الباحث القرآني

قال تعالى: ﴿واللاَّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكُمْ فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ فَإنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ حَتّى يَتَوفّاهُنَّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ۝واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكُمْ فَآذُوهُما فَإنْ تابا وأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إنَّ اللَّهَ كانَ تَوّابًا رَحِيمًا ۝﴾ [النساء: ١٥ ـ ١٦]. الشهادةُ على الزِّنى أربعةٌ، لهذه الآيةِ، ولقولِه: ﴿والَّذِينَ يَرْمُونَ المُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ﴾ [النور: ٤]، ولقولِه: ﴿ويَدْرَأُ عَنْها العَذابَ أنْ تَشْهَدَ أرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ﴾ [النور: ٨]، وكذلك لِما في «الصحيحَيْنِ»، مِن حديثِ أبي هريرةَ، في استشهادِ النبيِّ ﷺ للزّاني على نفسِه أربعًا. وقولُه تعالى في الآيةِ: ﴿أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ تقييدٌ للشهودِ بالمؤمنينَ، ومِثلُ هذا قولُهُ في الطلاقِ: ﴿وأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنكُمْ﴾ [٢] وفي البقرةِ قال: ﴿مِمَن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ﴾ [٢٨٢]. تعظيمُ فاحشةِ الزنى: نزَلَتْ هذه الآيةُ قبلَ آياتِ الحدودِ، تشنيعًا وتبشيعًا لفاحشةِ الزِّنى، وتهديدًا لفاعِلِها، ثمَّ بيَّنَ اللهُ حُكْمَهُ وسبيلَهُ في سورةِ النورِ لمّا أنزَلَ اللهُ حَدَّ الزانيةِ والزاني غيرِ المُحْصَنِ بالجَلْدِ والتغريبِ، والمُحصَنِ بالرَّجْمِ والجَلْدِ، كما في آيةِ: «الشيخُ والشيخةُ»، والأحاديثِ المتواترةِ في الرجمِ في «الصحيحَيْنِ»، وغيرِهما. وفي الآيةِ: أنّ العقوباتِ لا تُنزَلُ إلا بالبيِّناتِ كالشهودِ، ولو مِن الوليِّ، كالزوجِ على زوجتِه، والأبِ على ابنتِه، وإنزالُها بالتشهِّي والظنِّ محرَّمٌ. وقولُه: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ﴾ هذا حُكْمٌ للنساءِ خاصَّةً في أولِ الأمرِ، لقولِه: ﴿واللاَّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكُمْ﴾. وقولُه: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكُمْ فَآذُوهُما﴾ حُكْمُ الرجالِ والنساءِ، ثمَّ جعَلَ اللهُ حُكْمَ الجميعِ كما في سورةِ النورِ. وقال بعضُ السلفِ: «إنّ الأَذى للرجالِ فقطْ»، وهو قولُ مجاهدٍ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٦/٤٩٩).]]. والأظهَرُ: عمومُ ذلك للرجلِ والمرأةِ، وهو قولُ عطاءٍ وعِكْرِمةَ والحسنِ[[ينظر: «تفسير الطبري» (٦/٥٠٠).]]. وقال ابنُ جريرٍ: إنّ المرادَ بقولِه: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكُمْ فَآذُوهُما﴾، هما البِكْرانِ[[«تفسير الطبري» (٦/٥٠١).]]، فالحبسُ حتى الموتِ على المُحصَنِينَ، والأذى على غيرِ المُحصَنِ مِن الجنسَيْنِ. وقد يصحُّ هذا القولُ لولا أنّ الخِطابَ الأولَ خاصٌّ بالنِّساءِ: ﴿واللاَّتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ﴾، والأصلُ أنّ التذكيرَ يَغلِبُ التأنيثَ، لا العكسُ. والأشهَرُ: أنّ العقوبةَ كانتْ في أولِ الأمرِ للمُحصَنِ وغيرِ المُحصَنِ، ترهيبًا مِن هذا الفعلِ، وظاهِرُ الآيةِ: أنّ اللهَ أرادَ الترهيبَ والتشديدَ، لِيَعْقُبَهُ التيسيرُ فتتقبَّلَهُ النفوسُ، لأنّه يُناسِبُ العقوبةَ على بشاعةِ فاحِشةِ الزِّنى. عقوبةُ الحَبْسِ: وفي الآيةِ: دليلٌ على عقوبةِ الحبسِ، وهو السَّجْنُ، وهو قولُه: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البُيُوتِ﴾، وهكذا كانتْ عقوبةُ الحبسِ التعزيريَّةُ بعدَ ذلك بتعويقِ المُذنِبِ عن التصرُّفِ والسيرِ في الأرضِ، وعقوبةُ الحبسِ يُلجَأُ إليها ضرورةً، وليستْ عقوبةً اختياريَّةً، ولهذا نسَخَها اللهُ حتى في الفاحشةِ ولو في المُحصَنِ، وجعَلَ مكانَها الرَّجْمَ له، والجَلْدَ والتغريبَ لغيرِ المُحصَنِ. وليس السَّجْنُ كما يَفعَلُهُ بعضُ الظَّلَمَةِ والطُّغاةِ اليومَ بالحبسِ في أذْرُعٍ ضيِّقةٍ لا تتَّسِعُ إلا للنائمِ، وربَّما القاعدِ، وهذه عقوبةٌ فوقَ الحبسِ لا تجوزُ بحالٍ. وقولُه: ﴿أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا ۝﴾ إشارةٌ إلى الحُكْمِ المخفَّفِ، فسمّاهُ سبيلًا، وهو الجَلْدُ والتغريبُ والرَّجْمُ، كما قاله ابنُ عبّاسٍ وغيرُه. قال ابنُ عبّاسٍ رضي الله عنه: «كان الحُكْمُ كذلك، حتى أنزَلَ اللهُ سورةَ النورِ، فنسَخَها بالجَلْدِ أو الرجمِ»، وكذا رُوِيَ عن عِكْرِمةَ وسعيدِ بنِ جُبيرٍ والحسنِ وعطاءٍ الخراسانيِّ وأبي صالحٍ وقتادةَ وزيدِ بنِ أسلَمَ والضحّاكِ: أنّها منسوخةٌ، وهو أمرٌ متَّفقٌ عليه[[«تفسير ابن كثير» (٢/٢٣٣).]]. روى مسلمٌ، عن عُبادَةَ بنِ الصامتِ، عن النبيِّ ﷺ، قال: (خُذُوا عَنِّي، خُذُوا عَنِّي، قَدْ جَعَلَ اللهُ لَهُنَّ سَبِيلًا، البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِئَةٍ ونَفْيُ سَنَةٍ، والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ جَلْدُ مِئَةٍ والرَّجْمُ)[[أخرجه مسلم (١٦٩٠) (٣/١٣١٦).]]. وقولُه تعالى: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكُمْ فَآذُوهُما﴾ هو التوبيخُ واللَّوْمُ، وفي هذا أنّ التوبيخَ واللومَ والتَّعْيِيرَ عقوبةٌ لا تَنزِلُ إلا على ذنبٍ، وكلَّما كان الذنبُ أشَدَّ، كان الأَذى باللسانِ أشَدَّ. وقال بعضُ السلفِ: «إنّ الأذى في الآيةِ يدخُلُ فيه الضربُ باليدِ والنِّعالِ»، صحَّ ذلك عن عليِّ بنِ أبي طَلْحةَ، عن ابنِ عبّاسٍ[[«تفسير الطبري» (٦/٥٠٣)، و«تفسير ابن المنذر» (٢/٦٠٣).]]. تأديبُ فاعلِ الفاحشةِ: وفيه: جوازُ إلحاقِ الأذى بفاعِلِ الفاحشةِ، فيؤدَّبُ باللسانِ واليدِ ممّا لا يَصِلُ إلى الحدِّ، ردعًا له وتوبيخًا وتشنيعًا له على عملِه، ومَن عَلِمَ وتيقَّنَ بزِنى رجلٍ أو امرأةٍ، وغلَبَ على ظنِّه عدمُ إقامةِ السُّلْطانِ الحَدَّ عليهما لو رفَعَهما إليه، جاز له إلحاقُ الأذى بهما بالتوبيخِ واللومِ والضربِ باليدِ تأديبًا لهما. توبةُ الزاني: وفي الآيةِ: وجوبُ تركِ مَن تابَ، وصحَّتْ توبتُهُ بعدَ إقامةِ الحدِّ عليه، فلا يُعَيَّرُ ولا يُسَبُّ ولا يُوَبَّخُ ولا يُذكرُ بذنبِه، حتى لا يُلازِمَهُ فيَهزِمَهُ، وقد ثبَتَ في «الصحيحَيْنِ»: (إذا زَنَتْ أمَةُ أحَدِكُمْ، فَتَبَيَّنَ زِناها، فَلْيَجْلِدْها الحَدَّ، ولا يُثَرِّبْ عَلَيْها)[[أخرجه البخاري (٢٢٣٤) (٣/٨٣)، ومسلم (١٧٠٣) (٣/١٣٢٨).]]، أيْ: ثمَّ لا يجوزُ أنْ يُعيِّرَها بما فعَلَتْ بعدَ الحدِّ الذي هو كفارةٌ لِما صنَعَتْ. ومِثلُه: مَن ظهَرَتْ توبتُهُ ولو لم يُقَمْ عليه الحدُّ مِن قِبَلِ السُّلْطانِ، فليس للعامَّةِ تعييرُهُ وسَبُّهُ، لأنّ الحَدَّ إلى السُّلْطانِ، والإعراضُ الذي في الآيةِ ﴿فَإنْ تابا وأَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما﴾ خطابٌ للسُّلْطانِ وللعامَّةِ. والتوبةُ لا تُسقِطُ الحَدَّ على مَن قامَتِ البيِّنةُ عليه عندَ السُّلْطانِ، وهذا قولُ الجمهورِ، كمالكٍ وأبي حنيفةَ والشافعيِّ في آخِرِ قولَيْهِ. وإذا تقادَمَ العهدُ بالذنبِ، وتَبِعَهُ صلاحٌ طويلٌ، وتربَّصَ أحدٌ بمصلِحٍ لأخذِهِ بسابقتِهِ البعيدةِ مِن الذنوبِ، فللحاكمِ أنْ يُسقِطَها عنه، لهذه الآيةِ، ولا يصحُّ إسقاطُ الحدودِ بكلِّ دعوى توبةٍ وصلاحٍ، فهذا يُعطِّلُ الشريعةَ، ويُكثِرُ مِن النِّفاقِ والفِسْقِ والكذبِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب