﴿إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا یَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَـٰمُ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ وَظَنَّ أَهۡلُهَاۤ أَنَّهُمۡ قَـٰدِرُونَ عَلَیۡهَاۤ أَتَىٰهَاۤ أَمۡرُنَا لَیۡلًا أَوۡ نَهَارࣰا فَجَعَلۡنَـٰهَا حَصِیدࣰا كَأَن لَّمۡ تَغۡنَ بِٱلۡأَمۡسِۚ كَذَ ٰلِكَ نُفَصِّلُ ٱلۡـَٔایَـٰتِ لِقَوۡمࣲ یَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس ٢٤]
شَبَّهَ سُبْحانَهُ الحَياةَ الدُّنْيا في أنَّها تَتَزَيَّنُ في عَيْنِ النّاظِرِ فَتَرُوقُهُ بِزِينَتِها وتُعْجِبُهُ فَيَمِيلُ إلَيْها ويَهْواها اغْتِرارًا مِنهُ بِها، حَتّى إذا ظَنَّ أنَّهُ مالِكٌ لَها قادِرٌ عَلَيْها سُلِبَها بَغْتَةً أحْوَجَ ما كانَ إلَيْها، وحِيلَ بَيْنَهُ وبَيْنَها، فَشَبَّهَها بِالأرْضِ الَّتِي يَنْزِلُ الغَيْثُ عَلَيْها فَتُعْشِبُ ويَحْسُنُ نَباتُها ويَرُوقُ مَنظَرُها لِلنّاظِرِ، فَيَغْتَرَّ بِهِ، ويَظُنَّ أنَّهُ قادِرٌ عَلَيْها، مالِكٌ لَها، فَيَأْتِيها أمْرُ اللَّهِ فَتُدْرِكُ نَباتَها الآفَةُ بَغْتَةً، فَتُصْبِحُ كَأنْ لَمْ تَكُنْ قَبْلُ، فَيَخِيبُ ظَنُّهُ، وتُصْبِحُ يَداهُ صِفْرًا مِنها: فَكَذا حالُ الدُّنْيا والواثِقُ بِها سَواءٌ؛ وهَذا مِن أبْلَغِ التَّشْبِيهِ والقِياسِ.
* (فائدة)
والمقصود أن الترتيب هنا ترتيب التفصيل على الجمل وهو ترتيب علمي لا خارجي فإن الذهن يشعر بالشيء جملة أولا ثم بطلب تفصيله بعد ذلك، وأما في الخارج فلم يقع إلا مفصلا فتأمل هذا الموضع الذي خفي على كثير من الناس حتى ظن أن الترتيب في الآية كترتيب الإخبار أي إنا أخبرناكم بهذا قبل هذا.
* (فصل)
وَقَدْ قَسَّمَ بَعْضُهُمُ الصُّوفِيَّةَ أرْبَعَةَ أقْسامٍ: أصْحابُ السَّوابِقِ، وأصْحابُ العَواقِبِ، وأصْحابُ الوَقْتِ، وأصْحابُ الحَقِّ. قالَ:
فَأمّا أصْحابُ السَّوابِقِ: فَقُلُوبُهم أبَدًا فِيما سَبَقَ لَهم مِنَ اللَّهِ. لِعِلْمِهِمْ أنَّ الحُكْمَ الأزَلِيَّ لا يَتَغَيَّرُ بِاكْتِسابِ العَبْدِ.
وَيَقُولُونَ: مَن أقْصَتْهُ السَّوابِقُ لَمْ تُدْنِهِ الوَسائِلُ. فَفِكْرُهم في هَذا أبَدًا. ومَعَ ذَلِكَ: فَهم يَجِدُّونَ في القِيامِ بِالأوامِرِ، واجْتِنابِ النَّواهِي، والتَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ بِأنْواعِ القُرَبِ، غَيْرَ واثِقِينَ بِها، ولا مُلْتَفِتِينَ إلَيْها، ويَقُولُ قائِلُهُمْ:
مِن أيْنَ أُرْضِيكَ إلّا أنْ تُوَفِّقَنِي ∗∗∗ هَيْهاتَ هَيْهاتَ ما التَّوْفِيقُ مِن قِبَلِي
إنْ لَمْ يَكُنْ لِي في المَقْدُورِ سابِقَةٌ ∗∗∗ فَلَيْسَ يَنْفَعُ ما قَدَّمْتُ مِن عَمَلِي.
وَأمّا أصْحابُ العَواقِبِ: فَهم مُتَفَكِّرُونَ فِيما يُخْتَمُ بِهِ أمْرُهم.
فَإنَّ الأُمُورَ بِأواخِرِها. والأعْمالَ بِخَواتِيمِها، والعاقِبَةَ مَسْتُورَةٌ. كَما قِيلَ:
لا يَغُرَّنَّكَ صَفا الأوْقاتِ ∗∗∗ فَإنَّ تَحْتَها غَوامِضَ الآفاتِ
فَكَمْ مِن رَبِيعٍ نَوَّرَتْ أشْجارُهُ، وتَفَتَّحَتْ أزْهارُهُ، وزَهَتْ ثِمارُهُ، لَمْ يَلْبَثْ أنْ أصابَتْهُ جائِحَةٌ سَماوِيَّةٌ. فَصارَ كَما قالَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ
﴿حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أهْلُها أنَّهم قادِرُونَ عَلَيْها﴾ [يونس: ٢٤]- إلى قَوْلِهِ -
﴿يَتَفَكَّرُونَ﴾ [يونس: ٢٤].
فَكَمْ مِن مُرِيدٍ كَبا بِهِ جَوادُ عَزْمِهِ ∗∗∗ فَخَرَّ صَرِيعًا لِلْيَدَيْنِ ولِلْفَمِ
وَقِيلَ لِبَعْضِهِمْ - وقَدْ شُوهِدَ مِنهُ خِلافُ ما كانَ يُعْهَدُ عَلَيْهِ -: ما الَّذِي أصابَكَ؟ فَقالَ: حِجابٌ وقَعَ، وأنْشَدَ:
أحْسَنْتَ ظَنَّكَ بِالأيّامِ إذْ حَسُنَتْ ∗∗∗ ولَمْ تَخَفْ سُوءَ ما يَأْتِي بِهِ القَدَرُ
وَسالَمَتْكَ اللَّيالِي فاغْتَرَرْتَ بِها ∗∗∗ وعِنْدَ صَفْوِ اللَّيالِي يَحْدُثُ الكَدَرُ
لَيْسَ العَجَبُ مِمَّنْ هَلَكَ كَيْفَ هَلَكَ؟ إنَّما العَجَبُ مِمَّنْ نَجا كَيْفَ نَجا؟
تَعْجَبِينَ مِن سَقَمِي ∗∗∗ صِحَّتِي هي العَجَبُ
النّاكِصُونَ عَلى أعْقابِهِمْ أضْعافُ أضْعافِ مَنِ اقْتَحَمَ العَقَبَةَ:
خُذْ مِنَ الألْفِ واحِدًا ∗∗∗ واطَّرِحِ الكُلَّ مِن بَعْدِهِ.
وَأمّا أصْحابُ الوَقْتِ: فَلَمْ يَشْتَغِلُوا بِالسَّوابِقِ، ولا بِالعَواقِبِ. بَلِ اشْتَغَلُوا بِمُراعاةِ الوَقْتِ، وما يَلْزَمُهم مِن أحْكامِهِ. وقالُوا: العارِفُ ابْنُ وقْتِهِ. لا ماضِيَ لَهُ ولا مُسْتَقْبَلَ.
وَرَأى بَعْضُهُمُ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - في مَنامِهِ. فَقالَ لَهُ: أوْصِنِي. فَقالَ لَهُ: كُنِ ابْنَ وقْتِكَ.
وَأمّا أصْحابُ الحَقِّ: فَهم مَعَ صاحِبِ الوَقْتِ والزَّمانِ، ومالِكِهِما ومُدَبِّرِهِما. مَأْخُوذُونَ بِشُهُودِهِ عَنْ مُشاهَدَةِ الأوْقاتِ. لا يَتَفَرَّغُونَ لِمُراعاةِ وقْتٍ ولا زَمانٍ. كَما قِيلَ:
لَسْتُ أدْرِي أطالَ لَيْلِي أمْ لا ∗∗∗ كَيْفَ يَدْرِي بِذاكَ مَن يَتَقَلّى
لَوْ تَفَرَّغْتُ لِاسْتِطالَةِ لَيْلِي ∗∗∗ ولِرَعْيِ النُّجُومِ كُنْتُ مُخَلّى
إنَّ لِلْعاشِقِينَ عَنْ قِصَرِ اللَّيْـ ∗∗∗ لِ، وعَنْ طُولِهِ مِنَ العِشْقِ شُغْلا
قالَ الجُنَيْدُ: دَخَلْتُ عَلى السَّرِيِّ يَوْمًا. فَقُلْتُ لَهُ: كَيْفَ أصْبَحْتَ؟ فَأنْشَأ يَقُولُ:
ما في النَّهارِ ولا في اللَّيْلِ لِي فَرَجٌ ∗∗∗ فَلا أُبالِي أطالَ اللَّيْلُ أمْ قَصُرا
ثُمَّ قالَ: لَيْسَ عِنْدَ رَبِّكم لَيْلٌ ولا نَهارٌ.
يُشِيرُ إلى أنَّهُ غَيْرُ مُتَطَلِّعٍ إلى الأوْقاتِ. بَلْ هو مَعَ الَّذِي قَدَّرَ اللَّيْلَ والنَّهارِ.
* (فصل)
وأما (حتى) فموضوعة للدلالة على أن ما بعدها غاية لما قبلها وغاية كل شيء حده لذلك كان لفظها كلفظ الحد فإنها حاء قبل تاءين كما أن الحد جاء قبل دالين والدال كالتاء في المخرج والصفة إلا في الجهر فكانت لجهرها أولى بالاسم لقوته والتاء لهمسها أولى بالحرف لضعفه ومن حيث كانت حتى للغاية خفضوا بها كما يخفضون بـ (إلى) التي للغاية والفرق بينهما: أن حتى غاية لما قبلها وهو منه وما بعد إلى ليس مما قبلها بل عنده انتهى ما قبل الحرف ولذلك فارقتها في أكثر أحكامها ولم تكن إلى عاطفة لانقطاع ما بعدها عما قبلها بخلاف حتى، ومن ثم دخلت حتى في حروف العطف، ولم يجز دخولها على المضمر المخفوض إذ كانت خافضة لا تقول قام القوم حتاك كما لا تقول قاموا وك ومن حيث كان ما بعدها غاية لما قبلها لم يجز في العطف قام زيد حتى عمرو ولا أكلت خبزا حتى تمرا، لأن الثاني ليس بحد للأول ولا ظرف.
(تنبيه)
ليس المراد من كون حتى لانتهاء الغاية وأن ما بعدها ظرفا أن يكون متأخرا في الفعل عما قبلها فإذا قلت مات الناس حتى الأنبياء وقدم الحجاج حتى المشاة لم يلزم تأخر موت الأنبياء عن الناس وتأخر قدوم المشاة عن الحجاج ولهذا قال بعض الناس: إن حتى مثل الواو لا تخالفها إلا في شيئين أحدهما أن يكون المعطوف من قبيل المعطوف عليه فلا تقول قدم الناس حتى الخيل بخلاف الواو.
الثاني أن تخالفه بقوة أو ضعف أو كثرة أو قلة.
وأما أن يفهم منها الغاية والحد فلا والذي حمله على ذلك ما تقدم من المثالين ولكن فاته أن يعلم المراد بكون ما بعدها غاية وظرفا فاعلم أن المراد به أن يكون غاية في المعطوف عليه لا في الفعل فإنه يجب أن يخالفه في الأشد والأضعف والقلة والكثرة وإذا فهمت هذا فالأنبياء غاية للناس في الشرف والفضل والمشاة غاية للحجاج في الضعف والعجز وأنت إذا قلت: أكلت السمكة حتى رأسها فالرأس غاية لانتهاء السمكة وليس المراد أن غاية أكلك كان الرأس بل يجوز أن يتقدم أكلك للرأس وهذا مما أغفله كثير من النحويين لم ينبهوا عليه.