الباحث القرآني

* [فَصْلُ الغُرْبَةِ] قالَ شَيْخُ الإسْلامِ: بابُ الغُرْبَةِ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ في الأرْضِ إلّا قَلِيلًا مِمَّنْ أنْجَيْنا مِنهُمْ﴾ [هود: ١١٦]. اسْتِشْهادُهُ بِهَذِهِ الآيَةِ في هَذا البابِ يَدُلُّ عَلى رُسُوخِهِ في العِلْمِ والمَعْرِفَةِ وفَهْمِ القُرْآنِ، فَإنَّ الغُرَباءَ في العالَمِ هم أهْلُ هَذِهِ الصِّفَةِ المَذْكُورَةِ في الآيَةِ، وهُمُ الَّذِينَ أشارَ إلَيْهِمُ النَّبِيُّ ﷺ في قَوْلِهِ: «بَدَأ الإسْلامُ غَرِيبًا، وسَيَعُودُ غَرِيبًا كَما بَدَأ، فَطُوبى لِلْغُرَباءِ، قِيلَ: ومَنِ الغُرَباءُ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: الَّذِينَ يُصْلِحُونَ إذا فَسَدَ النّاسُ». وَقالَ الإمامُ أحْمَدُ: حَدَّثَنا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، عَنْ زُهَيْرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أبِي عَمْرٍو مَوْلى المُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنِ المُطَّلِبِ بْنِ حَنْطَبٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «طُوبى لِلْغُرَباءِ، قالُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، ومَنِ الغُرَباءُ؟ قالَ: الَّذِينَ يَزِيدُونَ إذا نَقَصَ النّاسُ». فَإنْ كانَ هَذا الحَدِيثُ بِهَذا اللَّفْظِ مَحْفُوظًا لَمْ يَنْقَلِبْ عَلى الرّاوِي لَفْظُهُ وهُوَ: الَّذِينَ يَنْقُصُونَ إذا زادَ النّاسُ فَمَعْناهُ: الَّذِينَ يَزِيدُونَ خَيْرًا وإيمانًا وتُقًى إذا نَقَصَ النّاسُ مِن ذَلِكَ، واللَّهُ أعْلَمُ. وَفِي حَدِيثِ الأعْمَشِ، عَنْ أبِي إسْحاقَ، عَنْ أبِي الأحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ قالَ: قالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «إنَّ الإسْلامَ بَدَأ غَرِيبًا، وسَيَعُودُ غَرِيبًا كَما بَدَأ، فَطُوبى لِلْغُرَباءِ، قِيلَ: ومَنِ الغُرَباءُ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: النُّزّاعُ مِنَ القَبائِلِ». وَفِي حَدِيثِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قالَ: «قالَ النَّبِيُّ ﷺ ذاتَ يَوْمٍ ونَحْنُ عِنْدَهُ طُوبى لِلْغُرَباءِ، قِيلَ: ومَنِ الغُرَباءُ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: ناسٌ صالِحُونَ قَلِيلٌ في ناسٍ كَثِيرٍ، مَن يَعْصِيهِمْ أكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ». وَقالَ أحْمَدُ: حَدَّثَنا الهَيْثَمُ بْنُ جَمِيلٍ، حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنا عُثْمانُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سُلَيْمانَ بْنِ هُرْمُزَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: قالَ: «إنَّ أحَبَّ شَيْءٍ إلى اللَّهِ الغُرَباءُ، قِيلَ: ومَنِ الغُرَباءُ؟ قالَ: الفَرّارُونَ بِدِينِهِمْ، يَجْتَمِعُونَ إلى عِيسى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَوْمَ القِيامَةِ». وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: «بَدَأ الإسْلامُ غَرِيبًا، وسَيَعُودُ غَرِيبًا كَما بَدَأ، فَطُوبى لِلْغُرَباءِ قِيلَ: ومَنِ الغُرَباءُ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: الَّذِينَ يُحْيُونَ سُنَّتِي ويُعَلِّمُونَها النّاسَ». وَقالَ نافِعٌ، عَنْ مالِكٍ: دَخَلَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ المَسْجِدَ، فَوَجَدَ مُعاذَ بْنَ جَبَلٍ جالِسًا إلى بَيْتِ النَّبِيِّ ﷺ وهو يَبْكِي، فَقالَ لَهُ عُمَرُ: ما يُبْكِيكَ يا أبا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؟ هَلَكَ أخُوكَ؟ قالَ: لا، ولَكِنَّ حَدِيثًا حَدَّثَنِيهِ حَبِيبِي ﷺ وأنا في هَذا المَسْجِدِ، فَقالَ: ما هُوَ؟ قالَ: «إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الأخْفِياءَ الأحْفِياءَ الأتْقِياءَ الأبْرِياءَ الَّذِينَ إذا غابُوا لَمْ يُفْتَقَدُوا، وإذا حَضَرُوا لَمْ يُعْرَفُوا، قُلُوبُهم مَصابِيحُ الهُدى يَخْرُجُونَ مِن كُلِّ فِتْنَةٍ عَمْياءَ مُظْلِمَةٍ». فَهَؤُلاءِ هُمُ الغُرَباءُ المَمْدُوحُونَ المَغْبُوطُونَ، ولِقِلَّتِهِمْ في النّاسِ جِدًّا؛ سُمُّوا غُرَباءَ، فَإنَّ أكْثَرَ النّاسِ عَلى غَيْرِ هَذِهِ الصِّفاتِ، فَأهْلُ الإسْلامِ في النّاسِ غُرَباءُ، والمُؤْمِنُونَ في أهْلِ الإسْلامِ غُرَباءُ، وأهْلُ العِلْمِ في المُؤْمِنِينَ غُرَباءُ. وَأهْلُ السُّنَّةِ الَّذِينَ يُمَيِّزُونَها مِنَ الأهْواءِ والبِدَعِ فَهم غُرَباءُ، والدّاعُونَ إلَيْها الصّابِرُونَ عَلى أذى المُخالِفِينَ هم أشَدُّ هَؤُلاءِ غُرْبَةً، ولَكِنَّ هَؤُلاءِ هم أهْلُ اللَّهِ حَقًّا، فَلا غُرْبَةَ عَلَيْهِمْ، وإنَّما غُرْبَتُهم بَيْنَ الأكْثَرِينَ، الَّذِينَ قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ فِيهِمْ: ﴿وَإنْ تُطِعْ أكْثَرَ مَن في الأرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١١٦]، فَأُولَئِكَ هُمُ الغُرَباءُ مِنَ اللَّهِ ورَسُولِهِ ودِينِهِ، وغُرْبَتُهم هي الغُرْبَةُ المُوحِشَةُ، وإنْ كانُوا هُمُ المَعْرُوفِينَ المُشارُ إلَيْهِمْ، كَما قِيلَ: ؎فَلَيْسَ غَرِيبًا مَن تَناءَتْ دِيارُهُ ∗∗∗ ولَكِنَّ مَن تَنْأيْنَ عَنْهُ غَرِيبُ وَلَمّا خَرَجَ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ هارِبًا مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ انْتَهى إلى مَدْيَنَ عَلى الحالِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّهُ، وهو وحِيدٌ غَرِيبٌ خائِفٌ جائِعٌ، فَقالَ: يا رَبِّ وحِيدٌ مَرِيضٌ غَرِيبٌ، فَقِيلَ لَهُ: يا مُوسى الوَحِيدُ: مَن لَيْسَ لَهُ مِثْلِي أنِيسٌ، والمَرِيضُ: مَن لَيْسَ لَهُ مِثْلِي طَبِيبٌ، والغَرِيبُ: مَن لَيْسَ بَيْنِي وبَيْنَهُ مُعامَلَةٌ. [أنْواعُ الغُرْبَةِ] [الأوَّلُ غُرْبَةُ أهْلِ اللَّهِ وأهْلِ سُنَةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذا الخَلْقِ] فالغُرْبَةُ ثَلاثَةُ أنْواعٍ: غُرْبَةُ أهْلِ اللَّهِ وأهْلِ سُنَّةِ رَسُولِهِ بَيْنَ هَذا الخَلْقِ، وهي الغُرْبَةُ الَّتِي مَدَحَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ أهْلَها، وأخْبَرَ عَنِ الدِّينِ الَّذِي جاءَ بِهِ: أنَّهُ بَدَأ غَرِيبًا وأنَّهُ سَيَعُودُ غَرِيبًا كَما بَدَأ وأنَّ أهْلَهُ يَصِيرُونَ غُرَباءَ. وَهَذِهِ الغُرْبَةُ قَدْ تَكُونُ في مَكانٍ دُونَ مَكانٍ، ووَقْتٍ دُونَ وقْتٍ، وبَيْنَ قَوْمٍ دُونَ قَوْمٍ، ولَكِنَّ أهْلَ هَذِهِ الغُرْبَةِ هم أهْلُ اللَّهِ حَقًّا، فَإنَّهم لَمْ يَأْوُوا إلى غَيْرِ اللَّهِ، ولَمْ يَنْتَسِبُوا إلى غَيْرِ رَسُولِهِ ﷺ، ولَمْ يَدْعُوا إلى غَيْرِ ما جاءَ بِهِ، وهُمُ الَّذِينَ فارَقُوا النّاسَ أحْوَجَ ما كانُوا إلَيْهِمْ، فَإذا انْطَلَقَ النّاسُ يَوْمَ القِيامَةِ مَعَ آلِهَتِهِمْ بَقُوا في مَكانِهِمْ، فَيُقالُ لَهُمْ: ألا تَنْطَلِقُونَ حَيْثُ انْطَلَقَ النّاسُ؟ فَيَقُولُونَ: فارَقْنا النّاسَ ونَحْنُ أحْوَجُ إلَيْهِمْ مِنّا اليَوْمَ، وإنّا نَنْتَظِرُ رَبَّنا الَّذِي كُنّا نَعْبُدُهُ. فَهَذِهِ الغُرْبَةُ لا وحْشَةَ عَلى صاحِبِها، بَلْ وآنَسُ ما يَكُونُ إذا اسْتَوْحَشَ النّاسُ، وأشَدُّ ما تَكُونُ وحْشَتُهُ إذا اسْتَأْنَسُوا، فَوَلِيُّهُ اللَّهُ ورَسُولُهُ والَّذِينَ آمَنُوا، وإنْ عاداهُ أكْثَرُ النّاسِ وجَفَوْهُ. وَفِي حَدِيثِ القاسِمِ، عَنْ أبِي أُمامَةَ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: عَنِ اللَّهِ تَعالى «إنَّ أغْبَطَ أوْلِيائِي عِنْدِي: لَمُؤْمِنٌ خَفِيفُ الحاذِّ ذُو حَظٍّ مِن صَلاتِهِ، أحْسَنَ عِبادَةَ رَبِّهِ، وكانَ رِزْقُهُ كَفافًا، وكانَ مَعَ ذَلِكَ غامِضًا في النّاسِ، لا يُشارُ إلَيْهِ بِالأصابِعِ، وصَبَرَ عَلى ذَلِكَ حَتّى لَقِيَ اللَّهَ، ثُمَّ حَلَّتْ مَنِيَّتُهُ، وقَلَّ تُراثُهُ، وقَلَّتْ بَواكِيهِ». وَمِن هَؤُلاءِ الغُرَباءِ: مَن ذَكَرَهم أنَسٌ في حَدِيثِهِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ: «رُبَّ أشْعَثَ أغْبَرَ، ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ». وَفِي حَدِيثِ أبِي إدْرِيسَ الخَوْلانِيِّ، عَنْ مُعاذِ بْنِ جَبَلٍ، عَنِ النَّبِيِّ ﷺ قالَ: «ألا أُخْبِرُكم عَنْ مُلُوكِ أهْلِ الجَنَّةِ؟ قالُوا: بَلى يا رَسُولَ اللَّهِ. قالَ: كُلُّ ضَعِيفٍ أغْبَرَ ذِي طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ لَوْ أقْسَمَ عَلى اللَّهِ لَأبَرَّهُ» وقالَ الحَسَنُ: المُؤْمِنُ في الدُّنْيا كالغَرِيبِ لا يَجْزَعُ مِن ذُلِّها، ولا يُنافِسُ في عَزْلِها، لِلنّاسِ حالٌ ولَهُ حالٌ، النّاسُ مِنهُ في راحَةٍ وهو مِن نَفْسِهِ في تَعَبٍ. فَإذا أرادَ المُؤْمِنُ الَّذِي قَدْ رَزَقَهُ اللَّهُ بَصِيرَةً في دِينِهِ، وفِقْهًا في سُنَّةِ رَسُولِهِ، وفَهْمًا في كِتابِهِ، وأراهُ ما النّاسُ فِيهِ مِنَ الأهْواءِ والبِدَعِ والضَّلالاتِ وتَنَكُّبِهِمْ عَنِ الصِّراطِ المُسْتَقِيمِ الَّذِي كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ وأصْحابُهُ، فَإذا أرادَ أنْ يَسْلُكَ هَذا الصِّراطَ فَلْيُوَطِّنْ نَفْسَهُ عَلى قَدْحِ الجُهّالِ وأهْلِ البِدَعِ فِيهِ، وطَعْنِهِمْ عَلَيْهِ، وإزْرائِهِمْ بِهِ وتَنْفِيرِ النّاسِ عَنْهُ وتَحْذِيرِهِمْ مِنهُ، كَما كانَ سَلَفُهم مِنَ الكُفّارِ يَفْعَلُونَ مَعَ مَتْبُوعِهِ وإمامِهِ ﷺ، فَأمّا إنْ دَعاهم إلى ذَلِكَ، وقَدَحَ فِيما هم عَلَيْهِ: فَهُنالِكَ تَقُومُ قِيامَتُهم ويَبْغُونَ لَهُ الغَوائِلَ ويَنْصِبُونَ لَهُ الحَبائِلَ ويَجْلِبُونَ عَلَيْهِ بِخَيْلِ كَبِيرِهِمْ ورِجْلِهِ. فَهُوَ غَرِيبٌ في دِينِهِ لِفَسادِ أدْيانِهِمْ، غَرِيبٌ في تَمَسُّكِهِ بِالسُّنَّةِ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالبِدَعِ، غَرِيبٌ في اعْتِقادِهِ لِفَسادِ عَقائِدِهِمْ، غَرِيبٌ في صِلاتِهِ لِسُوءِ صِلاتِهِمْ، غَرِيبٌ في طَرِيقِهِ لِضَلالِ وفَسادِ طُرُقِهِمْ، غَرِيبٌ في نِسْبَتِهِ لِمُخالَفَةِ نَسَبِهِمْ، غَرِيبٌ في مُعاشَرَتِهِ لَهُمْ؛ لِأنَّهُ يُعاشِرُهم عَلى ما لا تَهْوى أنْفُسُهم. وَبِالجُمْلَةِ: فَهو غَرِيبٌ في أُمُورِ دُنْياهُ وآخِرَتِهِ لا يَجِدُ مِنَ العامَّةِ مُساعِدًا ولا مُعِينًا فَهو عالِمٌ بَيْنَ جُهّالٍ، صاحِبُ سُنَّةٍ بَيْنَ أهْلِ بِدَعٍ، داعٍ إلى اللَّهِ ورَسُولِهِ بَيْنَ دُعاةٍ إلى الأهْواءِ والبِدَعِ، آمِرٌ بِالمَعْرُوفِ ناهٍ عَنِ المُنْكَرِ بَيْنَ قَوْمٍ المَعْرُوفُ لَدَيْهِمْ مُنْكَرٌ والمُنْكَرُ مَعْرُوفٌ. * [فَصْلٌ: الثّانِي غُرْبَةُ أهْلِ الباطِلِ] النَّوْعُ الثّانِي مِنَ الغُرْبَةِ غُرْبَةٌ مَذْمُومَةٌ وهي غُرْبَةُ أهْلِ الباطِلِ وأهْلِ الفُجُورِ بَيْنَ أهْلِ الحَقِّ، فَهي غُرْبَةٌ بَيْنَ حِزْبِ اللَّهِ المُفْلِحِينَ وإنْ كَثُرَ أهْلُها فَهم غُرَباءُ عَلى كَثْرَةِ أصْحابِهِمْ وأشْياعِهِمْ، أهْلُ وحْشَةٍ عَلى كَثْرَةِ مُؤْنِسِهِمْ، يُعْرَفُونَ في أهْلِ الأرْضِ، ويَخْفَوْنَ عَلى أهْلِ السَّماءِ. * [فَصْلٌ: الثّالِثُ غُرْبَةٌ مُشْتَرَكَةٌ لا تُحْمَدُ ولا تُذَمُّ] وَهِيَ الغُرْبَةُ عَنِ الوَطَنِ؛ فَإنَّ النّاسَ كُلَّهم في هَذِهِ الدّارِ غُرَباءُ، فَإنَّها لَيْسَتْ لَهم بِدارِ مَقامٍ، ولا هي الدّارُ الَّتِي خُلِقُوا لَها، وقَدْ قالَ النَّبِيُّ ﷺ لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «كُنْ في الدُّنْيا كَأنَّكَ غَرِيبٌ أوْ عابِرُ سَبِيلٍ». وهَكَذا هو في نَفْسِ الأمْرِ؛ لِأنَّهُ أُمِرَ أنْ يُطالِعَ ذَلِكَ بِقَلْبِهِ ويَعْرِفَهُ حَقَّ المَعْرِفَةِ، ولِي مِن أبْياتٍ في هَذا المَعْنى: ؎وَحَيَّ عَلى جَنّاتِ عَدْنٍ فَإنَّها ∗∗∗ مَنازِلُكَ الأُولى وفِيها المُخَيَّمُ ؎وَلَكِنَّنا سَبْيُ العَدُوِّ فَهَلْ تَرى ∗∗∗ نَعُودُ إلى أوْطانِنا ونُسَلَّمُ ؎وَأيُّ اغْتِرابٍ فَوْقَ غُرْبَتِنا الَّتِي ∗∗∗ لَها أضْحَتِ الأعَداءُ فِينا تَحَكَّمُ ؎وَقَدْ زَعَمُوا أنَّ الغَرِيبَ إذا نَأى ∗∗∗ وشَطَّتْ بِهِ أوْطانُهُ لَيْسَ يَنْعَمُ ؎فَمِن أجْلِ ذا لا يَنْعَمُ العَبْدُ ساعَةً ∗∗∗ مِنَ العُمْرِ إلّا بَعْدَ ما يَتَألَّمُ وَكَيْفَ لا يَكُونُ العَبْدُ في هَذِهِ الدّارِ غَرِيبًا، وهو عَلى جَناحِ سَفَرٍ، لا يَحِلُّ عَنْ راحِلَتِهِ إلّا بَيْنَ أهْلِ القُبُورِ؟ فَهو مُسافِرٌ في صُورَةِ قاعِدٍ، وقَدْ قِيلَ: ؎وَما هَذِهِ الأيّامُ إلّا مَراحِلُ ∗∗∗ يَحُثُّ بِها داعٍ إلى المَوْتِ قاصِدُ ؎وَأعْجَبُ شَيْءٍ لَوْ تَأمَّلْتَ أنَّها ∗∗∗ مَنازِلُ تُطْوى والمُسافِرُ قاعِدُ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب