﴿قُلۡ إِنَّمَاۤ أَنَا۠ بَشَرࣱ مِّثۡلُكُمۡ یُوحَىٰۤ إِلَیَّ أَنَّمَاۤ إِلَـٰهُكُمۡ إِلَـٰهࣱ وَ ٰحِدࣱۖ فَمَن كَانَ یَرۡجُوا۟ لِقَاۤءَ رَبِّهِۦ فَلۡیَعۡمَلۡ عَمَلࣰا صَـٰلِحࣰا وَلَا یُشۡرِكۡ بِعِبَادَةِ رَبِّهِۦۤ أَحَدَۢا﴾ [الكهف ١١٠]
* [فَصْلٌ: أعْمالُ العِبادِ]
[أعْمالُ العِبادِ أرْبَعَةُ أنْواعٍ المَقْبُولُ مِنها نَوْعٌ واحِدٌ]
وَقَوْلُهُ: " فَإنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِن العِبادِ إلّا ما كانَ لَهُ خالِصًا "
والأعْمالُ أرْبَعَةٌ: واحِدٌ مَقْبُولٌ، وثَلاثَةٌ مَرْدُودَةٌ؛ فالمَقْبُولُ ما كانَ لِلَّهِ خالِصًا ولِلسُّنَّةِ مُوافِقًا، والمَرْدُودُ ما فُقِدَ مِنهُ الوَصْفانِ أوْ أحَدُهُما، وذَلِكَ أنَّ العَمَلَ المَقْبُولَ هو ما أحَبَّهُ اللَّهُ ورَضِيَهُ، وهو سُبْحانَهُ إنّما يُحِبُّ ما أمَرَ بِهِ وما عُمِلَ لِوَجْهِهِ، وما عَدا ذَلِكَ مِن الأعْمالِ فَإنَّهُ لا يُحِبُّها، بَلْ يَمْقُتُها ويَمْقُتُ أهْلَها، قالَ تَعالى:
﴿الَّذِي خَلَقَ المَوْتَ والحَياةَ لِيَبْلُوَكم أيُّكم أحْسَنُ عَمَلا﴾ [الملك: ٢].
قالَ الفُضَيْلُ بْنُ عِياضٍ: هو أخْلُصُ العَمَلِ وأصْوَبُهُ، فَسُئِلَ عَنْ مَعْنى ذَلِكَ، فَقالَ: إنّ العَمَلَ إذا كانَ خالِصًا ولَمْ يَكُنْ صَوابًا لَمْ يُقْبَلْ، وإذا كانَ صَوابًا ولَمْ يَكُنْ خالِصًا لَمْ يُقْبَلْ، حَتّى يَكُونَ خالِصًا صَوابًا فالخالِصُ أنْ يَكُونَ لِلَّهِ، والصَّوابُ أنْ يَكُونَ عَلى السُّنَّةِ، ثُمَّ قَرَأ قَوْلَهُ:
﴿فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
فَإنْ قِيلَ: فَقَدْ بانَ بِهَذا أنَّ العَمَلَ لِغَيْرِ اللَّهِ مَرْدُودٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، والعَمَلَ لِلَّهِ وحْدَهُ مَقْبُولٌ؛ فَبَقِيَ قِسْمٌ آخَرُ وهو أنْ يَعْمَلَ العَمَلَ لِلَّهِ ولِغَيْرِهِ، فَلا يَكُونُ لِلَّهِ مَحْضًا ولا لِلنّاسِ مَحْضًا، فَما حُكْمُ هَذا القِسْمِ؟
هَلْ يَبْطُلُ العَمَلُ كُلُّهُ أمْ يَبْطُلُ ما كانَ لِغَيْرِ اللَّهِ ويَصِحُّ ما كانَ لِلَّهِ؟
قِيلَ: هَذا القِسْمُ تَحْتَهُ أنْواعٌ ثَلاثَةٌ:
أحَدُها: أنْ يَكُونَ الباعِثُ الأوَّلُ عَلى العَمَلِ هو الإخْلاصُ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ الرِّياءُ وإرادَةُ غَيْرِ اللَّهِ في أثْنائِهِ، فَهَذا المُعَوَّلُ فِيهِ عَلى الباعِثِ الأوَّلِ ما لَمْ يَفْسَخْهُ بِإرادَةٍ جازِمَةٍ لِغَيْرِ اللَّهِ فَيَكُونُ حُكْمُهُ حُكْمَ قَطْعِ النِّيَّةِ في أثْناءِ العِبادَةِ وفَسْخِها، أعْنِي قَطْعَ تَرْكِ اسْتِصْحابِ حُكْمِها:
الثّانِي: عَكْسَ هَذا، وهو أنْ يَكُونَ الباعِثُ الأوَّلُ لِغَيْرِ اللَّهِ، ثُمَّ يَعْرِضُ لَهُ قَلْبَ النِّيَّةِ لِلَّهِ، فَهَذا لا يُحْتَسَبُ لَهُ بِما مَضى مِن العَمَلِ، ويُحْتَسَبُ لَهُ مِن حِينِ قَلْبِ نِيَّتِهِ؛ ثُمَّ إنْ كانَتْ العِبادَةُ لا يَصِحُّ آخِرُها إلّا بِصِحَّةِ أوَّلِها وجَبَتْ الإعادَةُ، كالصَّلاةِ، وإلّا لَمْ تَجِبْ كَمَن أحْرَمَ لِغَيْرِ اللَّهِ ثُمَّ قَلَبَ نِيَّتَهُ لِلَّهِ عِنْدَ الوُقُوفِ والطَّوافِ.
الثّالِثُ: أنْ يَبْتَدِئَها مُرِيدًا بِها اللَّهَ والنّاسَ، فَيُرِيدُ أداءَ فَرْضِهِ والجَزاءَ والشَّكُورَ مِن النّاسِ، وهَذا كَمَن يُصَلِّي بِالأُجْرَةِ، فَهو لَوْ لَمْ يَأْخُذْ الأُجْرَةَ صَلّى، ولَكِنَّهُ يُصَلِّي لِلَّهِ ولِلْأُجْرَةِ، وكَمَن يَحُجُّ لِيَسْقُطَ الفَرْضُ عَنْهُ ويُقالُ فُلانٌ حَجَّ، أوْ يُعْطِي الزَّكاةَ كَذَلِكَ؛ فَهَذا لا يُقْبَلُ مِنهُ العَمَلُ.
وَإنْ كانَتْ النِّيَّةُ شَرْطًا في سُقُوطِ الفَرْضِ وجَبَتْ عَلَيْهِ الإعادَةُ، فَإنَّ حَقِيقَةَ الإخْلاصِ الَّتِي هي شَرْطٌ في صِحَّةِ العَمَلِ والثَّوابِ عَلَيْهِ لَمْ تُوجَدْ، والحُكْمُ المُعَلَّقُ بِالشَّرْطِ عُدِمَ عِنْدَ عَدَمِهِ، فَإنَّ الإخْلاصَ هو تَجْرِيدُ القَصْدِ طاعَةً لِلْمَعْبُودِ، ولَمْ يُؤْمَرْ إلّا بِهَذا. وإذا كانَ هَذا هو المَأْمُورُ بِهِ فَلَمْ يَأْتِ بِهِ بَقِيَ في عُهْدَةِ الأمْرِ؛ وقَدْ دَلَّتْ السُّنَّةُ الصَّرِيحَةُ عَلى ذَلِكَ كَما في قَوْلِهِ ﷺ:
«يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ يَوْمَ القِيامَةِ: أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عَنْ الشِّرْكِ، فَمَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ فِيهِ غَيْرِي فَهو كُلُّهُ لِلَّذِي أشْرَكَ بِهِ» وهَذا هو مَعْنى قَوْله تَعالى:
﴿فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
* [فصل: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ رَجاءُ أرْبابِ القُلُوبِ]
قالَ: الدَّرَجَةُ الثّالِثَةُ: رَجاءُ أرْبابِ القُلُوبِ. وهو رَجاءُ لِقاءِ الخالِقِ الباعِثِ عَلى الِاشْتِياقِ، المُبَغِّضِ المُنَغِّصِ لِلْعَيْشِ، المُزَهِّدِ في الخَلْقِ.
هَذا الرَّجاءُ أفْضَلُ أنْواعِ الرَّجاءِ وأعْلاها، قالَ اللَّهُ تَعالى:
﴿فَمَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠]، وقالَ تَعالى:
﴿مَن كانَ يَرْجُو لِقاءَ اللَّهِ فَإنَّ أجَلَ اللَّهِ لَآتٍ﴾ [العنكبوت: ٥].
وَهَذا الرَّجاءُ هو مَحْضُ الإيمانِ وزُبْدَتُهُ، وإلَيْهِ شَخَصَتْ أبْصارُ المُشْتاقِينَ. ولِذَلِكَ سَلّاهُمُ اللَّهُ تَعالى بِإتْيانِ أجَلِ لِقائِهِ. وضَرَبَ لَهم أجَلًا يُسَكِّنُ نُفُوسَهم ويُطَمْئِنُها.
والِاشْتِياقُ هو سَفَرُ القَلْبِ في طَلَبِ مَحْبُوبِهِ.
واخْتَلَفَ المُحِبُّونَ: هَلْ يَبْقى عِنْدَ لِقاءِ المَحْبُوبِ أمْ يَزُولُ؟ عَلى قَوْلَيْنِ.
فَقالَتْ طائِفَةٌ: يَزُولُ؛ لِأنَّهُ إنَّما يَكُونُ مَعَ الغَيْبَةِ. وهو سَفَرُ القَلْبِ إلى المَحْبُوبِ. فَإذا انْتَهى السَّفَرُ، واجْتَمَعَ بِمَحْبُوبِهِ، وضَعَ عَصا الِاشْتِياقِ عَنْ عاتِقِهِ. وصارَ الِاشْتِياقُ أُنْسًا بِهِ ولَذَّةً بِقُرْبِهِ.
وَقالَتْ طائِفَةٌ: بَلْ يَزِيدُ ولا يَزُولُ بِاللِّقاءِ.
قالُوا: لِأنَّ الحُبَّ يَقْوى بِمُشاهَدَةِ جَمالِ المَحْبُوبِ أضْعافَ ما كانَ حالَ غَيْبَتِهِ. وإنَّما يُوارِي سُلْطانُهُ فَناءَهُ ودَهْشَتَهُ بِمُعايَنَةِ مَحْبُوبِهِ، حَتّى إذا تَوارى عَنْهُ ظَهَرَ سُلْطانُ شَوْقِهِ إلَيْهِ، ولِهَذا قِيلَ:
وَأعْظَمُ ما يَكُونُ الشَّوْقُ يَوْمًا ∗∗∗ إذا دَنَتِ الخِيامُ مِنَ الخِيامِ
وَقَدْ ذَكَرْنا هَذِهِ المَسْألَةَ مُسْتَقْصاةً وتَوابِعَها في كِتابِنا الكَبِيرِ في المَحَبَّةِ. وفي كِتابِ " سَفَرُ الهِجْرَتَيْنِ ". وسَنَعُودُ إلَيْها إذا انْتَهَيْنا إلى مَنزِلَتِها إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
وَقَوْلُهُ " المُنَغِّصُ لِلْعَيْشِ " فَلا رَيْبَ أنَّ عَيْشَ المُشْتاقِ مُنَغَّصٌ حَتّى يَلْقى مَحْبُوبَهُ. فَهُناكَ تَقَرُّ عَيْنُهُ. ويَزُولُ عَنْ عَيْشِهِ تَنْغِيصُهُ. وكَذَلِكَ يَزْهَدُ في الخَلْقِ غايَةَ التَّزْهِيدِ؛ لِأنَّ صاحِبَهُ طالِبٌ لِلْأُنْسِ بِاللَّهِ والقُرْبِ مِنهُ. فَهو أزْهَدُ شَيْءٍ في الخَلْقِ، إلّا مَن أعانَهُ عَلى هَذا المَطْلُوبِ مِنهم وأوْصَلَهُ إلَيْهِ. فَهو أحَبُّ خَلْقِ اللَّهِ إلَيْهِ. ولا يَأْنَسُ مِنَ الخَلْقِ بِغَيْرِهِ. ولا يَسْكُنُ إلى سِواهُ. فَعَلَيْكَ بِطَلَبِ هَذا الرَّفِيقِ جُهْدَكَ. فَإنْ لَمْ تَظْفَرْ بِهِ فاتَّخِذِ اللَّهَ صاحِبًا. ودَعِ النّاسَ كُلَّهم جانِبًا.
مُتْ بِداءِ الهَوى، وإلّا فَخاطِرْ ∗∗∗ واطْرُقِ الحَيَّ والعُيُونَ نَواظِرْ
لا تَخَفْ وحْشَةَ الطَّرِيقِ إذا جِئْ ∗∗∗ تَ وكُنْ في خِفارَةِ الحُبِّ سائِرْ
واصْبِرِ النَّفْسَ ساعَةً عَنْ سِواهم فَإذا لَمْ تُجَبْ لِصَبْرٍ فَصابِرْ ... وصُمِ اليَوْمَ واجْعَلِ الفِطْرَ يَوْمًا
فِيهِ تَلْقى الحَبِيبَ بِالبِشْرِ شاكِرْ ∗∗∗ وافْطُمِ النَّفْسَ عَنْ سِواهُ فَكُلُّ ال
عَيْشِ بَعْدَ الفِطامِ نَحْوَكَ صائِرْ ∗∗∗ وتَأمَّلْ سَرِيرَةَ القَلْبِ واسْتَحِ
يِ مِنَ اللَّهِ يَوْمَ تُبْلى السَّرائِرْ ∗∗∗ واجْعَلِ الهَمَّ واحِدًا يَكْفِكَ اللَّهُ
هُمُومًا شَتّى فَرَبُّكَ قادِرْ ∗∗∗ وانْتَظِرْ يَوْمَ دَعْوَةِ الخَلْقِ إلى اللَّهِ
رَبِّهِمْ مِن بُطُونِ المَقابِرْ ∗∗∗ واسْتَمِعْ ما الَّذِي بِهِ أنْتَ تُدْعى
بِهِ مِن صِفاتٍ تَلُوحُ وسْطَ المَحاضِرْ ∗∗∗ وسِماتٍ تَبْدُو عَلى أوْجُهِ الخَلْ
قِ عَيانًا تُجَلّى عَلى كُلِّ ناظِرْ ∗∗∗ يا أخا اللُّبِّ، إنَّما السَّيْرُ عَزْمٌ
ثُمَّ صَبْرٌ مُؤَيَّدٌ بِالبَصائِرْ ∗∗∗ يا لَها مِن ثَلاثَةٍ مَن يَنَلْها
يَرْقَ يَوْمَ المَزِيدِ فَوْقَ المَنابِرْ ∗∗∗ فاجْتَهِدْ في الَّذِي يُقالُ لَكَ ال
بُشْرى بِذا، يَوْمَ ضَرْبِ البَشائِرْ ∗∗∗ عَمَلٌ خالِصٌ بِمِيزانِ وحْيٍ
مَعَ سِرٍّ هُناكَ في القَلْبِ حاضِ
* [فَصْلٌ: الشِّرْكُ في العِبادَةِ]
وَأمّا الشِّرْكُ في العِبادَةِ فَهو أسْهَلُ مِن هَذا الشِّرْكِ، وأخَفُّ أمْرًا، فَإنَّهُ يَصْدُرُ مِمَّنْ يَعْتَقِدُ أنَّهُ لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، وأنَّهُ لا يَضُرُّ ولا يَنْفَعُ ولا يُعْطِي ولا يَمْنَعُ إلّا اللَّهُ، وأنَّهُ لا إلَهَ غَيْرُهُ، ولا رَبَّ سِواهُ، ولَكِنْ لا يَخُصُّ اللَّهَ في مُعامَلَتِهِ وعُبُودِيَّتِهِ، بَلْ يَعْمَلُ لِحَظِّ نَفْسِهِ تارَةً، ولِطَلَبِ الدُّنْيا تارَةً، ولِطَلَبِ الرِّفْعَةِ والمَنزِلَةِ والجاهِ عِنْدَ الخَلْقِ تارَةً، فَلِلَّهِ مِن عَمَلِهِ وسَعْيِهِ نَصِيبٌ، ولِنَفْسِهِ وحَظِّهِ وهَواهُ نَصِيبٌ، ولِلشَّيْطانِ نَصِيبٌ، ولِلْخَلْقِ نَصِيبٌ، وهَذا حالُ أكْثَرِ النّاسِ، وهو الشِّرْكُ الَّذِي قالَ فِيهِ النَّبِيُّ ﷺ فِيما رَواهُ ابْنُ حِبّانَ في صَحِيحِهِ:
«الشِّرْكُ في هَذِهِ الأُمَّةِ أخْفى مِن دَبِيبِ النَّمْلِ، قالُوا: كَيْفَ نَنْجُو مِنهُ يا رَسُولَ اللَّهِ؟ قالَ: قُلْ: اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ أنْ أُشْرِكَ بِكَ وأنا أعْلَمُ، وأسْتَغْفِرُكَ لِما لا أعْلَمُ».
فالرِّياءُ كُلُّهُ شِرْكٌ، قالَ تَعالى:
﴿قُلْ إنَّما أنا بَشَرٌ مِثْلُكم يُوحى إلَيَّ أنَّما إلَهُكم إلَهٌ واحِدٌ فَمَن كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحًا ولا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أحَدًا﴾ [الكهف: ١١٠].
أيْ: كَما أنَّهُ إلَهٌ واحِدٌ، ولا إلَهَ سِواهُ، فَكَذَلِكَ يَنْبَغِي أنْ تَكُونَ العِبادَةُ لَهُ وحْدَهُ، فَكَما تَفَرَّدَ بِالإلَهِيَّةِ يَجِبُ أنْ يُفْرَدَ بِالعُبُودِيَّةِ، فالعَمَلُ الصّالِحُ هو الخالِي مِنَ الرِّياءِ المُقَيَّدُ بِالسُّنَّةِ.
وَكانَ مِن دُعاءِ عُمَرَ بْنِ الخَطّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: اللَّهُمَّ اجْعَلْ عَمَلِي كُلَّهُ صالِحًا واجْعَلْهُ لِوَجْهِكَ خالِصًا، ولا تَجْعَلْ لِأحَدٍ فِيهِ شَيْئًا.
وَهَذا الشِّرْكُ في العِبادَةِ يُبْطِلُ ثَوابَ العَمَلِ، وقَدْ يُعاقَبُ عَلَيْهِ إذا كانَ العَمَلُ واجِبًا، فَإنَّهُ يُنْزِلُهُ مَنزِلَةَ مَن لَمْ يَعْمَلْهُ، فَيُعاقَبُ عَلى تَرْكِ الأمْرِ، فَإنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ إنَّما أمَرَ بِعِبادَتِهِ عِبادَةً خالِصَةً، قالَ تَعالى:
﴿وَما أُمِرُوا إلّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ﴾ [البينة: ٥].
فَمَن لَمْ يُخْلِصْ لِلَّهِ في عِبادَتِهِ لَمْ يَفْعَلْ ما أُمِرَ بِهِ، بَلِ الَّذِي أتى بِهِ شَيْءٌ غَيْرُ المَأْمُورِ بِهِ، فَلا يَصِحُّ ولا يُقْبَلُ مِنهُ، ويَقُولُ اللَّهُ: "
«أنا أغْنى الشُّرَكاءِ عَنِ الشِّرْكِ، فَمَن عَمِلَ عَمَلًا أشْرَكَ مَعِي فِيهِ غَيْرِي فَهو لِلَّذِي أشْرَكَ بِهِ، وأنا مِنهُ بَرِيءٌ» ".
أقْسامُ الشِّرْكِ
وَهَذا الشِّرْكُ يَنْقَسِمُ إلى مَغْفُورٍ وغَيْرِ مَغْفُورٍ، وأكْبَرَ وأصْغَرَ، والنَّوْعُ الأوَّلُ يَنْقَسِمُ إلى كَبِيرٍ وأكْبَرَ، ولَيْسَ شَيْءٌ مِنهُ مَغْفُورٌ، فَمِنهُ الشِّرْكُ بِاللَّهِ في المَحَبَّةِ والتَّعْظِيمِ: أنْ يُحِبَّ مَخْلُوقًا كَما يُحِبُّ اللَّهَ، فَهَذا مِنَ الشِّرْكِ الَّذِي لا يَغْفِرُهُ اللَّهُ، وهو الشِّرْكُ الَّذِي قالَ سُبْحانَهُ فِيهِ:
﴿وَمِنَ النّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أنْدادًا يُحِبُّونَهم كَحُبِّ اللَّهِ والَّذِينَ آمَنُوا أشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾ [البقرة: ١٦٥] وقالَ أصْحابُ هَذا الشِّرْكِ لِآلِهَتِهِمْ وقَدْ جَمَعَهُمُ الجَحِيمُ:
﴿تاللَّهِ إنْ كُنّا لَفي ضَلالٍ مُبِينٍ - إذْ نُسَوِّيكم بِرَبِّ العالَمِينَ﴾ [الشعراء: ٩٧-٩٨].
وَمَعْلُومٌ أنَّهم ما سَوَّوْهم بِهِ سُبْحانَهُ في الخَلْقِ، والرِّزْقِ، والإماتَةِ، والإحْياءِ، والمُلْكِ، والقُدْرَةِ، وإنَّما سَوَّوْهم بِهِ في الحُبِّ، والتَّألُّهِ، والخُضُوعِ لَهم والتَّذَلُّلِ، وهَذا غايَةُ الجَهْلِ والظُّلْمِ، فَكَيْفَ يُسَوى التُّرابُ بِرَبِّ الأرْبابِ، وكَيْفَ يُسَوى العَبِيدُ بِمالِكِ الرِّقابِ، وكَيْفَ يُسَوى الفَقِيرُ بِالذّاتِ الضَّعِيفُ بِالذّاتِ العاجِزُ بِالذّاتِ المُحْتاجُ بِالذّاتِ، الَّذِي لَيْسَ لَهُ مِن ذاتِهِ إلّا العَدَمُ، بِالغَنِيِّ بِالذّاتِ، القادِرِ بِالذّاتِ، الَّذِي غِناهُ، وقُدْرَتُهُ ومُلْكُهُ وجُودُهُ، وإحْسانُهُ، وعِلْمُهُ، ورَحْمَتُهُ، وكَمالُهُ المُطْلَقُ التّامُّ مِن لَوازِمِ ذاتِهِ؟
فَأيُّ ظُلْمٍ أقْبَحُ مِن هَذا؟ وأيُّ حُكْمٍ أشَدُّ جَوْرًا مِنهُ؟ حَيْثُ عَدَلَ مَن لا عِدْلَ لَهُ بِخَلْقِهِ، كَما قالَ تَعالى:
﴿الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ - ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام: ١].
فَعَدَلَ المُشْرِكُ مَن خَلَقَ السَّماواتِ والأرْضَ وجَعَلَ الظُّلُماتِ والنُّورَ، بِمَن لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ولا لِغَيْرِهِ مِثْقالَ ذَرَّةٍ في السَّماواتِ ولا في الأرْضِ، فَيا لَكَ مِن عَدْلٍ تَضَمَّنَ أكْبَرَ الظُّلْمِ وأقْبَحَهُ.
* [فَصْلٌ: حَقِيقَةُ الشِّرْكِ]
نَقُولُ: ومِنَ اللَّهِ وحْدَهُ نَسْتَمِدُّ الصَّوابَ:
حَقِيقَةُ الشِّرْكِ: هو التَّشَبُّهُ بِالخالِقِ وتَشْبِيهُ المَخْلُوقِ بِهِ، هَذا هو التَّشْبِيهُ في الحَقِيقَةِ، لا إثْباتُ صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي وصَفَ اللَّهُ بِها نَفْسَهُ، ووَصَفَهُ بِها رَسُولُهُ، ﷺ. فَعَكَسَ الأمْرَ مَن نَكَسَ اللَّهُ قَلَبَهُ وأعْمى بَصِيرَتَهُ وأرْكَسَهُ بِكَسْبِهِ، وجَعَلَ التَّوْحِيدَ تَشْبِيهًا والتَّشْبِيهَ تَعْظِيمًا وطاعَةً، فالمُشْرِكُ مُشَبِّهٌ لِلْمَخْلُوقِ بِالخالِقِ في خَصائِصِ الإلَهِيَّةِ.
فَإنَّ مِن خَصائِصِ الإلَهِيَّةِ التَّفَرُّدَ بِمِلْكِ الضُّرِّ والنَّفْعِ والعَطاءِ والمَنعِ، وذَلِكَ يُوجِبُ تَعْلِيقَ الدُّعاءِ والخَوْفِ والرَّجاءِ والتَّوَكُّلِ بِهِ وحْدَهُ، فَمَن عَلَّقَ ذَلِكَ بِمَخْلُوقٍ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِالخالِقِ وجَعَلَ مَن لا يَمْلِكُ لِنَفْسِهِ ضَرًّا ولا نَفْعًا، ولا مَوْتًا ولا حَياةً ولا نُشُورًا، فَضْلًا عَنْ غَيْرِهِ - شَبِيهًا بِمَن لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ، فَأزِمَّةُ الأُمُورِ كُلِّها بِيَدَيْهِ، ومَرْجِعُها إلَيْهِ، فَما شاءَ كانَ وما لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، لا مانِعَ لِما أعْطى، ولا مُعْطِيَ لِما مَنَعَ، بَلْ إذا فَتَحَ لِعَبْدِهِ بابَ رَحْمَتِهِ لَمْ يُمْسِكْها أحَدٌ، وإنْ أمْسَكَها عَنْهُ لَمْ يُرْسِلْها إلَيْهِ أحَدٌ.
فَمِن أقْبَحِ التَّشْبِيهِ: تَشْبِيهُ هَذا العاجِزِ الفَقِيرِ بِالذّاتِ بِالقادِرِ الغَنِيِّ بِالذّاتِ.
وَمِن خَصائِصِ الإلَهِيَّةِ: الكَمالُ المُطْلَقُ مِن جَمِيعِ الوُجُوهِ الَّذِي لا نَقْصَ فِيهِ بِوَجْهٍ مِنَ الوُجُوهِ، وذَلِكَ يُوجِبُ أنْ تَكُونَ العِبادَةُ كُلُّها لَهُ وحْدَهُ، والتَّعْظِيمُ والإجْلالُ والخَشْيَةُ والدُّعاءُ والرَّجاءُ والإنابَةُ والتَّوْبَةُ والتَّوَكُّلُ والِاسْتِعانَةُ، وغايَةُ الذُّلِّ مَعَ غايَةِ الحُبِّ - كُلُّ ذَلِكَ يَجِبُ عَقْلًا وشَرْعًا وفِطْرَةً أنْ يَكُونَ لَهُ وحْدَهُ، ويَمْتَنِعُ عَقْلًا وشَرْعًا وفِطْرَةً أنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ، فَمَن جَعَلَ شَيْئًا مِن ذَلِكَ لِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَ ذَلِكَ الغَيْرَ بِمَن لا شَبِيهَ لَهُ ولا مَثِيلَ ولا نِدَّ لَهُ، وذَلِكَ أقْبَحُ التَّشْبِيهِ وأبْطَلُهُ، ولِشِدَّةِ قُبْحِهِ وتَضَمُّنِهِ غايَةَ الظُّلْمِ أخْبَرَ سُبْحانَهُ عِبادَهُ أنَّهُ لا يَغْفِرُهُ، مَعَ أنَّهُ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ.
وَمِن خَصائِصِ الإلَهِيَّةِ: العُبُودِيَّةُ الَّتِي قامَتْ عَلى ساقَيْنِ لا قِوامَ لَها بِدُونِهِما: غايَةِ الحُبِّ، مَعَ غايَةِ الذُّلِّ. هَذا تَمامُ العُبُودِيَّةِ، وتَفاوُتُ مَنازِلِ الخَلْقِ فِيها بِحَسَبِ تَفاوُتِهِمْ في هَذَيْنِ الأصْلَيْنِ.
فَمَن أعْطى حُبَّهُ وذُلَّهُ وخُضُوعَهُ لِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ في خالِصِ حَقِّهِ، وهَذا مِنَ المُحالِ أنْ تَجِيءَ بِهِ شَرِيعَةٌ مِنَ الشَّرائِعِ، وقُبْحُهُ مُسْتَقِرٌّ في كُلِّ فِطْرَةٍ وعَقْلٍ، ولَكِنْ غَيَّرَتِ الشَّياطِينُ فِطَرَ الخَلْقِ وعُقُولَهم وأفْسَدَتْها عَلَيْهِمْ، واجْتالَتْهم عَنْها، ومَضى عَلى الفِطْرَةِ الأُولى مَن سَبَقَتْ لَهُ مِنَ اللَّهِ الحُسْنى، فَأرْسَلَ إلَيْهِمْ رُسُلَهُ، وأنْزَلَ عَلَيْهِمْ كُتُبَهُ بِما يُوافِقُ فِطَرَهم وعُقُولَهُمْ، فازْدادُوا بِذَلِكَ نُورًا عَلى نُورٍ،
﴿يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشاءُ﴾ [النور: ٣٥].
إذا عُرِفَ هَذا فَمِن خَصائِصِ الإلَهِيَّةِ السُّجُودُ، فَمَن سَجَدَ لِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَ المَخْلُوقَ بِهِ.
وَمِنها: التَّوَكُّلُ، فَمَن تَوَكَّلَ عَلى غَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ.
وَمِنها: التَّوْبَةُ، فَمَن تابَ لِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ.
وَمِنها: الحَلِفُ بِاسْمِهِ تَعْظِيمًا وإجْلالًا لَهُ، فَمَن حَلَفَ بِغَيْرِهِ فَقَدْ شَبَّهَهُ بِهِ، هَذا في جانِبِ التَّشْبِيهِ.
وَأمّا في جانِبِ التَّشَبُّهِ بِهِ: فَمَن تَعاظَمَ وتَكَبَّرَ ودَعا النّاسَ إلى إطْرائِهِ في المَدْحِ والتَّعْظِيمِ والخُضُوعِ والرَّجاءِ، وتَعْلِيقِ القَلْبِ بِهِ خَوْفًا ورَجاءً والتِجاءً واسْتِعانَةً، فَقَدْ تَشَبَّهَ بِاللَّهِ ونازَعَهُ في رُبُوبِيَّتِهِ وإلَهِيَّتِهِ، وهو حَقِيقٌ بِأنْ يُهِينَهُ غايَةَ الهَوانِ، ويُذِلَّهُ غايَةَ الذُّلِّ، ويَجْعَلَهُ تَحْتَ أقْدامِ خَلْقِهِ.
وَفِي الصَّحِيحِ عَنْهُ ﷺ قالَ:
«يَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: " العَظَمَةُ إزارِي، والكِبْرِياءُ رِدائِي، فَمَن نازَعَنِي واحِدًا مِنهُما عَذَّبْتُهُ "».
وَإذا كانَ المُصَوِّرُ الَّذِي يَصْنَعُ الصُّورَةَ بِيَدِهِ مِن أشَدِّ النّاسِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ لِتَشَبُّهِهِ بِاللَّهِ في مُجَرَّدِ الصُّورَةِ، فَما الظَّنُّ بِالتَّشَبُّهِ بِاللَّهِ في الرُّبُوبِيَّةِ والإلَهِيَّةِ؟
كَما قالَ النَّبِيُّ ﷺ:
«أشَدُّ النّاسِ عَذابًا يَوْمَ القِيامَةِ المُصَوِّرُونَ، يُقالُ لَهم أحْيُوا ما خَلَقْتُمْ».
وَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْهُ ﷺ أنَّهُ قالَ:
«قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ: ومَن أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ خَلْقًا كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، فَلْيَخْلُقُوا شَعِيرَةً»، فَنَبَّهَ بِالذَّرَّةِ والشَّعِيرَةِ عَلى ما هو أعْظَمُ مِنها وأكْبَرُ.
والمَقْصُودُ: أنَّ هَذا حالُ مَن تَشَبَّهَ بِهِ في صَنْعَةِ صُورَةٍ، فَكَيْفَ حالُ مَن تَشَبَّهَ بِهِ في خَواصِّ رُبُوبِيَّتِهِ وإلَهِيَّتِهِ؟ وكَذَلِكَ مَن تَشَبَّهَ بِهِ في الِاسْمِ الَّذِي لا يَنْبَغِي إلّا لِلَّهِ وحْدَهُ، كَمَلِكِ المُلُوكِ، وحاكِمِ الحُكّامِ، ونَحْوِهِ.
وَقَدْ ثَبَتَ في الصَّحِيحِ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّهُ قالَ:
«إنَّ أخْنَعَ الأسْماءِ عِنْدَ اللَّهِ رَجُلٌ يُسَمّى
بِشاهانْ شاهْ - أيْ مَلِكِ المُلُوكِ - لا مَلِكَ إلّا اللَّهُ» وفي لَفْظٍ:
«أغِيظُ رَجُلٍ عَلى اللَّهِ رَجُلٌ يُسَمّى بِمَلِكِ الأمْلاكِ».
فَهَذا مَقْتُ اللَّهِ وغَضَبُهُ عَلى مَن تَشَبَّهَ بِهِ في الِاسْمِ الَّذِي لا يَنْبَغِي إلّا لَهُ، فَهو سُبْحانَهُ مَلِكُ المُلُوكِ وحْدَهُ، وهو حاكِمُ الحُكّامِ وحْدَهُ، فَهو الَّذِي يَحْكُمُ عَلى الحُكّامِ كُلِّهِمْ، ويَقْضِي عَلَيْهِمْ كُلِّهِمْ، لا غَيْرُهُ.