الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِنَ قَبْلِكم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ في الأرْضِ إلا قَلِيلا مِمَّنْ أنْجَيْنا مِنهم واتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وكانُوا مُجْرِمِينَ﴾ ﴿وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها مُصْلِحُونَ﴾ "فَلَوْلا" هي الَّتِي لِلتَّحْضِيضِ، لَكِنْ يَقْتَرِنُ بِها هُنا مَعْنى التَفَجُّعِ والتَأسُّفِ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يَقَعَ مِنَ البَشَرِ عَلى هَذِهِ الأُمَمِ الَّتِي لَمْ تَهْتَدِ، وهَذا نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿يا حَسْرَةً عَلى (p-٣٢)العِبادِ﴾ [يس: ٣٠]، و"القُرُونُ" مِن قَبْلِكم هم قَوْمُ نُوحٍ وعادٌ وثَمُودُ ومَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، والقَرْنُ مِنَ الناسِ: المُقْتَرِنُونَ في زَمانٍ طَوِيلٍ أكْثَرُهُ -فِيما حَدَّ الناسُ- مِائَةُ سَنَةٍ، وقِيلَ: ثَمانُونَ، وقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ إلى ثَلاثِينَ سَنَةٍ، والأوَّلُ أرْجَحُ لِقَوْلِ النَبِيِّ ﷺ: « "أرَأيْتَكم لَيْلَتَكم هَذِهِ فَإنَّ إلى رَأْسِ مِائَةِ سَنَةٍ مِنها لا يَبْقى مِمَّنْ هو اليَوْمَ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ أحَدٌ"،» قالَ ابْنُ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ: يُرِيدُ أنَّها تَخْرِمُ ذَلِكَ القَرْنَ، و"البَقِيَّةُ" هُنا يُرادُ بِها النَظَرُ والعَقْلُ والحَزْمُ والثُبُوتُ في الدِينِ، وإنَّما قِيلَ: "بَقِيَّةٌ" لِأنَّ الشَرائِعَ والدُوَلَ ونَحْوَها قَوَّتُها في أوَّلِها ثُمَّ لا تَزالُ تَضْعُفُ، فَمَن ثَبَتَ في وقْتِ الضَعْفِ فَهو بَقِيَّةُ الصَدْرِ الأوَّلِ، وقَرَأتْ فِرْقَةٌ: "بَقِيَةٍ" بِتَخْفِيفِ الياءِ، وهو رَدُّ فَعِيلَةٍ إلى فَعِلَةٍ، وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: "بُقْيَةٍ" بِضَمِّ الباءِ وسُكُونِ القافِ عَلى وزْنِ فُعْلَةٍ. و"الفَسادُ في الأرْضِ" هو الكُفْرُ وما اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ المَعاصِي، وهَذِهِ الآيَةُ فِيها تَنْبِيهٌ لِأُمَّةِ مُحَمَّدٍ ﷺ وحَضٌّ عَلى تَغْيِيرِ المُنْكِرِ والنَهْيِ عَنِ الفَسادِ، ثُمَّ اسْتَثْنى اللهُ تَعالى القَوْمَ الَّذِينَ نَجّاهم مَعَ أنْبِيائِهِمْ وهم قَلِيلٌ بِالإضافَةِ إلى جَماعاتِهِمْ، و"قَلِيلًا" نَصْبٌ عَلى الِاسْتِثْناءِ، وهو مُنْقَطِعٌ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ، والكَلامُ عِنْدَهُ مُوجَبٌ، وغَيْرُهُ يَراهُ مَنفِيًّا مِن حَيْثُ مَعْناهُ أنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ. وقَرَأ جُمْهُورُ الناسِ: "واتَّبَعَ" عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْفاعِلِ، وقَرَأ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ: "وَأُتْبِعَ" عَلى بِنائِهِ لِلْمَفْعُولِ، ورُوِيَتْ عن أبِي عَمْرٍو. و﴿ما أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ أيْ: عاقِبَةُ ما نُعِّمُوا بِهِ -عَلى بِناءِ الفِعْلِ لِلْمَفْعُولِ-، والمُتْرَفُ: المُنَعَّمُ الَّذِي شَغَلَهُ تَرَفُّهُ عَنِ الحَقِّ حَتّى هَلَكَ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ تُهْدِي رُؤُوسَ المُتْرَفِينَ الصُدّادْ ∗∗∗ إلى أمِيرِ المُؤْمِنِينَ المُمْتادْ (p-٣٣)يُرِيدُ: المَسْؤُولُ، يُقالُ: مادَهُ إذا سَألَهُ. وقَوْلُهُ تَعالى: "بِظُلْمٍ" يُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: بِظُلْمٍ مِنهُ لَهم -تَعالى عن ذَلِكَ-، قالَ الطَبَرِيُّ: ويُحْتَمَلُ أنْ يُرِيدَ: بِشِرْكٍ مِنهم وهم مُصْلِحُونَ في أعْمالِهِمْ وسَيْرِهِمْ، وعَدْلِ بَعْضِهِمْ في بَعْضٍ، أيْ أنَّهُ لا بُدَّ مِن مَعْصِيَةٍ تَقْتَرِنُ بِكُفْرِهِمْ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: وهَذا ضَعِيفٌ، وإنَّما ذَهَبَ قائِلُهُ إلى نَحْوِ ما قِيلَ: "إنَّ اللهَ تَعالى يُمْهِلُ الدُوَلَ عَلى الكُفْرِ ولا يُمْهِلُها عَلى الظُلْمِ والجَوْرِ". ولَوْ عَكَسَ لَكانَ ذَلِكَ مُتَّجِهًا، أيْ: ما كانَ اللهُ لِيُعَذِّبَ أُمَّةً بِظُلْمِهِمْ في مَعاصِيهِمْ وهم مُصْلِحُونَ في الإيمانِ، والِاحْتِمالُ الأوَّلُ في تَرْتِيبِنا أصَحُّ إنْ شاءَ اللهُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب