المُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ.
وقَرَأ عَلِيُّ بْنُ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ: "فَلَيُعْلِمَنَّ" بِضَمِّ الياءِ وكَسْرِ اللامِ الثانِيَةِ، وهَذِهِ القِراءَةُ تَحْتَمِلُ ثَلاثَةَ مَعانٍ: أحُدُّها أنْ يُعْلِمْ في الآخِرَةِ هَؤُلاءِ الصادِقِينَ والكاذِبِينَ بِمَنازِلِهِمْ مِن ثَوابِهِ وعِقابِهِ، وبِأعْمالِهِمْ في الدُنْيا، بِمَعْنى يُوقِفُهم عَلى ما كانَ مِنهُمْ، والثانِي أنْ يُعْلِمُ الناسَ والعالَمَ هَؤُلاءِ الصادِقِينَ والكاذِبِينَ، أيْ: يَفْضَحُهم ويُشْهِرُهُمْ، هَؤُلاءِ في الخَيْرِ، وهَؤُلاءِ في الشَرِّ، وذَلِكَ في الدُنْيا والآخِرَةِ، والثالِثُ أنْ يَكُونَ ذَلِكَ مِنَ العَلامَةِ، أيْ: يَضَعُ لِكُلِّ طائِفَةٍ عَلَمًا تُشْهَرُ بِهِ، فالآيَةُ -عَلى هَذا- يَنْظُرُ إلَيْها قَوْلُ النَبِيِّ ﷺ: «مَن أسَرَّ سَرِيرَةً ألْبَسُهُ اللهُ رِداءَها». وعَلى كُلِّ مَعْنًى مِنها فَفِيها وعْدٌ لِلْمُؤْمِنِينَ الصادِقِينَ، ووَعِيدٌ لِلْكافِرِينَ.
وقَرَأ الزُهْرِيُّ الأُولى كَقِراءَةِ الجَماعَةِ، والثانِيَةَ كَقِراءَةِ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عنهُ.
(p-٦٢٥)
{"ayahs_start":1,"ayahs":["الۤمۤ","أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُتۡرَكُوۤا۟ أَن یَقُولُوۤا۟ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا یُفۡتَنُونَ","وَلَقَدۡ فَتَنَّا ٱلَّذِینَ مِن قَبۡلِهِمۡۖ فَلَیَعۡلَمَنَّ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ وَلَیَعۡلَمَنَّ ٱلۡكَـٰذِبِینَ"],"ayah":"أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن یُتۡرَكُوۤا۟ أَن یَقُولُوۤا۟ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا یُفۡتَنُونَ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق