الباحث القرآني
﴿فَتَقَبَّلَها﴾ أيْ: أخَذَ مَرْيَمَ ورَضِيَ بِها في النَّذْرِ مَكانَ الذَّكَرِ.
﴿رَبُّها﴾ مالِكُها ومُبَلِّغُها إلى كَمالِها اللّائِقِ وفِيهِ مِن تَشْرِيفِها ما لا يَخْفى.
﴿بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ قِيلَ: الباءُ زائِدَةٌ، والقَبُولُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ السّابِقِ بِحَذْفِ الزَّوائِدِ، أيْ: تَقَبَّلَها قَبُولًَا حَسَنًَا، وإنَّما عَدَلَ عَنِ الظّاهِرِ لِلْإيذانِ بِمُقارَنَةِ التَّقَبُّلِ لِكَمالِ الرِّضا ومُوافَقَتِهِ لِلْعِنايَةِ الذّاتِيَّةِ، فَإنَّ صِيغَةَ التَّفَعُّلِ مُشْعِرَةٌ بِحَسَبِ أصْلِ الوَضْعِ بِالتَّكَلُّفِ وكَوْنِ الفِعْلِ عَلى خِلافِ طَبْعِ الفاعِلِ وإنْ كانَ المُرادُ بِها في حَقِّهِ تَعالى ما يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِن كَمالِ قُوَّةِ الفِعْلِ وكَثْرَتِهِ، وقِيلَ: القَبُولُ ما يُقْبَلُ بِهِ الشَّيْءُ كالسَّعُوطِ واللَّدُودِ لِما يُسْعَطُ بِهِ ويُلَدُّ وهو اخْتِصاصُهُ تَعالى إيّاها بِإقامَتِها مَقامَ الذَّكَرِ في النَّذْرِ ولَمْ تُقْبَلْ قَبْلَها أُنْثى أوْ بِأنْ تَسَلَّمَها مِن أُمِّها عَقِيبَ الوِلادَةِ قَبْلَ أنْ تَنْشَأ وتَصْلُحَ لِلسِّدانَةِ. رُوِيَ أنَّ حَنَّةَ حِينَ ولَدَتْها لَفَّتْها في خِرْقَةٍ وحَمَلَتْها إلى المَسْجِدِ و وضَعَتْها عِنْدَ الأحْبارِ أبْناءِ هارُونَ وهم في بَيْتِ المَقْدِسِ كالحَجَبَةِ في الكَعْبَةِ، و قالَتْ لَهُمْ: دُونَكم هَذِهِ النَّذِيرَةُ فَتَنافَسُوا فِيها لِأنَّها كانَتْ بِنْتَ إمامِهِمْ وصاحِبِ قُرْبانِهِمْ، فَإنَّ بَنِي ماثانَ كانَتْ رُءُوسَ بَنِي إسْرائِيلَ ومُلُوكَهم. وقِيلَ: لِأنَّهم وجَدُوا أمْرَها و أمْرَ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في الكُتُبِ الإلَهِيَّةِ، فَقالَ زَكَرِيّا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: أنا أحَقُّ بِها عِنْدِي خالَتُها، فَأبَوْا إلّا القُرْعَةَ وكانُوا سَبْعَةً وعِشْرِينَ، فانْطَلَقُوا إلى نَهْرٍ، فَألْقَوْا فِيهِ أقْلامَهُمْ، فَطَفا قَلَمُ زَكَرِيّا ورَسَبَتْ أقْلامُهم فَتَكَفَّلَها. وقِيلَ: هو مَصْدَرٌ وفِيهِ مُضافٌ مُقَدَّرٌ، أيْ: فَتَقَبَّلَها بِذِي قَبُولٍ، أيْ: بِأمْرٍ ذِي قَبُولٍ حَسَنٍ. وقِيلَ: "تَقَبَّلَ" بِمَعْنى: اسْتَقْبَلَ، كَتَقَصّى بِمَعْنى اسْتَقْصى، وتَعَجَّلَ بِمَعْنى اسْتَعْجَلَ، أيِ: اسْتَقْبَلَها في أوَّلِ أمْرِها حِينَ وُلِدَتْ بِقَبُولٍ حَسَنٍ.
﴿وَأنْبَتَها﴾ مَجازٌ عَنْ (p-30)تَرْبِيَتِها بِما يُصْلِحُها في جَمِيعِ أحْوالِها.
﴿نَباتًا حَسَنًا﴾ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِلْفِعْلِ المَذْكُورِ بِحَذْفِ الزَّوائِدِ. وقِيلَ: بَلْ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ مُوافِقٍ لَهُ تَقْدِيرُهُ: "فَنَبَتَتْ نَباتًَا حَسَنًَا".
﴿وَكَفَّلَها زَكَرِيّا﴾ أيْ: جَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ كافِلًَا لَها وضامِنًَا لِمَصالِحِها قائِمًَا بِتَدْبِيرِ أُمُورِها لا عَلى طَرِيقَةِ الوَحْيِ بَلْ عَلى ما ذَكَرَ مِنَ التَّفْصِيلِ، فَإنَّ رَغْبَتَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في كَفالَتِها وطُفُوَّ قَلَمِهِ ورُسُوبَ أقْلامِهِمْ وغَيْرَ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الجارِيَةِ بَيْنَهم كُلُّها مِن آثارِ قدرته تعالى. وقُرِئَ "اكْفُلْها". وقُرِئَ "زَكَرِيّاءَ" بِالنَّصْبِ والمَدِّ. وقُرِئَ بِتَخْفِيفِ الفاءِ وكَسْرِها ورَفْعِ "زَكَرِيّاءُ" مَمْدُودًَا. وقُرِئَ "وَتَقَبَّلْها رَبَّها" و "أنْبِتْها" و "كَفِّلْها" عَلى صِيغَةِ الأمْرِ في الكُلِّ، ونَصْبُ "رَبَّها" عَلى الدُّعاءِ، أيْ: فاقْبَلْها يا رَبَّها ورَبِّها تَرْبِيَةً حَسَنَةً واجْعَلْ زَكَرِيّا كافِلًَا لَها، فَهو تَعْيِينٌ لِجِهَةِ التَّرْبِيَةِ. قِيلَ: بَنى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَها مِحْرابًَا في المَسْجِدِ، أيْ: غُرْفَةً يُصْعَدُ إلَيْها بِسُلَّمٍ. وقِيلَ: المِحْرابُ أشْرَفُ المَجالِسِ ومُقَدَّمُها كَأنَّها وُضِعَتْ في أشْرَفِ مَوْضِعٍ مِن بَيْتِ المَقْدِسِ. وقِيلَ: كانَتْ مَساجِدُهم تُسَمّى المَحارِيبَ. رُوِيَ أنَّهُ كانَ لا يَدْخُلُ عَلَيْها إلّا هو وحْدَهُ وإذا خَرَجَ غَلَّقَ عَلَيْها سَبْعَةَ أبْوابٍ.
﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ﴾ تَقْدِيمُ الظَّرْفِ عَلى الفاعِلِ لِإظْهارِ كَمالِ العِنايَةِ بِأمْرِها، و نَصْبُ المِحْرابِ عَلى التَّوَسُّعِ، وكَلِمَةُ "كُلَّما" ظَرْفٌ عَلى أنَّ ما مَصْدَرِيَّةٌ، و الزَّمانُ مَحْذُوفٌ أوْ نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ مَعْناها الوَقْتُ، و العائِدُ مَحْذُوفٌ والعامِلُ فِيها جَوابُها، أيْ: كُلَّ زَمانِ دُخُولِهِ عَلَيْها أوْ كُلَّ وقْتٍ دَخَلَ عَلَيْها فِيهِ.
﴿وَجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ أيْ: نَوْعًَا مِنهُ غَيْرَ مُعْتادٍ إذْ كانَ يَنْزِلُ ذَلِكَ مِنَ الجَنَّةِ وكانَ يَجِدُ عِنْدَها في الصَّيْفِ فاكِهَةَ الشِّتاءِ، وفي الشِّتاءِ فاكِهَةَ الصَّيْفِ ولَمْ تَرْضَعْ ثَدْيًَا قَطُّ.
﴿قالَ﴾ اسْتِئْنافٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّؤالِ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا قالَ زَكَرِيّا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ عِنْدَ مُشاهَدَةِ هَذِهِ الآيَةِ، فَقِيلَ: قالَ: ﴿يا مَرْيَمُ أنَّي لَكِ هَذا﴾ أيْ: مِن أيْنَ يَجِيءُ لَكِ هَذا الَّذِي لا يُشْبِهُ أرْزاقَ الدُّنْيا والأبْوابُ مُغْلَقَةٌ دُونَكِ، وهو دَلِيلٌ عَلى جَوازِ الكَرامَةِ لِلْأوْلِياءِ ومَن أنْكَرَها جَعَلَ هَذا إرْهاصًَا وتَأْسِيسًَا لِرِسالَةِ عِيسى عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، و أمّا جَعْلُهُ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيّا عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ فَيَأْباهُ اشْتِباهُ الأمْرِ عَلَيْهِ عَلَيْهِ السَّلامُ وإنَّما خاطَبَها عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِذَلِكَ مَعَ كَوْنِها بِمَعْزِلٍ مِن رُتْبَةِ الخِطابِ لِما عَلِمَ بِما شاهَدَهُ أنَّها مُؤَيَّدَةٌ مِن عِنْدِ اللَّهِ بِالعِلْمِ والقُدْرَةِ.
﴿قالَتْ﴾ اسْتِئْنافٌ كَما قَبْلَهُ، كَأنَّهُ قِيلَ: فَماذا صَنَعَتْ مَرْيَمُ وهي صَغِيرَةٌ لا قُدْرَةَ لَها عَلى فَهْمِ السُّؤالِ و رَدِّ الجَوابِ، فَقِيلَ: قالَتْ: ﴿هُوَ مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ فَلا تَعْجَبْ ولا تَسْتَبْعِدْ.
﴿إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ﴾ أنْ يَرْزُقَهُ.
﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ أيْ: بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَتِهِ أوْ بِغَيْرِ اسْتِحْقاقٍ تَفَضُّلًَا مِنهُ تَعالى، و هو تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ، إمّا مِن تَمامِ كَلامِهِما فَيَكُونُ في مَحَلِّ النَّصْبِ، و إمّا مِن كَلامِهِ عَزَّ وجَلَّ فَهو مُسْتَأْنِفٌ. رُوِيَ «أنَّ فاطِمَةَ الزَّهْراءَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْها أهْدَتْ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ رَغِيفَيْنِ وبِضْعَةَ لَحْمٍ، فَرَجَعَ بِها إلَيْها، فَقالَ: هَلُمِّي يا بُنَيَّةُ فَكَشَفَتْ عَنِ الطَّبَقِ فَإذا هو مَمْلُوءٌ خُبْزًَا ولَحْمًَا، فَقالَ لَها: أنّى لَكِ هَذا، قالَتْ: هو مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ، فَقالَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي جَعَلَكِ شَبِيهَةً بِسَيِّدَةِ بَنِي إسْرائِيلَ، ثُمَّ جَمَعَ عَلِيًَّا والحَسَنَ والحُسَيْنَ وجَمِيعَ أهْلِ بَيْتِهِ رِضْوانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ أجْمَعِينَ فَأكَلُوا و شَبِعُوا وبَقِيَ الطَّعامُ كَما هو فَأوْسَعَتْ عَلى جِيرانِها.»
{"ayah":"فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنࣲ وَأَنۢبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنࣰا وَكَفَّلَهَا زَكَرِیَّاۖ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَیۡهَا زَكَرِیَّا ٱلۡمِحۡرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزۡقࣰاۖ قَالَ یَـٰمَرۡیَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَاۖ قَالَتۡ هُوَ مِنۡ عِندِ ٱللَّهِۖ إِنَّ ٱللَّهَ یَرۡزُقُ مَن یَشَاۤءُ بِغَیۡرِ حِسَابٍ"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق