الباحث القرآني

ولَمّا عَبَّرَ بِهَذِهِ الإشارَةِ لِأهْلِ الفِطْنَةِ والبَصائِرِ، قالَ مُنْكِرًا عَلى مَن ظَنَّ أنَّ مُدَّعِيَ الإيمانِ لا يُكَلَّفُ البَيانَ، ومُفَصِّلًا لِما خُتِمَتْ بِهِ تِلْكَ مِن جَمِيعِ هَذِهِ المَعانِي، بانِيًا عَلى ما أشارَتْ إلَيْهِ الأحْرُفُ لِأُولِي العِرْفانِ: ﴿أحَسِبَ النّاسُ﴾ أيْ: كافَّةً، فَإنَّ كُلًّا مِنهم يَدَّعِي أنَّهُ مُؤْمِنٌ لِمَعْنى أنَّهُ يَقُولُ: إنَّهُ عَلى الحَقِّ، ولَعَلَّهُ عَبَّرَ بِالحُسْبانِ والنَّوْسِ إشارَةً إلى أنَّ فاعِلَ ذَلِكَ مُضْطَرِبُ العَقْلِ مُنْحَرِفُ المِزاجِ. ولَمّا كانَ الحُسْبانُ، لا يَصِحُّ تَعْلِيقُهُ بِالمُفْرَداتِ، وإنَّما يُعَلَّقُ بِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ، وكانَ المُرادُ إنْكارَ حُسْبانِ مُطَلَّقِ التُّرْكِ، كانَتْ ”أنْ“ مَصْدَرِيَّةً عِنْدَ جَمِيعِ القُرّاءِ، فَعَبَّرَ عَنْ مَضْمُونِ نَحْوِ: تَرَكَهم غَيْرَ مَفْتُونِينَ لِقَوْلِهِمْ آمَنّا، بِقَوْلِهِ: ﴿أنْ يُتْرَكُوا﴾ أيْ: في وقْتٍ ما بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، ولَوْ رَفَعَ الفِعْلَ لِأفْهَمَ أنَّ المُنْكَرَ حُسْبانُ التُّرْكِ المُؤَكَّدِ، فَلا يُفِيدُ إنْكارَ ما عَرى عَنْهُ، وقَدْ مَضى في المائِدَةِ ما يَنْفَعُ هُنا ﴿أنْ﴾ أيْ: في أنْ (p-٣٨٦)﴿يَقُولُوا﴾ ولَوْ كانَ ذَلِكَ عَلى وجْهِ التَّجْدِيدِ والِاسْتِمْرارِ: ﴿آمَنّا وهُمْ﴾ أيْ: والحالُ أنَّهم ﴿لا يُفْتَنُونَ﴾ أيْ: يَقَعُ فِتْنَتُهم مِمَّنْ لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ ولَهُ الكِبْرِياءُ في السَّماواتِ والأرْضِ، مَرَّةً بَعْدَ أُخْرى بِأنْ يَخْتَبِرَ صِحَّةَ قَوْلِهِمْ أوَّلًا بِإرْسالِ الرُّسُلِ وإنْزالِ الكُتُبِ ونَصْبِ الأحْكامِ، وثانِيًا بِالصَّبْرِ عَلى البَأْساءِ والضَّرّاءِ عِنْدَ الِابْتِلاءِ بِالمَدْعُوِّينَ إلى اللَّهِ في التَّحَمُّلِ لِأذاهم والتَّجَرُّعِ لِبَلاياهم وغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأفْعالِ، الَّتِي يَعْرِفُ بِها مَرْتَبَةَ الأقْوالِ، في الصِّحَّةِ والِاخْتِلالِ. وقالَ الإمامُ أبُو جَعْفَرِ بْنُ الزُّبَيْرِ: افْتَتَحَتْ سُورَةُ القَصَصِ بِذِكْرِ امْتِحانِ بَنِي إسْرائِيلَ بِفِرْعَوْنَ وابْتِلائِهِمْ بِذَبْحِ أبْنائِهِمْ وصَبْرِهِمْ عَلى عَظِيمِ تِلْكَ المِحْنَةِ، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى حُسْنَ عاقِبَتِهِمْ وثَمَرَةَ صَبْرِهِمْ، وانْجَرَّ مَعَ ذَلِكَ مِمّا هو مِنهُ لَكِنِ انْفَصَلَ عَنْ عُمُومِهِ بِالقَضِيَّةِ امْتِحانُ أمِّ مُوسى بِفِراقِهِ حالَ الطُّفُولِيَّةِ وابْتِداءِ الرَّضاعِ وصَبْرِها عَلى ألِيمِ ذَلِكَ المَذاقِ حَتّى رَدَّهُ تَعالى إلَيْها أجْمَلَ رَدٍّ وأحْسَنَهُ، ثُمَّ ذَكَرَ ابْتِلاءَ مُوسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِأمْرِ القِبْطِيِّ وخُرُوجَهُ خائِفًا يَتَرَقَّبُ وحُسْنَ عاقِبَتِهِ وعَظِيمَ رَحْمَتِهِ، وكُلُّ هَذا ابْتِلاءٌ أعْقَبَ خَيْرًا، وخُتِمَ بِرَحْمَةٍ ثُمَّ بِضَرْبٍ آخَرَ مِنَ الِابْتِلاءِ أعْقَبَ مِحْنَةً وأوْرَثَ شَرًّا وسُوءَ فِتْنَةٍ، وهو ابْتِلاءُ قارُونَ بِمالِهِ وافْتِنانِهِ بِهِ، فَخَسَفْنا بِهِ وبِدارِهِ الأرْضَ، فَحَصَلَ بِهَذا أنَّ الِابْتِلاءَ في (p-٣٨٧)غالِبِ الأمْرِ سُنَّةٌ، وجَرَتْ مِنهُ سُبْحانَهُ في عِبادِهِ لِيَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ، وهو المُنَزَّهُ عَنِ الِافْتِقارِ إلى تَعَرُّفِ أحْوالِ العِبادِ بِما يَبْتَلِيهِمْ بِهِ إذْ قَدْ عُلِمَ كَوْنُ ذَلِكَ مِنهم قَبْلَ كَوْنِهِ إذْ هو مُوجِدُهُ وخالِقُهُ خَيْرًا كانَ أوْ شَرًّا، فَكَيْفَ يَغِيبُ عَنْهُ أوْ يَفْتَقِرُ تَعالى إلى بَيانِهِ بِتَعَرُّفِ أحْوالِ العِبادِ أوْ يَتَوَقَّفُ عِلْمُهُ عَلى سَبَبٍ ﴿ألا يَعْلَمُ مَن خَلَقَ وهو اللَّطِيفُ الخَبِيرُ﴾ [الملك: ١٤] ولَكِنْ هي سُنَّةٌ في عِبادِهِ لِيَظْهَرَ لِبَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ عِنْدَ الفِتْنَةِ والِابْتِلاءِ ما لَمْ يَكُنْ لِيَظْهَرَ قَبْلَ ذَلِكَ حَتّى يَشْهَدُوا عَلى أنْفُسِهِمْ، وتَقُومَ الحُجَّةُ عَلَيْهِمْ بِاعْتِرافِهِمْ، ولا افْتِقارَ بِهِ تَعالى إلى شَيْءٍ مِن ذَلِكَ، فَلَمّا تَضَمَّنَتْ سُورَةُ القَصَصِ هَذا الِابْتِلاءَ في الخَيْرِ والشَّرِّ، وبِهِ وقَعَ افْتِتاحُها واخْتِتامُها، هَذا وقَدْ أنْجَزَ بِحُكْمِ الإشارَةِ أوَّلًا خُرُوجَ نَبِيِّنا ﷺ مِن بَلَدِهِ ومَنشَأِهِ لِيَأْخُذَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِأوْفَرِ حَظٍّ مِمّا ابْتُلِيَ بِهِ الرُّسُلُ [والأنْبِياءُ مِن مُفارَقَةِ الوَطَنِ وما يُحْرِزُ لَهُمُ الأجْرَ المُناسِبَ لِعَلِيِّ دَرَجاتِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، ] ثُمَّ بِشارَتُهُ ﷺ آخِرًا بِالعَوْدَةِ والظَّفَرِ ﴿إنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ القُرْآنَ لَرادُّكَ إلى مَعادٍ﴾ [القصص: ٨٥] فَأعْقَبَ سُبْحانَهُ هَذا بِقَوْلِهِ مُعْلِمًا لِلْعِبادِ ومُنَبِّهًا أنَّها سُنَّتُهُ فِيهِمْ فَقالَ ﴿أحَسِبَ النّاسُ أنْ يُتْرَكُوا أنْ يَقُولُوا آمَنّا وهم لا يُفْتَنُونَ﴾ أيْ: أحَسِبُوا أنْ يَقَعَ (p-٣٨٨)الِاكْتِفاءُ بِمُجَرَّدِ اسْتِجابَتِهِمْ، وظاهِرِ إنابَتِهِمْ، ولَمّا يَقَعِ امْتِحانُهم بِالشَّدائِدِ والمَشَقّاتِ، وضُرُوبِ الِاخْتِباراتِ ﴿ولَنَبْلُوَنَّكم بِشَيْءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونَقْصٍ مِنَ الأمْوالِ والأنْفُسِ والثَّمَراتِ﴾ [البقرة: ١٥٥] فَإذا وقَعَ الِابْتِلاءُ فَمِن فَرِيقٍ يَتَلَقَّوْنَ ذَلِكَ تَلَقِّيَ العَلِيمِ أنَّ ذَلِكَ مِن عِنْدِ اللَّهِ ابْتِلاءً واخْتِبارًا، فَيَكُونُ تَسْخِيرًا لَهم وتَخْلِيصًا، ومِن فَرِيقٍ يُقابِلُونَ ذَلِكَ بِمَرْضاةِ الشَّيْطانِ، والمُسارَعَةِ إلى الكُفْرِ والخِذْلانِ ﴿ومَن جاهَدَ فَإنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ﴾ [العنكبوت: ٦] ثُمَّ أتْبَعَ سُبْحانَهُ هَذا بِذِكْرِ حالِ بَعْضِ النّاسِ مِمَّنْ يَدَّعِي الإيمانَ، فَإذا أصابَهُ أدْنى أذًى مِنَ الكُفّارِ صَرَفَهُ ذَلِكَ عَنْ إيمانِهِ، فَكانَ عِنْدَهُ مُقاوِمًا بِعَذابِ اللَّهِ الصّارِفِ لِمَن ضَرَبَهُ عَنِ الكُفْرِ والمُخالَفَةِ فَقالَ تَعالى: ﴿ومِنَ النّاسِ مَن يَقُولُ آمَنّا بِاللَّهِ فَإذا أُوذِيَ في اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ﴾ [العنكبوت: ١٠] فَكَيْفَ حالُ هَؤُلاءِ في تَلَقِّي ما هو أعْظَمُ مِنَ الفِتْنَةِ، وأشَدُّ في المِحْنَةِ، ثُمَّ أتْبَعَ سُبْحانَهُ ذَلِكَ بِما بِهِ يَتَأسّى المُوَفَّقُ مِن صَبْرِ الأنْبِياءِ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ وطُولِ مُكابَدَتِهِمْ مِن قَوْمِهِمْ، فَذَكَرَ نُوحًا وإبْراهِيمَ ولُوطًا وشُعَيْبًا عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وخَصَّ هَؤُلاءِ بِالذِّكْرِ لِأنَّهم مِن أعْظَمِ الرُّسُلِ مُكابَدَةً وأشَدِّهِمُ ابْتِلاءً، أمّا نُوحٌ عَلَيْهِ السَّلامُ فَلَبِثَ في قَوْمِهِ - كَما أخْبَرَ اللَّهُ تَعالى - ألْفَ سَنَةٍ إلّا خَمْسِينَ عامًا وما آمَنَ (p-٣٨٩)مَعَهُ إلّا قَلِيلٌ، وأمّا إبْراهِيمُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَرُمِيَ بِالمَنجَنِيقِ في النّارِ فَكانَتْ عَلَيْهِ بَرْدًا وسَلامًا، وقَدْ نَطَقَ الكِتابُ العَزِيزُ بِخُصُوصِ المَذْكُورِينَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِضُرُوبٍ مِنَ الِابْتِلاءاتِ حَصَلُوا عَلى ثَوابِها، وفازُوا مِن عَظِيمِ الرُّتْبَةِ النَّبَوِيَّةِ العُلْيا بِأسْنى نِصابِها، ثُمَّ ذَكَرَ تَعالى أخْذَ المُكَذِّبِينَ مِن أُمَمِهِمْ فَقالَ ﴿فَكُلا أخَذْنا بِذَنْبِهِ﴾ [العنكبوت: ٤٠] ثُمَّ وصّى نَبِيَّهُ ﷺ وأوْضَحَ حُجَّتَهُ، وتَتابَعَ اتِّساقُ الكَلامِ إلى آخِرِ السُّورَةِ - انْتَهى.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب