الباحث القرآني
(p-١٩٣)﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكم فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكم فَإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما فَإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما إنَّ اللَّهَ كانَ تَوّابًا رَحِيمًا﴾ ﴿إنَّما التَّوْبَةُ عَلى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وكانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ١٧] ﴿ولَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتّى إذا حَضَرَ أحَدَهُمُ المَوْتُ قالَ إنِّي تُبْتُ الآنَ ولا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وهم كُفّارٌ أُولَئِكَ أعْتَدْنا لَهم عَذابًا ألِيمًا﴾ [النساء: ١٨] ﴿يا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا ولا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إلّا أنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وعاشِرُوهُنَّ بِالمَعْرُوفِ فَإنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا ويَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ١٩] ﴿وإنْ أرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وآتَيْتُمْ إحْداهُنَّ قِنْطارًا فَلا تَأْخُذُوا مِنهُ شَيْئًا أتَأْخُذُونَهُ بُهْتانًا وإثْمًا مُبِينًا﴾ [النساء: ٢٠] ﴿وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وقَدْ أفْضى بَعْضُكم إلى بَعْضٍ وأخَذْنَ مِنكم مِيثاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: ٢١] ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا﴾ [النساء: ٢٢] ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكم وبَناتُكم وأخَواتُكم وعَمّاتُكم وخالاتُكم وبَناتُ الأخِ وبَناتُ الأُخْتِ وأُمَّهاتُكُمُ اللّاتِي أرْضَعْنَكم وأخَواتُكم مِنَ الرَّضاعَةِ وأُمَّهاتُ نِسائِكم ورَبائِبُكُمُ اللّاتِي في حُجُورِكم مِن نِسائِكُمُ اللّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكم وحَلائِلُ أبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِن أصْلابِكم وأنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ إنَّ اللَّهَ كانَ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [النساء: ٢٣] ﴿والمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إلّا ما مَلَكَتْ أيْمانُكم كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكم وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكم أنْ تَبْتَغُوا بِأمْوالِكم مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَما اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً ولا جُناحَ عَلَيْكم فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفَرِيضَةِ إنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ [النساء: ٢٤] ﴿ومَن لَمْ يَسْتَطِعْ مِنكم طَوْلًا أنْ يَنْكِحَ المُحْصَناتِ المُؤْمِناتِ فَمِن ما مَلَكَتْ أيْمانُكم مِن فَتَياتِكُمُ المُؤْمِناتِ واللَّهُ أعْلَمُ بِإيمانِكم بَعْضُكم مِن بَعْضٍ فانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ وآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ ولا مُتَّخِذاتِ أخْدانٍ فَإذا أُحْصِنَّ فَإنْ أتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلى المُحْصَناتِ مِنَ العَذابِ ذَلِكَ لِمَن خَشِيَ العَنَتَ مِنكم وأنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكم واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [النساء: ٢٥] ﴿يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكم ويَهْدِيَكم سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكم ويَتُوبَ عَلَيْكم واللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ [النساء: ٢٦] ﴿واللَّهُ يُرِيدُ أنْ يَتُوبَ عَلَيْكم ويُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا﴾ [النساء: ٢٧] ﴿يُرِيدُ اللَّهُ أنْ يُخَفِّفَ عَنْكم وخُلِقَ الإنْسانُ ضَعِيفًا﴾ [النساء: ٢٨] العِشْرَةُ: الصُّحْبَةُ والمُخالَطَةُ. يُقالُ: عاشَرُوا، وتَعاشَرُوا، واعْتَشَرُوا. وكانَ ذَلِكَ مِن أعْشارِ الجُذُورِ؛ لِأنَّها مُقاسَمَةٌ ومُخالَطَةٌ. الإفْضاءُ إلى الشَّيْءِ: الوُصُولُ إلى فَضاءٍ مِنهُ، أيْ سَعَةٍ غَيْرِ مَحْصُورَةٍ. وفي مَثَلِ النّاسِ فَوْضى فُضِّيَ، أيْ: مُخْتَلِطُونَ، يُباشِرُ بَعْضُهم بَعْضًا. ويُقالُ: فَضا يَفْضُو فَضاءً: إذا اتَّسَعَ، فَألِفُ أفْضى مُنْقَلِبَةٌ عَنْ ياءٍ أصْلُها واوٌ. المَقْتُ: البُغْضُ المَقْرُونُ بِاسْتِحْقارٍ حَصَلَ بِسَبَبِ أمْرٍ قَبِيحٍ ارْتَكَبَهُ صاحِبُهُ. العَمَّةُ: أُخْتُ الأبِ. الخالَةُ: أُخْتُ الأُمِّ، وألِفُها مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ، دَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهم: أخْوالٌ في جَمْعِ الخالِ، ورَجُلٌ مُخْوِلٌ: كَرِيمُ الأخْوالِ. الرَّبِيبَةُ: بِنْتُ زَوْجِ الرَّجُلِ مِن غَيْرِهِ. الحَِجْرُ بِفَتْحِ الحاءِ وكَسْرِها: مُقَدَّمُ ثَوْبِ الإنْسانِ وما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنهُ في حالِ اللُّبْسِ، ثُمَّ اسْتُعْمِلَتِ اللَّفْظَةُ في السَّيْرِ والحِفْظِ، لِأنَّ اللّابِسَ إنَّما يَحْفَظُ طِفْلًا، وما أشْبَهَهُ في ذَلِكَ المَوْضِعِ مِنَ الثَّوْبِ، وجَمْعُهُ حُجُورٌ. الحَلِيلَةُ: الزَّوْجَةُ، والحَلِيلُ الزَّوْجُ، قالَ:
؎أغْشى فَتاةَ الحَيِّ عِنْدَ حَلِيلِها وإذا غَزا في الجَيْشِ لا أغْشاها
سُمِّيَتْ حَلِيلَةً لِأنَّها تَحِلُّ مَعَ الزَّوْجِ حَيْثُ حَلَّ، فَهي فَعِيلَةٌ بِمَعْنى فاعِلَةٍ. وذَهَبَ الزَّجّاجُ وغَيْرُهُ إلى أنَّها مِن لَفْظِ الحَلالِ، فَهي حَلِيلَةٌ بِمَعْنى مُحَلَّلَةٍ. وقِيلَ: كُلُّ واحِدٍ مِنهُما يَحُلُّ إزارَ صاحِبِهِ. الصُّلْبُ: الظَّهْرُ، وصَلُبَ صَلابَةً: قَوِيَ واشْتَدَّ. وذَكَرَ الفَرّاءُ في كِتابِ لُغاتِ القُرْآنِ لَهُ: أنَّ الصُّلْبَ - وهو الظَّهْرُ - عَلى وزْنِ قُفْلٍ، هو لُغَةُ أهْلِ الحِجازِ، ويَقُولُ فِيهِ تَمِيمٌ وأسَدٌ: الصَّلَبُ بِفَتْحِ الصّادِ واللّامِ. قالَ: وأنْشَدَنِي بَعْضُهم:
؎وصَلَبٌ مِثْلُ العِنانِ المُؤْدَمِ
قالَ: وأنْشَدَنِي بَعْضُ بَنِي أسَدٍ:
؎إذا أقُومُ أتَشَكّى صَلَبِي
المُحْصَنَةُ: المَرْأةُ العَفِيفَةُ. يُقالُ: أُحْصِنَتْ فَهي مُحْصَنٌ، وحَصُنَتْ فَهي حَصانٌ: عَفَّتْ عَنِ الرِّيبَةِ ومَنَعَتْ نَفْسَها مِنها. وقالَ شَمِرٌ: يُقالُ امْرَأةٌ حَصانٌ، وحاصِنٌ. قالَ:
؎وحاصِنٍ مِن حاصِناتٍ مُلْسِ ∗∗∗ مِنَ الأذى ومِن فِراقِ الوَقْسِ
(p-١٩٤)ومَصْدَرُ حَصُنَتْ حَصْنٌ. قالَ سِيبَوَيْهِ: وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ والكِسائِيُّ: حَصانَةٌ. ويُقالُ في اسْمِ الفاعِلِ مِن أحْصَنَ وأسْهَبَ وأبْعَجَ، مُفْعَلٌ بِفَتْحِ عَيْنِ الكَلِمَةِ، وهو شُذُوذٌ نَقَلَهُ ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ. وأصْلُ الإحْصانِ المَنعُ، ومِنهُ قِيلَ لِلدِّرْعِ ولِلْمَدِينَةِ: حَصِينَةٌ والحِصْنُ وفَرَسٌ حَصانٌ. المُسافَحَةُ والسِّفاحُ: الزِّنا، وأصْلُهُ مِنَ السَّفْحِ وهو الصَّبُّ، يَسْفَحُ كُلٌّ مِنَ الزّانِيَيْنِ نُطْفَتَهُ. الخِدْنُ والخَدِينُ: الصّاحِبُ. الطَّوْلُ: الفَضْلُ، يُقالُ مِنهُ: طالَ عَلَيْهِ يَطُولُ طَوْلًا، فَضَلَ عَلَيْهِ. وقالَ اللَّيْثُ والزَّجّاجُ: الطَّوْلُ القُدْرَةُ. انْتَهى. ويُقالُ لَهُ: عَلَيْهِ طَوْلٌ، أيْ زِيادَةٌ وفَضْلٌ، وقَدْ طالَهُ طَوْلًا فَهو طائِلٌ. قالَ الشّاعِرُ:
؎لَقَدْ زادَنِي حُبًّا لِنَفْسِيَ أنَّنِي ∗∗∗ بَغِيضٌ إلى كُلِّ امْرِئٍ غَيْرِ طائِلٍ
ومِنهُ الطُّولُ في الجِسْمِ لِأنَّهُ زِيادَةٌ فِيهِ، كَما أنَّ القِصَرَ قُصُورٌ فِيهِ ونُقْصانٌ. الفَتاةُ: الحَدِيثَةُ السِّنِّ، والفَتاءُ الحَداثَةُ. قالَ: فَقَدْ ذَهَبَ المُرُوءَةُ والفَتاءُ. وقالَ ابْنُ مَنصُورٍ الجَوالِيقِيُّ: المُتَفَتِّيَةُ والفَتاةُ المُراهِقَةُ، والفَتى الرَّفِيقُ، ومِنهُ: ﴿وإذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ﴾ [الكهف: ٦٠] والفَتى: العَبْدُ. ومِنهُ: (لا يَقُلْ أحَدُكم عَبْدِي ولا أمَتِي ولَكِنْ لِيَقُلْ فَتايَ وفَتاتِي) . المَيْلُ: العُدُولُ عَنْ طَرِيقِ الِاسْتِواءِ.
﴿واللّاتِي يَأْتِينَ الفاحِشَةَ مِن نِسائِكم فاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾ قالَ مُجاهِدٌ واخْتارَهُ أبُو مُسْلِمِ بْنُ بَحْرٍ الأصْبَهانِيُّ: هَذِهِ الآيَةُ نَزَلَتْ في النِّساءِ. والمُرادُ بِالفاحِشَةِ هُنا: المُساحَقَةُ، جَعَلَ حَدَّهُنَّ الحَبْسَ إلى أنْ يَمُتْنَ أوْ يَتَزَوَّجْنَ. قالَ: ونَزَلَتْ ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكُمْ﴾ في أهْلِ اللِّواطِ. والَّتِي في النُّورِ: في الزّانِيَةِ والزّانِي، وخالَفَ جُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ. وبَناهُ أبُو مُسْلِمٍ عَلى أصْلٍ لَهُ، وهو يَرى أنَّهُ لَيْسَ في القُرْآنِ ناسِخٌ ولا مَنسُوخٌ.
ومُناسَبَةُ هَذِهِ الآيَةِ لِما قَبْلَها أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِالإحْسانِ إلى النِّساءِ فَذَكَرَ إيتاءَ صَدُقاتِهِنَّ وتَوْرِيثَهُنَّ، وقَدْ كُنَّ لا يُوَرَّثْنَ في الجاهِلِيَّةِ - ذَكَرَ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِنَّ فِيما يَأْتِينَهُ مِنَ الفاحِشَةِ، وفي الحَقِيقَةِ هو إحْسانٌ إلَيْهِنَّ، إذْ هو نَظَرٌ في أمْرِ آخِرَتِهِنَّ، ولِئَلّا يُتَوَهَّمَ أنَّ مِنَ الإحْسانِ إلَيْهِنَّ ألّا تُقامَ عَلَيْهِنَّ الحُدُودُ فَيَصِيرَ ذَلِكَ سَبَبًا لِوُقُوعِهِنَّ في أنْواعِ المَفاسِدِ. ولِأنَّهُ تَعالى لَمّا ذَكَرَ حُدُودَهُ وأشارَ بِتِلْكَ إلى جَمِيعِ ما وقَعَ مِن أوَّلِ السُّورَةِ إلى مَوْضِعِ الإشارَةِ، فَكانَ في مَبْدَأِ السُّورَةِ التَّحَصُّنُ بِالتَّزْوِيجِ، وإباحَةُ ما أباحَ مِن نِكاحِ أرْبَعٍ لِمَن أباحَ ذَلِكَ، اسْتَطْرَدَ بَعْدَ ذَلِكَ إلى حُكْمِ مَن خالَفَ ما أمَرَ اللَّهُ بِهِ مِنَ النِّكاحِ مِنَ الزَّوانِي، وأفْرَدَهُنَّ بِالذِّكْرِ أوَّلًا، لِأنَّهُنَّ عَلى ما قِيلَ أدْخَلُ في بابِ الشَّهْوَةِ مِنَ الرِّجالِ، ثُمَّ ذَكَرَهُنَّ ثانِيًا مَعَ الرِّجالِ الزّانِينَ في قَوْلِهِ: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكُمْ﴾ فَصارَ ذِكْرُ النِّساءِ الزَّوانِي مَرَّتَيْنِ: مَرَّةً بِالإفْرادِ، ومَرَّةً بِالشُّمُولِ.
واللّاتِي جَمْعٌ مِن حَيْثُ المَعْنى لِلَّتِي، ولَها جُمُوعٌ كَثِيرَةٌ، أغْرَبُها: الآتِ، وإعْرابُها إعْرابُ الهِنْداتِ.
ومَعْنى ﴿يَأْتِينَ الفاحِشَةَ﴾: يَجِئْنَ ويَغْشَيْنَ. والفاحِشَةُ هُنا الزِّنا بِإجْماعٍ مِنَ المُفَسِّرِينَ، إلّا ما نُقِلَ عَنْ مُجاهِدٍ وتَبِعَهُ أبُو مُسْلِمٍ في أنَّ المُرادَ بِهِ المُساحَقَةُ، ويَأْتِي الكَلامُ مَعَهُ في ذَلِكَ، وأُطْلِقَ عَلى الزِّنا اسْمُ الفاحِشَةِ لِزِيادَتِها في القُبْحِ عَلى كَثِيرٍ مِنَ القَبائِحِ. قِيلَ: فَإنْ قِيلَ: القَتْلُ والكُفْرُ أكْبَرُ مِنَ الزِّنا، قِيلَ: القُوى المُدَبِّرَةُ لِلْبَدَنِ ثَلاثٌ: النّاطِقَةُ، وفَسادُها بِالكُفْرِ والبِدْعَةِ وشِبْهِهِما، والغَضَبِيَّةُ، وفَسادُها بِالقَتْلِ والغَضَبِ وشِبْهِهِما، وشَهْوانِيَّةٌ، وفَسادُها بِالزِّنا واللِّواطِ والسِّحْرِ، وهي أخَسُّ هَذِهِ القُوى، فَفَسادُها أخَسُّ أنْواعِ الفَسادِ، فَلِهَذا خَصَّ هَذا العَمَلَ بِالفاحِشَةِ. وحُجَّةُ أبِي مُسْلِمٍ في أنَّ الفاحِشَةَ هي السِّحاقُ قَوْلُهُ: ﴿واللّاتِي يَأْتِينَ﴾ و﴿مِن نِسائِكُمْ﴾ وفي الرِّجالِ: ﴿واللَّذانِ﴾ ومِنكم، وظاهِرُهُ التَّخْصِيصُ، وبِأنَّ ذَلِكَ لا يَكُونُ فِيهِ نَسْخٌ، وبِأنَّهُ لا يَلْزَمُ فِيهِ التَّكْرارُ. ولِأنَّ تَفْسِيرَ السَّبِيلِ بِالرَّجْمِ أوِ الجَلْدِ والتَّغْرِيبِ عِنْدَ القائِلِينَ بِأنَّها نَزَلَتْ في الزِّنا، يَكُونُ عَلَيْهِنَّ لا لَهُنَّ، وعَلى قَوْلِنا: يَكُونُ السَّبِيلُ تَيَسُّرَ الشَّهْوَةِ لَهُنَّ بِطَرِيقِ النِّكاحِ. ورَدُّوا عَلى أبِي مُسْلِمٍ بِأنَّ ما قالَهُ لَمْ يَقُلْهُ أحَدٌ مِنَ المُفَسِّرِينَ، فَكانَ باطِلًا. وأجابَ: بِأنَّهُ قالَهُ مُجاهِدٌ، فَلَمْ يَكُنْ إجْماعًا، وتَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِالحَدِيثِ (p-١٩٥)الثّابِتِ: (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا) (الثَّيِّبُ تُرْجَمُ والبِكْرُ تُجْلَدُ) فَدَلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ في الزُّناةِ. وأجابَ بِأنَّهُ يَقْتَضِي نَسْخَ القُرْآنِ بِخَبَرِ الواحِدِ، وأنَّهُ غَيْرُ جائِزٍ. وبِأنَّ الصَّحابَةَ اخْتَلَفُوا في أحْكامِ اللُّوطِيَّةِ، ولَمْ يَتَمَسَّكْ أحَدٌ مِنهم بِقَوْلِهِ: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكُمْ﴾، فَدَلَّ عَلى أنَّها لَيْسَتْ فِيهِمْ. وأجابَ بِأنَّ مَطْلُوبَ الصَّحابَةِ: هَلْ يُقامُ الحَدُّ عَلى اللُّوطِيِّ ولَيْسَ فِيها دَلالَةٌ عَلى ذَلِكَ لا بِالنَّفْيِ ولا بِالإثْباتِ ؟ فَلِهَذا لَمْ يَرْجِعُوا إلَيْهِ. انْتَهى ما احْتَجَّ بِهِ أبُو مُسْلِمٍ، وما رُدَّ بِهِ عَلَيْهِ، وما أجابَ بِهِ. والَّذِي يَقْتَضِيهِ ظاهِرُ اللَّفْظِ هو قَوْلُ مُجاهِدٍ وغَيْرِهِ: أنَّ اللّاتِي مُخْتَصٌّ بِالنِّساءِ، وهو عامٌّ، أُحْصِنَتْ أوْ لَمْ تُحْصَنْ. وأنَّ ﴿واللَّذانِ﴾ مُخْتَصٌّ بِالذُّكُورِ، وهو عامٌّ في المُحْصَنِ وغَيْرِ المُحْصَنِ. فَعُقُوبَةُ النِّساءِ الحَبْسُ، وعُقُوبَةُ الرِّجالِ الأذى. ويَكُونُ هاتانِ الآيَتانِ وآيَةُ النُّورِ قَدِ اسْتَوْفَتْ أصْنافَ الزُّناةِ، ويُؤَيِّدُ هَذا الظّاهِرَ قَوْلُهُ: ﴿مِن نِسائِكُمْ﴾ وقَوْلُهُ: مِنكم، لا يُقالُ: إنَّ السِّحاقَ واللِّواطَ لَمْ يَكُونا مَعْرُوفَيْنِ في العَرَبِ ولا في الجاهِلِيَّةِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ كانَ مَوْجُودًا فِيهِمْ، لَكِنَّهُ كانَ قَلِيلًا. ومِن ذَلِكَ قَوْلُ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ:
؎مَلَكُ النَّهارِ وأنْتِ اللَّيْلَ مُومِسَةٌ ∗∗∗ ماءَ الرِّجالِ عَلى فَخْذَيْكِ كالقُرُسِ
وقالَ الرّاجِزُ:
؎يا عَجَبًا لِساحِقاتِ الوَرْسِ ∗∗∗ الجاعِلاتِ الكُسَّ فَوْقَ الكُسِّ
وقَرَأ الأعْمَشِ: (واللّاتِي يَأْتِينَ بِالفاحِشَةِ)، وقَوْلُهُ: ﴿مِن نِسائِكُمْ﴾ اخْتُلِفَ، هَلِ المُرادُ الزَّوْجاتُ أوِ الحَرائِرُ أوِ المُؤْمِناتُ أوِ الثَّيِّباتُ دُونَ الأبْكارِ ؟ لِأنَّ لَفْظَ (النِّساءِ) مُخْتَصٌّ في العُرْفِ بِالثَّيِّبِ، أقْوالٌ. الأوَّلُ: قالَهُ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ وغَيْرُهُما. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ ﴿مِن نِسائِكُمْ﴾ إضافَةٌ في مَعْنى الإسْلامِ، لِأنَّ الكافِرَةَ قَدْ تَكُونُ مِن نِساءِ المُسْلِمِينَ بِنَسَبٍ ولا يَلْحَقُها هَذا الحُكَمُ، انْتَهى. وظاهِرُ اسْتِعْمالِ النِّساءِ مُضافَةً لِلْمُؤْمِنِينَ في الزَّوْجاتِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِسائِهِمْ﴾ [البقرة: ٢٢٦] ﴿والَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِن نِسائِهِمْ﴾ [المجادلة: ٣] وكَوْنِ المُرادِ الزَّوْجاتِ وأنَّ الآيَةَ فِيهِمْ، هو قَوْلُ أكْثَرِ المُفَسِّرِينَ. وأمَرَ تَعالى بِاسْتِشْهادِ أرْبَعَةٍ تَغْلِيظًا عَلى المُدَّعِي، وسَتْرًا لِهَذِهِ المَعْصِيَةِ. وقِيلَ: يَتَرَتَّبُ عَلى كُلِّ واحِدٍ شاهِدانِ. وقَوْلُهُ: (عَلَيْهِنَّ) أيْ: عَلى إتْيانِهِنَّ الفاحِشَةَ. والظّاهِرُ أنَّهُ يَخْتَصُّ بِالذُّكُورِ المُؤْمِنِينَ لِقَوْلِهِ: ﴿أرْبَعَةً مِنكُمْ﴾، وأنَّهُ يَجُوزُ الِاسْتِشْهادُ لِمُعايَنَةِ الزِّنا. وإنْ تَعَمَّدَ النَّظَرِ إلى الفَرْجِ لا يَقْدَحُ في العَدالَةِ إذا كانَ ذَلِكَ لِأجْلِ الزِّنا.
وإعْرابُ (اللّاتِي) مُبْتَدَأٌ، وخَبَرُهُ ﴿فاسْتَشْهِدُوا﴾ . وجازَ دُخُولُ الفاءِ في الخَبَرِ، وإنْ كانَ لا يَجُوزُ: زَيْدٌ فاضْرِبْهُ؛ عَلى الِابْتِداءِ والخَبَرِ، لِأنَّ المُبْتَدَأ مَوْصُولٌ بِفِعْلٍ مُسْتَحِقٍّ بِهِ الخَبَرَ، وهو مُسْتَوْفٍ شُرُوطَ ما تَدْخُلُ الفاءُ في خَبَرِهِ، فَأُجْرِيَ المَوْصُولُ لِذَلِكَ مَجْرى اسْمِ الشَّرْطِ. وإذْ قَدْ أُجْرِيَ مَجْراهُ بِدُخُولِ الفاءِ فَلا يَجُوزُ أنْ يَنْتَصِبَ بِإضْمارِ فِعْلٍ يُفَسِّرُهُ ﴿فاسْتَشْهِدُوا﴾، فَيَكُونُ مِن بابِ الِاشْتِغالِ؛ لِأنَّ ﴿فاسْتَشْهِدُوا﴾ لا يَصِحُّ أنْ يَعْمَلَ فِيهِ لِجَرَيانِهِ مَجْرى اسْمِ الشَّرْطِ، فَلا يَصِحُّ أنْ يُفَسَّرَ هَكَذا. قالَ بَعْضُهم: وأجازَ قَوْمٌ النَّصْبَ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: اقْصِدُوا اللّاتِي. وقِيلَ: خَبَرُ اللّاتِي مَحْذُوفٌ، تَقْدِيرُهُ: فِيما يُتْلى عَلَيْكم حُكْمُ اللّاتِي يَأْتِينَ، كَقَوْلِ سِيبَوَيْهِ في قَوْلِهِ: ﴿والسّارِقُ والسّارِقَةُ﴾ [المائدة: ٣٨] وفي قَوْلِهِ: ﴿الزّانِيَةُ والزّانِي﴾ [النور: ٢] وعَلى ذَلِكَ حَمَلَهُ سِيبَوَيْهِ. ويَتَعَلَّقُ مِن نِسائِكم بِمَحْذُوفٍ، لِأنَّهُ في مَوْضِعِ الحالِ مِنَ الفاعِلِ في: يَأْتِينَ، تَقْدِيرُهُ: كائِناتٍ مِن نِسائِكم. ومِنكم يُحْتَمَلُ أنْ يَتَعَلَّقَ بِقَوْلِهِ: ﴿فاسْتَشْهِدُوا﴾، أوْ بِمَحْذُوفٍ فَيَكُونَ صِفَةً لِ أرْبَعَةً، أيْ: كائِنِينَ مِنكم.
﴿فَإنْ شَهِدُوا فَأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ المَوْتُ أوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا﴾ أيْ: فَإنْ شَهِدَ أرْبَعَةٌ مِنكم عَلَيْهِنَّ. والمُخاطَبُ بِهَذا الأمْرِ: أهُمُ الأزْواجُ أُمِرُوا بِذَلِكَ إذا بَدَتْ مِنَ الزَّوْجَةِ فاحِشَةُ الزِّنا، ﴿ولا تَقْرَبُوهُنَّ﴾ [البقرة: ٢٢٢] عُقُوبَةً لَهُنَّ وكانَتْ مِن جِنْسِ جَرِيمَتِهِنَّ ؟ أمِ الأوْلِياءُ إذا بَدَتْ مِمَّنْ لَهم عَلَيْهِنَّ وِلايَةٌ ونَظَرٌ يُحْبَسْنَ حَتّى يَمُتْنَ ؟ أوْ أُولُو الأمْرِ مِنَ الوُلاةِ والقُضاةِ إذْ هُمُ (p-١٩٦)الَّذِينَ يُقِيمُونَ الحُدُودَ ويَنْهَوْنَ عَنِ الفَواحِشِ ؟ أقْوالٌ ثَلاثَةٌ. والظّاهِرُ أنَّ الإمْساكَ في البُيُوتِ إلى الغايَةِ المَذْكُورَةِ كانَ عَلى سَبِيلِ الحَدِّ لَهُنَّ، وأنَّ حَدَّهُنَّ كانَ ذَلِكَ حَتّى نُسِخَ، وهو الصَّحِيحُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ، والحَسَنُ. والحَبْسُ في البَيْتِ آلَمُ وأوْجَعُ مِنَ الضَّرْبِ والإهانَةِ، لا سِيَّما إذا انْضافَ إلى ذَلِكَ أخْذُ المَهْرِ عَلى ما ذَكَرَهُ السُّدِّيُّ، لِأنَّ ألَمَ الحَبْسِ مُسْتَمِرٌّ، وألَمَ الضَّرْبِ يَذْهَبُ. قالَ ابْنُ زَيْدٍ: مُنِعْنَ مِنَ النِّكاحِ حَتّى يَمُتْنَ عُقُوبَةً لَهُنَّ حِينَ طَلَبْنَ النِّكاحَ مِن غَيْرِ وجْهِهِ. وقالَ قَوْمٌ: لَيْسَ بِحَدٍّ بَلْ هو إمْساكٌ لَهُنَّ بَعْدَ أنْ يَحُدَّهُنَّ الإمامُ صِيانَةً لَهُنَّ أنْ يَقَعْنَ في مِثْلِ ما جَرى لَهُنَّ بِسَبَبِ الخُرُوجِ مِنَ البُيُوتِ، وعَلى هَذا لا يَكُونُ الإمْساكُ حَدًّا. وإذا كانَ (يَتَوَفّى) بِمَعْنى: يُمِيتُ، فَيَكُونُ التَّقْدِيرُ: حَتّى يَتَوَفّاهُنَّ مَلَكُ المَوْتِ. وقَدْ صُرِّحَ بِهَذا المُضافِ المَحْذُوفِ، وهُنا في قَوْلِهِ: ﴿قُلْ يَتَوَفّاكم مَلَكُ المَوْتِ﴾ [السجدة: ١١] . وإنْ كانَ المَعْنِيُّ بِالتَّوَفِّي الأخْذَ، فَلا يُحْتاجُ إلى حَذْفِ مُضافٍ، إذْ يَصِيرُ التَّقْدِيرُ: حَتّى يَأْخُذَهُنَّ المَوْتُ. والسَّبِيلُ الَّذِي جَعَلَهُ اللَّهُ لَهُنَّ مَبْنِيٌّ عَلى الِاخْتِلافِ المُرادِ بِالآيَةِ. فَقِيلَ: هو النِّكاحُ المُحَصِّنُ لَهُنَّ المُغْنِي عَنِ السِّفاحِ، وهَذا عَلى تَأْوِيلِ أنَّ الخِطابَ لِلْأوْلِياءِ أوْ لِلْأُمَراءِ أوِ القُضاةِ، دُونَ الأزْواجِ. وقِيلَ: السَّبِيلُ هو ما اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ حُكْمُ الزِّنا مِنَ الحَدِّ، وهو (البِكْرُ بِالبِكْرِ جَلْدُ مِائَةٍ وتَغْرِيبُ عامٍ، والثَّيِّبُ بِالثَّيِّبِ) رَمْيٌ بِالحِجارَةِ. وثَبَتَ تَفْسِيرُ السَّبِيلِ بِهَذا مِن حَدِيثِ عُبادَةَ بْنِ الصّامِتِ في صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ النَّبِيِّ ﷺ، فَوَجَبَ المَصِيرُ إلَيْهِ. وحَدِيثُ عُبادَةَ لَيْسَ بِناسِخٍ لِهَذِهِ الآيَةِ، ولا لِأنَّهُ الجَلْدُ، بَلْ هو مُبَيِّنٌ لِمُجْمَلٍ في هَذِهِ الآيَةِ إذْ غَيّى إمْساكَهُنَّ في البُيُوتِ إلى أنْ يَجْعَلَ لَهُنَّ سَبِيلًا، وهو مُخَصِّصٌ لِعُمُومِ آيَةِ الجَلْدِ. وعَلى هَذا لا يَصِحُّ طَعْنُ أبِي بَكْرٍ الرّازِيِّ عَلى الشّافِعِيِّ في قَوْلِهِ: إنَّ السُّنَّةَ لا تَنْسَخُ القُرْآنَ، بِدَعْواهُ أنَّ آيَةَ الحَبْسِ مَنسُوخَةٌ، بِحَدِيثِ عُبادَةَ، وحَدِيثُ عُبادَةَ مَنسُوخٌ بِآيَةِ الجَلْدِ، فَيَلْزَمُ مِن ذَلِكَ نَسْخُ القُرْآنِ بِالسُّنَّةِ، والسُّنَّةِ بِالقُرْآنِ، خِلافَ قَوْلِ الشّافِعِيِّ، بَلِ البَيانُ والتَّخْصِيصُ أوْلى مِنِ ادِّعاءِ نَسْخٍ ثَلاثَ مَرّاتٍ عَلى ما ذَهَبَ إلَيْهِ أصْحابُ أبِي حَنِيفَةَ، إذْ زَعَمُوا أنَّ آيَةَ الحَبْسِ مَنسُوخَةٌ بِالحَدِيثِ، وأنَّ الحَدِيثَ مَنسُوخٌ بِآيَةِ الجَلْدِ، وآيَةَ الجَلْدِ مَنسُوخَةٌ بِآيَةِ الرَّجْمِ.
﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها مِنكم فَآذُوهُما﴾ تَقَدَّمَ قَوْلُ مُجاهِدٍ، واخْتِيارُ أبِي مُسْلِمٍ أنَّها في اللِّواطَةِ، ويُؤَيِّدُهُ ظاهِرُ التَّثْنِيَةِ. وظاهِرُ مِنكم إذْ ذَلِكَ في الحَقِيقَةِ هو لِلذُّكُورِ، والجُمْهُورُ عَلى أنَّها في الزُّناةِ الذُّكُورِ والإناثِ. و(اللَّذانِ) أُرِيدَ بِهِ الزّانِي والزّانِيَةُ، وغَلَبَ المُذَكَّرُ عَلى المُؤَنَّثِ، وتَرَتَّبَ الأذى عَلى إتْيانِ الفاحِشَةِ وهو مُقَيَّدٌ بِالشَّهادَةِ عَلى إتْيانِها. وبَيَّنَ ذَلِكَ في الآيَةِ السّابِقَةِ، وهو: شَهادَةُ أرْبَعَةٍ. والأمْرُ بِالأذى بَدَلٌ عَلى مُطْلَقِ الأذى بِقَوْلٍ أوْ فِعْلٍ أوْ بِهِما.
فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: هو النَّيْلُ بِاللِّسانِ واليَدِ، وضَرْبُ النِّعالِ وما أشْبَهَهُ. وقالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ: هو التَّعْبِيرُ والتَّوْبِيخُ. وقالَ قَوْمٌ: بِالفِعْلِ دُونَ القَوْلِ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو السَّبُّ والجَفا دُونَ تَعْيِيرٍ. وقِيلَ: الأذى المَأْمُورُ بِهِ هو الجَمْعُ بَيْنَ الحَدَّيْنِ: الجَلْدِ والرَّجْمِ، وهو قَوْلُ عَلِيٍّ، وفَعَلَهُ في الهَمْدانِيَّةِ: جَلَدَها ثُمَّ رَجَمَها.
وظاهِرُ قَوْلِهِ: ﴿واللَّذانِ يَأْتِيانِها﴾ العُمُومُ. وقالَ قَتادَةُ والسُّدِّيُّ وابْنُ زَيْدٍ وغَيْرُهم: هي في الرَّجُلِ والمَرْأةِ البِكْرَيْنِ، وأمّا الأُولى فَفي النِّساءِ المُزَوَّجاتِ، ويَدْخُلُ مَعَهُنَّ في ذَلِكَ مَن أُحْصِنَ مِنَ الرِّجالِ بِالمَعْنى. ورَجَّحَ هَذا القَوْلَ الطَّبَرِيُّ. وأجْمَعُوا عَلى أنَّ هاتَيْنِ الآيَتَيْنِ مَنسُوخَتانِ بِآيَةِ الجَلْدِ، إلّا في تَفْسِيرِ عَلِيٍّ الأذى فَلا نَسْخَ، وإلّا في قَوْلِ مَن قالَ: إنَّ الأذى بِالتَّعْيِيرِ مَعَ الجَلْدِ باقٍ فَلا نَسْخَ عِنْدَهُ، إذْ لا تَعارُضَ، بَلْ يُجْمَعانِ عَلى شَخْصٍ واحِدٍ. وإذا حُمِلَتِ الآيَتانِ عَلى الزِّنا تَكُونُ الأُولى قَدْ دَلَّتْ عَلى حَبْسِ الزَّوانِي، والثّانِيَةُ عَلى إيذائِها وإيذائِهِ، فَيَكُونُ الإيذاءُ مُشْتَرَكًا بَيْنَهُما، والحَبْسُ مُخْتَصٌّ بِالمَرْأةِ فَيُجْمَعُ عَلَيْها الحَبْسُ والإيذاءُ، هَذا ظاهِرُ اللَّفْظِ. وقِيلَ: جُعِلَتْ عُقُوبَةُ المَرْأةِ الحَبْسَ لِتَنْقَطِعَ مادَّةُ هَذِهِ المَعْصِيَةِ، وعُقُوبَةُ الرَّجُلِ الإيذاءَ، ولَمْ يُجْعَلِ (p-١٩٧)الحَبْسَ لِاحْتِياجِهِ إلى البُرُوزِ والِاكْتِسابِ. وأمّا عَلى قَوْلِ قَتادَةَ والسُّدِّيِّ: مِن أنَّ الأُولى في الثَّيِّبِ والثّانِيَةَ في البِكْرِ مِنَ الرِّجالِ والنِّساءِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ العُقُوبَتَيْنِ، فَلَيْسَ الإيذاءُ مُشْتَرَكًا. وذَهَبَ الحَسَنُ إلى أنَّ هَذِهِ الآيَةَ قَبْلَ الآيَةِ المُتَقَدِّمَةِ، ثُمَّ نَزَلَ ﴿فَأمْسِكُوهُنَّ في البُيُوتِ﴾ يَعْنِي إنْ لَمْ يَتُبْنَ وأصْرَرْنَ فَأمْسِكُوهُنَّ إلى إيضاحِ حالِهِنَّ، وهَذا قَوْلٌ يُوجِبُ فَسادَ التَّرْتِيبِ، فَهو بَعِيدٌ. وعَلى هَذِهِ الأقْوالِ يَظْهَرُ لِلتَّكْرارِ فَوائِدُ. وعَلى قَوْلِ قَتادَةَ والسُّدِّيِّ: لا تَكْرارَ، وكَذَلِكَ لا تَكْرارَ عَلى قَوْلِ مُجاهِدٍ وأبِي مُسْلِمٍ.
وإعْرابُ ﴿واللَّذانِ﴾ كَإعْرابِ (واللّاتِي) . وقَرَأ الجُمْهُورُ: ﴿واللَّذانِ﴾ بِتَخْفِيفِ النُّونِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ: بِالتَّشْدِيدِ. وذَكَرَ المُفَسِّرُونَ عِلَّةَ حَذْفِ الياءِ، وعِلَّةَ تَشْدِيدِ النُّونِ، ومَوْضُوعُ ذَلِكَ عِلْمُ النَّحْوِ. وقَرَأ الأعْمَشِ: (والَّذِينَ يَفْعَلُونَهُ مِنكم)، وهي قِراءَةٌ مُخالِفَةٌ لِسَوادِ مُصْحَفِ الإمامِ، ومُتَدافِعَةٌ مَعَ ما بَعْدَها. إذْ هَذا جَمْعٌ وضَمِيرُ جَمْعٍ، وما بَعْدَهُما ضَمِيرُ تَثْنِيَةٍ، لَكِنَّهُ يُتَكَلَّفُ لَهُ تَأْوِيلٌ: بِأنَّ الَّذِينَ جُمِعَ تَحْتَهُ صِنْفا الذُّكُورِ والإناثِ، فَعادَ الضَّمِيرُ بَعْدَهُ مُثَنًّى بِاعْتِبارِ الصِّنْفَيْنِ، كَما عادَ الضَّمِيرُ مَجْمُوعًا عَلى المُثَنّى بِاعْتِبارِ أنَّ المُثَنّى تَحْتَهُما أفْرادٌ كَثِيرَةٌ هي في مَعْنى الجَمْعِ في قَوْلِهِ: ﴿وإنْ طائِفَتانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا﴾ [الحجرات: ٩] و﴿هَذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا﴾ [الحج: ١٩] والأوْلى اعْتِقادُ قِراءَةِ عَبْدِ اللَّهِ أنَّها عَلى جِهَةِ التَّفْسِيرِ، وأنَّ المُرادَ بِالتَّثْنِيَةِ العُمُومُ في الزُّناةِ. وقُرِئَ: (واللَّذَأنِّ) بِالهَمْزَةِ وتَشْدِيدِ النُّونِ، وتَوْجِيهُ هَذِهِ القِراءَةِ أنَّهُ لَمّا شَدَّدَ النُّونَ التَقى ساكِنانِ، فَفَرَّ القارِئُ مِنِ التِقائِهِما إلى إبْدالِ الألِفِ هَمْزَةً تَشْبِيهًا لَها بِألِفِ فاعِلٍ المُدْغَمِ عَيْنُهُ في لامِهِ، كَما قُرِئَ: ولا الضّالِّينَ ولا جانٌّ وقَدْ تَقَدَّمَ لَنا الكَلامُ في ذَلِكَ مُشْبَعًا في قَوْلِهِ: ﴿ولا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] في الفاتِحَةِ.
﴿فَإنْ تابا وأصْلَحا فَأعْرِضُوا عَنْهُما﴾ أيْ: إنْ تابا عَنِ الفاحِشَةِ وأصْلَحا عَمَلَهُما فاتْرُكُوا أذاهُما. والمَعْنى: أعْرِضُوا عَنْ أذاهُما. وقِيلَ: الأمْرُ بِكَفِّ الأذى عَنْهُما مَنسُوخٌ بِآيَةِ الجَلْدِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وفي قُوَّةِ اللَّفْظِ غَضٌّ مِنَ الزُّناةِ وإنْ تابُوا، لِأنَّ تَرْكَهم إنَّما هو إعْراضٌ. ألا تَرى إلى قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] ولَيْسَ هَذا الإعْراضُ في الآيَتَيْنِ أمْرًا بِهِجْرَةٍ، ولَكِنَّها مُتارَكَةُ مُعْرِضٍ، وفي ذَلِكَ احْتِقارٌ لَهم بِسَبَبِ المَعْصِيَةِ المُتَقَدِّمَةِ. انْتَهى كَلامُهُ.
﴿إنَّ اللَّهَ كانَ تَوّابًا رَحِيمًا﴾ أيْ رَجّاعًا بِعِبادِهِ عَنْ مَعْصِيَتِهِ إلى طاعَتِهِ، رَحِيمًا لَهم بِتَرْكِ أذاهم إذا تابُوا.
{"ayahs_start":15,"ayahs":["وَٱلَّـٰتِی یَأۡتِینَ ٱلۡفَـٰحِشَةَ مِن نِّسَاۤىِٕكُمۡ فَٱسۡتَشۡهِدُوا۟ عَلَیۡهِنَّ أَرۡبَعَةࣰ مِّنكُمۡۖ فَإِن شَهِدُوا۟ فَأَمۡسِكُوهُنَّ فِی ٱلۡبُیُوتِ حَتَّىٰ یَتَوَفَّىٰهُنَّ ٱلۡمَوۡتُ أَوۡ یَجۡعَلَ ٱللَّهُ لَهُنَّ سَبِیلࣰا","وَٱلَّذَانِ یَأۡتِیَـٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُوا۟ عَنۡهُمَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابࣰا رَّحِیمًا"],"ayah":"وَٱلَّذَانِ یَأۡتِیَـٰنِهَا مِنكُمۡ فَـَٔاذُوهُمَاۖ فَإِن تَابَا وَأَصۡلَحَا فَأَعۡرِضُوا۟ عَنۡهُمَاۤۗ إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ تَوَّابࣰا رَّحِیمًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق