الباحث القرآني

* (فائدة) وقد يستطرد سبحانه من ذكر الشخص إلى ذكر النوع كقوله تعالى: ﴿ولَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ. ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ﴾ فالمخلوق من سلالة من طين آدم والمجعول نطفة في قرار مكين ذريته. * (فصل: في أطوار ابْن آدم من وقت كَونه نُطْفَة إلى استقراره في الجنَّة أو النّار) قالَ الله تَعالى ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ مِن سُلالَةٍ مِن طِينٍ (١٢) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً في قَرارٍ مَكِينٍ (١٣) ثُمَّ خَلَقْنا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنا العَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنا المُضْغَةَ عِظامًا فَكَسَوْنا العِظامَ لَحْمًا ثُمَّ أنْشَأْناهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أحْسَنُ الخالِقِينَ (١٤) ثُمَّ إنَّكم بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (١٥) ثُمَّ إنَّكم يَوْمَ القِيامَةِ تُبْعَثُونَ (١٦)﴾. فاستوعب سُبْحانَهُ ذكر أحْوال ابْن آدم قبل كَونه نُطْفَة بل تُرابا وماء إلى حِين بَعثه يَوْم القِيامَة فَأول مَراتِب خلقه أنه سلالة من طين ثمَّ بعد ذَلِك سلالة من ماء مهين وهِي النُّطْفَة الَّتِي استلت من جَمِيع البدن فتمكث كَذَلِك أرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ يقلب الله سُبْحانَهُ تِلْكَ النُّطْفَة علقَة وهِي قِطْعَة سَوْداء من دم فتمكث كَذَلِك أرْبَعِينَ يَوْمًا أُخْرى ثمَّ يصيرها سُبْحانَهُ مُضْغَة وهِي قِطْعَة لحم أرْبَعِينَ يَوْمًا وفي هَذا الطّور تقدر أعضاؤه وصورته وشكله وهيئته. واخْتلف في أول ما يتشكل ويخلق من أعْضائِهِ. قالَ قائِلُونَ هو القلب وَقالَ آخَرُونَ إنَّه الدِّماغ وَقالَ آخَرُونَ هو الكبد وَقالَ آخَرُونَ فقار الظّهْر فاحتج أرْباب القَوْل الأول بِأن القلب هو العُضْو والأساس الَّذِي هو مَعْدن الحَرارَة الغريزية الَّذِي هو مركب الحَياة فَوَجَبَ أن يكون هو المُقدم في الخلق قالُوا وقد أخبر المشرحون أنهم وجدوا في النُّطْفَة عند كَمال انْعِقادها نقطة سَوْداء. واحْتج من قالَ إنَّه الدِّماغ بِأن الدِّماغ من الحَيَوان هو العُضْو الرئيسي من الإنْسان وهو مجمع الحَواس وأن الأمر المُخْتَص بِالحَيَوانِ هو الحس والحَرَكَة الإرادية وأصل ذَلِك من الدِّماغ ومِنه ينبعث وإذا كانَ الخاص بِالحَيَوانِ هو الحس والحَرَكَة الإرادية وكانا عَن هَذا العُضْو كانَ هو المُقدم في الإيجاد والتكوين. واحْتج من قالَ إنَّه الكبد بِأنَّهُ العُضْو الَّذِي مِنهُ النمو والاغتذاء الَّذِي بِهِ قوام الحَيَوان قالُوا فالنظام الطبيعي يَقْتَضِي أن يكون أول متكون الكبد ثمَّ القلب ثمَّ الدِّماغ لِأن أول فصل الحَيَوان هو النمو ولَيْسَ بِهِ في هَذا الوَقْت حاجَة إلى حس ولا إلى حَرَكَة إرادية لِأنَّهُ يعد بِمَنزِلَة النَّبات فَلا حاجَة بِهِ حِينَئِذٍ إلى غير النمو. وَلِهَذا إنَّما تصير لَهُ قُوَّة الحس والإرادة عند تعلق النَّفس بِهِ وذَلِكَ في الطّور الرّابِع من أطوار تخليقه فَكانَ أول الأعْضاء خلقا فِيهِ هو آلَة النمو وذَلِكَ الكبد والَّذِي شاهده أرْباب التشريح حَتّى إنَّهُم متفوقون عَلَيْهِ أنه أول ما يتَبَيَّن في خلق جثة الحَيَوان ثَلاث نقط مُتَقارِبَة بَعْضها من بعض يتَوَهَّم أنَّها رسم الكبد والقلب والدماغ ثمَّ يزْداد بَعْضها من بعض بعدا على امتداد أيّام الحمل، فَهَذا القدر هو الَّذِي عند المشرحين. فَأما أن هَذِه النقط أقدم وأسبق فَلَيْسَ عِنْدهم عَلَيْهِ دَلِيل إلّا الأخلق والأولى والقِياس والله أعلم. * (فصل) ثمَّ تقدر مفاصل أعْضائِهِ وعظامه وعروقه وعصبه ويشق لَهُ السّمع والبَصَر والفم ويفتق حلقه بعد أن كانَ رتقا فيركب فِيهِ اللِّسان ويخطط شكله وصورته وتكسى عِظامه لَحْمًا ويربط بَعْضها إلى بعض أحكم ربط وأقواه وهو الأسر الَّذِي قالَ فِيهِ ﴿نَحن خلقناهم وشددنا أسرهم﴾ وَمِنه الإسار الَّذِي يرْبط بِهِ ومِنه الأسير قالَ الإمام أحْمد حَدثنا روح بن عبادَة حَدثنا أبُو هِلال حَدثنا ثابت عَن صَفْوان بن مُحرز قالَ كانَ نَبِي الله داوُد عَلَيْهِ السَّلام إذا ذكر عَذاب الله تخلعت أوصاله ما يمْسِكها إلّا الأسر فَإذا ذكر رَحْمَة الله رجعت * (فصل) قالَ بقراط في المقالة الثّالِثَة من كتاب الأجنة أنا أحَدثك رَأيْت المَنِيّ ينشأ كانَت لامْرَأة من الأهْل جارِيَة نفيسة ولم تكن تحب أن تحبل لِئَلّا ينقص ثمنها فَسمِعت الجارِيَة النِّساء يقلن إن المَرْأة إذا أرادَت أن تحمل لم يخرج مِنها مني الرجل بل يبْقى محتبسا ففهمت ذَلِك وجعلت ترصده من نَفسها فأحست في بعض الأوْقات أنه لم يخرج مِنها فبلغني الخَبَر فأمرتها أن تطفر إلى خلفها فطفرت سبع طفرات فَسقط مِنها المَنِيّ بوجبة شَبِيها بالبيضة غير مطبوخة قد قشر عَنْها القشر الخارِج وبقيت رطوبتها في جَوف الغشاء قالَ وأنا أقُول أيْضا إنَّه يجْرِي من الأُم فضول الرَّحِم ليتغذى بها الجَنِين وقالَ إن الَّذِي تظهر هي الأعصاب الدقاق البيض وهِي الَّتِي رَأيْت في وسط السُّرَّة ولَيْسَت في مَوضِع آخر غير السُّرَّة لِأن الرّوح إنَّما يشق طَرِيقا للنَّفس هُناكَ ثمَّ قالَ وأقُول شَيْئا آخر ظاهرا يعرفهُ كل من يرغب في العلم وأوضحه بقياسات وأقُول إن المَنِيّ هو في الحجاب وإنّهُ يغتذي من الدَّم الَّذِي يجْتَمع من المَرْأة وينزل إلى الرَّحِم وقالَ إن المَنِيّ يجتذب الهَواء فيتنفس فِيهِ في هَذِه الحجب في الأسْباب الَّتِي ذكرنا ويربو من الدَّم الَّذِي ينحدر من المَرْأة وقالَ إن الطمث لا ينحدر ما دامَت المَرْأة حامِلا إن كانَ طفلها صَحِيحا وذَلِكَ مُنْذُ أول شهر من حبلها إلى الشَّهْر التّاسِع ولَكِن جَمِيع ما ينزل من الدَّم من البدن كُله يجْتَمع حول الجَنِين على الحجاب الأعْلى مَعَ اجتذاب النَّفس والسرة طَرِيق وُصُوله إلى الجَنِين فَيدْخل الغذاء إلَيْهِ فيغذيه ويزِيد في تَرْبِيَته. وَقالَ إذا أقامَ المَنِيّ حينا خلقت لَهُ حجب أخر فتمتد داخِلا من الحجاب الأول وتَكون مُخْتَلفَة الأنْواع كَثِيرَة. وَأما كَونها فَمثل الحجاب الأول وقالَ إن الحجب مِنها ما يخلق أولا ومِنها ما يخلق من بعد الشَّهْر الثّانِي ومِنها ما يخلق في الشَّهْر الثّالِث وكلها لا تظهر مَنافِعها أول ما يخلق ولَكِن بَعْضها يَمْتَد على المَنِيّ فتظهر مَنافِعها أولا وبَعضها لا يظْهر إلّا أخيرا فَلذَلِك يخلق بَعْضها في الشَّهْر الأول وبَعضها في الشَّهْر الثّانِي وبَعضها في الثّالِث وهِي السُّرَّة كَأنَّها مربوط بَعْضها بِبَعْض في وسط الحجب تكون السُّرَّة الَّتِي يتنفس مِنها ويتربى وَإذا نزل الدَّم واغتذى الجَنِين مِنهُ حالَتْ الحجب بَينه وبَين الجَنِين ولِهَذا يَقُول تَعالى ﴿يخلقكم في بطُون أُمَّهاتكُم خلقا من بعد خلق في ظلمات ثَلاث﴾ فَإن كل حجاب من هَذِه الحجب لَهُ ظلمَة تخصه فَذكر سُبْحانَهُ أطوار خلقه ونَقله فِيها من حال إلى حال وذكر ظلمات الحجب الَّتِي على الجَنِين فَقالَ أكثر المُفَسّرين هي ظلمَة البَطن وظلمة الرَّحِم وظلمة المشيمة فَإن كل واحِد من هَذِه حجاب على الجَنِين وقالَ آخَرُونَ هي ظلمَة أصلاب الآباء وظلمة بطُون الأُمَّهات وظلمة المشيمة وأضعف من هَذا القَوْل قَول من قالَ ظلمَة اللَّيْل وظلمة البَطن وظلمة الرَّحِم فَإن اللَّيْل والنَّهار بِالنِّسْبَةِ إلى الجَنِين سَواء وقالَ بقراط إن المَرْأة إذا حبلت لم تألم من اجْتِماع الدَّم الَّذِي ينزل ويجتمع حول رَحمها ولا تحس بِضعْف كَما تحس إذا انحدر الطمث لِأنَّها لا يثور دَمها في كل شهر لكنه ينزل إلى الرَّحِم في كل يَوْم قَلِيلا قَلِيلا نزولا ساكِنا من غير وجع فَإذا أتى إلى الرَّحِم اغتذى مِنهُ الجَنِين ونما ثمَّ قالَ وعَلى غير بعيد من ذَلِك إذا خلق للجنين لحم وجسد تكون الحجب وإذا كبر كَبرت الحجب أيْضا وصارَ لَها تجويف خارج من الجَنِين فَإذا نزل الدَّم من الأُم جذبه الجَنِين واغتذى بِهِ فيزيد في لَحْمه والرديء من الدَّم الَّذِي لا يصلح للغذاء ينزل إلى مجاري الحجب وكَذَلِكَ تسمى الحجب الَّتِي إذا صار لَها تجويف يقبل الدَّم المشيمة. وَقالَ إذا تمّ الجَنِين وكملت صورته واجتذب الدَّم لغذائه بالمقدار اتسعت الحجب وظَهَرت المشيمة الَّتِي تكون من الآلات الَّتِي ذكرنا فَإن اتَّسع داخلها اتَّسع خارِجها لِأنَّهُ أولى بذلك لِأن لَهُ موضعا يَمْتَد إلَيْهِ قلت ومن ها هُنا لم تَحض الحامِل بل ما تراهُ من الدَّم يكون دم فَساد لَيْسَ دم الحيض المُعْتاد هَذِه إحْدى الرِّوايَتَيْنِ عَن عائِشَة رَضِي الله عَنْها وهو المَشْهُور من مَذْهَب أحْمد الَّذِي لا يعرف أصْحابه سواهُ وهو مَذْهَب أبي حنيفَة وذهب الشّافِعِي في رِوايَة عَن عائِشَة والإمام أحْمد في رِوايَة عَنهُ اخْتارَها شَيخنا إلى أن ما تراهُ من الدَّم في وقت عادَتها يكون حيضا. وَحجَّة هَذا القَوْل ظاهِرَة وهِي عُمُوم الأدِلَّة الدّالَّة على ترك المَرْأة الصَّوْم والصَّلاة إذا رَأتْ الدَّم المُعْتاد في وقت الحيض ولم يسْتَثْن الله ورَسُوله حالَة دون حالَة وأما كَون الدَّم ينْصَرف إلى غذاء الوَلَد فَمن المَعْلُوم أن ذَلِك لا يمْنَع أن يبْقى مِنهُ بَقِيَّة يخرج في وقت الحيض تفضل عَن غذاء الوَلَد فَلا تنافِي بَين غذاء الوَلَد وبَين حيض الأُم. وَأصْحاب القَوْل الآخر يحتجون بقوله ﷺ لا تُوطأ حامِل حَتّى تضع ولا حائِل حَتّى تستبرأ بِحَيْضَة فَجعل الحَيْضَة دَلِيلا على عدم الحمل فَلَو حاضَت الحامِل لم تكن الحَيْضَة علما على بَراءَة حملها والآخرُونَ يحبيبون عَن هَذا بِأن الحَيْضَة علم ظاهر فَإذا ظهر بها الحمل تَبينا أنه لم يكن دَلِيلا ولِهَذا يحكم بِانْقِضاء العدة بِالحيضِ ظاهرا ثمَّ تبين المَرْأة حامِلا والنَّبِيّ ﷺ قسم النِّساء إلى قسمَيْنِ امْرَأة مَعْلُومَة الحمل وامْرَأة مظنون أنَّها حامِل فَجعل اسْتِبْراء الأولى بِوَضْع الحمل والثّانيِة بالحيضة. وَهَذا هو الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الحَدِيث لم يدل على أن ما تراهُ الحامِل من الدَّم في وقت عادَتها تَصُوم مَعَه وتصلي. * (فصل) قالَ بقراط إن العِظام تصلب من الحَرارَة لِأن الحَرارَة تصلب العِظام وتربط بَعْضها بِبَعْض مثل الشَّجَرَة الَّتِي ترتبط بَعْضها بِبَعْض وقالَ إن العصب جعل داخِلا وخارجا وجعل الرَّأْس بَين العاتقين والعضدان والساعدان في الجانِبَيْنِ وفرج ما بَين الرجلَيْن أيْضا وجعل في كل مفصل من المفاصل عصب بوثقه ويشده قلت وهو الأسر الَّذِي شدّ بِهِ الإنْسان قالَ وجعل الفَم ينفتح من تِلْقاء نَفسه وركب الأنف والأذنان من اللَّحْم وثقبت الأذنان ثمَّ العينان بعد ذَلِك وملئتا رُطُوبَة صافِيَة وَكانَ النَّبِي ﷺ يَقُول في سُجُوده سجد وجْهي للَّذي خلقه وصوره وشق سَمعه وبصره والواو وإن لم تقتض ترتيبا فتقديم السّمع في اللَّفْظ يُناسب تقدمه في الوُجُود ثمَّ تتسع الأمعاء بعد ذَلِك ويصير لَها تجويف وترتبط المفاصل ويرتفع النَّفس إلى الفَم والأنف ويدخل الِاسْتِنْشاق في الفَم والأنف وينفتح البَطن والأمعاء ويخرج النَّفس إلى الفَم بدل السُّرَّة فَإذا تمّ ما ذكرنا حضر وقت خُرُوج الجَنِين ونزلت فضول من معدته وأمعائه إلى المثانة ويكون لَها طَرِيق من المعدة والأمعاء إلى المثانة وَمِنها إلى مجْرى البَوْل وإنَّما تنفتح هَذِه كلها ويتسع تجويفها بالاستنشاق وبِه ينْفَصل بَعْضها عَن بعض على قدر أشكالها وقالَ إذا اتَّسع البَطن وتبين تجويف الأمعاء صار فِيها طَرِيق إلى المثانة والإحليل اضطرارا قالَ والمني إذا تركب يجْتَمع كل شَيْء مِنهُ إلى صاحبه العِظام إلى العِظام والعصب إلى العصب وكَذَلِكَ جَمِيع الأعْضاء ثمَّ يركب الجَنِين ثمَّ قالَ إنّا قد رَأينا كثيرا من النِّساء قد فَسدتْ الأجنة فِيهِنَّ ثمَّ خرجت بعد ثَلاثِينَ يَوْمًا ثمَّ قالَ ألا ترى أنه إذا سقط الجَنِين بعد ثَلاثِينَ يَوْمًا رَأيْت مفاصله مركبة وقالَ يدْرك هَذا بِالنّظرِ إلى السقط لِأنَّهُ إذا سقط لَيْسَ يسْقط من حيلنا بل من قبل نَفسه ثمَّ قالَ إذا تركب الجَنِين وأتلفت مفاصله وكَبرت أعضاؤه وصلبت عِظامه وتحركت جذبت من البدن دَمًا دسما ويحتبس ذَلِك ويتحرك في رُؤُوس العِظام مثل تحرّك رُؤُوس الشّجر قالَ وكَذَلِكَ الجَنِين ويتقلب. * (فصل) وَقالَ في المقالة الثّانِيَة من كِتابه هَذا ثمَّ يتركب الجَنِين ويتم الذّكر إلى اثْنَيْنِ وثَلاثِينَ يَوْمًا والأنثى إلى اثْنَيْنِ وأرْبَعين يَوْمًا ورُبما زاد على هَذِه الأيّام قَلِيلا ورُبما نقص قَلِيلا وقالَ إن الجَنِين يتم ويتَصَوَّر إن كانَ ذكرا في اثْنَيْنِ وثَلاثِينَ يَوْمًا وإن كانَ أُنْثى فَفي اثْنَيْنِ وأرْبَعين يَوْمًا وقالَ إنّا نرى ذَلِك من نقاء المَرْأة لِأنَّها إن ولدت أُنْثى فَإنَّها تنفى في اثْنَيْنِ وأرْبَعين يَوْمًا وهو أكثر ما تحتبس المَرْأة إلى أن تنقى في اثْنَيْنِ وأرْبَعين يَوْمًا عند ولادَة الأُنْثى ورُبما كانَ في الفَرد وتنقى في خَمْسَة وثَلاثِينَ يَوْمًا فَإذا ولدت ذكرا فَإنَّها تنقى في اثْنَيْنِ ووثلاثين يَوْمًا إذا احْتبست كثيرا ورُبما بقيت في الفَرد في خَمْسَة وعشْرين يَوْمًا وَقالَ إن دم الطمث يخرج من حَيْثُ يخرج الجَنِين وكما أن الذّكر يتَصَوَّر في اثْنَيْنِ وثَلاثِينَ يَوْمًا كَذَلِك يكون نقاء أمه من بعد ولاده في اثْنَيْنِ وثَلاثِينَ يَوْمًا وتنقى المَرْأة إذا ولدت أُنْثى في اثْنَيْنِ وأرْبَعين يَوْمًا بِعَدَد الأيّام الَّتِي تركيبها فِيها ثمَّ قالَ انما يجْرِي الدَّم من النُّفَساء بعد ولادها أيّامًا كَثِيرَة لِأنَّها إذا حملت لم يحْتَج الجَنِين أول ما يخلق إلى غذاء كثير حَتّى يتم فَإذا تمّ لَهُ اثْنان وأرْبَعُونَ يَوْمًا اغتذى كَما يَنْبَغِي وما اجْتمع في الأيّام الأرْبَعين من الدَّم الَّذِي ينزل إلى الجَنِين بَقِي إلى ولاد المَرْأة فَإذا ولدت نزل أرْبَعِينَ يَوْمًا. قلت في هَذا الفَصْل حديثان صَحِيحانِ عَن رَسُول الله ﷺ نذكرهما ونَذْكُر تَصْدِيق أحدهما للْآخر، ثمَّ نتعقب كَلام بقراط ونبين ما فِيهِ بحول الله وقوته وتوفيقه وتعليمه وإرشاده. فَفِي الصَّحِيحَيْنِ من حَدِيث ابْن مَسْعُود قالَ حَدثنا رَسُول الله ﷺ وهو الصّادِق المصدوق "إن أحدكُم يجمع خلقه في بطن أمه أرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ يكون في ذَلِك علقَة مثل ذَلِك ثمَّ يكون في ذَلِك مُضْغَة مثل ذَلِك ثمَّ يُرْسل الله الملك فينفخ فِيهِ الرّوح ويُؤمر بِأرْبَع كَلِمات بكتب رزقه وأجله وعَمله وشقي أو سعيد فو الَّذِي لا إلَه غَيره إن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل الجنَّة حَتّى ما يكون بَينه وبَينها إلّا ذِراع فَيَسْبق عَلَيْهِ الكتاب فَيعْمل بِعَمَل أهل النّار فيدخلها، وإن أحدكُم ليعْمَل بِعَمَل أهل النّار حَتّى ما يكون بَينها وبَينه إلّا ذِراع فَيَسْبق عَلَيْهِ الكتاب فَيعْمل بِعَمَل أهل الجنَّة فيدخلها". وَفِي طَرِيق أُخْرى "إن خلق ابْن آدم يجمع في بطن أمه أرْبَعِينَ" وَفِي أُخْرى "أرْبَعِينَ لَيْلَة" وَقالَ البُخارِيّ "أرْبَعِينَ يَوْمًا وأرْبَعين لَيْلَة" وَفِي بعض طرقه "ثمَّ يبْعَث الله ملكا بِأرْبَع كَلِمات فَيكْتب عمله وأجله ورزقه وشقي أو سعيد ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح" ... الحَدِيث وَفِي صَحِيح مُسلم من حَدِيث حُذَيْفَة بن أسيد يبلغ بِهِ النَّبِي ﷺ قالَ "يدْخل الملك على النُّطْفَة بعد ما تَسْتَقِر في الرَّحِم بِأرْبَعِينَ أو خمس وأرْبَعين لَيْلَة فَيَقُول يا رب أشقي أو سعيد فيكتبان فَيَقُول إي رب أذكر أم أُنْثى فيكتبان ويكْتب عمله وأثره وأجله ورزقه ثمَّ تطوى الصُّحُف فَلا يزْداد فِيها ولا ينقص" وَقالَ الإمام أحْمد حَدثنِي سُفْيان عَن عَمْرو عَن أبي الطُّفَيْل عَن حُذَيْفَة ابْن أسيد الغِفارِيّ قالَ سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول يدْخل الملك على النُّطْفَة بعد ما تَسْتَقِر في الرَّحِم بِأرْبَعِينَ لَيْلَة فَيَقُول يا رب أشقي أم سعيد فَيَقُول الله عز وجل فيكتبان فَيَقُولانِ أذكر أم أُنْثى فَيَقُول الله عز وجل فيكتبان فَيكْتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه ثمَّ تطوى الصَّحِيفَة فَلا يزْداد على ما فِيها ولا ينقص. وَفِي صَحِيح مُسلم عَن عامر بن واثِلَة أنه سمع عبد الله بن مَسْعُود يَقُول "الشقي من شقي في بطن أمه، والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ" فَأتى رجلا من أصْحاب رَسُول الله يُقال لَهُ حُذَيْفَة بن أسيد الغِفارِيّ فحدثه بذلك من قَول ابْن مَسْعُود فَقالَ: وكَيف يشقى رجل بِغَيْر عمل فَقالَ لَهُ الرجل أتعجب من ذَلِك فَإنِّي سَمِعت رَسُول الله ﷺ يَقُول: "إذا مر بالنطفة ثِنْتانِ وأرْبَعُونَ لَيْلَة بعث الله إلَيْها ملكا فصورها وخلق سَمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها، ثمَّ قالَ يا رب أذكر أم أُنْثى فَيَقْضِي رَبك ما شاءَ ويكْتب الملك ثمَّ يَقُول يا رب أجله فَيَقْضِي رَبك ما شاءَ فَيكْتب الملك ثمَّ يَقُول يا رب رزقه فَيَقْضِي رَبك ما شاءَ ويكْتب الملك ثمَّ يخرج الملك بالصحيفة في يَده فَلا يزِيد على ما أمر ولا ينقص". وَفِي لفظ آخر سَمِعت رَسُول الله ﷺ بأذني هاتين يَقُول: "إن النُّطْفَة تقع في الرَّحِم أرْبَعِينَ لَيْلَة ثمَّ يتسور عَلَيْها الملك" قالَ زُهَيْر حسبته قالَ "الَّذِي يخلقها فَيَقُول يا رب أذكر أم أُنْثى فَيَجْعَلهُ الله ذكرا أو أُنْثى فَيَقُول يا رب أسوي أم غير سوي فَيَجْعَلهُ الله سويا أو غير سوي ثمَّ يَقُول يا رب ما رزقه وما أجله وما خلقه ثمَّ يَجعله الله شقيا أو سعيدا" وَفِي لفظ آخر "إن ملكا موكلا بالرحم إذا أرادَ الله عز وجل أن يخلق شَيْئا بِإذن الله لبضع وأرْبَعين لَيْلَة" ثمَّ ذكر الحَدِيث .. فاتفق حَدِيث ابْن مَسْعُود وحَدِيث حُذَيْفَة بن أسيد على حُدُوث شَأْن وحال النُّطْفَة بعد الأرْبَعين وحَدِيث حُذَيْفَة مُفَسّر صَرِيح بِأن ذَلِك يكْتب بعد الأرْبَعين قبل نفخ الرّوح كَما تقدم في رِوايَة البُخارِيّ. وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فأحد ألْفاظه مُوافق لحَدِيث حُذَيْفَة وإن كانَ ذَلِك التَّقْدِير والكِتابَة بعد الأرْبَعين قبل نفخ الرّوح فِيهِ كَما تقدم من رِوايَة البُخارِيّ ولَفظه "ثمَّ يبْعَث الله إلَيْهِ ملكا بِأرْبَع كَلِمات فَيكْتب عمله ورزقه وأجله وشقي أو سعيد ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح" فَهَذا صَرِيح أن الكِتابَة وسؤال الملك قبل نفخ الرّوح فِيهِ وهو مُوافق لحَدِيث حُذَيْفَة في ذَلِك وَأما لَفظه الآخر "فينفخ فِيهِ الرّوح ويُؤمر بِأرْبَع كَلِمات" فَلَيْسَ بِصَرِيح إذْ الكَلِمات المَأْمُور بها بعد نفخ الرّوح فَإن هَذِه الجُمْلَة معطوفة بِالواو. وَيجوز أن تكون معطوفة على الجُمْلَة الَّتِي تَلِيها. وَيجوز أن تكون معطوفة على جملَة الكَلام المُتَقَدّم أي يجمع خلقه في هَذِه الأطوار ويُؤمر الملك بكتب رزقه وأجله وعَمله ووسط بَين الجمل قَوْله "ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح" بَيانا لتأخر نفخ الرّوح عَن طور النُّطْفَة والعلقة والمضغة. وَتَأمل كَيفَ أتى بـ (ثمَّ) في فصل نفخ الرّوح وبالواو في قَوْله "وَيُؤمر بِأرْبَع كَلِمات" فاتفقت سائِر الأحادِيث بِحَمْد الله وَبَقِي أن يُقال فَحَدِيث حُذَيْفَة يدل على أن ابْتِداء التخليق عقيب الأرْبَعين الأولى وحَدِيث ابْن مَسْعُود يدل على أنه عقيب الأرْبَعين الثّالِثَة فكيف يجمع بَينهما؟ قيل أما حَدِيث حُذَيْفَة فصريح في كَون ذَلِك بعد الأرْبَعين. وَأما حَدِيث ابْن مَسْعُود فَلَيْسَ فِيهِ تعرض لوقت التَّصْوِير والتخليق، وإنَّما فِيهِ بَيان أطوار النُّطْفَة وتنقلها بعد كل أرْبَعِينَ وأنه بعد الأرْبَعين الثّالِثَة ينْفخ فِيهِ الرّوح. وَهَذا لم يتَعَرَّض لَهُ حَدِيث حُذَيْفَة بل اخْتصَّ بِهِ حَدثنا بن مَسْعُود، فاشترك الحديثان في حُدُوث أمر بعد الأرْبَعين الأولى واختص حَدِيث حُذَيْفَة بِأن ابْتِداء تصويرها وخلقها بعد الأرْبَعين الأولى واختص حَدِيث ابْن مَسْعُود بِأن نفخ الرّوح فِيهِ بعد الأرْبَعين الثّالِثَة واشترك الحديثان في اسْتِئْذان الملك ربه سُبْحانَهُ في تَقْدِير شَأْن المَوْلُود في خلال ذَلِك فتصادقت كَلِمات رَسُول الله ﷺ وصدق بَعْضها بَعْضًا. وَحَدِيث ابْن مَسْعُود فِيهِ أمْرانِ أمر النُّطْفَة وتنقلها وأمر كِتابَة الملك ما يقدر الله فِيها والنَّبِيّ ﷺ أخبر بالأمرين في الحَدِيث قالَ الإمام أحْمد حَدثنا هشيم أنبأنا عَليّ بن زيد قالَ سَمِعت أبا عتبَة بن عبد الله يحدث قالَ قالَ عبد الله بن مَسْعُود رَضِي الله عَنهُ قالَ رَسُول الله ﷺ "إنَّ النُّطْفَةَ تَكُونُ في الرَّحِمِ أرْبَعِينَ يَوْمًا عَلى حالِها لا تَتَغَيَّر فَإذا مَضَت لَهُ أرْبَعُونَ صارَت علقَة ثمَّ مُضْغَة كَذَلِك، ثمَّ عظاما كَذَلِك، فَإذا أرادَ أن يُسَوِّي خلقه بعث الله إليه الملك فَيَقُولُ المَلَكُ الَّذِي يَلِيهِ: أيْ رَبِّ، أذَكَرٌ أمْ أُنْثى؟ أشَقِيٌّ أمْ سَعِيدٌ؟ أقَصِيرٌ أمْ طَوِيلٌ؟ أناقِصٌ أمْ زائِدٌ؟ قُوتُهُ وأجَلُهُ؟ أصَحِيحٌ أمْ سَقِيمٌ؟ قالَ: فَيَكْتُبُ ذَلِكَ كُلَّهُ " فَهَذا الحَدِيث فِيهِ الشِّفاء وإن الحادِث بعد الأرْبَعين الثّالِثَة تَسْوِيَة الخلق عند نفخ الرّوح فِيهِ. وَلا ريب أنه عند نفخ الرّوح فِيهِ وتعلقها بِهِ يحدث لَهُ في خلقه أُمُور زائِدَة على التخليق الَّذِي كانَ بعد الأرْبَعين الأولى فالأول كانَ مبدأ التخليق وهَذا تسويته وكَمال ما قدر لَهُ كَما أنه سُبْحانَهُ خلق الأرْض قبل السَّماء ثمَّ خلق السَّماء ثمَّ سوى الأرْض بعد ذَلِك ومهدها وبسطها وأكمل خلقها فَذَلِك فعله في السكن وهَذا فعله في السّاكِن على أن التخليق والتصوير ينشأ في النُّطْفَة بعد الأرْبَعين على التدريج شَيْئا فَشَيْئًا كَما ينشأ النَّبات فَهَذا مشاهد في الحَيَوان والنبات كَما إذا تَأمَّلت حال الفروج في البَيْضَة فَإنَّما يَقع الإشْكال من عدم فهم كَلام الله تَعالى ورَسُوله ﷺ فالإشكال في أفهامنا لا في بَيان المَعْصُوم. والله المُسْتَعان، وقد أغْناك هَذا بِحَمْد الله عَن تكلّف الشّارِحين فَتَأمّله ووازن بَينه وبَين هَذا الجمع وبِاللَّهِ التَّوْفِيق. * (فصل) وَقد قالَ بقراط في كتاب الغذاء تَصْوِير الجَنِين يكون في خَمْسَة وثَلاثِينَ يَوْمًا وحركته في سبعين صباحا وكماله في مائَة وعشرَة أيّام ويتَصَوَّر أجنة أخر في خمسين صباحا ويتحركون التحرك الأول في مائَة صباح ويكملون في ثَلاثمِائَة ويتَصَوَّر أجنة أخر في أرْبَعِينَ صباحا ويتحركون في ثَمانِينَ صباحا ويولدون في مِائَتَيْنِ وأرْبَعين صباحا ويتَصَوَّر أجنة أخر في خَمْسَة وأرْبَعين صباحا ويتحركون في تسعين صباحا ويولدون في مِائَتَيْنِ وسبعين صباحا قالَ فَأما الولادَة فَتكون في الشَّهْر السّابِع والثّامِن والتّاسِع والعاشر. قلت الحَرَكَة حركتان حَرَكَة طبيعية غير إرادية فَهَذِهِ تكون قبل تعلق الرّوح بِهِ وأما الحَرَكَة الإرادية فَلا تكون إلّا بعد نفخ الرّوح ولِهَذا فرق بقراط بَين التحرك الأول والثّانِي. قلت الَّذِي دلّ عَلَيْهِ الوَحْي الصّادِق عَن خلاق البشر أن الخلق ينْتَقل في كل أرْبَعِينَ يَوْمًا إلى طور آخر فَيكون أولا نُطْفَة أرْبَعِينَ يَوْمًا ثمَّ علقَة كَذَلِك ثمَّ مُضْغَة كَذَلِك ثمَّ ينْفخ فِيهِ الرّوح بعد مائَة وعشْرين يَوْمًا. فَهَذا كَأنَّك تشاهده عيانًا وما خالفه فَلَيْسَ مَعَ المخبر بِهِ عيان، وغايَة ما مَعَه قِياس فاسد وتشريح لا يُحِيط علما بمبدإ ما شاهده مِنهُ أو تَقْلِيد لواحِد غير مَعْصُوم وكل ما جاءَ بِهِ مَشى خَلفه فِيهِ فيعتقد فِيهِ المعتقد أن هَذا أمر مُتَّفق عَلَيْهِ بَين الطبائعيين وأصله كُله واحِد أخطَأ فِيهِ ثمَّ قَلّدهُ من بعده والقَوْم لم يشاهدوا ما أخبروا بِهِ من ذَلِك. وَغايَة ما مَعَهم أنهم شرحوا الحاكين أحياء وأمواتا فوجدوا الجَنِين في الرَّحِم على الصّفة الَّتِي أخبروا بها ولَكِن لاعلم لَهُم بِما وراء ذَلِك من مبدإ الحمل وتغَير أحْوال النُّطْفَة فَإن ضيق مقلدهم الفَرْض وَقالَ نفرض أنهم اعتبروا بكرا من حَيْثُ وطِئت ثمَّ جعلُوا يعدون أيّامها إلى أن بلغت ما ذَكرُوهُ ثمَّ شرحوها فوجدوا الأمر على الصّفة الَّتِي أخبروا بها فَهَذا غايَة الكَذِب والبهت فَإن القَوْم لم يدعوا ذَلِك وكَيف يُمكنهُم دَعواهُم وهم يخبرون أن بعد ذَلِك بِكَذا وكَذا يَوْمًا يصير شَأْن الحمل كَذا وكَذا وإنَّما مَعَ القَوْم كليات وأقيسة ويَنْبَغِي أن يكون كَذا وكَذا والنظام الطبيعي يَقْتَضِي كَذا وكَذا. وَكثير مِنهُم يَأْخُذ ذَلِك من حركات القَمَر وزيادته ونقصانه ومن حركات الشَّمْس ومن التَّثْلِيث والتربيع والتسديس والمقابلة ورد عَلَيْهِم آخَرُونَ مِنهُم وأبطلوا ذَلِك عَلَيْهِم من وُجُوه وأحال بِهِ على الأخلق والأولى والأنسب وأحال بِهِ آخَرُونَ على أيّام البحارين وتغَير الطبيعة فِيها ورد بعض هَؤُلاءِ على بعض وأبطل قَوْله بِما تَرَكْناهُ مَخافَة التَّطْوِيل وَأصَح ما بِأيْدِيهِم التشريح والاستقراء التّام الَّذِي لا يخرم ونحن لا ننكر ذَلِك ولَكِن لَيْسَ فِيهِ ما يُخالف الوَحْي عَن خلاف الأجنة أبدا ومِمّا يدل على أن القَوْم لم يخبروا في ذَلِك عَن مُشاهدَة قَوْلهم إن الجَنِين الَّذِي يُولد في الشَّهْر السّابِع يصير ديديا في تِسْعَة أيّام ودمويا في ثَمانِيَة أيّام أخر ولحميا في تِسْعَة أيّام أخر ويقبل الصُّورَة في اثني عشر يَوْمًا أخر فَإذا اجْتمعت هَذِه الأيّام صارَت خَمْسَة وثَلاثِينَ يَوْمًا فجعلوه مُضْغَة في الأرْبَعين الأولى. وَهَذا كذب ظاهر قطعا، وإنَّما يصير لحميا بعد الثَّمانِينَ ومثل هَذا لا يدْرك إلّا بِوَحْي أو مُشاهدَة وكِلاهُما مَفْقُود عِنْدهم، وإنَّما بِأيْدِيهِم قِياس اعتبروا بِهِ أحْوال الأجنة من شهور ولادها فحكموا على كل جَنِين ولد في شهر من شهور الولادَة على أنه يَنْبَغِي أن يكون ديديا أي نُطْفَة كَذا وكَذا ودمويا أي علقَة كَذا وكَذا يَوْمًا ولحميا أي مُضْغَة كَذا وكَذا يَوْمًا ثمَّ أضعفوا ذَلِك العدَد وجعلوه وقت تحرّك الجَنِين. وكذبوا في ذَلِك على الخلاق العَلِيم في خلقه كَما كذبُوا عَلَيْهِ في صِفاته وأسمائه فَإن القَوْم لم يكن لَهُم نصيب من العلم الَّذِي جاءَت بِهِ الرُّسُل بل كانُوا كَما قالَ الله تَعالى ﴿فَلَمّا جاءَتْهُم رسلهم بِالبَيِّناتِ فرحوا بِما عِنْدهم من العلم﴾ وما غايَة مل يَنالهُ المُنكر المعرض عَمّا جاءَت بِهِ الرُّسُل وغايَة ما نالوا بِهِ علما بِأُمُور طبيعية فِيها الحق والباطِل وأُمُور رياضية كَثِيرَة التَّعَب قَليلَة الجدوى وأُمُور الهَيْئَة باطلها أضْعاف أضْعاف حَقّها فَأيْنَ العلم المتلقى من الوَحْي النّازِل إلى الظَّن المَأْخُوذ عَن الرَّأْي الزائل وأيْنَ العلم المَأْخُوذ عَن رَسُول الله ﷺ عَن جِبْرِيل عَن الله عز وجل إلى الظَّن المَأْخُوذ عَن رَأْي رجل لم يستنر قلبه بِنور الوَحْي طرفَة عين وإنَّما مَعَه حدسه وتخمينه ونسبه ما يُدْرِكهُ العُقَلاء قاطبة بعقولهم إلى ما جاءَت بِهِ الرُّسُل كنسبة سراج ضَعِيف إلى ضوء الشَّمْس ولا تجدو ولَو عمرت عمر نوح مَسْألَة واحِدَة أصلا اتّفق فِيها العُقَلاء كلهم على خلاف ما جاءَت بِهِ الرُّسُل في أمر من الأُمُور البَتَّةَ فالأنبياء لم تأت بِما يُخالف صَرِيح العقل البَتَّةَ وإنَّما جاءَت بِما لا يُدْرِكهُ العقل فَما جاءَت بِهِ الرُّسُل مَعَ العقل ثَلاثَة أقسام لا رابِع لَها البَتَّةَ قسم شهد بِهِ العقل والفطرة وقسم يشْهد بجملته ولا يهتدى لتفصيله وقسم لَيْسَ في العقل قُوَّة إدْراكه وأما القسم الرّابِع وهو ما يحيله العقل الصَّرِيح ويشْهد بِبُطْلانِهِ فالرسل بريئون مِنهُ وإن ظن كثير من الجُهّال المدعين للْعلم والمعرفة أن بعض ما جاءَت بِهِ الرُّسُل يكون من هَذا القسم فَهَذا إمّا لجهله بِما جاءَت بِهِ وإمّا لجهله بِحكم العقل أو لَهما. * (فصل) فِي ذكر أحْوال الجَنِين بعد تحريكه وانقلابه عند تَمام نصف السّنة يعرض للجنين في هَذا الوَقْت أن يهتك غشاؤه والحجب الَّتِي عَلَيْهِ وأن ينْتَقل عَن مَكانَهُ نَحْو فَم الرَّحِم فَإن كانَ الجَنِين قَوِيا وكانَت أغشيته الَّتِي تغشيه وسرته أضْعَف تمّ الولاد وإن كانَ الجَنِين ضَعِيفا وأغشيته وسرته أقوى فإمّا أن يهتكها بعض الهتك ولا يُولد فَيبقى مَرِيضا أرْبَعِينَ يَوْمًا إلى تَمام آخر الشَّهْر الثّامِن فَإن ولد في هَذِه الأرْبَعين يَوْمًا ماتَ ولم يُمكن تَرْبِيَته ولا بَقاؤُهُ وإن هو هتك أغشيته كل الهتك حَتّى يُمكن تلافي ذَلِك ولم يُولد ماتَ فَإن لم يسْقط والا قتل الحامِل بِهِ وإن تهتك أغشيته هتكا يُمكن تلافيه بَقِي ولم يمت ومكث في مَوْضِعه الَّذِي تحرّك نَحوه وانقلب إلَيْهِ عند فَم الفرج وإنَّما يعرض لَهُم المَرَض في هَذِه الأرْبَعين يَوْمًا إذا لم يولدوا بعد تحركهم لأنهم يَنْقَلِبُون عَن مكانهم الَّذِي نشؤوا فِيهِ وتتغير مواضعهم وانخلاع السُّرَّة بانتقاله ولِأن أمهاتهم يعرض لَهُنَّ أن يمرضن عند ذَلِك لتمدد الأغشية وانخلاع السُّرَّة المُتَّصِلَة بالرحم مِنهُنَّ ولِأن الجَنِين إذا انحل رباطه ثقل على أمه. * (فصل) وَإذا تكون الجَنِين وصوره الخالِق البارئ المصور خلق ورَأسه إلى فَوق ورجلاهُ إلى أسْفَل فعندما يَأْذَن الله بِخُرُوجِهِ يَنْقَلِب ويصير رَأسه إلى أسْفَل فيتقدم رَأسه سائِر بدنه هَذا بِاتِّفاق من الأطِبّاء والمشرحين وهَذا من تَمام العِنايَة الإلهية بالجنين وأمه لِأن رَأسه إذا خرج أولا كانَ خُرُوج سائِر بدنه أسهل من غير أن يحْتاج شَيْء مِنها إلى أن ينثني فَإن الجَنِين لَو خرجت رِجْلاهُ أولا لم يُؤمن أن ينشب في الرَّحِم عند يَدَيْهِ وإن خرجت رجله الواحِدَة لم يُؤمن أن يعلق وينشب في الرَّحِم عند إدْراكه وإن خرجت اليدان لم يُؤمن أن ينشب عند رَأسه إمّا أنه يلتوي إلى خلف، وإمّا لِأن السُّرَّة تلتوي إلى عُنُقه أو كتفه لِأن الجَنِين إذا انحدر فَصارَ إلى مَوضِع فِيهِ السُّرَّة ممتدة التوت هُناكَ على عُنُقه وكتفه فَيعرض من ذَلِك إمّا أن يجاذب السُّرَّة فتألم الأُم غايَة الألَم ثمَّ إن الجَنِين إمّا أن يَمُوت وإمّا أن يصعب خُرُوجه ويخرج وهو عليل متورم فاقتضت حِكْمَة أحكم الحاكِمين أن يَنْقَلِب في البَطن فَيخرج رَأسه أولا ثمَّ يتبع الرَّأْس باقِي البدن. * (فصل) فِي السَّبَب الَّذِي لأجله لا يعِيش الوَلَد إذا ولد لثمانية أشهر ويعيش إذا ولد لسبعة أشهر وتِسْعَة وعشرَة إذا أتم الجَنِين سَبْعَة أشهر عرض لَهُ حَرَكَة قَوِيَّة يتحركها بالطبع للانقلاب والخُرُوج فَإن كانَ الجَنِين قَوِيا من الأطْفال الَّذين لَهُم بالطبع قُوَّة شَدِيدَة في تركيبهم وجبلتهم حَتّى يقدر بحركته على أن يهتك ما يُحِيط بِهِ من الأغشية المحيطة بِهِ المُتَّصِلَة بالرحم حَتّى ينفذ ويخرج مِنها خرج في الشَّهْر السّابِع وهو قوي صَحِيح سليم لم تؤلمه الحَرَكَة ولم يمرضه الانقلاب وإن كانَ ضعيقا عَن ذَلِك فَهو إمّا أن يعطب بسب ما يَنالهُ من الضَّرَر والألم بالحركة للانقلاب فَيخرج مَيتا وإمّا أن يبْقى في البَطن فيمرض ويلبث في مَرضه نَحوا من أرْبَعِينَ يَوْمًا حَتّى يبرأ وينتعش ويقوى فَإذا ولد في حُدُود الشَّهْر الثّامِن ولد وهو مَرِيض لم يتَخَلَّص من ألمه فيعطب ولا يسلم ولا يتربى، وإن لبث في الرَّحِم حَتّى يجوز هَذِه الأرْبَعين يَوْمًا إلى الشَّهْر التّاسِع وقَوي وصَحَّ وانتعش وبعد عَهده بِالمرضِ كانَ حريا أن يسلم وأولاهم بِأن يسلم أطولهم بعد الانقلاب لبثا في الرَّحِم وهم المولودون في الشَّهْر العاشِر وأما من ولد بَين العاشِر والتّاسِع فحالهم في ذَلِك بِحَسب القرب والبعد. وَقالَ غَيره العلَّة في أنه لا يُمكن أن يعِيش المَوْلُود لثمانية أشهر أنه يتوالى عَلَيْهِ ضَرْبان من الضَّرَر أحدهما انقلابه في الشَّهْر السّابِع في جَوف الرَّحِم للولادة والثّانِي تغير الحال عَلَيْهِ بَين مَكانَهُ في الرَّحِم وبَين مَكانَهُ في الهَواء وإن كانَ قد يعرض ذَلِك التَّغْيِير لجَمِيع الأجنة لَكِن المَوْلُود لسبعة أشهر ينجو من الرَّحِم قبل أن يَنالهُ الضَّرَر الَّذِي من داخل بعقب الانقلاب والأمراض الَّتِي تعرض في جَوف الرَّحِم فالمولود لسبعة أشهر وعشرَة أشهر يلبث في الرَّحِم حَتّى يبرأ وينجو من تِلْكَ الأمْراض فَلَيْسَ يتوالى عَلَيْهِ الضرران مَعًا والمولود لثمانية أشهر يتوالى عَلَيْهِ الضرران مَعًا وكَذَلِكَ لا يُمكن أن يعِيش وجَمِيع الأجنة في الشَّهْر الثّامِن يعرض لَهُم المَرَض. ويدلك على ذَلِك أنَّك تَجِد جَمِيع الحَوامِل والحبالى في الشَّهْر الثّامِن أسْوَأ حالا وأثقل مِنهُنَّ في مُدَّة الشُّهُور الَّتِي قبل هَذا الشَّهْر وبعده وأحوال الأُمَّهات مُتَّصِلَة بأحوال الأجنة. * (فصل) وبكاء الطِّفْل ساعَة وِلادَته يدل على صِحَّته وقوته وشدته وإذا وضع الطِّفْل يَده أو إبهامه أو إصبعه على عُضْو من أعْضائِهِ فَهو دَلِيل على ألم ذَلِك العُضْو وكل الحَيَوان بالطبع يُشِير إلى ما يؤلمه من بدنه إمّا بِيَدِهِ أو بفمه أو بِرَأْسِهِ أو بِذَنبِهِ فَلَمّا كانَ الطِّفْل عادما للنطق أشارَ بِأُصْبُعِهِ أو يَده إلى مَوضِع ألمه كالحيوان البهيم. * (فصل) فِي أن الأطْفال وهم حمل في الرَّحِم أقوى مِنهُم بعد ولادهم وأصبر وأشد احْتِمالا لما يعرض لَهُم وكَذَلِكَ تكون العِنايَة بهم بعد ولادهم آكِد والحذر عَلَيْهِم أشد فَإن أغْصان الشَّجَرَة وفروعها ما دامَت لاصقة بِالشَّجَرَةِ ومتصلة بها لا تكاد الرِّياح العواصف تزعزعها ولا تقتلعها فَإذا فصلت عَنْها وغرست في مَواضِع أخر نالتها الآفة ووصلت إلَيْها بِأدْنى ريح تهب حَتّى تقتلعها وَكَذَلِكَ الجَنِين ما دامَ في الرَّحِم فَهو يقوى ويصبر على ما يعرض لَهُ ويناله من سوء التَّدْبِير والأذى على ما لا يصبر على اليَسِير مِنهُ بعد وِلادَته وانفصاله عَن الرَّحِم وكَذَلِكَ الثَّمَرَة على الشَّجَرَة أقوى مِنها وأثبت بعد قطعها مِنها وَلما كانَ مُفارقَة كل مُعْتاد ومألوف بالانتقال عَنهُ شَدِيدا على من رامه ولا سِيما إذا كانَ الِانْتِقال دفْعَة واحِدَة فالجنين عند مُفارقَته للرحم ينْتَقل عَمّا قد ألفه واعتاده في جَمِيع أحْواله دفْعَة واحِدَة وشدَّة ذَلِك الِانْتِقال عَلَيْهِ أكثر من شدَّة الِانْتِقال بالتدريج وَلذَلِك قالَ بقراط قد يعلم بِأهْوَن سعي وأيسره أن التَّدْبِير الرَّدِيء من المطعم والمشْرَب إذا كانَ يجْرِي مَعَ رداءته على أمر واحِد يشبه بعضه بَعْضًا دائِما فَهو أوثق وأحرز وأبْعد عَن الخطر في التماس الصِّحَّة للأبدان من أن ينْقل الرجل تَدْبيره دفْعَة واحِدَة إلى غذاء أفضل مِنهُ فالجنين ينْتَقل عَمّا ألفه واعتاده في غذائه وتنفسه ومداخله وما يكتنفه وهلة واحِدَة وَهَذِه أول شدَّة يلقاها في الدُّنْيا ثمَّ تتوافر عَلَيْها الشدائد حَتّى يكون آخرها الشدَّة العُظْمى الَّتِي لا شدَّة فَوْقها أو الرّاحَة العُظْمى الَّتِي لا تَعب دونها ولذَلِك لا يبكي عند وُرُود هَذِه الشدَّة عَلَيْهِ مَعَ ما يلقاه من وكز الشَّيْطان وطعنه في خاصرته. * (فصل) والجنين في الرَّحِم كانَ يغتذي بِما يلائمه وكانَ يجتذب بالطبع المِقْدار الَّذِي يلائمه من دم أمه وبعد خُرُوجه يجتذب من اللَّبن ما يلائمه أيْضا لكنه يجتذب بشهوته وإرادته فيزيد على مِقْدار ما يحْتاج إلَيْهِ مَعَ كَون اللَّبن يكون رديئا ومعلولا كَما يكون صَحِيحا وكَذَلِكَ يعرض لَهُ القَيْء والغثيان ويجتذب أخلاط بدنه وتعرض لَهُ الآلام والأوجاع والآفات الَّتِي لم تعرض لَهُ في البَطن وقد كانَ عَلَيْهِ من الأغشية والحجب ما يمْنَع وُصُول الأذى اليه فَلَمّا ولد هيئ لَهُ أغشية وحجب أخر لم يكن يألفها ويعتادها ورُبما صحى للْحرّ والبرد والهواء وكانَ يجتذبه من سرته وهو ألطف شَيْء معتدل صَحِيح قد يَصح قلب الأُم وعروقها الضوارب فَهو شَبيه بِما يجتذبه من هو داخل الحمام من الهَواء اللَّطِيف المعتدل ثمَّ يخرج مِنهُ وهلة واحِدَة عُريانا إلى الهَواء العاصف المؤذي. وَبِالجُمْلَةِ فقد انْتقل عَن مألوفه وما اعتاده وهلة واحِدَة إلى ما هو أشد عَلَيْهِ مِنهُ وأصعب وهَذا من تَمام حِكْمَة الخلاق العَلِيم ليمرن عَبده على مُفارقَة عوائده ومألوفاته إلى ما هو أفضل مِنها وأنفع وأوفق لَهُ وقد أشارَ تَعالى إلى هَذا بقوله ﴿لتركبن طبقًا عَن طبق﴾ [الانشقاق ١٩ أي حالا بعد حال فَأول أطباقه كَونه نُطْفَة ثمَّ علقَة ثمَّ مُضْغَة ثمَّ جَنِينا ثمَّ مولودا ثمَّ رضيعا ثمَّ فطميا ثمَّ صَحِيحا أو مَرِيضا غَنِيا أو فَقِيرا معافى أو مبتلى إلى جَمِيع أحْوال الإنْسان المُخْتَلفَة عَلَيْهِ إلى أن يَمُوت ثمَّ يبْعَث ثمَّ يُوقف بَين يَدي الله تَعالى ثمَّ يصير إلى الجنَّة أو النّار فالمَعْنى لتركبن حالا بعد حال ومنزلا بعد منزل وأمرا بعد أمر. قالَ سعيد بن جُبَير وابْن زيد "لتكونن في الآخِرَة بعد الأولى ولتصيرن أغْنِياء بعد الفقر وفقراء بعد الغنى" وَقالَ عَطاء: شدَّة بعد شدَّة والطبق والطبقة الحال، ولِهَذا يُقال كانَ فلان على طَبَقات شَتّى قالَ عَمْرو بن العاصِ لقد كنت على طَبَقات ثَلاث أي أحْوال ثَلاث قالَ ابْن الأعرابِي الطَّبَق الحال على اختلافها وقد ذكرنا بعض أطباق الجَنِين في البَطن من حِين كَونه نُطْفَة إلى وقت ولاده ثمَّ نذْكر أطباقه بعد وِلادَته إلى آخرها فَنَقُول الجَنِين في الرَّحِم بِمَنزِلَة الثَّمَرَة على الشَّجَرَة في اتصالها بمحلها اتِّصالًا قَوِيا فَإذا بلغت الغايَة لم يبْق إلّا انفصالها لثقلها وكمالها وانْقِطاع العُرُوق الممسكة لَها فَكَذا الجَنِين تنهك عَنهُ تِلْكَ الأغشية وتنفصل العُرُوق الَّتِي تمسكه بَين المشيمة والرحم وتصير تِلْكَ الرطوبات المزلفة فتعينه بإزلاقها وثقله وانتهاك الحجب وانفصال العُرُوق على الخُرُوج فينفتح الرَّحِم انفتاحا عَظِيما جدا ولا بُد من انْفِصال بعض المفاصل العَظِيمَة ثمَّ تلتئم في أسْرع زمان وقد اعْترف بذلك حذاق الأطباق والمشرحين وقالُوا لا يتم ذَلِك إلّا بعناية إلهية وتدبير يعجز عقول النّاس عَن إدْراك كيفيته ﴿فَتَبارَكَ الله أحسن الخالِقِينَ﴾ فَإذا انْفَصل الجَنِين بَكى ساعَة انْفِصاله لسَبَب طبيعي وهو مُفارقَة إلفه ومكانه الَّذِي كانَ فِيهِ وسبب مُنْفَصِل عَنهُ وهو طعن الشَّيْطان في خاصرته فَإذا انْفَصل وتمّ انْفِصاله مد يَده إلى فِيهِ فَإذا تمّ لَهُ أرْبَعُونَ يَوْمًا تَجِد لَهُ أمر آخر على نَحْو ما كانَ يَتَجَدَّد لَهُ وهو في الرَّحِم فيضحك عند الأرْبَعين وذَلِكَ أول ما يعقل نَفسه فَإذا تمّ لَهُ شَهْران رأى المنامات ثمَّ ينشأ مَعَه التَّمْيِيز والعقل على التدريج شَيْئا فَشَيْئًا إلى سنّ التَّمْيِيز ولَيْسَ لَهُ سنّ معِين بل من النّاس ما يُمَيّز لخمس كَما قالَ مَحْمُود بن الرّبيع عقلت من النَّبِي ﷺ مجة مجها في وجْهي من دلو في بئرهم وأنا ابْن خمس سِنِين. وَلذَلِك جعلت الخمس سِنِين حدا لحدة سَماع الصَّبِي. وَبَعْضهمْ يُمَيّز لأقل مِنها ويذكر أمورا جرت لَهُ وهو دون الخمس سِنِين. وَقد ذكرنا عَن إياس بن مُعاوِيَة أنه قالَ اذكر يَوْم ولدتني أُمِّي فَإنِّي خرجت من ظلمَة إلى ضوء ثمَّ صرت إلى ظلمَة فَسُئِلت أمه عَن ذَلِك فَقالَت صدق لما انْفَصل مني لم يكن عِنْدِي ما ألفه بِهِ فَوضعت عَلَيْهِ قَصْعَة. وَهَذا من أعجب الأشياء وأندرها فَإذا صار لَهُ سبع سِنِين دخل في سنّ التَّمْيِيز وأمر بِالصَّلاةِ كَما في المسند والسّنَن من حَدِيث عَمْرو بن شُعَيْب عَن أبِيه عَن جده قالَ قالَ رَسُول الله ﷺ "مروا أبناءكم بِالصَّلاةِ لسبع سِنِين وأضربوهم عَلَيْها لعشر سِنِين وفرقُوا بَينهم في المضاجِع"
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب