الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ والأنْعامُ حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ وظَنَّ أهْلُها أنَّهم قادِرُونَ عَلَيْها أتاها أمْرُنا لَيْلًا أوْ نَهارًا فَجَعَلْناها حَصِيدًا كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا قالَ: ﴿ياأيُّها النّاسُ إنَّما بَغْيُكم عَلى أنْفُسِكم مَتاعَ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ أتْبَعَهُ بِهَذا المَثَلِ العَجِيبِ الَّذِي ضَرَبَهُ لِمَن يَبْغِي في الأرْضِ ويَغْتَرُّ بِالدُّنْيا، ويَشْتَدُّ تَمَسُّكُهُ بِها، ويَقْوى إعْراضُهُ عَنْ أمْرِ الآخِرَةِ والتَّأهُّبِ لَها، فَقالَ: ﴿إنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ﴾ وهَذا الكَلامُ يَحْتَمِلُ وجْهَيْنِ، أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ المَعْنى فاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الأرْضِ بِسَبَبِ هَذا الماءِ النّازِلِ مِنَ السَّماءِ، وذَلِكَ لِأنَّهُ إذا نَزَلَ المَطَرُ يَنْبُتُ بِسَبَبِهِ أنْواعٌ كَثِيرَةٌ مِنَ النَّباتِ، وتَكُونُ تِلْكَ الأنْواعُ مُخْتَلِطَةً، وهَذا فِيما لَمْ يَكُنْ نابِتًا قَبْلَ نُزُولِ المَطَرِ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ الَّذِي نَبَتَ، ولَكِنَّهُ لَمْ يَتَرَعْرَعْ، ولَمْ يَهْتَزَّ. وإنَّما هو في أوَّلِ بُرُوزِهِ مِنَ الأرْضِ ومَبْدَأِ حُدُوثِهِ، فَإذا نَزَلَ المَطَرُ عَلَيْهِ واخْتَلَطَ بِذَلِكَ المَطَرِ؛ أيِ اتَّصَلَ كُلُّ واحِدٍ مِنهُما بِالآخَرِ اهْتَزَّ ذَلِكَ النَّباتُ ورَبا وحَسُنَ، وكَمُلَ واكْتَسى كَمالَ الرَّوْنَقِ والزِّينَةِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ زُخْرُفَها وازَّيَّنَتْ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ التَّزَخْرُفَ عِبارَةٌ عَنْ كَمالِ حُسْنِ الشَّيْءِ. فَجُعْلَتِ الأرْضُ آخِذَةً زُخْرُفَها عَلى التَّشْبِيهِ بِالعَرُوسِ إذا لَبِسَتِ الثِّيابَ الفاخِرَةَ مِن كُلِّ لَوْنٍ، وتَزَيَّنَتْ بِجَمِيعِ الألْوانِ المُمْكِنَةِ في الزِّينَةِ مِن حُمْرَةٍ وخُضْرَةٍ وصُفْرَةٍ وذَهَبِيَّةٍ وبَياضٍ، ولا شَكَّ أنَّهُ مَتى صارَ البُسْتانُ عَلى هَذا الوَجْهِ وبِهَذِهِ الصِّفَةِ، فَإنَّهُ يَفْرَحُ بِهِ المالِكُ ويَعْظُمُ رَجاؤُهُ في الِانْتِفاعِ بِهِ، ويَصِيرُ قَلْبُهُ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى يُرْسِلُ عَلى هَذا البُسْتانِ العَجِيبِ آفَةً عَظِيمَةً دُفْعَةً واحِدَةً في لَيْلٍ أوْ نَهارٍ مِن بَرْدٍ أوْ رِيحٍ أوْ سَيْلٍ، فَصارَتْ تِلْكَ الأشْجارُ والزُّرُوعُ باطِلَةً هالِكَةً كَأنَّها ما حَصَلَتِ البَتَّةَ. فَلا شَكَّ أنَّهُ تَعْظُمُ حَسْرَةُ مالِكِ ذَلِكَ البُسْتانِ ويَشْتَدُّ حُزْنُهُ، فَكَذَلِكَ مَن وضَعَ قَلْبَهُ عَلى لَذّاتِ الدُّنْيا وطَيِّباتِها، فَإذا فاتَتْهُ تِلْكَ الأشْياءُ يَعْظُمُ حُزْنُهُ وتَلَهُّفُهُ عَلَيْها. واعْلَمْ أنَّ تَشْبِيهَ الحَياةِ الدُّنْيا بِهَذا النَّباتِ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا لَخَّصَها القاضِي رَحِمَهُ اللَّهُ تَعالى: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّ عاقِبَةَ هَذِهِ الحَياةِ الدُّنْيا الَّتِي يُنْفِقُها المَرْءُ في بابِ الدُّنْيا كَعاقِبَةِ هَذا النَّباتِ، الَّذِي حِينَ عَظُمَ الرَّجاءُ في الِانْتِفاعِ بِهِ وقَعَ اليَأْسُ مِنهُ؛ لِأنَّ الغالِبَ أنَّ المُتَمَسِّكَ بِالدُّنْيا إذا وضَعَ عَلَيْها قَلْبَهُ وعَظُمَتْ رَغْبَتُهُ فِيها يَأْتِيهِ المَوْتُ. وهو مَعْنى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أخَذْناهم بَغْتَةً فَإذا هم مُبْلِسُونَ﴾ [الأنعام: ٤٤] خاسِرُونَ الدُّنْيا، وقَدْ أنْفَقُوا أعْمارَهم فِيها، وخاسِرُونَ مِنَ الآخِرَةِ، مَعَ أنَّهم مُتَوَجِّهُونَ إلَيْها. والوَجْهُ الثّانِي في التَّشْبِيهِ أنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّهُ كَما لَمْ يَحْصُلْ لِذَلِكَ الزَّرْعِ عاقِبَةٌ تُحْمَدُ، فَكَذَلِكَ المُغْتَرُّ بِالدُّنْيا المُحِبُّ لَها لا يَحْصُلُ لَهُ عاقِبَةٌ تُحْمَدُ. (p-٦٠) والوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ وجْهُ التَّشْبِيهِ مِثْلَ قَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿وقَدِمْنا إلى ما عَمِلُوا مِن عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنثُورًا﴾ [الفرقان: ٢٣] فَلَمّا صارَ سَعْيُ هَذا الزَّرّاعِ باطِلًا بِسَبَبِ حُدُوثِ الأسْبابِ المُهْلِكَةِ، فَكَذَلِكَ سَعْيُ المُغْتَرِّ بِالدُّنْيا. والوَجْهُ الرّابِعُ: أنَّ مالِكَ ذَلِكَ البُسْتانِ لَمّا عَمَرَهُ بِإتْعابِ النَّفْسِ وكَدِّ الرُّوحِ، وعَلَّقَ قَلْبَهُ عَلى الِانْتِفاعِ بِهِ، فَإذا حَدَثَ ذَلِكَ السَّبَبُ المُهْلِكُ، وصارَ العَناءُ الشَّدِيدُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ في الماضِي سَبَبًا لِحُصُولِ الشَّقاءِ الشَّدِيدِ لَهُ في المُسْتَقْبَلِ، وهو ما يَحْصُلُ لَهُ في قَلْبِهِ مِنَ الحَسَراتِ. فَكَذَلِكَ حالُ مَن وضَعَ قَلْبَهُ عَلى الدُّنْيا وأتْعَبَ نَفْسَهُ في تَحْصِيلِها، فَإذا ماتَ وفاتَهُ كُلُّ ما نالَ، صارَ العَناءُ الَّذِي تَحَمَّلَهُ في تَحْصِيلِ أسْبابِ الدُّنْيا، سَبَبًا لِحُصُولِ الشَّقاءِ العَظِيمِ لَهُ في الآخِرَةِ. والوَجْهُ الخامِسُ: لَعَلَّهُ تَعالى إنَّما ضَرَبَ هَذا المَثَلَ لِمَن لا يُؤْمِنُ بِالمَعادِ، وذَلِكَ لِأنّا نَرى الزَّرْعَ الَّذِي قَدِ انْتَهى إلى الغايَةِ القُصْوى في التَّرْبِيَةِ، قَدْ بَلَغَ الغايَةَ في الزِّينَةِ والحُسْنِ، ثُمَّ يَعْرِضُ لِلْأرْضِ المُتَزَيِّنَةِ بِهِ آفَةٌ، فَيَزُولُ ذَلِكَ الحُسْنُ بِالكُلِّيَّةِ، ثُمَّ تَصِيرُ تِلْكَ الأرْضُ مَوْصُوفَةً بِتِلْكَ الزِّينَةِ مَرَّةً أُخْرى. فَذَكَرَ هَذا المِثالَ لِيَدُلَّ عَلى أنَّ مَن قَدَرَ عَلى ذَلِكَ كانَ قادِرًا عَلى إعادَةِ الأحْياءِ في الآخِرَةِ لِيُجازِيَهم عَلى أعْمالِهِمْ؛ إنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وإنْ شَرًّا فَشَرٌّ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المَثَلُ: قَوْلٌ يُشَبَّهُ بِهِ حالُ الثّانِي بِالأوَّلِ، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنَ المَثَلِ الصِّفَةَ. والتَّقْدِيرُ: إنَّما صِفَةُ الحَياةِ الدُّنْيا. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وازَّيَّنَتْ﴾ فَقالَ الزَّجّاجُ: يَعْنِي: تَزَيَّنَتْ، فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الزّايِ وسُكِّنَتِ الزّايُ فاجْتُلِبَ لَها ألِفُ الوَصْلِ، وهَذا مِثْلُ ما ذَكَرْنا في قَوْلِهِ: ﴿فادّارَأْتُمْ﴾ [البقرة: ٧٢] ﴿ادّارَكُوا﴾ [الأعراف: ٣٨] . * * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿وظَنَّ أهْلُها أنَّهم قادِرُونَ عَلَيْها﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: يُرِيدُ أنَّ أهْلَ تِلْكَ الأرْضِ قادِرُونَ عَلى حَصادِها وتَحْصِيلِ ثَمَراتِها. والتَّحْقِيقُ أنَّ الضَّمِيرَ وإنْ كانَ في الظّاهِرِ عائِدًا إلى الأرْضِ، إلّا أنَّهُ عائِدٌ إلى النَّباتِ المَوْجُودِ في الأرْضِ. وأمّا قَوْلُهُ: ﴿أتاها أمْرُنا﴾ فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: يُرِيدُ عَذابَنا. والتَّحْقِيقُ أنَّ المَعْنى أتاها أمْرُنا بِهَلاكِها. وقَوْلُهُ: ﴿فَجَعَلْناها حَصِيدًا﴾ قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: لا شَيْءَ فِيها، وقالَ الضَّحّاكُ: يَعْنِي المَحْصُودَ. وعَلى هَذا، المُرادُ بِالحَصِيدِ: الأرْضُ الَّتِي حُصِدَ نَبْتُها، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالحَصِيدِ: النَّباتَ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: الحَصِيدُ: المُسْتَأْصَلُ، وقالَ غَيْرُهُ: الحَصِيدُ: المَقْطُوعُ والمَقْلُوعُ. وقَوْلُهُ: ﴿كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ﴾ قالَ اللَّيْثُ: يُقالُ لِلشَّيْءِ إذا فَنِيَ: كَأنْ لَمْ يَغْنَ بِالأمْسِ؛ أيْ: كَأنْ لَمْ يَكُنْ، مِن قَوْلِهِمْ: غَنِيَ القَوْمُ في دارِهِمْ: إذا أقامُوا بِها، وعَلى هَذا الوَجْهِ يَكُونُ هَذا صِفَةً لِلنَّباتِ. وقالَ الزَّجّاجُ: مَعْناهُ: كَأنْ لَمْ تُعَمَّرْ بِالأمْسِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ فالمُرادُ هو الأرْضُ، وقَوْلُهُ: ﴿كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآياتِ﴾ أيْ: نَذْكُرُ واحِدَةً مِنها بَعْدَ الأُخْرى عَلى التَّرْتِيبِ؛ لِيَكُونَ تَوالِيها وكَثْرَتُها سَبَبًا لِقُوَّةِ اليَقِينِ، ومُوجِبًا لِزَوالِ الشَّكِّ والشُّبْهَةِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب