الباحث القرآني
﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِساءِكم فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكم فَإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنَّ في البِيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما فَإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما إنَّ اللَّهَ كانَ تَوّابًا رَحِيمًا﴾ .
(p-٢٦٩)مَوْقِعُ هَذِهِ الآيَةِ في هَذِهِ السُّورَةِ مُعْضِلٌ، وافْتِتاحُها بِواوِ العَطْفِ أعْضَلُ، لِاقْتِضائِهِ اتِّصالَها بِكَلامٍ قَبْلَها. وقَدْ جاءَ حَدُّ الزِّنى في سُورَةِ النُّورِ، وهي نازِلَةٌ في سَنَةِ سِتٍّ بَعْدَ غَزْوَةِ بَنِيَ المُصْطَلِقِ عَلى الصَّحِيحِ، والحُكْمُ الثّابِتُ في سُورَةِ النُّورِ أشَدُّ مِنَ العُقُوبَةِ المَذْكُورَةِ هُنا، ولا جائِزٌ أنْ يَكُونَ الحَدُّ الَّذِي في سُورَةِ النُّورِ قَدْ نُسِخَ بِما هُنا لِأنَّهُ لا قائِلَ بِهِ. فَإذا مَضَيْنا عَلى مُعْتادِنا في اعْتِبارِ الآيِ نازِلَةً عَلى تَرْتِيبِها في القِراءَةِ في سُوَرِها، قُلْنا: إنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ في سُورَةِ النِّساءِ عَقِبَ أحْكامِ المَوارِيثِ وحِراسَةِ أمْوالِ اليَتامى، وجَعَلْنا الواوَ عاطِفَةً هَذا الحُكْمَ عَلى ما تَقَدَّمَ مِنَ الآياتِ في أوَّلِ السُّورَةِ بِما يَتَعَلَّقُ بِمُعاشَرَةِ النِّساءِ، كَقَوْلِهِ ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: ٤] وجَزَمْنا بِأنَّ أوَّلَ هَذِهِ السُّورَةِ نَزَلَ قَبْلَ أوَّلِ سُورَةِ النُّورِ، وأنَّ هَذِهِ العُقُوبَةَ كانَتْ مَبْدَأ شَرْعِ العُقُوبَةِ عَلى الزِّنى - فَتَكُونُ هاتِهِ الآيَةُ مَنسُوخَةً بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ لا مَحالَةَ، كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ ﴿أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: أجْمَعَ العُلَماءُ عَلى أنَّ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مَنسُوخَتانِ بِآيَةِ الجَلْدِ في سُورَةِ النُّورِ. اهـ. وحَكى ابْنُ الفُرْسِ في تَرْتِيبِ النَّسْخِ أقْوالًا ثَمانِيَةً لا نُطِيلُ فِيها. فالواوُ عاطِفَةٌ حُكْمَ تَشْرِيعٍ عَقِبَ تَشْرِيعٍ لِمُناسَبَةٍ: هي الرُّجُوعُ إلى أحْكامِ النِّساءِ، فَإنَّ اللَّهَ لَمّا ذَكَرَ أحْكامًا مِنَ النِّكاحِ إلى قَوْلِهِ: ﴿وآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً﴾ [النساء: ٤] وما النِّكاحُ إلّا اجْتِماعُ الرَّجُلِ والمَرْأةِ عَلى مُعاشَرَةٍ عِمادُها التَّآنُسُ والسُّكُونُ إلى الأُنْثى، ناسَبَ أنْ يَعْطِفَ إلى ذِكْرِ أحْكامِ اجْتِماعِ الرَّجُلِ بِالمَرْأةِ عَلى غَيْرِ الوَجْهِ المَذْكُورِ فِيهِ شَرْعًا، وهو الزِّنى المُعَبَّرُ عَنْهُ بِالفاحِشَةِ.
فالزِّنى هو أنْ يَقَعَ شَيْءٌ مِن تِلْكَ المُعاشَرَةِ عَلى غَيْرِ الحالِ المَعْرُوفِ المَأْذُونِ فِيهِ، فَلا جَرَمَ أنْ كانَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلافِ أحْوالِ الأُمَمِ والقَبائِلِ في خَرْقِ القَوانِينِ المَجْعُولَةِ لِإباحَةِ اخْتِصاصِ الرَّجُلِ بِالمَرْأةِ.
ففِي الجاهِلِيَّةِ كانَ طَرِيقُ الِاخْتِصاصِ بِالمَرْأةِ السَّبْيَ أوِ الغارَةَ أوِ التَّعْوِيضَ أوْ رَغْبَةً في مُصاهَرَةِ قَوْمٍ ورَغْبَتَهم فِيهِ أوْ إذْنَ الرَّجُلِ امْرَأتَهُ بِأنْ تَسْتَبْضِعَ مِن رَجُلٍ ولَدًا، كَما تَقَدَّمَ.
وفِي الإسْلامِ بَطَلَتِ الغارَةُ وبَطَلَ الِاسْتِبْضاعُ، ولِذَلِكَ تَجِدُ الزِّنى لا يَقَعُ إلّا (p-٢٧٠)خِفْيَةً لِأنَّهُ مُخالَفَةٌ لِقَوانِينِ النّاسِ في نِظامِهِمْ وأخْلاقِهِمْ. وسُمِّيَ الزِّنى الفاحِشَةَ لِأنَّهُ تَجاوُزُ الحَدِّ في الفَسادِ وأصْلُ الفُحْشِ: الأمْرُ الشَّدِيدُ الكَراهِيَةِ والذَّمِّ، مِن فِعْلٍ أوْ قَوْلٍ أوْ حالٍ. ولَمْ أقِفْ عَلى وُقُوعِ العَمَلِ بِهاتَيْنِ الآيَتَيْنِ قَبْلَ نَسْخِهِما.
ومَعْنى (يَأْتِينَ) يَفْعَلْنَ، وأصْلُ الإيتاءِ المَجِيءُ إلى شَيْءٍ. فاسْتُعِيرَ هُنا الإتْيانُ لِفِعْلِ شَيْءٍ لِأنَّ فاعِلَ شَيْءٍ عَنْ قَصْدٍ يُشْبِهُ السّائِرَ إلى مَكانٍ حَتّى يَصِلَهُ، يُقالُ: أتى الصَّلاةَ، أيْ صَلّاها، وقالَ الأعْشى:
؎لِيَعْلَمَ كُلُّ الوَرى أنَّنِي أتَيْتُ المُرُوءَةَ مِن بابِها
ورُبَّما قالُوا: أتى بِفاحِشَةٍ وبِمَكْرُوهٍ. كَأنَّهُ جاءَ مُصاحِبًا لَهُ.
وقَوْلُهُ: مِن نِسائِكم بَيانٌ لِلْمَوْصُولِ وصِلَتِهِ. والنِّساءُ اسْمُ جَمْعِ امْرَأةٍ، وهي الأُنْثى مِنَ الإنْسانِ، وتُطْلَقُ المَرْأةُ عَلى الزَّوْجَةِ. فَلِذَلِكَ يُطْلَقُ النِّساءُ عَلى الإناثِ مُطْلَقًا، وعَلى الزَّوْجاتِ خاصَّةً ويُعْرَفُ المُرادُ بِالقَرِينَةِ، قالَ تَعالى: ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِن قَوْمٍ﴾ [الحجرات: ١١] ثُمَّ قالَ: ﴿ولا نِساءٌ مِن نِساءٍ﴾ [الحجرات: ١١] فَقابَلَ بِالنِّساءِ القَوْمَ. والمُرادُ الإناثُ كُلُّهُنَّ، وقالَ تَعالى: ﴿فَإنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ﴾ [النساء: ١١] الآيَةَ المُتَقَدِّمَةَ آنِفًا. والمُرادُ هَنا مُطْلَقُ النِّساءِ فَيَشْمَلُ العَذارى العَزَباتِ.
وضَمِيرُ جَمْعِ المُخاطَبِينَ في قَوْلِهِ: مِن نِسائِكم والضَّمائِرُ المُوالِيَةُ لَهُ، عائِدَةٌ إلى المُسْلِمِينَ عَلى الإجْمالِ، ويَتَعَيَّنُ لِلْقِيامِ بِما خُوطِبُوا بِهِ مَن لَهم أهْلِيَّةُ القِيامِ بِذَلِكَ. فَضَمِيرُ نِسائِكم عامٌّ مُرادٌ بِهِ نِساءُ المُسْلِمِينَ، وضَمِيرُ ﴿فاسْتَشْهِدُوا﴾ مَخْصُوصٌ بِمَن يُهِمُّهُ الأمْرُ مِنَ الأزْواجِ، وضَمِيرُ فَأمْسِكُوهُنَّ مَخْصُوصٌ بِوُلاةِ الأُمُورِ، لِأنَّ الإمْساكَ المَذْكُورَ سِجْنٌ وهو حُكْمٌ لا يَتَوَلّاهُ إلّا القُضاةُ، وهُمُ الَّذِينَ يَنْظُرُونَ في قَبُولِ الشَّهادَةِ. فَهَذِهِ عُمُومُها مُرادٌ بِهِ الخُصُوصُ.
هَذِهِ الآيَةُ الأصْلُ في اشْتِراطِ أرْبَعَةٍ في الشَّهادَةِ عَلى الزِّنى، وقَدْ تَقَرَّرَ ذَلِكَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ.
ويُعْتَبَرُ في الشَّهادَةِ المُوجِبَةِ لِلْإمْساكِ في البُيُوتِ ما يُعْتَبَرُ في شَهادَةِ الزِّنى لِإقامَةِ الحَدِّ سَواءٌ.
(p-٢٧١)والمُرادُ بِالبُيُوتِ البُيُوتُ الَّتِي يُعَيِّنُها وُلاةُ الأُمُورِ لِذَلِكَ. ولَيْسَ المُرادُ إمْساكَهُنَّ في بُيُوتِهِنَّ بَلْ يَخْرُجْنَ مِن بُيُوتِهِنَّ إلى بُيُوتٍ أُخْرى إلّا إذا حُوِّلَ بَيْتُ المَسْجُونَةِ إلى الوَضْعِ تَحْتَ نَظَرِ القاضِي وحِراسَتِهِ، وقَدْ دَلَّ عَلى هَذا المَعْنى قَوْلُهُ تَعالى في آيَةِ سُورَةِ الطَّلاقِ عِنْدَ ذِكْرِ العِدَّةِ: ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ ولا يَخْرُجْنَ إلّا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ﴾ [الطلاق: ١] .
ومَعْنى ﴿يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ﴾ يَتَقاضاهُنَّ. يُقالُ: تَوَفّى فُلانٌ حَقَّهُ مِن فُلانٍ واسْتَوْفاهُ حَقَّهُ. والعَرَبُ تَتَخَيَّلُ العُمْرَ مُجَزَّءًا. فالأيّامُ والزَّمانُ والمَوْتُ يَسْتَخْلِصُهُ مِن صاحِبِهِ مُنَجَّمًا إلى أنْ تَتَوَفّاهُ. قالَ طَرَفَةُ:
؎أرى العُمْرَ كَنْزًا ناقِصًا كُلَّ لَيْلَةٍ ∗∗∗ وما تَنْقُصُ الأيّامُ والدَّهْرُ يَنْفَدُ
وقالَ أبُو حَيَّةَ النُّمَيْرِيُّ:
؎إذا ما تَقاضى المَرْءَ يَوْمٌ ولَيْلَةٌ ∗∗∗ تَقاضاهُ شَيْءٌ لا يَمَلُّ التَّقاضِيا
ولِذَلِكَ يَقُولُونَ: تُوُفِّيَ فُلانٌ. بِالبِناءِ لِلْمَجْهُولِ أيْ تَوَفّى عُمُرَهُ. فَجَعَلَ اللَّهُ المَوْتَ هو المُتَقاضِيَ لِأعْمارِ النّاسِ عَلى اسْتِعْمالِهِمْ في التَّعْبِيرِ، وإنْ كانَ المَوْتُ هو أثَرُ آخِرِ أنْفاسِ المَرْءِ، فالتَّوَفِّي في هَذِهِ الآيَةِ وارِدٌ عَلى أصْلِ مَعْناهُ الحَقِيقِيِّ في اللُّغَةِ.
مَعْنى ﴿أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ أيْ حُكْمًا آخَرَ. فالسَّبِيلُ مُسْتَعارٌ لِلْأمْرِ البَيِّنِ بِمَعْنى العِقابِ المُناسِبِ تَشْبِيهًا لَهُ بِالطَّرِيقِ الجادَّةِ. وفي هَذا إشارَةٌ إلى أنَّ إمْساكَهُنَّ في البُيُوتِ زَجْرٌ مُوَقَّتٌ سَيَعْقُبُهُ حُكْمٌ شافٍ لِما يَجِدُهُ النّاسُ في نُفُوسِهِمْ مِنَ السُّخْطِ عَلَيْهِنَّ مِمّا فَعَلْنَ.
ويَشْمَلُ قَوْلُهُ: ﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ﴾ جَمِيعَ النِّساءِ اللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن مُحْصَناتٍ وغَيْرِهِنَّ.
وأمّا قَوْلُهُ: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها﴾ فَهو مُقْتَضٍ نَوْعَيْنِ مِنَ الذُّكُورِ فَإنَّهُ تَثْنِيَةُ (الَّذِي) وهو اسْمٌ مَوْصُولٌ لِلْمُذَكَّرِ، وقَدْ قُوبِلَ بِهِ اسْمُ مَوْصُولِ النِّساءِ الَّذِي في قَوْلِهِ: ﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ﴾ ولا شَكَّ أنَّ المُرادَ بِـ (اللَّذانِ) صِنْفانِ مِنَ الرِّجالِ: وهُما صِنْفُ (p-٢٧٢)المُحْصَنِينَ، وصِنْفُ غَيْرِ المُحْصَنِينَ مِنهم، وبِذَلِكَ فَسَّرَهُ ابْنُ عَبّاسٍ في رِوايَةِ مُجاهِدٍ، وهو الوَجْهُ في تَفْسِيرِ الآيَةِ، وبِهِ يَتَقَوَّمُ مَعْنًى بَيِّنٌ غَيْرُ مُتَداخِلٍ ولا مُكَرَّرٍ. ووَجْهُ الإشْعارِ بِصِنْفَيِ الزُّناةِ مِنَ الرِّجالِ التَّحَرُّزُ مِنِ التِماسِ العُذْرِ فِيهِ لِغَيْرِ المُحْصَنِينَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ أُطْلِقَ عَلى صِنْفَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ أيِ الرِّجالِ والنِّساءِ عَلى طَرِيقَةِ التَّغْلِيبِ الَّذِي يَكْثُرُ في مِثْلِهِ، وهو تَفْسِيرُ السُّدِّيِّ وقَتادَةَ، فَعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ تَكُونُ الآيَةُ قَدْ جَعَلَتْ لِلنِّساءِ عُقُوبَةً واحِدَةً عَلى الزِّنى وهي عُقُوبَةُ الحَبْسِ في البُيُوتِ، ولِلرِّجالِ عُقُوبَةً عَلى الزِّنى، هي الأذى سَواءٌ كانُوا مُحْصَنِينَ بِزَوْجاتٍ أمْ غَيْرَ مُحْصَنِينَ، وهُمُ الأعْزَبُونَ. وعَلى الوَجْهِ الثّانِي تَكُونُ قَدْ جَعَلَتْ لِلنِّساءِ عُقُوبَتَيْنِ: عُقُوبَةٌ خاصَّةٌ بِهِنَّ وهي الحَبْسُ، وعُقُوبَةٌ لَهُنَّ كَعُقُوبَةِ الرِّجالِ وهي الأذى، فَيَكُونُ الحَبْسُ لَهُنَّ مَعَ عُقُوبَةِ الأذى. وعَلى كِلا الوَجْهَيْنِ يُسْتَفادُ اسْتِواءُ المُحْصَنِ وغَيْرِ المُحْصَنِ مِنَ الصِّنْفَيْنِ في كِلْتا العُقُوبَتَيْنِ، فَأمّا الرِّجالُ فَبِدَلالَةِ تَثْنِيَةِ اسْمِ المَوْصُولِ المُرادِ بِها صِنْفانِ اثْنانِ، وأمّا النِّساءُ فَبِدَلالَةِ عُمُومِ صِيغَةِ (نِسائِكم) .
وضَمِيرُ النَّصْبِ في قَوْلِهِ (يَأْتِيانِها) عائِدٌ إلى الفاحِشَةِ المَذْكُورَةِ وهي الزِّنى. ولا التِفاتَ لِكَلامِ مَن تَوَهَّمَ غَيْرَ ذَلِكَ. والإيذاءُ: الإيلامُ غَيْرُ الشَّدِيدِ بِالفِعْلِ كالضَّرْبِ غَيْرِ المُبَرِّحِ، والإيلامُ بِالقَوْلِ مِن شَتْمٍ وتَوْبِيخٍ، فَهو أعَمُّ مِنَ الجَلْدِ، والآيَةُ أجْمَلَتْهُ، فَهو مَوْكُولٌ إلى اجْتِهادِ الحاكِمِ.
وقَدِ اخْتَلَفَ أيِمَّةُ الإسْلامِ في كَيْفِيَّةِ انْتِزاعِ هاتَيْنِ العُقُوبَتَيْنِ مِن هَذِهِ الآيَةِ: فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ، ومُجاهِدٌ: ﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ﴾ يَعُمُّ النِّساءَ خاصَّةً فَشَمَلَ كُلَّ امْرَأةٍ في سائِرِ الأحْوالِ بِكْرًا أمْ ثَيِّبًا، وقَوْلُهُ (اللَّذانِ) تَثْنِيَةٌ أُرِيدَ بِها نَوْعانِ مِنَ الرِّجالِ، وهُمُ المُحْصَنُ والبِكْرُ، فَيَقْتَضِي أنَّ حُكْمَ الحَبْسِ في البُيُوتِ يَخْتَصُّ بِالزَّوانِي كُلِّهِنَّ، وحُكْمَ الأذى يَخْتَصُّ بِالزُّناةِ كُلِّهِمْ، فاسْتُفِيدَ التَّعْمِيمُ في الحالَتَيْنِ إلّا أنَّ اسْتِفادَتَهُ في الأُولى مِن صِيغَةِ العُمُومِ، وفي الثّانِيَةِ مِنِ انْحِصارِ النَّوْعَيْنِ، وقَدْ كانَ يُغْنِي أنْ يُقالَ: واللّاتِي يَأْتِينَ، والَّذِينَ يَأْتُونَ، إلّا أنَّهُ سُلِكَ هَذا الأُسْلُوبُ لِيَحْصُلَ العُمُومُ بِطَرِيقَيْنِ مَعَ التَّنْصِيصِ عَلى شُمُولِ النَّوْعَيْنِ.
وجُعِلَ لَفْظُ (اللّاتِي) لِلْعُمُومِ لِيُسْتَفادَ العُمُومُ مِن صِيغَةِ الجَمْعِ فَقَطْ.
(p-٢٧٣)وجُعِلَ لَفْظُ (اللَّذانِ) لِلنَّوْعَيْنِ لِأنَّ مُفْرَدَهُ وهو (الَّذِي) صالِحٌ لِلدَّلالَةِ عَلى النَّوْعِ، إذِ النَّوْعُ يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالمُذَكَّرِ مِثْلِ الشَّخْصِ ونَحْوِ ذَلِكَ، وحَصَلَ مَعَ ذَلِكَ كُلِّهِ تَفَنُّنٌ بَدِيعٌ في العِبارَةِ فَكانَتْ بِمَجْمُوعِ ذَلِكَ هاتِهِ الآيَةُ غايَةً في الإعْجازِ، وعَلى هَذا الوَجْهِ فالمُرادُ مِنَ النِّساءِ مَعْنى ما قابَلَ الرِّجالَ وهَذا هو الَّذِي يَجْدُرُ حَمْلُ مَعْنى الآيَةِ عَلَيْهِ.
والأذى أُرِيدَ بِهِ هُنا غَيْرُ الحَبْسِ لِأنَّهُ سَبَقَ تَخْصِيصُهُ بِالنِّساءِ، وغَيْرُ الجَلْدِ، لِأنَّهُ لَمْ يُشْرَعْ بَعْدُ، فَقِيلَ: هو الكَلامُ الغَلِيظُ والشَّتْمُ والتَّعْيِيرُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو النَّيْلُ بِاللِّسانِ واليَدِ وضَرْبُ النِّعالِ، بِناءً عَلى تَأْوِيلِهِ أنَّ الآيَةَ شُرِعَتْ عُقُوبَةً لِلزِّنا قَبْلَ عُقُوبَةِ الجَلْدِ. واتَّفَقَ العُلَماءُ عَلى أنَّ هَذا الحُكْمَ مَنسُوخٌ بِالجَلْدِ المَذْكُورِ في سُورَةِ النُّورِ، وبِما ثَبَتَ في السُّنَّةِ مِن رَجْمِ المُحْصَنِينَ. ولَيْسَ تَحْدِيدُ هَذا الحُكْمِ بِغايَةِ قَوْلِهِ: ﴿أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ بِصارِفٍ مَعْنى النَّسْخِ عَنْ هَذا الحُكْمِ كَما تَوَهَّمَ ابْنُ العَرَبِيِّ، لِأنَّ الغايَةَ جُعِلَتْ مُبْهَمَةً، فالمُسْلِمُونَ يَتَرَقَّبُونَ وُرُودَ حُكْمٍ آخَرَ بَعْدَ هَذا، لا غِنًى لَهم عَنْ إعْلامِهِمْ بِهِ.
واعْلَمْ أنَّ شَأْنَ النَّسْخِ في العُقُوباتِ عَلى الجَرائِمِ الَّتِي لَمْ تَكُنْ فِيها عُقُوبَةٌ قَبْلَ الإسْلامِ، أنْ تُنْسَخَ بِأثْقَلَ مِنها، فَشُرِعَ الحَبْسُ والأذى لِلزُّناةِ في هَذِهِ السُّورَةِ، وشُرِعَ الجَلْدُ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ، والجَلْدُ أشَدُّ مِنَ الحَبْسِ ومِنَ الأذى، وقَدْ سُوِّيَ في الجَلْدِ بَيْنَ المَرْأةِ والرَّجُلِ، إذِ التَّفْرِقَةُ بَيْنَهُما لا وجْهَ لِبَقائِها، إذْ كِلاهُما قَدْ خَرَقَ حُكْمًا شَرْعِيًّا تَبَعًا لِشَهْوَةٍ نَفْسِيَّةٍ أوْ طاعَةً لِغَيْرِهِ.
ثُمَّ إنَّ الجَلْدَ المُعَيَّنَ شُرِعَ بِآيَةِ سُورَةِ النُّورِ مُطْلَقًا أوْ عامًّا عَلى الِاخْتِلافِ في مَحْمَلِ التَّعْرِيفِ في قَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ [النور: ٢]؛ فَإنْ كانَ قَدْ وقَعَ العَمَلُ بِهِ كَذَلِكَ في الزُّناةِ والزَّوانِي: مُحْصَنِينَ أوْ أبْكارًا، فَقَدْ نَسَخَهُ الرَّجْمُ في خُصُوصِ المُحْصَنِينَ مِنهم، وهو ثابِتٌ بِالعَمَلِ المُتَواتِرِ، وإنْ كانَ الجَلْدُ لَمْ يُعْمَلْ بِهِ إلّا في البِكْرَيْنِ فَقَدْ قُيِّدَ أوْ خُصِّصَ بِغَيْرِ المُحْصَنِينَ، إذْ جُعِلَ حُكْمُهُما الرَّجْمَ. والعُلَماءُ مُتَّفِقُونَ عَلى أنَّ حُكْمَ المُحْصَنِينَ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ الرَّجْمُ. والمُحَصَنُ هو مَن تَزَوَّجَ بِعَقْدٍ شَرْعِيٍّ صَحِيحٍ ووَقَعَ البِناءُ بَعْدَ ذَلِكَ العَقْدِ بِناءً صَحِيحًا. وحُكْمُ الرَّجْمِ ثَبَتَ مِن قَبْلِ الإسْلامِ في شَرِيعَةِ (p-٢٧٤)التَّوْراةِ لِلْمَرْأةِ إذا زَنَتْ وهي ذاتُ زَوْجٍ، فَقَدْ أخْرَجَ مالِكٌ، في المُوَطَّأِ، ورِجالُ الصَّحِيحِ كُلُّهم، حَدِيثَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: «أنَّ اليَهُودَ جاءُوا رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فَذَكَرُوا لَهُ أنَّ رَجُلًا وامْرَأةً زَنَيا، فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ: ما تَجِدُونَ في التَّوْراةِ في شَأْنِ الرَّجْمِ ؟ فَقالُوا: نَفْضَحُهم ويُجْلَدُونَ. فَقالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ كَذَبْتُمْ إنَّ فِيها الرَّجْمَ. فَأتَوْا بِالتَّوْراةِ فَنَشَرُوها، فَوَضَعَ أحَدُهم يَدَهُ عَلى آيَةِ الرَّجْمِ، فَقَرَأ ما قَبْلَها وما بَعْدَها، فَقالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ ارْفَعْ يَدَكَ. فَرَفَعَ يَدَهُ فَإذا فِيها آيَةُ الرَّجْمِ. فَقالُوا: صَدَقَ يا مُحَمَّدُ فِيها آيَةُ الرَّجْمِ. فَأمَرَ بِهِما رَسُولُ اللَّهِ ﷺ فَرُجِما» . وقَدْ ذُكِرَ حُكْمُ الزِّنى في سِفْرِ التَّثْنِيَةِ (٢٢) فَقالَ: إذا وُجِدَ رَجُلٌ مُضْطَجِعًا مَعَ امْرَأةٍ زَوْجَةِ بَعْلٍ يُقْتَلُ الِاثْنانِ، وإذا وجَدَ رَجُلٌ فَتاةً عَذْراءَ غَيْرَ مَخْطُوبَةٍ فاضْطَجَعَ مَعَها فَوُجِدا، يُعْطِي الرَّجُلُ الَّذِي اضْطَجَعَ مَعَها لِأبِي الفَتاةِ خَمْسِينَ مِنَ الفِضَّةِ وتَكُونُ هي لَهُ زَوْجَةً ولا يَقْدِرُ أنْ يُطَلِّقَها كُلَّ أيّامِهِ.
وقَدْ ثَبَتَ الرَّجْمُ في الإسْلامِ بِما رَواهُ عُبادَةُ بْنُ الصّامِتِ أنَّ النَّبِيءَ ﷺ قالَ «خُذُوا عَنِّي خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، البِكْرُ بِالبِكْرِ ضَرْبُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ، والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِائَةٍ والرَّجْمُ» . ومُقْتَضاهُ الجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ والجَلْدِ، ولا أحْسَبُهُ إلّا تَوَهُّمًا مِنَ الرّاوِي عَنْ عُبادَةَ أوِ اشْتَبَهَ عَلَيْهِ، وأحْسَبُ أنَّهُ لِذَلِكَ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ العُلَماءُ فَلا يُجْمَعُ بَيْنَ الجَلْدِ والرَّجْمِ. ونَسَبَ ابْنُ العَرَبِيِّ إلى أحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ الجَمْعَ بَيْنَ الرَّجْمِ والجَلْدِ. وهو خِلافُ المَعْرُوفِ مِن مَذْهَبِهِ. وعَنْ عَلِيِّ بْنِ أبِي طالِبٍ أنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ الجَلْدِ والرَّجْمِ. ولَمْ يَصِحَّ. ثُمَّ ثَبَتَ مِن فِعْلِ النَّبِيءِ ﷺ في القَضاءِ بِالرَّجْمِ ثَلاثَةُ أحادِيثَ: أوَّلُها قَضِيَّةُ ماعِزِ بْنِ مالِكٍ الأسْلَمِيِّ، أنَّهُ «جاءَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فاعْتَرَفَ بِالزِّنى فَأعْرَضَ عَنْهُ ثَلاثَ مَرّاتٍ ثُمَّ بَعَثَ إلى أهْلِهِ فَقالَ: بِهِ جُنُونٌ ؟ قالُوا: لا، و: أبِكْرٌ هو أمْ ثَيِّبٌ ؟ قالُوا: بَلْ ثَيِّبٌ. فَأمَرَ بِهِ فَرُجِمَ» .
الثّانِي: «قَضِيَّةُ الغامِدِيَّةِ، أنَّها جاءَتْ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ فاعْتَرَفَتْ بِالزِّنى وهي حُبْلى فَأمَرَها أنْ تَذْهَبَ حَتّى تَضَعَ، ثُمَّ حَتّى تُرْضِعَهُ، فَلَمّا أتَمَّتْ رَضاعَهُ جاءَتْ فَأمَرَ بِها فَرُجِمَتْ» .
(p-٢٧٥)الثّالِثُ: حَدِيثُ أبِي هُرَيْرَةَ، وخالِدٍ الجُهَنِيِّ، «أنَّ رَجُلَيْنِ اخْتَصَما إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَقالَ أحَدُهُما: يا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنا بِكِتابِ اللَّهِ. وقالَ الآخَرُ وهو أفْقَهُهُما: أجَلْ يا رَسُولَ اللَّهِ اقْضِ بَيْنَنا بِكِتابِ اللَّهِ وأْذَنْ لِي في أنْ أتَكَلَّمَ. قالَ: تَكَلَّمْ. قالَ: إنَّ ابْنِي كانَ عَسِيفًا عَلى هَذا فَزَنى بِامْرَأتِهِ فَأخْبَرُونِي أنَّ عَلى ابْنِي الرَّجْمَ فافْتَدَيْتُ مِنهُ بِمِائَةِ شاةٍ وبِجارِيَةٍ لِي، ثُمَّ إنِّي سَألْتُ أهْلَ العِلْمِ فَأخْبَرُونِي أنَّما عَلى ابْنِي جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ، وأخْبَرُونِي أنَّما الرَّجْمُ عَلى امْرَأتِهِ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أما والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَأقْضِيَنَّ بَيْنَكُما بِكِتابِ اللَّهِ، أمّا غَنَمُكَ وجارِيَتُكَ فَرَدٌّ عَلَيْكَ - وجَلَدَ ابْنَهُ مِائَةً وغَرَّبَهُ عامًا - واغْدُ يا أُنَيْسُ - هو أُنَيْسُ بْنُ الضَّحّاكِ ويُقالُ ابْنُ مَرْثَدٍ الأسْلَمِيُّ - عَلى زَوْجَةِ هَذا، فَإنِ اعْتَرَفَتْ فارْجُمْها، فاعْتَرَفَتْ فَرَجَمَها» . قالَ مالِكٌ والعَسِيفُ: الأجِيرُ. هَذِهِ الأحادِيثُ مُرْسَلٌ مِنها اثْنانِ في المُوَطَّأِ، وهي مُسْنَدَةٌ في غَيْرِهِ، فَثَبَتَ بِها وبِالعَمَلِ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِينَ، قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ: هو خَبَرٌ مُتَواتِرٌ نَسَخَ القُرْآنَ. يُرِيدُ أنَّهُ مُتَواتِرٌ لَدى الصَّحابَةِ فَلِتَواتُرِهِ أجْمَعُوا عَلى العَمَلِ بِهِ. وأمّا ما بَلَغَ إلَيْنا وإلى ابْنِ العَرَبِيِّ وإلى مَن قَبْلَهُ فَهو أخْبارُ آحادٍ لا تَبْلُغُ مَبْلَغَ التَّواتُرِ، فالحَقُّ أنَّ دَلِيلَ رَجْمِ المُحْصَنِينَ هو ما نُقِلَ إلَيْنا مِن إجْماعِ الصَّحابَةِ. وسَنَتَعَرَّضُ إلى ذَلِكَ في سُورَةِ النُّورِ، ولِذَلِكَ قالَ بِالرَّجْمِ الشّافِعِيُّ مَعَ أنَّهُ لا يَقُولُ بِنَسْخِ القُرْآنِ بِالسُّنَّةِ.
والقائِلُونَ بِأنَّ حُكْمَ الرَّجْمِ ناسِخٌ لِحُكْمِ الحَبْسِ في البُيُوتِ قائِلُونَ بِأنَّ دَلِيلَ النَّسْخِ هو حَدِيثُ «قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا» وفِيهِ «والبِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ» فَتَضَمَّنَ الجَلْدَ، ونُسِبَ هَذا القَوْلُ لِلشّافِعِيِّ وجَماعَةٍ، وأوْرَدَ الجَصّاصُ عَلى الشّافِعِيِّ أنَّهُ يَلْزَمُهُ أنَّ القُرْآنَ نُسِخَ بِالسُّنَّةِ، وأنَّ السُّنَّةَ نُسِخَتْ بِالقُرْآنِ، وهو لا يَرى الأمْرَيْنِ، وأجابَ الخَطّابِيُّ بِأنَّ آيَةَ النِّساءِ مُغَيّاةٌ، فالحَدِيثُ بَيَّنَ الغايَةَ، وأنَّ آيَةَ النُّورِ نَزَلَتْ بَعْدَ ذَلِكَ، والحَدِيثُ خَصَّصَها مِن قَبْلِ نُزُولِها. قُلْتُ: وعَلى هَذا تَكُونُ آيَةُ النُّورِ نَزَلَتْ تَقْرِيرًا لِبَعْضِ الحُكْمِ الَّذِي في حَدِيثِ الرَّجْمِ، عَلى أنَّ قَوْلَهُ: إنَّ آيَةَ النِّساءِ مُغَيّاةٌ، لا يُجْدِي لِأنَّ الغايَةَ المُبْهَمَةَ لَمّا كانَ بَيانُها إبْطالًا لِحُكْمِ المُغَيّى فاعْتِبارُها اعْتِبارُ النَّسْخِ، وهَلِ النَّسْخُ كُلُّهُ إلّا إيذانٌ بِوُصُولِ غايَةِ الحُكْمِ المُرادَةِ لِلَّهِ غَيْرِ مَذْكُورَةٍ في اللَّفْظِ، (p-٢٧٦)فَذِكْرُها في بَعْضِ الأحْكامِ عَلى إبْهامِها لا يَكْسُو النُّزُولَ غَيْرَ شِعارِ النَّسْخِ، وقالَ بَعْضُهم: شُرِعَ الأذى ثُمَّ نُسِخَ بِالحَبْسِ في البُيُوتِ وإنْ كانَ في القِراءَةِ مُتَأخِّرًا. وهَذا قَوْلٌ لا يَنْبَغِي الِالتِفاتُ إلَيْهِ فَلا مُخَلِّصَ مِن هَذا الإشْكالِ إلّا بِأنْ نَجْعَلَ إجْماعَ الصَّحابَةِ عَلى تَرْكِ الإمْساكِ في البُيُوتِ، وعَلى تَعْوِيضِهِ بِالحَدِّ في زَمانِ النُّبُوَّةِ فَيَأُولُ إلى نَسْخِ القُرْآنِ بِالسُّنَّةِ المُتَواتِرَةِ، ويَنْدَفِعُ ما أوْرَدَهُ الجَصّاصُ عَلى الشّافِعِيِّ، فَإنَّ مُخالَفَةَ الإجْماعِ لِلنَّصِّ تَتَضَمَّنُ أنَّ مُسْتَنَدَ الإجْماعِ ناسِخٌ لِلنَّصِّ.
ويَتَعَيَّنُ أنْ يَكُونَ حُكْمُ الرَّجْمِ لِلْمُحْصَنِ شُرِعَ بَعْدَ الجَلْدِ، لِأنَّ الأحادِيثَ المَرْوِيَّةَ فِيهِ تَضَمَّنَتِ التَّغْرِيبَ مَعَ الجَلْدِ، ولا يُتَصَوَّرُ تَغْرِيبٌ بَعْدَ الرَّجْمِ، وهو زِيادَةٌ لا مَحالَةَ لَمْ يَذْكُرْها القُرْآنُ، ولِذَلِكَ أنْكَرَ أبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأنَّهُ زِيادَةٌ عَلى النَّصِّ فَهو نَسْخٌ عِنْدَهُ. قالَ ابْنُ العَرَبِيِّ في الأحْكامِ: أجْمَعَ رَأْيُ خِيارِ بَنِي إسْماعِيلَ عَلى أنَّ مَن أحْدَثَ حَدَثًا في الحَرَمِ يُغَرَّبُ مِنهُ، وتَمادى ذَلِكَ في الجاهِلِيَّةِ فَكانَ كُلُّ مَن أحْدَثَ حَدَثًا غُرِّبَ مِن بَلَدِهِ إلى أنْ جاءَ الإسْلامُ فَأقَرَّهُ في الزِّنى خاصَّةً. قُلْتُ: وكانَ في العَرَبِ الخَلْعُ وهو أنْ يُخْلَعَ الرَّجُلُ مِن قَبِيلَتِهِ، ويَشْهَدُونَ بِذَلِكَ في المَوْسِمِ، فَإنْ جَرَّ جَرِيرَةً لا يُطالَبُ بِها قَوْمُهُ، وإنِ اعْتُدِيَ عَلَيْهِ لا يَطْلُبُ قَوْمُهُ دِيَةً ولا نَحْوَها، وقَدْ قالَ امْرُؤُ القَيْسِ:
؎بِهِ الذِّيبُ يَعْوِي كالخَلِيعِ المُعَيَّلِ
واتَّفَقُوا عَلى أنَّ المَرْأةَ لا تُغَرَّبُ لِأنَّ تَغْرِيبَها ضَيْعَةٌ، وأنْكَرَ أبُو حَنِيفَةَ التَّغْرِيبَ لِأنَّهُ نَقْلُ ضُرٍّ مِن مَكانٍ إلى آخَرَ وعَوَّضَهُ بِالسَّجْنِ ولا يُعْرَفُ بَيْنَ أهْلِ العِلْمِ الجَمْعُ بَيْنَ الرَّجْمِ والضَّرْبِ ولا يُظَنُّ بِشَرِيعَةِ الإسْلامِ ذَلِكَ. ورُوِيَ أنَّ عَلِيًّا جَلَدَ شَراحَةَ الهَمْدانِيَّةَ ورَجَمَها بَعْدَ الجَلْدِ، وقالَ: جَلَدْتُها بِكِتابِ اللَّهِ ورَجَمْتُها بِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ.
وقُرِنَ بِالفاءِ خَبَرُ المَوْصُولَيْنِ مِن قَوْلِهِ (فاسْتَشْهِدُوا) وقَوْلِهِ (فَآذُوهُما) لِأنَّ المَوْصُولَ أُشْرِبَ مَعْنى الشَّرْطِ تَنْبِيهًا عَلى أنَّ صِلَةَ المَوْصُولِ سَبَبٌ في الحُكْمِ الدّالِّ عَلَيْهِ خَبَرُهُ، فَصارَ خَبَرُ المَوْصُولِ مِثْلَ جَوابِ الشَّرْطِ ويَظْهَرُ لِي أنَّ ذَلِكَ عِنْدَما يَكُونُ الخَبَرُ جُمْلَةً، وغَيْرَ صالِحَةٍ لِمُباشَرَةِ أدَواتِ الشَّرْطِ، بِحَيْثُ لَوْ كانَتْ جَزاءً لَلَزِمَ (p-٢٧٧)اقْتِرانُها بِالفاءِ. هَكَذا وجَدْنا مِنِ اسْتِقْراءِ كَلامِهِمْ، وهَذا الأُسْلُوبُ إنَّما يَقَعُ في الصِّلاتِ الَّتِي تُومِئُ إلى وجْهِ بِناءِ الخَبَرِ، لِأنَّها الَّتِي تُعْطِي رائِحَةَ التَّسَبُّبِ في الخَبَرِ الوارِدِ بَعْدَها. ولَكَ أنْ تَجْعَلَ دُخُولَ الفاءِ عَلامَةً عَلى كَوْنِ الفاءِ نائِبَةً عَنْ (أمّا) .
ومِنَ البَيِّنِ أنَّ إتْيانَ النِّساءِ بِالفاحِشَةِ هو الَّذِي سَبَّبَ إمْساكَهُنَّ في البُيُوتِ، وإنْ كانَ قَدْ بُنِيَ نَظْمُ الكَلامِ عَلى جَعْلِ ﴿فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ﴾ هو الخَبَرَ، لَكِنَّهُ خَبَرٌ صُورِيٌّ وإلّا فَإنَّ الخَبَرَ هو فَأمْسِكُوهُنَّ، لَكِنَّهُ جِيءَ بِهِ جَوابًا لِشَرْطٍ هو مُتَفَرِّعٌ عَلى فَإنْ شَهِدُوا فَفاءُ فاسْتَشْهِدُوا هي الفاءُ المُشْبِهَةُ لِفاءِ الجَوابِ، وفاءُ فَإنْ شَهِدُوا تَفْرِيعِيَّةٌ، وفاءُ فَأمْسِكُوهُنَّ جَزائِيَّةٌ، ولَوْلا قَصْدُ الِاهْتِمامِ بِإعْدادِ الشَّهادَةِ قَبْلَ الحُكْمِ بِالحَبْسِ في البُيُوتِ لَقِيلَ: واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكم فَأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ إنْ شَهِدَ عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةٌ مِنكم.
{"ayahs_start":15,"ayahs":["وَٱلَّـٰتِی یَأۡتِینَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ مِن نِّسَاۤىِٕكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُوا۟ عَلَیۡهِنَّ أَرۡبَعَةࣰ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُوا۟ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِی ٱلۡبُیُوتِ حَتَّىٰ یَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ یَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِیلࣰا","وَٱلَّذَانِ یَأۡتِیَـٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُوا۟ عَنۡهُمَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابࣰا رَّحِیمًا"],"ayah":"وَٱلَّذَانِ یَأۡتِیَـٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُوا۟ عَنۡهُمَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابࣰا رَّحِیمًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق