الباحث القرآني

ولَمّا كانَ ما تَقَدَّمَ كُلُّهُ مُشِيرًا إلى اسْتِبْعادِ إيمانِ المُعانِدِينَ بِشَيْءٍ مِن تَدْبِيرٍ آدَمِيٍّ كَما تَكادُ القِصَصُ تَنْطِقُ بِهِ، وكَذا الإعْلامُ بِأنَّ عِبادَتَهم إنَّما هي لِلتَّقْلِيدِ وبِاخْتِلافِ قَوْمِ مُوسى في كِتابِهِ الَّذِي هو هُدًى ورَحْمَةٌ، وكُلُّ ذَلِكَ فَطْمًا عَنْ طَلَبِ ما قَدْ يَهْجِسُ في الخاطِرِ مِن تَمَنِّي إجابَتِهِمْ إلى ما يَقْتَرِحُونَ أوِ الكَفِّ عَنْ بَعْضِ ما يَغِيظُ مِنَ الإنْذارِ، وكانَ مِن طَبْعِ البَشَرِ البُعْدُ عَنِ الِانْتِهاءِ عَنِ الخَواطِرِ إلّا بَعْدَ التَّجْرِبَةِ، كانَ ذَلِكَ رُبَّما أوْجَبَ أنْ يُقالَ: لَوْ أُجِيبُوا إلى سُؤالِهِمْ لَرُبَّما رَجَعُوا عَنْ كَثِيرٍ مِمّا هم فِيهِ، فَدَعاهم ذَلِكَ إلى الرَّشادِ، فَتَسَبَّبَ عَنْهُ أنْ يُقالَ دَفْعًا لَهُ: ﴿فَلَوْلا كانَ﴾ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مُناسَبَتُها أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ إهْلاكَ القُرُونِ الماضِيَةِ والأُمَمِ السّالِفَةِ (p-٣٩٨)بِما مَضى إلى أنْ خَتَمَ بِالأمْرِ بِالصَّبْرِ عَلى الإحْسانِ مِنَ الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ، كانَ مِنَ الجائِزِ أنْ يَقَعَ في فِكْرِ الِاعْتِراضِ بِأنْ يُقالَ: ما المُوجِبُ لِذَلِكَ؟ فَبَيَّنَ أنَّ سَبَبَ الهَلاكِ الإعْراضُ عَنْ نَهْيِ مُنْتَهِكِ الحُرُماتِ والمُجْتَرِئِ عَلى هَتْكِ الأسْتارِ الجَلِيلَةِ والرَّتْعِ في الحِمى مَعَ تَمَكُّنِهِمْ بِما أوْدَعَ فِيهِمْ سُبْحانَهُ مِنَ القُوى والقُدْرَةِ عَلى اخْتِيارِ جانِبِ الخَيْرِ والإعْراضِ عَنْ جانِبِ الشَّرِّ فَقالَ تَعالى: ﴿فَلَوْلا﴾ بِصِيغَةٍ تَحْتَمِلُ التَّخْصِيصَ، وفِيها مَعْنى التَّفَجُّعِ والتَّأسُّفِ لِاعْتِبارِ كُلِّ مَن كانَ عَلى مِثْلِ حالِهِمْ ﴿مِنَ القُرُونِ﴾ أيِ المُهْلَكِينَ الأشِدّاءِ الكائِنِينَ في زَمانٍ ما. ولَمّا كانَ المُرادُ القُرُونَ الَّتِي تَقَدَّمَ ذِكْرُ إهْلاكِها، وكانَتْ أزْمِنَتُهم بَعْضَ الزَّمانِ الماضِي، أتى بِالجارِّ فَقالَ: ﴿مِن قَبْلِكم أُولُو﴾ أيْ: أصْحابُ ﴿بَقِيَّةٍ﴾ أيْ: حِفْظٍ وخَيْرٍ ومُراقَبَةٍ لِما يُصْلِحُهُمْ، لِأنَّ مادَّةَ ”بَقِيَ“ تَدُورُ عَلى الجَمْعِ، ويَلْزَمُهُ القُوَّةُ والثَّباتُ والحِفْظُ، مِن قَوْلِهِمُ: ابْقِهِ بِقُوَّتِكَ مالَكَ - وزْنَ ادْعُهُ - أيِ احْفَظْهُ حِفْظَكَ مالَكَ، ويَلْزَمُهُ النَّظَرُ والمُراقَبَةُ: بَقِيتُ الشَّيْءَ - إذا نَظَرْتَ إلَيْهِ ورَصَدْتَهُ، ويَلْزَمُهُ الثَّباتُ: بَقِيَ بَقاءً - إذا دامَ، والخَيْرُ والجَوْدَةُ؛ قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لِأنَّ الرَّجُلَ يَسْتَبْقِي مِمّا يُخْرِجُهُ أجْوَدَهُ وأفْضَلَهُ، ويُقالُ: فُلانٌ مِن بَقِيَّةِ قَوْمٍ، أيْ (p-٣٩٩)مِن خِيارِهِمْ، وسَيَأْتِي شَرْحُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلْنا بَيْنَهم مَوْبِقًا﴾ [الكهف: ٥٢] إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى: ﴿يَنْهَوْنَ﴾ أيْ: يُجَدِّدُونَ النَّهْيَ في كُلِّ حِينٍ إشارَةً إلى كَثْرَةِ المُفْسِدِينَ ﴿عَنِ الفَسادِ﴾ [الكائِنِ] ﴿فِي الأرْضِ﴾ و”لَوْلا“ هُنا كالَّتِي في يُونُسَ تَوْبِيخِيَّةٌ أوِ اسْتِفْهامِيَّةٌ كَما جَوَّزَهُما الرُّمّانِيُّ، ويَجُوزُ أنْ تَكُونَ تَخْصِيصِيَّةً كَما قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ، ويَكُونُ لِلسّامِعِ لا لِلْمُهْلَكِ، لِأنَّ الآيَةَ لِما تَضَمَّنَتْ إهْلاكَ المُقِرِّ عَلى الفَسادِ كانَ في ذَلِكَ أقْوى حَثٍّ لِغَيْرِهِمْ عَلى الأمْرِ والنَّهْيِ [و] أوْفى تَهْدِيدٍ زاجِرٍ عَنِ ارْتِكابِ مِثْلِ حالِهِمُ المُوقِعِ في أضْعافِ نَكالِهِمْ، وفي تَعْقِيبِ هَذِهِ الآيَةِ لِآيَةِ الصَّبْرِ إشارَةٌ إلى أنَّ الصَّبْرَ عَلى الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ والنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ في الذُّرْوَةِ العُلْيا، والآيَةُ ناظِرَةٌ إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنَّما أنْتَ نَذِيرٌ﴾ [هود: ١٢] ولَمّا كانَتِ المَعانِي الثَّلاثَةُ مُتَضَمِّنَةً لِلنَّفْيِ، كانَ المَعْنى: لَمْ يَكُنْ مِن يَفْعَلُ ذَلِكَ، فاتَّصَلَ الِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: ﴿إلا قَلِيلا﴾ أيْ: صالِحِينَ ﴿مِمَّنْ أنْجَيْنا مِنهُمْ﴾ والظّاهِرُ أنَّ ”مِن“ بَيانِيَّةٌ، أيْ هُمُ الَّذِينَ أنْجَيْنا فَإنَّهم نَهَوْا عَنِ الفَسادِ، [وعَبَّرَ بِالإنْجاءِ لِأنَّهُ الدّالُّ عَلى الخَيْرِ الحامِلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الفَسادِ دُونَ التَّنْجِيَةِ الدّالَّةِ عَلى التَّدْرِيجِ والإبْلاغِ في الإنْجاءِ فَلَوْ عَبَّرَ بِها فَسَدَ المَعْنى] ﴿واتَّبَعَ﴾ الأكْثَرُ وهم ﴿الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ (p-٤٠٠)أيْ أوْقَعُوا الظُّلْمَ بِتَرْكِ النَّهْيِ عَنِ الفَسادِ، وما أحْسَنَ إطْلاقَها عَنِ التَّقْيِيدِ بِ: ”مِنهم“ ﴿ما﴾ ولَمّا كانَ المُبْطِرُ لَهم نَفْسَ التَّرَفِ، بُنِيَ لِلْمَفْعُولِ قَوْلُهُ: ﴿أُتْرِفُوا فِيهِ﴾ فَأبْطَرَتْهُمُ النِّعْمَةُ حَتّى طَغَوْا وتَجَبَّرُوا ﴿وكانُوا مُجْرِمِينَ﴾ أيْ: مُتَّصِفِينَ عَلى سَبِيلِ الرُّسُوخِ بِالإجْرامِ، وهو قَطْعُ حَبْلِ اللَّهِ عَلى الدَّوامِ، فَأهْلَكَهم رَبُّكَ لِإجْرامِهِمْ، ولَوْلا ذَلِكَ لَما فَعَلَ، فَإنَّ إهْلاكَهم عَلى تَقْدِيرِ الِانْفِكاكِ عَنِ الإجْرامِ يَكُونُ ظُلْمًا عَلى ما يَتَعارَفُونَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب