الباحث القرآني

﴿إنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا﴾ كَلامٌ مُسْتَأْنَفٌ لِبَيانِ شَأْنِ الحَياةِ الدُّنْيا وقِصَرِ مُدَّةِ التَّمَتُّعِ فِيها وأصْلُ المَثَلِ ما شُبِّهَ مَضْرِبُهُ بِمَوْرِدِهِ يُسْتَعارُ لِلْأمْرِ العَجِيبِ المُسْتَغْرَبِ أيْ إنَّما حالُها في سُرْعَةِ تَقَضِّيها وانْصِرامِ نَعِيمِها بَعْدَ إقْبالِها واغْتِرارِ النّاسِ بِها ﴿كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فاخْتَلَطَ بِهِ﴾ أيْ فَكَثُرَ بِسَبَبِهِ ﴿نَباتُ الأرْضِ﴾ حَتّى التَفَّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ فالباءُ لِلسَّبَبِيَّةِ ومِنهم مَن أبْقاها عَلى المُصاحَبَةِ وجَعَلَ الِاخْتِلاطَ بِالماءِ نَفْسِهِ فَإنَّهُ كالغِذاءِ لِلنَّباتِ فَيَجْرِي فِيهِ ويُخالِطُهُ والأوَّلُ هو الَّذِي يَقْتَضِيهِ كَلامُ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ﴿مِمّا يَأْكُلُ النّاسُ والأنْعامُ﴾ كالبُقُولِ والزُّرُوعِ والحَشِيشِ والمَراعِي والجارُّ والمَجْرُورُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ النَّباتِ ﴿حَتّى إذا أخَذَتِ الأرْضُ﴾ أيِ اسْتَوْفَتْ واسْتَكْمَلَتْ زُخْرُفَها أيْ حُسْنَها وبَهْجَتَها ﴿وازَّيَّنَتْ﴾ بِأصْنافِ النَّباتِ وأشْكالِها وألْوانِها المُخْتَلِفَةِ: ؎كَأذْيالِ خَوْدٍ أقْبَلَتْ في غَلائِلَ مُصْبَغَةٍ والبَعْضُ أقْصَرُ مِن بَعْضٍ وقَدْ ذَكَرَ غَيْرُ واحِدٍ أنَّ في الكَلامِ اسْتِعارَةً بِالكِنايَةِ حَيْثُ شُبِّهَتِ الأرْضُ بِالعَرُوسِ وحُذِفَ المُشَبَّهُ بِهِ وأُقِيمَ المُشَبَّهُ مَقامَهُ وإثْباتُ أخْذِ الزُّخْرُفَ لَها تَخْيِيلٌ وما بَعْدَهُ تَرْشِيحٌ وقِيلَ: الزُّخْرُفُ الذَّهَبُ اسْتُعِيرَ لِلنَّضارَةِ (p-101)والمَنظَرِ الشّارِّ وأصْلُ ازَّيَنَتْ تَزَيَّنَتْ فَأُدْغِمَتِ التّاءُ في الزّايِ وسُكِّنَتْ فاجْتُلِبَتْ هَمْزَةَ وصْلٍ لِلتَّوَصُّلِ لِلِابْتِداءِ بِالسّاكِنِ وبِالأصْلِ قَرَأ عَبْدُ اللَّهِ وقَرَأ الأعْرَجُ والشَّعْبِيُّ وأبُو العالِيَةِ ونَصْرُ بْنُ عاصِمٍ والحَسَنُ بِخِلافِ (وأزْيَنَتْ) بِوَزْنِ أفْعَلَتْ كَأكْرَمَتْ وكانَ قِياسُهُ أنْ يُعَلَّ فِيُقَلْبُ ياؤُهُ ألِفًا فَيُقالُ أزانَتْ لِأنَّهُ المُطَّرِدُ في بابِ الأفْعالِ المُعْتَلِّ العَيْنِ لَكِنَّهُ ورَدَ عَلى خِلافِهِ كَأغْلَيَتِ المَرْأةُ إذا سَقَتْ ولَدَها الغَيْلَ وهو لَبَنُ حَمْلِها عَلَيْهِ وقَدْ جاءَ أغالَتْ عَلى القِياسِ ومَعْنى الأفْعالِ هُنا الصَّيْرُورَةُ أيْ صارَتْ ذاتَ زِينَةٍ أوْ صَيَّرَتْ نَفْسَها كَذَلِكَ وقَرَأ أبُو عُثْمانَ النَّهْدِيُّ (ازْيانَتْ) بِهَمْزَةِ وصْلٍ بَعْدَها زايٌ ساكِنَةٌ وياءٌ مَفْتُوحَةٌ وهَمْزَةٌ كَذَلِكَ ونُونٌ مُشَدَّدَةٌ وتاءُ تَأْنِيثٍ وأصْلُهُ ازْيانَتْ بِوَزْنِ احْمارَتْ بِألِفٍ صَرِيحَةٍ فَكَرِهُوا اجْتِماعَ ساكِنَيْنِ فَقَلَبُوا الألِفَ هَمْزَةً مَفْتُوحَةً كَما قُرِئَ الضَّألِينَ وجاءَ أيْضًا احْمَأرَتْ بِالهَمْزَةِ كَقَوْلِهِ إذا ما الهَوادِي بِالعَبِيطِ احْمَأرَتْ وقَرَأ عَوْفُ بْنُ جَمِيلٍ (ازْيانَتْ) بِألِفٍ مِن غَيْرِ إبْدالٍ وقُرِئَ (ازايَنَتْ) لِقَصْدِ المُبالَغَةِ ﴿وظَنَّ أهْلُها أنَّهم قادِرُونَ عَلَيْها﴾ أيْ عَلى الأرْضِ والمُرادُ ظَنُّوا أنَّهم مُتَمَكِّنُونَ مِن مَنفَعَتِها مُحَصِّلُونَ لِثَمَرَتِها رافِعُونَ لِغَلَّتِها وقِيلَ: الكِنايَةُ لِلزُّرُوعِ وقِيلَ: لِلثَّمَرَةِ وقِيلَ: لِلزِّينَةِ لِانْفِهامِ ذَلِكَ مِنَ الكَلامِ ﴿أتاها أمْرُنا﴾ جَوابُ (إذا) أيْ نَزَلَ بِها ما قَدَّرْناهُ مِنَ العَذابِ وهو ضَرْبُ زَرْعِها ما يَجْتاحُهُ مِنَ الآفاتِ والعاهاتِ كالبَرَدِ والجَرادِ والفَأْرِ والصَّرْصَرِ والسَّمُومِ وغَيْرِ ذَلِكَ ﴿لَيْلا أوْ نَهارًا﴾ أيْ في لَيْلٍ أوْ في نَهارٍ ولَعَلَّ المُرادَ الإشارَةُ إلى أنَّهُ لا فَرْقَ في إتْيانِ العَذابِ بَيْنَ زَمَنِ غَفْلَتِهِمْ وزَمَنِ يَقَظَتِهِمْ إذْ لا يَمْنَعُ مِنهُ مانِعٌ ولا يَدْفَعُ عَنْهُ دافِعٌ ﴿فَجَعَلْناها﴾ أيْ فَجَعَلْنا نَباتَها ﴿حَصِيدًا﴾ أيْ شَبِيهًا بِما حُصِدَ مِن أصْلِهِ والظّاهِرُ أنَّ هَذا مِنَ التَّشْبِيهِ لِذِكْرِ الطَّرَفَيْنِ فِيهِ فَإنَّ المَحْذُوفَ في قُوَّةِ المَذْكُورِ وجُوِّزَ أنْ يَكُونَ هُناكَ اسْتِعارَةٌ مُصَرَّحَةٌ والأصْلُ جَعَلْنا نَباتَها هالِكًا فَشَبَّهَ الهالِكِ بِالحَصِيدِ وأُقِيمَ اسْمُ المُشَبَّهِ بِهِ مَقامَهُ ولا يُنافِيهِ تَقْدِيرُ المُضافِ كَما تُوُهِّمَ لِأنَّهُ لَمْ يُشَبِّهْ الزَّرْعَ بِالحَصِيدِ بَلِ الهالِكَ بِهِ وذَهَبَ السَّكّاكِيُّ إلى أنَّ في الكَلامِ اسْتِعارَةً بِالكِنايَةِ حَيْثُ شُبِّهَتِ الأرْضُ المُزَخْرَفَةُ والمُزَيَّنَةُ بِالنَّباتِ النّاضِرِ المُوَنَّقِ الَّذِي ورَدَ عَلَيْهِ ما يُزِيلُهُ ويُفْنِيهِ وجَعَلَ الحَصِيدَ تَخَيُّلًا ولا يَخْفى بُعْدُهُ ﴿كَأنْ لَمْ تَغْنَ﴾ أيْ كَأنْ لَمْ يُغْنِ نَباتُها أيْ لَمْ يَمْكُثْ ولَمْ يَقُمْ فَتَغَنَّ مَن غَنِيَ بِالمَكانِ إذا أقامَ ومَكَثَ فِيهِ ومِنهُ قِيلَ لِلْمَنزِلِ مُغْنًى وقَدْ حُذِفَ المُضافُ في هَذا وفِيما قَبْلَهُ فانْقَلَبَ الضَّمِيرُ المَجْرُورُ مَنصُوبًا في أوَّلِهِما ومَرْفُوعًا مُسْتَتِرًا في الثّانِي واخْتِيرَ الحَذْفُ لِلْمُبالَغَةِ حَيْثُ أفادَ ظاهِرُ الكَلامِ جَعْلَ الأرْضِ نَفْسِها حَصِيدًا وكَأنَّها نَفْسُها لَمْ تَكُنْ لِتُغِيَّرَها بِتَغَيُّرِ ما فِيها وقَدْ عَطَفَ بَعْضُهم عَلَيْهِما (عَلَيْها) لَمّا أنَّ التَّقْدِيرَ فِيهِ عَلى نَباتِها فَحُذِفَ المُضافُ وجُرَّ الضَّمِيرُ بِعَلى ولَيْسَ بِالبَعِيدِ خَلا أنَّ في كَوْنِ الحَذْفِ لِلْمُبالَغَةِ أيْضًا تَرَدُّدًا وقِيلَ: ضَمِيرُ (تُغْنِ) وما قَبْلُهُ يَعُودانِ عَلى الزَّرْعِ كَما قِيلَ في ضَمِيرِ (عَلَيْها) وقِيلَ: يَعُودانِ عَلى الأرْضِ ولا حَذْفَ بَلْ يُجْعَلُ التَّجَوُّزُ في الإسْنادِ وأنْتَ تَعْلَمُ أنَّ إرْجاعَ الضَّمائِرِ كُلِّها لِلْأرْضِ ولَوْ مَعَ ارْتِكابِ التَّجَوُّزِ في الإسْنادِ أوْلى مِن إرْجاعِها لِغَيْرِها كائِنًا ما كانَ. نَعَمْ إنَّهُ يُمْكِنُ إرْجاعُ الضَّمِيرِ إلَيْها في قِراءَةِ الحَسَنِ (يُغْنِي) بِالياءِ التَّحْتِيَّةِ وجَعْلُ ذَلِكَ مِن قَبِيلِ ولا أرْضَ أبَقَلَ أبْقالُها كَما تَرى فِيَنْبَغِي أنْ يَرْجِعَ لِلنَّباتِ أوْ لِلزَّرْعِ مَثَلًا ومَآلُ المَعْنى كَأنْ لَمْ يَكُنْ نابِتًا ﴿بِالأمْسِ﴾ أيْ فِيما قَبْلَ إتْيانِ أمْرِنا بِزَمانٍ قَرِيبٍ فَإنَّ الأمْسَ مَثَلٌ في ذَلِكَ والجُمْلَةُ التَّشْبِيهِيَّةُ جُوِّزَ أنْ تَكُونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى أنَّها حالٌ وأنْ تَكُونَ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ جَوابًا لِسُؤالٍ مُقَدَّرٍ والمُمَثَّلِ (p-102)بِهِ في الآيَةِ ما يُفْهَمُ مِنَ الكَلامِ وهو زَوالُ خُضْرَةِ النَّباتِ فَجْأةً وذَهابُهُ حُطامًا لَمْ يَبْقَ لَهُ أثَرٌ بَعْدَ ما كانَ غَضًّا طَرِيًّا فَقَدِ التَفَّ بَعْضُهُ بِبَعْضٍ وازَّيَّنَتِ الأرْضُ بِألْوانِهِ حَتّى طَمِعَ النّاسُ وظَنُّوا أنَّهُ قَدْ سَلِمَ مِنَ الجَوائِحِ لا الماءِ وإنْ دَخَلَتْهُ كافُ التَّشْبِيهِ فَإنَّهُ مِنَ التَّشْبِيهِ المُرَكَّبِ مَعَ اشْتِمالِ الكَلامِ نَفْسِهِ عَلى أُمُورٍ حَقِيقِيَّةٍ وأُمُورٍ مَجازِيَّةٍ فِيها مِنَ اللَّطافَةِ ما لا يَخْفى وعَنْ أُبَيٍّ أنَّهُ قَرَأ (كَأنْ لَمْ تَغْنَ بِالأمْسِ وما أهْلَكْناها إلّا بِذُنُوبِ أهْلِها) ﴿كَذَلِكَ﴾ أيْ مِثْلُ ذَلِكَ التَّفْصِيلِ البَدِيعِ ﴿نُفَصِّلُ الآياتِ﴾ أيِ القُرْآنِيَّةَ الَّتِي مِن جُمْلَتِها هَذِهِ الآيَةُ الجَلِيلَةُ الشَّأْنِ المُنَبِّهَةُ عَلى أحْوالِ الحَياةِ الدُّنْيا أيْ نُوَضِّحُها ونُبَيِّنُها ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 24﴾ في مَعانِيها ويَقِفُونَ عَلى حَقائِقِها وتَخْصِيصُهم بِالذِّكْرِ لِأنَّهُمُ المُنْتَفِعُونَ وجُوِّزَ أنْ يُرادَ بِالآياتِ ما ذُكِرَ في أثْناءِ التَّمْثِيلِ مِنَ الكائِناتِ والفاسِداتِ وبِتَفْصِيلِها تَصْرِيفُها عَلى التَّرْتِيبِ المَحْكِيِّ إيجادًا وإعْدامًا فَإنَّها آياتٌ وعَلاماتٌ يَسْتَدِلُّ بِها المُتَفَكِّرُ فِيها عَلى أحْوالِ الحَياةِ الدُّنْيا حالًا ومَآلًا والأوَّلُ هو الظّاهِرُ وعَنْ أبِي مِجْلَزٍ أنَّهُ قالَ: كانَ مَكْتُوبًا إلى جَنْبِ هَذِهِ الآيَةِ فَمُحِيَ (ولَوْ أنَّ لِابْنِ آدَمَ وادِيَيْنِ مِن مالٍ لَتَمَنّى وادِيًا ثالِثًا ولا يُشْبِعُ نَفْسَ ابْنِ آدَمَ إلّا التُّرابُ ويَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَن تابَ) .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب