الباحث القرآني

(p-٢٣٥)﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا﴾ . تَفْرِيعٌ عَلى الدُّعاءِ مُؤْذِنٌ بِسُرْعَةِ الإجابَةِ، وضَمائِرُ النَّصْبِ لِمَرْيَمَ. ومَعْنى تَقَبَّلَها: تَقَبَّلَ تَحْرِيرَها لِخِدْمَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ، أيْ أقامَ اللَّهُ مَرْيَمَ مَقامَ مُنْقَطِعٍ لِلَّهِ تَعالى، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ مَشْرُوعًا مِن قَبْلُ. وقَوْلُهُ: ﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ الباءُ فِيهِ لِلتَّأْكِيدِ، وأصْلُ نَظْمِ الكَلامِ: فَتَقَبَّلَها قَبُولًا حَسَنًا، فَأُدْخِلَتِ الباءُ عَلى المَفْعُولِ المُطْلَقِ لِيَصِيرَ كالآلَةِ لِلتَّقَبُّلِ فَكَأنَّهُ شَيْءٌ ثانٍ، وهَذا إظْهارٌ لِلْعِنايَةِ بِها في هَذا القَبُولِ، وقَدْ عُرِفَ هَذا القَبُولُ بِوَحْيٍ مِنَ اللَّهِ إلى زَكَرِيّاءَ بِذَلِكَ، وأمَرَهُ بِأنْ يَكْفُلَها زَكَرِيّاءُ أعْظَمُ أحْبارِهِمْ، وأنْ يُوحى إلَيْهِ بِإقامَتِها بَعْدَ ذَلِكَ لِخِدْمَةِ المَسْجِدِ، ولَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لِلنِّساءِ قَبْلَها، وكُلُّ هَذا إرْهاصٌ بِأنَّهُ سَيَكُونُ مِنها رَسُولٌ ناسِخٌ لِأحْكامٍ كَثِيرَةٍ مِنَ التَّوْراةِ؛ لِأنَّ خِدْمَةَ النِّساءِ لِلْمَسْجِدِ المُقَدَّسِ لَمْ تَكُنْ مَشْرُوعَةً. ومَعْنى ﴿وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا﴾ أنْشَأها إنْشاءً صالِحًا. وذَلِكَ في الخُلُقِ ونَزاهَةِ الباطِنِ، فَشُبِّهَ إنْشاؤُها وشَبابُها بِإنْباتِ النَّباتِ الغَضِّ عَلى طَرِيقِ الِاسْتِعارَةِ، ونَباتٌ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ لِـ ”أنْبَتَ“ وهو مَصْدَرُ ”نَبَتَ“ وإنَّما أُجْرِيَ عَلى ”أنْبَتَ“ لِلتَّخْفِيفِ. * * * ﴿وكَفَلَها زَكَرِيّاءُ﴾ . عُدَّ هَذا في فَضائِلِ مَرْيَمَ، لِأنَّهُ مِن جُمْلَةِ ما يَزِيدُ فَضْلَها؛ لِأنَّ أبا التَّرْبِيَةِ يُكْسِبُ خُلُقَهُ وصَلاحَهُ مُرَبّاهُ. وزَكَرِيّاءُ كاهِنٌ إسْرائِيلِيٌّ اسْمُهُ زَكَرِيّاءُ مِن بَنِي أبِيّا بْنِ باكِرِ بْنِ بِنْيامِينَ مِن كَهَنَةِ اليَهُودِ، جاءَتْهُ النُّبُوءَةُ في كِبَرِهِ وهو ثانِي مَنِ اسْمُهُ زَكَرِيّاءُ مِن أنْبِياءِ بَنِي إسْرائِيلَ، وكانَ مُتَزَوِّجًا امْرَأةً مِن ذُرِّيَّةِ هارُونَ اسْمُها (اليَصاباتُ) وكانَتِ امْرَأتُهُ نَسِيبَةَ مَرْيَمَ كَما في إنْجِيلِ لُوقا قِيلَ: كانَتْ أُخْتَها. والصَّحِيحُ أنَّها كانَتْ خالَتَها، أوْ مِن قَرابَةِ أُمِّها، ولَمّا وُلِدَتْ مَرْيَمُ كانَ أبُوها قَدْ ماتَ فَتَنازَعَ كَفالَتَها جَماعَةٌ مِن أحْبارِ بَنِي إسْرائِيلَ حِرْصًا (p-٢٣٦)عَلى كَفالَةِ بِنْتِ حَبْرِهِمُ الكَبِيرِ، واقْتَرَعُوا عَلى ذَلِكَ كَما يَأْتِي، فَطارَتِ القُرْعَةُ لِزَكَرِيّاءَ، والظّاهِرُ أنَّ جَعْلَ كَفالَتِها لِلْأحْبارِ لِأنَّها مُحَرَّرَةٌ لِخِدْمَةِ المَسْجِدِ، فَيَلْزَمُ أنْ تُرَبّى تَرْبِيَةً صالِحَةً لِذَلِكَ. وقَرَأ الجُمْهُورُ: وكَفَلَها زَكَرِيّاءُ - بِتَخْفِيفِ الفاءِ مِن كَفَلَها - أيْ تَوَلّى كَفالَتَها، وقَرَأ حَمْزَةُ، وعاصِمٌ، والكِسائِيُّ، وخَلَفٌ: وكَفَّلَها، بِتَشْدِيدِ الفاءِ أيْ أنَّ اللَّهَ جَعَلَ زَكَرِيّاءَ كافِلًا لَها، وقَرَأ الجُمْهُورُ زَكَرِيّاءُ بِهَمْزَةٍ في آخِرِهِ، مَمْدُودًا وبِرَفْعِ الهَمْزَةِ، وقَرَأهُ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، وحَفْصٌ عَنْ عاصِمٍ، وخَلَفٌ: بِالقَصْرِ، وقَرَأهُ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ: بِالهَمْزَةِ في آخِرِهِ، ونَصَبَ الهَمْزَةَ. * * * ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّاءُ المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يا مَرْيَمُ أنّى لَكِ هَذا قالَتْ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ . دَلَّ قَوْلُهُ: ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّاءُ المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ عَلى كَلامٍ مَحْذُوفٍ، أيْ فَكانَتْ مَرْيَمُ مُلازِمَةً لِخِدْمَةِ بَيْتِ المَقْدِسِ، وكانَتْ تَتَعَبَّدُ بِمَكانٍ تَتَّخِذُهُ لَها مِحْرابًا، وكانَ زَكَرِيّاءُ يَتَعَهَّدُ تَعَبُّدَها فَيَرى كَرامَةً لَها أنَّ عِنْدَها ثِمارًا في غَيْرِ وقْتِ وُجُودِ صِنْفِها. و”كُلَّما“ مُرَكَّبَةٌ مِن ”كُلَّ“ الَّذِي هو اسْمٌ لِعُمُومِ ما يُضافُ هو إلَيْهِ، ومِن ”ما“ الظَّرْفِيَّةِ وصِلَتِها المُقَدَّرَةِ بِالمَصْدَرِ، والتَّقْدِيرُ: كُلَّ وقْتِ دُخُولِ زَكَرِيّاءَ عَلَيْها وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا. وانْتَصَبَ ”كُلَّ“ عَلى النِّيابَةِ عَنِ المَفْعُولِ فِيهِ، وقَدْ تَقَدَّمَ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿كُلَّما رُزِقُوا مِنها مِن ثَمَرَةٍ رِزْقًا قالُوا هَذا الَّذِي رُزِقْنا مِن قَبْلُ﴾ [البقرة: ٢٥] في سُورَةِ البَقَرَةِ. فَجُمْلَةُ ﴿وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ حالٌ مِن زَكَرِيّاءَ في قَوْلِهِ: ﴿وكَفَلَها زَكَرِيّاءُ﴾ . (p-٢٣٧)ولَكَ أنْ تَجْعَلَ جُمْلَةَ ﴿وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ بَدَلَ اشْتِمالٍ مِن جُمْلَةِ وكَفَلَها زَكَرِيّاءُ. والمِحْرابَ بِناءٌ يَتَّخِذُهُ أحَدٌ لِيَخْلُوَ فِيهِ بِتَعَبُّدِهِ وصَلاتِهِ، وأكْثَرُ ما يُتَّخَذُ في عُلُوٍّ يُرْتَقى إلَيْهِ بِسُلَّمٍ أوْ دَرَجٍ، وهو غَيْرُ المَسْجِدِ، وأُطْلِقَ عَلى غَيْرِ ذَلِكَ إطْلاقاتٍ عَلى وجْهِ التَّشْبِيهِ أوِ التَّوَسُّعِ، كَقَوْلِ عُمَرَ بْنِ أبِي رَبِيعَةَ: ؎دُمْيَةٌ عِنْدَ راهِـبٍ قِـسِّـيسٍ صَوَّرُوها في مَذْبَحِ المِحْرابِ أرادَ في مَذْبَحِ البَيْعَةِ، لِأنَّ المِحْرابَ لا يُجْعَلُ فِيهِ مَذْبَحٌ. وقَدْ قِيلَ: إنَّ المِحْرابَ مُشْتَقٌّ مِنَ الحَرْبِ؛ لِأنَّ المُتَعَبِّدَ كَأنَّهُ يُحارِبُ الشَّيْطانَ فِيهِ، فَكَأنَّهم جَعَلُوا ذَلِكَ المَكانَ آلَةً لِمِحْرَبِ الشَّيْطانِ. ثُمَّ أُطْلِقَ المِحْرابُ عِنْدَ المُسْلِمِينَ عَلى مَوْضِعٍ كَشَكْلِ نِصْفِ قُبَّةٍ في طُولِ قامَةٍ ونِصْفٍ، يُجْعَلُ بِمَوْضِعِ القِبْلَةِ لِيَقِفَ فِيهِ الإمامُ لِلصَّلاةِ. وهو إطْلاقٌ مُوَلَّدٌ وأوَّلُ مِحْرابٍ في الإسْلامِ مِحْرابُ مَسْجِدِ الرَّسُولِ ﷺ صُنِعَ في خِلافَةِ الوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ، مُدَّةَ إمارَةِ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ عَلى المَدِينَةِ. والتَّعْرِيفُ في ”المِحْرابِ“ تَعْرِيفُ الجِنْسِ ويُعْلَمُ أنَّ المُرادَ مِحْرابٌ جَعَلَتْهُ مَرْيَمُ لِلتَّعَبُّدِ. وأنّى اسْتِفْهامٌ عَنِ المَكانِ، أيْ مِن أيْنَ لَكِ هَذا، فَلِذَلِكَ كانَ جَوابُ اسْتِفْهامِهِ قَوْلَها مِن عِنْدِ اللَّهِ. واسْتِفْهامُ زَكَرِيّاءَ مَرْيَمَ عَنِ الرِّزْقِ لِأنَّهُ في غَيْرِ إبّانِهِ ووَقْتِ أمْثالِهِ، قِيلَ: كانَ عِنَبًا في فَصْلِ الشِّتاءِ. والرِّزْقُ تَقَدَّمَ آنِفًا عِنْدَ قَوْلِهِ: ﴿وتَرْزُقُ مَن تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [آل عمران: ٢٧] . وجُمْلَةُ ﴿إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ﴾ مِن كَلامِ مَرْيَمَ المَحْكِيِّ. والحِسابُ في قَوْلِهِ: ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ [آل عمران: ٢٧] بِمَعْنى الحَصْرِ؛ لِأنَّ الحِسابَ يَقْتَضِي حَصْرَ الشَّيْءِ المَحْسُوبِ بِحَيْثُ لا يَزِيدُ ولا يَنْقُصُ، فالمَعْنى إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يُرِيدُ رِزْقَهُ بِما لا يُعْرَفُ مِقْدارُهُ لِأنَّهُ مَوْكُولٌ إلى فَضْلِ اللَّهِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب