الباحث القرآني

وقِيلَ: المَعْنى إنَّ فِعْلَ الحَسَناتِ يَكُونُ لُطْفًا في تَرْكِ السَّيِّئاتِ، لا أنَّها واقِعَةٌ كَقَوْلِهِ: ﴿اتْلُ ما أُوحِيَ إلَيْكَ مِنَ الكِتابِ﴾ [العنكبوت: ٤٥] والظّاهِرُ أنَّ الإشارَةَ بِقَوْلِهِ ذَلِكَ، إلى أقْرَبِ مَذْكُورٍ وهو قَوْلُهُ: أقِمِ الصَّلاةَ أيْ إقامَتَها في هَذِهِ الأوْقاتِ. ذِكْرى أيْ: سَبَبُ عِظَةٍ وتَذْكِرَةٍ لِلذّاكِرِينَ أيِ المُتَّعِظِينَ. وقِيلَ: إشارَةٌ إلى الإخْبارِ بِأنَّ الحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ، فَيَكُونُ في هَذِهِ الذِّكْرى حَضًّا عَلى فِعْلِ الحَسَناتِ. وقِيلَ: إشارَةٌ إلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الوَصِيَّةِ بِالِاسْتِقامَةِ وإقامَةِ الصَّلاةِ، والنَّهْيِ عَنِ الطُّغْيانِ، والرُّكُونِ إلى الظّالِمِينَ، وهو قَوْلُ الزَّمَخْشَرِيِّ. وقالَ الطَّبَرِيُّ: إشارَةٌ إلى الأوامِرِ والنَّواهِي في هَذِهِ السُّورَةِ، وقِيلَ: إشارَةٌ إلى القُرْآنِ، وقِيلَ: ذِكْرى مَعْناها تَوْبَةٌ، ثُمَّ أمَرَ تَعالى بِالصَّبْرِ عَلى التَّبْلِيغِ والمَكارِهِ في ذاتِ اللَّهِ بَعْدَ ما تَقَدَّمَ مِنَ الأوامِرِ والنَّواهِي، ومُنَبِّهًا عَلى مَحَلِّ الصَّبْرِ، إذْ لا يَتِمُّ شَيْءٌ مِمّا وقَعَ الأمْرُ بِهِ والنَّهْيُ عَنْهُ إلّا بِهِ، وأتى بِعامٍّ وهو قَوْلُهُ: ﴿أجْرَ المُحْسِنِينَ﴾ [هود: ١١٥]، لِيَنْدَرِجَ فِيهِ كُلُّ مَن أحْسَنَ بِسائِرِ خِصالِ الإحْسانِ مِمّا يُحْتاجُ إلى الصَّبْرِ فِيهِ، وما قَدْ لا يُحْتاجُ كَطَبْعِ مَن خُلِقَ كَرِيمًا، فَلا يَتَكَلَّفُ الإحْسانَ إذْ هو مَرْكُوزٌ في طَبْعِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: المُحْسِنُونَ هُمُ المُصَلُّونَ، كَأنَّهُ نَظَرَ إلى سِياقِ الكَلامِ. وقالَ مُقاتِلٌ: هُمُ المُخْلِصُونَ، وقالَ أبُو سُلَيْمانَ: المُحْسِنُونَ في أعْمالِهِمْ. ﴿فَلَوْلا كانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبْلِكم أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الفَسادِ في الأرْضِ إلّا قَلِيلًا مِمَّنْ أنْجَيْنا مِنهم واتَّبَعَ﴾: (لَوْلا) هُنا لِلتَّحْضِيضِ، صَحِبَها مَعْنى التَّفَجُّعِ والتَّأسُّفِ الَّذِي يَنْبَغِي أنْ يَقَعَ مِنَ البَشَرِ عَلى هَذِهِ الأُمَمِ الَّتِي لَمْ تَهْتَدِ، وهَذا نَحْوُ قَوْلِهِ: ﴿ياحَسْرَةً عَلى العِبادِ﴾ [يس: ٣٠] والقُرُونُ: قَوْمُ نُوحٍ، وعادٍ، وثَمُودَ، ومَن تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ. والبَقِيَّةُ هُنا يُرادُ بِها الخَيْرُ والنَّظَرُ والجَزْمُ في الدِّينِ، وسُمِّيَ الفَضْلُ والجُودُ بَقِيَّةً، لِأنَّ الرَّجُلَ يَسْتَبْقِي مِمّا يُخْرِجُهُ أجْوَدَهُ وأفْضَلَهُ، فَصارَ مَثَلًا في الجَوْدَةِ والفَضْلِ. فَيُقالُ فُلانٌ مِن بَقِيَّةِ القَوْمِ أيْ مِن خِيارِهِمْ، وبِهِ فُسِرَّ بَيْتُ الحَماسَةِ: ؎إنْ تُذْنِبُوا ثُمَّ يَأْتِينِي بَقِيَّتُكُمْ ومِنهُ قَوْلُهم: في الزَّوايا خَبايا، وفي الرِّجالِ بَقايا. وإنَّما قِيلَ: بَقِيَّةٌ لِأنَّ الشَّرائِعَ والدُّوَلَ ونَحْوَها قُوَّتُها في أوَّلِها، ثُمَّ لا تَزالُ تَضْعُفُ، فَمَن ثَبَتَ في وقْتِ الضَّعْفِ فَهو بَقِيَّةُ الصَّدْرِ الأوَّلِ. وبَقِيَّةٌ فَعِيلَةٌ اسْمُ فاعِلٍ لِلْمُبالَغَةِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ البَقِيَّةُ بِمَعْنى البَقْوى، كالتَّقِيَّةِ بِمَعْنى التَّقْوى أيْ: فَلا كانَ مِنهم ذَوُو بَقاءٍ عَلى أنْفُسِهِمْ وصِيانَةٍ لَها مِن سَخَطِ اللَّهِ وعِقابِهِ. وقَرَأتْ فِرْقَةٌ (بَقِيَةٍ) بِتَخْفِيفِ الياءِ اسْمُ فاعِلٍ مِن بَقِيَ، نَحْوُ: شَجِيَتْ فَهي شَجِيَّةٌ. وقَرَأ أبُو جَعْفَرٍ، وشَيْبَةُ: (بُقْيَةٍ) بِضَمِّ الباءِ وسُكُونِ القافِ، عَلى وزْنِ فُعْلَةٍ. وقُرِيءَ: (بَقْيَةٍ) عَلى وزْنِ فَعْلَةٍ لِلْمَرَّةِ مِن بَقاهُ بَقْيًا إذا رَقَبَهُ وانْتَظَرَهُ، والمَعْنى: فَلَوْلا كانَ مِنهم أُولُو مُراقَبَةٍ وخَشْيَةٍ مِنِ انْتِقامِ اللَّهِ، كَأنَّهم يَنْتَظِرُونَ إيقاعَهُ بِهِمْ لِإشْفاقِهِمْ. والفَسادُ هُنا الكُفْرُ وما اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ المَعاصِي، وفي ذَلِكَ تَنْبِيهٌ لِهَذِهِ الأُمَّةِ وحَضٌّ لَها عَلى تَغْيِيرِ المُنْكِرِ. (إلّا قَلِيلًا) اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ أيْ: لَكِنَّ قَلِيلًا مِمَّنْ أنْجَيْنا مِنهم نَهَوْا عَنِ الفَسادِ وهم قَلِيلٌ بِالإضافَةِ إلى جَماعاتِهِمْ، ولا يَصِحُّ أنْ يَكُونَ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا مَعَ بَقاءِ التَّحْضِيضِ عَلى ظاهِرِهِ لِفَسادِ المَعْنى، وصَيْرُورَتِهِ إلى أنَّ النّاجِينَ لَمْ يُحَرِّضُوا عَلى النَّهْيِ عَنِ الفَسادِ. والكَلامُ عِنْدَ سِيبَوَيْهِ بِالتَّحْضِيضِ واجِبٌ، وغَيْرُهُ يَراهُ مَنفِيًّا مِن حَيْثُ مَعْناهُ: أنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ أُولُو بَقِيَّةٍ، ولِهَذا قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدَ أنْ مَنَعَ أنْ يَكُونَ مُتَّصِلًا: (فَإنْ قُلْتَ): في تَحْضِيضِهِمْ عَلى النَّهْيِ عَنِ الفَسادِ مَعْنى نَفْيِهِ عَنْهم، فَكَأنَّهُ قِيلَ: ما كانَ مِنَ (p-٢٧٢)القُرُونِ أُولُوا بَقِيَّةٍ إلّا قَلِيلًا، كانَ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا، ومَعْنًى صَحِيحًا، وكانَ انْتِصابُهُ عَلى أصْلِ الِاسْتِثْناءِ وإنْ كانَ الأفْصَحُ أنْ يَرْجِعَ عَلى البَدَلِ انْتَهى. وقَرَأ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ: (إلّا قَلِيلٌ) بِالرَّفْعِ، لَحِظَ أنَّ التَّحْضِيضَ تَضَمَّنَ النَّفْيَ، فَأبْدَلَ كَما يُبْدَلُ في صَرِيحِ النَّفْيِ. وقالَ الفَرّاءُ: المَعْنى فَلَمْ يَكُنْ، لِأنَّ في الِاسْتِفْهامِ ضَرْبًا مِنَ الجَحْدِ، وأبى الأخْفَشُ كَوْنَ الِاسْتِثْناءِ مُنْقَطِعًا، والظّاهِرُ أنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا هم تارِكُو النَّهْيِ عَنِ الفَسادِ. و﴿ما أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ أيْ: ما نَعِمُوا فِيهِ مِن حُبِّ الرِّياسَةِ والثَّرْوَةِ وطَلَبِ أسْبابِ العَيْشِ الهَنِيِّ، ورَفَضُوا ما فِيهِ صَلاحُ دِينِهِمْ. و(اتَّبَعَ) اسْتِئْنافُ إخْبارٍ عَنْ حالِ هَؤُلاءِ الَّذِينَ ظَلَمُوا، وإخْبارٌ عَنْهم أنَّهم مَعَ كَوْنِهِمْ تارِكِي النَّهْيِ عَنِ الفَسادِ كانُوا مُجْرِمِينَ أيْ: ذَوِي جَرائِمَ غَيْرِ ذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إنْ كانَ مَعْناهُ واتَّبَعُوا الشَّهَواتِ كانَ مَعْطُوفًا عَلى مُضْمَرٍ، لِأنَّ المَعْنى إلّا قَلِيلًا مِمَّنْ أنْجَيْنا مِنهم نَهَوْا عَنِ الفَسادِ في الأرْضِ، واتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا شَهَواتِهِمْ، فَهو عَطْفٌ عَلى نَهَوْا، وإنْ كانَ مَعْناهُ: واتَّبَعُوا جَزاءَ الإتْرافِ. قالُوا ولِلْحالِ، كَأنَّهُ قِيلَ: أنْجَيْنا القَلِيلَ وقَدِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا جَزاءَهم. وقالَ: ﴿وكانُوا مُجْرِمِينَ﴾، عُطِفَ عَلى ﴿أُتْرِفُوا﴾، أيِ اتَّبَعُوا الإتْرافَ. وكَوْنُهم مُجْرِمِينَ، لِأنَّ تابِعَ الشَّهَواتِ مَغْمُورٌ بِالآثامِ انْتَهى. فَجَعَلَ (ما) في قَوْلِهِ: ﴿ما أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ مَصْدَرِيَّةً، ولِهَذا قَدَّرَهُ: اتَّبَعُوا الإتْرافَ، والظّاهِرُ أنَّها بِمَعْنى الَّذِي لِعَوْدِ الضَّمِيرِ في فِيهِ عَلَيْها. وأجازَ أيْضًا أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى (اتَّبَعُوا) أيِ: اتَّبَعُوا شَهَواتِهِمْ وكانُوا مُجْرِمِينَ بِذَلِكَ. قالَ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ اعْتِراضًا وحُكْمًا عَلَيْهِمْ بِأنَّهم قَوْمٌ مُجْرِمُونَ انْتَهى. ولا يُسَمّى هَذا اعْتِراضًا في اصْطِلاحِ النَّحْوِ، لِأنَّهُ آخِرُ آيَةٍ، فَلَيْسَ بَيْنَ شَيْئَيْنِ يَحْتاجُ أحَدُهُما إلى الآخَرِ. وقَرَأ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ، والعَلاءُ بْنُ سِيابَةَ كَذا في كِتابِ اللَّوامِحِ، وأبُو عُمَرَ في رِوايَةِ الجُعْفِيِّ: وأُتْبِعُوا ساكِنَةَ التّاءِ مَبْنِيَّةً لِلْمَفْعُولِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، لِأنَّهُ مِمّا يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ، أيْ جَزاءَ ما أُتْرِفُوا فِيهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المَعْنى في القِراءَةِ المَشْهُورَةِ أنَّهُمُ اتَّبَعُوا جَزاءَ إتْرافِهِمْ، وهَذا مَعْنًى قَوِيٌّ لِتَقَدُّمِ الإنْجاءِ كَأنَّهُ قِيلَ: إلّا قَلِيلًا مِمَّنْ أنْجَيْنا مِنهم وهَلَكَ السّائِرُ ﴿وما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرى بِظُلْمٍ وأهْلُها مُصْلِحُونَ﴾: تَقَدَّمَ تَفْسِيرُ شَبِيهِ هَذِهِ الآيَةِ في الأنْعامِ، إلّا أنَّ هُنا لِيُهْلِكَ وهي آكَدُ في النَّفْيِ، لِأنَّهُ عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ زِيدَتِ اللّامُ في خَبَرِ كانَ عَلى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ، وعَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ نُوَجِّهُ النَّفْيَ إلى الخَبَرِ المَحْذُوفِ المُتَعَلِّقِ بِهِ اللّامُ، وهُنا ﴿وأهْلُها مُصْلِحُونَ﴾ . قالَ الطَّبَرِيُّ: بِشِرْكٍ مِنهم وهم مُصْلِحُونَ، أيْ: مُصْلِحُونَ في أعْمالِهِمْ وسِيَرِهِمْ، وعَدْلِ بَعْضِهِمْ في بَعْضٍ، أيْ: أنَّهُ لا بُدَّ مِن مَعْصِيَةٍ تَقْتَرِنُ بِكُفْرِهِمْ، قالَهُ الطَّبَرِيُّ ناقِلًا. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا ضَعِيفٌ، وإنَّما ذَهَبَ قائِلُهُ إلى نَحْوِ ما قالَ: إنَّ اللَّهَ يُمْهِلُ الدُّوَلَ عَلى الكُفْرِ ولا يُمْهِلُها عَلى الظُّلْمِ والجَوْرِ، ولَوْ عَكَسَ لَكانَ ذَلِكَ مُتَّجِهًا، أيْ: ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَ أُمَّةً بِظُلْمِهِمْ في مَعاصِيهِمْ وهم مُصْلِحُونَ في الإيمانِ. والَّذِي رَجَّحَ ابْنُ عَطِيَّةَ أنْ يَكُونَ التَّأْوِيلُ: بِظُلْمٍ مِنهُ تَعالى عَنْ ذَلِكَ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: ﴿وأهْلُها مُصْلِحُونَ﴾: تَنْزِيهًا لِذاتِهِ عَنِ الظُّلْمِ، وإيذانًا بِأنَّ إهْلاكَ المُصْلِحِينَ مِنَ الظُّلْمِ، انْتَهى. وهُوَ مُصادِمٌ لِلْحَدِيثِ: «أنَهْلِكُ وفِينا الصّالِحُونَ قالَ: نَعَمْ، إذا كَثُرَ الخَبَثُ» ولِلْآيَةِ: ﴿واتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنكم خاصَّةً﴾ [الأنفال: ٢٥] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب