الباحث القرآني

اَلْقَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [ ٣٧ ] ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا وكَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يا مَرْيَمُ أنّى لَكِ هَذا قالَتْ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ أيْ: قَبِلَها أوْ تَكَفَّلَ بِها. ولَمْ يَقُلْ: (بِتَقَبُّلٍ)، (p-٨٣٦)لِلْجَمْعِ بَيْنَ الأمْرَيْنِ: التَّقَبُّلُ الَّذِي هو التَّرَقِّي في القَبُولِ، والقَبُولُ الَّذِي يَقْتَضِي الرِّضا والإثابَةَ، قالَ المَهايِمِيُّ: بِقَبُولٍ حَسَنٍ يَجْعَلُها فَوْقَ كَثِيرٍ مِنَ الأوْلِياءِ ﴿وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا﴾ بِجَعْلِ ذُرِّيَّتِها مِن كِبارِ الأنْبِياءِ - انْتَهى - وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: نَباتُها مَجازٌ عَنْ التَّرْبِيَةِ الحَسَنَةِ العائِدَةِ عَلَيْها بِما يُصْلِحُها في جَمِيعِ أحْوالِها، أيْ: كالصَّلاحِ والسَّدادِ والعِفَّةِ والطّاعَةِ: ﴿وكَفَّلَها زَكَرِيّا﴾ أيْ: ضَمَّها إلَيْهِ، وقُرِئَ بِالتَّشْدِيدِ. ونَصْبَ زَكَرِيّا مَمْدُودًا أوْ مَقْصُورًا، والفاعِلُ اللَّهُ. أيْ: جَعَلَهُ كافِلًا لَها وضامِنًا لِمَصالِحِها، وقائِمًا بِتَدْبِيرِ أُمُورِها. وقَدْ رُوِيَ أنَّ أُمَّها أخَذَتْها وحَمَلَتْها إلى المَسْجِدِ، ووَضَعَتْها عِنْدَ الأحْبارِ وقالَتْ: دُونَكم هَذِهِ النَّذِيرَةُ، فَتَنافَسُوا فِيها إذْ كانَتْ بِنْتَ إمامِهِمْ، وصاحِبِ قُرْبانِهِمْ، وأحَبَّ كُلٌّ أنْ يَحْظى بِتَرْبِيَتِها، فَقالَ لَهم زَكَرِيّا: أنا أحَقُّ بِها، عِنْدِي خالَتُها، فَأبَوْا إلّا القُرْعَةَ، وانْطَلَقُوا إلى نَهْرٍ فَألْقَوْا فِيها أقْلامَهم، عَلى أنَّ مَن ثَبَتَ قَلَمُهُ في الماءِ وصَعِدَ فَهو أوْلى بِها، فَطَفا قَلَمُ زَكَرِيّا، ورَسَبَتْ أقْلامُهم، وإلَيْهِ الإشارَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى في آيَةٍ أُخْرى: ﴿إذْ يُلْقُونَ أقْلامَهم أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [آل عمران: ٤٤] فَأخَذَها زَكَرِيّا ورَبّاها في حِجْرِ خالَتِها، حَتّى إذا نَشَأتْ وبَلَغَتْ مَبالِغَ النِّساءِ، انْزَوَتْ في مِحْرابِها تَتَعَبَّدُ فِيهِ، وصارَتْ بِحَيْثُ: ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يا مَرْيَمُ أنّى لَكِ هَذا قالَتْ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ فِي الآيَةِ مَسائِلُ: اَلْأُولى: في مَعْنى المِحْرابِ: في القامُوسِ وشَرْحِهِ ما نَصُّهُ: والمِحْرابُ: الغُرْفَةُ والمَوْضِعُ العالِي، نَقَلَهُ الهَرَوِيُّ في غَرِيبِهِ عَنْ الأصْمَعِيِّ، قالَ وضّاحُ اليَمَنِ: ؎رَبَّةُ مِحْرابٍ إذا جِئْتُها لَمْ ألْقَها أوْ أرْتَقِي سُلَّما وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ: المِحْرابُ سَيِّدُ المَجالِسِ ومُقَدَّمُها وأشْرَفُها. قالَ: وكَذَلِكَ هو مِنَ المَساجِدِ، (p-٨٣٧)وعَنْ الأصْمَعِيِّ: العَرَبُ تُسَمِّي القَصْرَ مِحْرابًا لِشَرَفِهِ. وقالَ الأزْهَرِيُّ: المِحْرابُ عِنْدَ العامَّةِ الَّذِي يَفْهَمُهُ النّاسُ مَقامُ الإمامِ مِنَ المَسْجِدِ. قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: سُمِّيَ مِحْرابَ المَسْجِدِ لِانْفِرادِ الإمامِ فِيهِ، وبُعْدِهِ مِنَ القَوْمِ. ومِنهُ يُقالُ: فُلانٌ حَرْبٌ لِفُلانٍ، إذا كانَ بَيْنَهُما بُعْدٌ وتَباغُضٌ. وفي المِصْباحِ: ويُقالُ هو مَأْخُوذٌ مِنَ المُحارَبَةِ؛ لِأنَّ المُصَلِّيَ يُحارِبُ الشَّيْطانَ ويُحارِبُ نَفْسَهُ بِإحْضارِ قَلْبِهِ، ثُمَّ قالَ: ومَحارِيبُ بَنِي إسْرائِيلَ هي مَساجِدُهم الَّتِي كانُوا يَجْلِسُونَ فِيها. انْتَهى. الثّانِيَةُ: في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى وُقُوعِ الكَرامَةِ لِأوْلِياءِ اللَّهِ تَعالى، كَما وُجِدَ، عِنْدَ خُبَيْبِ بْنِ عَدِيٍّ الأنْصارِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - المُسْتَشْهِدِ بِمَكَّةَ، قِطْفُ عِنَبٍ، كَما في البُخارِيِّ. وفي الكِتابِ والسُّنَّةِ لِهَذا نَظائِرُ كَثِيرَةٌ، ومِنَ اللَّطائِفِ هُنا ما نَقَلَهُ الإمامُ الشَّعْرانِيُّ في (اليَواقِيتِ) عَنْ العارِفِ أبِي الحَسَنِ الشّاذِلِيِّ - قُدِّسَ سِرُّهُ - أنَّهُ قالَ: إنَّ مَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ كانَ يُتَعَرَّفُ إلَيْها في بِداياتِها بِخَرْقِ العَوائِدِ بِغَيْرِ سَبَبٍ تَقْوِيَةً لِإيمانِها وتَكْمِيلًا لِيَقِينِها، فَكانَتْ كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا. فَلَمّا قَوِيَ إيمانُها ويَقِينُها رُدَّتْ إلى السَّبَبِ لِعَدَمِ وُقُوفِها مَعَهُ، فَقِيلَ لَها: ﴿وهُزِّي إلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا﴾ [مريم: ٢٥] انْتَهى. الثّالِثَةُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ﴾ إلَخْ تَعْلِيلٌ لِكَوْنِهِ مِن عِنْدِ اللَّهِ. إمّا مِن تَمامِ كَلامِها فَيَكُونُ في مَحَلِّ نَصْبٍ، وإمّا مِن كَلامِهِ - عَزَّ وجَلَّ - فَهو مُسْتَأْنَفٌ، ومَعْنى: ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ أيْ: بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَتِهِ. وإمّا بِغَيْرِ اسْتِحْقاقٍ تَفْضُّلًا مِنهُ تَعالى. الرّابِعَةُ: زَكَرِيّا المُنَوَّهُ بِهِ هُنا هو والِدُ يَحْيى عَلَيْهِما السَّلامُ، ومَعْنى زَكَرِيّا: تِذْكارُ الرَّبِّ كَما في تَأْوِيلِ أسْماءِ التَّوْراةِ والإنْجِيلِ. (p-٨٣٨)
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب