الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا وآلَ إبْراهِيمَ وآلَ عِمْرانَ عَلى العالَمِينَ﴾ ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ (p-١٨)اعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّ مَحَبَّتَهُ لا تَتِمُّ إلّا بِمُتابَعَةِ الرُّسُلِ بَيَّنَ عُلُوَّ دَرَجاتِ الرُّسُلِ وشَرَفَ مَناصِبِهِمْ فَقالَ: ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ﴾ وفي الآيَةِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: اعْلَمْ أنَّ المَخْلُوقاتِ عَلى قِسْمَيْنِ: المُكَلَّفُ وغَيْرُ المُكَلَّفِ واتَّفَقُوا عَلى أنَّ المُكَلَّفَ أفْضَلُ مِن غَيْرِ المُكَلَّفِ، واتَّفَقُوا عَلى أنَّ أصْنافَ المُكَلَّفِ أرْبَعَةٌ: المَلائِكَةُ، والإنْسُ والجِنُّ، والشَّياطِينُ، أمّا المَلائِكَةُ، فَقَدْ رُوِيَ في الأخْبارِ أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَهم مِنَ الرِّيحِ ومِنهم مَنِ احْتَجَّ بِوُجُوهٍ عَقْلِيَّةٍ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ. فالأوَّلُ: أنَّهم لِهَذا السَّبَبِ قَدَرُوا عَلى الطَّيَرانِ عَلى أسْرَعِ الوُجُوهِ. والثّانِي: لِهَذا السَّبَبِ قَدَرُوا عَلى حَمْلِ العَرْشِ، لِأنَّ الرِّيحَ تَقُومُ بِحَمْلِ الأشْياءِ. الثّالِثُ: لِهَذا السَّبَبِ سُمُّوا رُوحانِيِّينَ، وجاءَ في رِوايَةٍ أُخْرى أنَّهم خُلِقُوا مِنَ النُّورِ، ولِهَذا صَفَتْ وأخْلَصَتْ لِلَّهِ تَعالى، والأوْلى أنْ يُجْمَعَ بَيْنَ القَوْلَيْنِ فَنَقُولُ: أبْدانُهم مِنَ الرِّيحِ وأرْواحُهم مِنَ النُّورِ، فَهَؤُلاءِ هم سُكّانُ عالَمِ السَّماواتِ، أمّا الشَّياطِينُ فَهم كَفَرَةٌ أمّا إبْلِيسُ فَكُفْرُهُ ظاهِرٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وكانَ مِنَ الكافِرِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٣٤ ] وأمّا سائِرُ الشَّياطِينِ فَهم أيْضًا كَفَرَةٌ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وإنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إلى أوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكم وإنْ أطَعْتُمُوهم إنَّكم لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنْعامِ: ١٢١ ] ومِن خَواصِّ الشَّياطِينِ أنَّهم بِأسْرِها أعْداءٌ لِلْبَشَرِ قالَ تَعالى: ﴿فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبِّهِ أفَتَتَّخِذُونَهُ وذُرِّيَّتَهُ أوْلِياءَ مِن دُونِي وهم لَكم عَدُوٌّ﴾ [الكَهْفِ: ٥٠ ] وقالَ: ﴿وكَذَلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الإنْسِ والجِنِّ﴾ [الأنْعامِ: ١١٢ ] ومِن خَواصِّ الشَّياطِينِ كَوْنُهم مَخْلُوقِينَ مِنَ النّارِ قالَ اللَّهُ تَعالى حِكايَةً عَنْ إبْلِيسَ: ﴿خَلَقْتَنِي مِن نارٍ وخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾ [الأعْرافِ: ١٢ ] وقالَ: ﴿والجانَّ خَلَقْناهُ مِن قَبْلُ مِن نارِ السَّمُومِ﴾ [الحِجْرِ: ٢٧ ] فَأمّا الجِنُّ فَمِنهم كافِرٌ ومِنهم مُؤْمِنٌ، قالَ تَعالى: ﴿وأنّا مِنّا المُسْلِمُونَ ومِنّا القاسِطُونَ فَمَن أسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا﴾ [الجِنِّ: ١٤ ] أمّا الإنْسُ فَلا شَكَّ أنَّ لَهم والِدًا هو والِدُهُمُ الأوَّلُ، وإلّا لَذَهَبَ إلى ما لا نِهايَةَ، والقُرْآنُ دَلَّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الأوَّلَ هو آدَمُ ﷺ عَلى ما قالَ تَعالى في هَذِهِ السُّورَةِ: ﴿إنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ [آلِ عِمْرانَ: ٥٩ ] وقالَ: ﴿ياأيُّها النّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنها زَوْجَها﴾ [النِّساءِ: ١ ] . إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: اتَّفَقَ العُلَماءُ عَلى أنَّ البَشَرَ أفْضَلُ مِنَ الجِنِّ والشَّياطِينِ، واخْتَلَفُوا في أنَّ البَشَرَ أفْضَلُ أمِ المَلائِكَةَ، وقَدِ اسْتَقْصَيْنا هَذِهِ * * * المَسْألَةَ في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا﴾ [البَقَرَةِ: ٣٤ ] والقائِلُونَ بِأنَّ البَشَرَ أفْضَلُ تَمَسَّكُوا بِهَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ الِاصْطِفاءَ يَدُلُّ عَلى مَزِيدِ الكَرامَةِ وعُلُوِّ الدَّرَجَةِ، فَلَمّا بَيَّنَ تَعالى أنَّهُ اصْطَفى آدَمَ وأوْلادَهُ مِنَ الأنْبِياءِ عَلى كُلِّ العالَمِينَ وجَبَ أنْ يَكُونُوا أفْضَلَ مِنَ المَلائِكَةِ لِكَوْنِهِمْ مِنَ العالَمِينَ. فَإنْ قِيلَ: إنْ حَمَلْنا هَذِهِ الآيَةَ عَلى تَفْضِيلِ المَذْكُورِينَ عَلى كُلِّ العالَمِينَ أدّى إلى التَّناقُضِ؛ لِأنَّ الجَمْعَ الكَثِيرَ إذا وُصِفُوا بِأنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنهم أفْضَلُ مِن كُلِّ العالَمِينَ يُلْزِمُ كَوْنَ كُلِّ واحِدٍ مِنهم أفْضَلَ مِن كُلِّ العالَمِينَ يُلْزِمُ كَوْنَ كُلِّ واحِدٍ مِنهم أفْضَلَ مِنَ الآخَرِ وذَلِكَ مُحالٌ، ولَوْ حَمَلْناهُ عَلى كَوْنِهِ أفْضَلَ عالَمِي زَمانِهِ أوْ عالَمِي جِنْسِهِ لَمْ يَلْزَمِ التَّناقُضُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلى هَذا المَعْنى دَفْعًا لِلتَّناقُضِ وأيْضًا قالَ تَعالى في صِفَةِ بَنِي إسْرائِيلَ: ﴿وأنِّي فَضَّلْتُكم عَلى العالَمِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ٤٧ ] ولا يُلْزِمُ كَوْنَهم أفْضَلَ مِن مُحَمَّدٍ ﷺ بَلْ قُلْنا المُرادُ بِهِ عالَمُو زَمانِ كُلِّ واحِدٍ مِنهم، والجَوابُ ظاهِرٌ في قَوْلِهِ: اصْطَفى آدَمَ عَلى العالَمِينَ، يَتَناوَلُ كُلَّ مَن يَصِحُّ إطْلاقُ لَفْظِ العالَمِ (p-١٩)عَلَيْهِ فَيَنْدَرِجُ فِيهِ المَلَكُ، غايَةُ ما في هَذا البابِ أنَّهُ تُرِكَ العَمَلُ بِعُمُومِهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ لِدَلِيلٍ قامَ عَلَيْهِ، فَلا يَجُوزُ أنْ نَتْرُكَهُ في سائِرِ الصُّوَرِ مِن غَيْرِ دَلِيلٍ. * * * المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: (اصْطَفى) في اللُّغَةِ اخْتارَ، فَمَعْنى: اصْطَفاهم، أيْ جَعَلَهم صَفْوَةَ خَلْقِهِ، تَمْثِيلًا بِما يُشاهَدُ مِنَ الشَّيْءِ الَّذِي يُصَفّى ويُنَقّى مِنَ الكُدُورَةِ، ويُقالُ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: صَفْوَةٌ، وصُفْوَةٌ وصِفْوَةٌ،، ونَظِيرُ هَذِهِ الآيَةِ قَوْلُهُ لِمُوسى: ﴿إنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلى النّاسِ بِرِسالاتِي﴾ [الأعْرافِ: ١٤٤ ] وقالَ في إبْراهِيمَ وإسْحاقَ ويَعْقُوبَ ﴿وإنَّهم عِنْدَنا لَمِنَ المُصْطَفَيْنَ﴾ [ص: ٤٧ ] . إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ. في الآيَةِ قَوْلانِ الأوَّلُ: المَعْنى أنَّ اللَّهَ اصْطَفى دِينَ آدَمَ ودِينَ نُوحٍ فَيَكُونُ الِاصْطِفاءُ راجِعًا إلى دِينِهِمْ وشَرْعِهِمْ ومِلَّتِهِمْ، ويَكُونُ هَذا المَعْنى عَلى تَقْدِيرِ حَذْفِ المُضافِ والثّانِي: أنْ يَكُونَ المَعْنى: إنَّ اللَّهَ اصْطَفاهم، أيْ صَفّاهم مِنَ الصِّفاتِ الذَّمِيمَةِ، وزَيَّنَهم بِالخِصالِ الحَمِيدَةِ، وهَذا القَوْلُ أوْلى لِوَجْهَيْنِ أحَدُهُما: أنّا لا نَحْتاجُ فِيهِ إلى الإضْمارِ. والثّانِي: أنَّهُ مُوافِقٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنْعامِ: ١٢٤ ] وذَكَرَ الحَلِيمِيُّ في كِتابِ ”المِنهاجِ“ أنَّ الأنْبِياءَ - عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ - لا بُدَّ وأنْ يَكُونُوا مُخالِفِينَ لِغَيْرِهِمْ في القُوى الجِسْمانِيَّةِ، والقُوى الرُّوحانِيَّةِ، أمّا القُوى الجِسْمانِيَّةُ، فَهي إمّا مُدْرِكَةٌ، وإمّا مُحَرِّكَةٌ. أمّا المُدْرِكَةُ: فَهي إمّا الحَواسُّ الظّاهِرَةُ، وإمّا الحَواسُّ الباطِنَةُ، أمّا الحَواسُّ الظّاهِرَةُ فَهي خَمْسَةٌ؛ أحَدُها: القُوَّةُ الباصِرَةُ، ولَقَدْ كانَ الرَّسُولُ ﷺ مَخْصُوصًا بِكَمالِ هَذِهِ الصِّفَةِ ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ ﷺ: ”«زُوِيَتْ لِيَ الأرْضُ فَأُرِيتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها» “ . والثّانِي: قَوْلُهُ ﷺ: ”«أقِيمُوا صُفُوفَكم وتَراصُّوا فَإنِّي أراكم مِن وراءِ ظَهْرِي» “ . ونَظِيرُ هَذِهِ القُوَّةِ ما حَصَلَ لِإبْراهِيمَ ﷺ وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وكَذَلِكَ نُرِي إبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ والأرْضِ﴾ [الأنْعامِ: ٧٥ ] ذَكَرُوا في تَفْسِيرِهِ أنَّهُ تَعالى قَوّى بَصَرَهُ حَتّى شاهَدَ جَمِيعَ المَلَكُوتِ مِنَ الأعْلى والأسْفَلِ قالَ الحَلِيمِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وهَذا غَيْرُ مُسْتَبْعَدٍ لِأنَّ البُصَراءَ يَتَفاوَتُونَ فَرُوِيَ أنَّ زَرْقاءَ اليَمامَةِ كانَتْ تُبْصِرُ الشَّيْءَ مِن مَسِيرَةِ ثَلاثَةِ أيّامٍ، فَلا يَبْعُدُ أنْ يَكُونَ بَصَرُ النَّبِيِّ ﷺ أقْوى مِن بَصَرِها. وثانِيها: القُوَّةُ السّامِعَةُ، وكانَ ﷺ أقْوى النّاسِ في هَذِهِ القُوَّةِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وجْهانِ: أحَدُهُما: قَوْلُهُ ﷺ: ”«أطَّتِ السَّماءُ وحُقَّ لَها أنْ تَئِطَّ ما فِيها مَوْضِعُ قَدَمٍ إلّا وفِيهِ مَلَكٌ ساجِدٌ لِلَّهِ تَعالى» “ فَسَمِعَ أطِيطَ السَّماءِ. والثّانِي: «أنَّهُ سَمِعَ دَوِيًّا وذَكَرَ أنَّهُ هُوِيُّ صَخْرَةٍ قُذِفَتْ في جَهَنَّمَ فَلَمْ تَبْلُغْ قَعْرَها إلى الآنِ»، قالَ الحَلِيمِيُّ: ولا سَبِيلَ لِلْفَلاسِفَةِ إلى اسْتِبْعادِ هَذا، فَإنَّهم زَعَمُوا أنَّ فِيثاغُورْثَ راضَ نَفْسَهُ حَتّى سَمِعَ خَفِيفَ الفَلَكِ، ونَظِيرُ هَذِهِ القُوَّةِ لِسُلَيْمانَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - في قِصَّةِ النَّمْلِ ﴿قالَتْ نَمْلَةٌ ياأيُّها النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ﴾ [النَّمْلِ: ١٨ ] فاللَّهُ تَعالى أسْمَعَ سُلَيْمانَ كَلامَ النَّمْلِ وأوْقَفَهُ عَلى مَعْناهُ وهَذا داخِلٌ أيْضًا في بابِ تَقْوِيَةِ الفَهْمِ، وكانَ ذَلِكَ حاصِلًا لِمُحَمَّدٍ ﷺ حِينَ تَكَلَّمَ مَعَ الذِّئْبِ ومَعَ البَعِيرِ. ثالِثُها: تَقْوِيَةُ قُوَّةِ الشَّمِّ، كَما في حَقِّ يَعْقُوبَ -عَلَيْهِ السَّلامُ -، فَإنَّ يُوسُفَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَمّا أمَرَ بِحَمْلِ قَمِيصِهِ إلَيْهِ وإلْقائِهِ عَلى وجْهِهِ، فَلَمّا فَصَلَتِ العِيرُ قالَ يَعْقُوبُ: ﴿إنِّي لَأجِدُ رِيحَ يُوسُفَ﴾ [يُوسُفَ: ٩٤ ] فَأحَسَّ بِها مِن مَسِيرَةِ أيّامٍ. ورابِعُها: تَقْوِيَةُ قُوَّةِ الذَّوْقِ، كَما في حَقِّ رَسُولِنا ﷺ حِينَ قالَ: ”«إنَّ هَذا الذِّراعَ يُخْبِرُنِي أنَّهُ مَسْمُومٌ» “ . وخامِسُها: تَقْوِيَةُ القُوَّةِ اللّامِسَةِ كَما في حَقِّ الخَلِيلِ حَيْثُ جَعَلَ اللَّهُ تَعالى النّارَ بَرْدًا وسَلامًا عَلَيْهِ، فَكَيْفَ يُسْتَبْعَدُ هَذا ويُشاهَدُ مِثْلُهُ في السَّمَندَلِ والنَّعامَةِ، وأمّا الحَواسُّ الباطِنَةُ فَمِنها قُوَّةُ (p-٢٠)الحِفْظِ، قالَ تَعالى: ﴿سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى﴾ [الأعْلى: ٦ ] ومِنها قُوَّةُ الذَّكاءِ «قالَ عَلِيٌّ - عَلَيْهِ السَّلامُ -: ”عَلَّمَنِي رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ألْفَ بابٍ مِنَ العِلْمِ واسْتَنْبَطْتُ مِن كُلِّ بابٍ ألْفَ بابٍ»“ فَإذا كانَ حالُ الوَلِيِّ هَكَذا، فَكَيْفَ حالُ النَّبِيِّ ﷺ . وأمّا القُوى المُحَرِّكَةُ: فَمِثْلُ عُرُوجِ النَّبِيِّ ﷺ إلى المِعْراجِ، وعُرُوجِ عِيسى حَيًّا إلى السَّماءِ، ورَفْعِ إدْرِيسَ وإلْياسَ عَلى ما ورَدَتْ بِهِ الأخْبارُ، وقالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الكِتابِ أنا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أنْ يَرْتَدَّ إلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النَّمْلِ: ٤٠ ] . وأمّا القُوى الرُّوحانِيَّةُ العَقْلِيَّةُ: فَلا بُدَّ وأنْ تَكُونَ في غايَةِ الكَمالِ، ونِهايَةِ الصَّفاءِ. واعْلَمْ أنَّ تَمامَ الكَلامِ في هَذا البابِ أنَّ النَّفْسَ القُدْسِيَّةَ النَّبَوِيَّةَ مُخالِفَةٌ بِماهِيَّتِها لِسائِرِ النُّفُوسِ، ومِن لَوازِمِ تِلْكَ النَّفْسِ الكَمالُ في الذَّكاءِ، والفِطْنَةِ، والحُرِّيَّةِ، والِاسْتِعْلاءُ، والتَّرَفُّعُ عَنِ الجِسْمانِيّاتِ والشَّهَواتِ، فَإذا كانَتِ الرُّوحُ في غايَةِ الصَّفاءِ والشَّرَفِ، وكانَ البَدَنُ في غايَةِ النَّقاءِ والطَّهارَةِ كانَتْ هَذِهِ القُوى المُحَرِّكَةُ المُدْرِكَةُ في غايَةِ الكَمالِ؛ لِأنَّها جارِيَةٌ مَجْرى أنْوارٍ فائِضَةٍ مِن جَوْهَرِ الرُّوحِ واصِلَةٌ إلى البَدَنِ، ومَتى كانَ الفاعِلُ والقابِلُ في غايَةِ الكَمالِ كانَتِ الآثارُ في غايَةِ القُوَّةِ والشَّرَفِ والصَّفاءِ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ ونُوحًا﴾ مَعْناهُ: إنَّ اللَّهَ تَعالى اصْطَفى آدَمَ إمّا مِن سُكّانِ العالَمِ السُّفْلِيِّ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: المَلَكُ أفْضَلُ مِنَ البَشَرِ، أوْ مِن سُكّانِ العالَمِ العُلْوِيِّ عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: البَشَرُ أشْرَفُ المَخْلُوقاتِ، ثُمَّ وضَعَ كَمالَ القُوَّةِ الرُّوحانِيَّةِ في شُعْبَةٍ مُعَيَّنَةٍ مِن أوْلادِ آدَمَ -عَلَيْهِ السَّلامُ -، هم شِيثٌ وأوْلادُهُ، إلى إدْرِيسَ، ثُمَّ إلى نُوحٍ، ثُمَّ إلى إبْراهِيمَ، ثُمَّ حَصَلَ مِن إبْراهِيمَ شُعْبَتانِ: إسْماعِيلُ وإسْحاقُ، فَجَعَلَ إسْماعِيلَ مَبْدَأً لِظُهُورِ الرُّوحِ القُدْسِيَّةِ لِمُحَمَّدٍ ﷺ، وجَعَلَ إسْحاقَ مَبْدَأً لِشُعْبَتَيْنِ: يَعْقُوبَ وعِيصُو، فَوَضَعَ النُّبُوَّةَ في نَسْلِ يَعْقُوبَ، ووَضَعَ المُلْكَ في نَسْلِ عِيصُو، واسْتَمَرَّ ذَلِكَ إلى زَمانِ مُحَمَّدٍ ﷺ، فَلَمّا ظَهَرَ مُحَمَّدٌ ﷺ نُقِلَ نُورُ النُّبُوَّةِ ونُورُ المُلْكِ إلى مُحَمَّدٍ ﷺ، وبَقِيا أعْنِي الدِّينَ والمُلْكَ لِأتْباعِهِ إلى قِيامِ القِيامَةِ، ومَن تَأمَّلَ في هَذا البابِ وصَلَ إلى أسْرارٍ عَجِيبَةٍ. * * * المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: المُرادُ بِآلِ إبْراهِيمَ المُؤْمِنُونَ، كَما في قَوْلِهِ: ﴿النّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها﴾ [غافِرٍ: ٤٦ ] والصَّحِيحُ أنَّ المُرادَ بِهِمُ الأوْلادُ، وهُمُ المُرادُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إنِّي جاعِلُكَ لِلنّاسِ إمامًا قالَ ومِن ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظّالِمِينَ﴾ [البَقَرَةِ: ١٢٤ ] وأمّا آلُ عِمْرانَ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، فَمِنهم مَن قالَ: المُرادُ عِمْرانُ والِدُ مُوسى وهارُونَ، وهو عِمْرانُ بْنُ يَصْهَرَ بْنِ قاهِثَ بْنِ لاوِي بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ، فَيَكُونُ المُرادُ مِن آلِ عِمْرانَ مُوسى وهارُونَ وأتْباعَهُما مِنَ الأنْبِياءِ، ومِنهم مَن قالَ: بَلِ المُرادُ: عِمْرانُ بْنُ ماثانَ والِدُ مَرْيَمَ، وكانَ هو مِن نَسْلِ سُلَيْمانَ بْنِ داوُدَ بْنِ إيشا، وكانُوا مَن نَسْلِ يَهُوذا بْنِ يَعْقُوبَ بْنِ إسْحاقَ بْنِ إبْراهِيمَ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ، قالُوا. وبَيْنَ العِمْرانَيْنِ ألْفٌ وثَمانِمِائَةِ سَنَةٍ، واحْتَجَّ مَن قالَ بِهَذا القَوْلِ عَلى صِحَّتِهِ بِأُمُورٍ. أحَدُها: أنَّ المَذْكُورَ عَقِيبَ قَوْلِهِ: ﴿وآلَ عِمْرانَ عَلى العالَمِينَ﴾ هو عِمْرانُ بْنُ ماثانَ جَدُّ عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن قِبَلِ الأُمِّ، فَكانَ صَرْفُ الكَلامِ إلَيْهِ أوْلى. وثانِيها: أنَّ المَقْصُودَ مِنَ الكَلامِ أنَّ النَّصارى كانُوا يَحْتَجُّونَ عَلى إلَهِيَّةِ عِيسى بِالخَوارِقِ الَّتِي ظَهَرَتْ عَلى يَدَيْهِ، فاللَّهُ تَعالى يَقُولُ: إنَّما ظَهَرَتْ عَلى يَدِهِ إكْرامًا مِنَ اللَّهِ تَعالى إيّاهُ بِها، وذَلِكَ لِأنَّهُ تَعالى اصْطَفاهُ عَلى العالَمِينَ وخَصَّهُ بِالكَراماتِ العَظِيمَةِ، فَكانَ حَمْلُ هَذا (p-٢١)الكَلامِ عَلى عِمْرانَ بْنِ ماثانَ أوْلى في هَذا المَقامِ مِن حَمْلِهِ عَلى عِمْرانَ والِدِ مُوسى وهارُونَ. وثالِثُها: أنَّ هَذا اللَّفْظَ شَدِيدُ المُطابَقَةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وجَعَلْناها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٩١ ] واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ لَيْسَتْ دَلائِلَ قَوِيَّةً، بَلْ هي أُمُورٌ ظَنِّيَّةٌ، وأصْلُ الِاحْتِمالِ قائِمٌ. * * * أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ﴾ فَفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: في نَصْبِ قَوْلِهِ: (ذُرِّيَّةً) وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ بَدَلٌ مِن آلِ إبْراهِيمَ. والثّانِي: أنْ يَكُونَ نَصْبًا عَلى الحالِ، أيِ اصْطَفاهم في حالِ كَوْنِ بَعْضِهِمْ مِن بَعْضٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: في تَأْوِيلِ الآيَةِ وُجُوهٌ: الأوَّلُ: ذَرِّيَّةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ في التَّوْحِيدِ والإخْلاصِ والطّاعَةِ، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿المُنافِقُونَ والمُنافِقاتُ بَعْضُهم مِن بَعْضٍ﴾ [التَّوْبَةِ: ٦٧ ] وذَلِكَ بِسَبَبِ اشْتِراكِهِمْ في النِّفاقِ. والثّانِي: ذَرِّيَّةً بَعْضُها مِن بَعْضٍ بِمَعْنى أنَّ غَيْرَ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانُوا مُتَوَلِّدِينَ مِن آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، ويَكُونُ المُرادُ بِالذُّرِّيَّةِ مَن سِوى آدَمَ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [البقرة: ٢٢٤] فَقالَ القَفّالُ: المَعْنى واللَّهُ سَمِيعٌ لِأقْوالِ العِبادِ، عَلِيمٌ بِضَمائِرِهِمْ وأفْعالِهِمْ، وإنَّما يَصْطَفِي مِن خَلْقِهِ مَن يَعْلَمُ اسْتِقامَتَهُ قَوْلًا وفِعْلًا، ونَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿اللَّهُ أعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ﴾ [الأنْعامِ: ١٢٤ ] وقَوْلُهُ: ﴿إنَّهم كانُوا يُسارِعُونَ في الخَيْراتِ ويَدْعُونَنا رَغَبًا ورَهَبًا وكانُوا لَنا خاشِعِينَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٩٠ ] وفِيهِ وجْهٌ آخَرُ: وهو أنَّ اليَهُودَ كانُوا يَقُولُونَ: نَحْنُ مِن ولَدِ إبْراهِيمَ ومِن آلِ عِمْرانَ، فَنَحْنُ أبْناءُ اللَّهِ وأحِبّاؤُهُ، والنَّصارى كانُوا يَقُولُونَ: المَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ، وكانَ بَعْضُهم عالِمًا بِأنَّ هَذا الكَلامَ باطِلٌ، إلّا أنَّهُ لِتَطْيِيبِ قُلُوبِ العَوامِّ بَقِيَ مُصِرًّا عَلَيْهِ، فاللَّهُ تَعالى كَأنَّهُ يَقُولُ: واللَّهُ سَمِيعٌ لِهَذِهِ الأقْوالِ الباطِلَةِ مِنكم، عَلِيمٌ بِأغْراضِكُمُ الفاسِدَةِ مِن هَذِهِ الأقْوالِ فَيُجازِيكم عَلَيْها، فَكانَ أوَّلُ الآيَةِ بَيانًا لِشَرَفِ الأنْبِياءِ والرُّسُلِ، وآخِرُها تَهْدِيدًا لِهَؤُلاءِ الكاذِبِينَ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أنَّهم مُسْتَقِرُّونَ عَلى أدْيانِهِمْ. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ عَقِيبَ هَذِهِ الآيَةِ قِصَصًا كَثِيرَةً: * * * القِصَّةُ الأُولى واقِعَةُ حَنَّةَ أُمِّ مَرْيَمَ -عَلَيْهِما السَّلامُ - ﴿إذْ قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿فَلَمّا وضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إنِّي وضَعْتُها أُنْثى واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعَتْ ولَيْسَ الذَّكَرُ كالأُنْثى وإنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وإنِّي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا وكَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يا مَرْيَمُ أنّى لَكِ هَذا قالَتْ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ (p-٢٢)قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إذْ قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ رَبِّ إنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما في بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ ﴿فَلَمّا وضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إنِّي وضَعْتُها أُنْثى واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعَتْ ولَيْسَ الذَّكَرُ كالأُنْثى وإنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وإنِّي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا وكَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يامَرْيَمُ أنّى لَكِ هَذا قالَتْ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ . وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: في مَوْضِعِ ”إذْ“ مِنَ الإعْرابِ أقْوالٌ: الأوَّلُ: قالَ أبُو عُبَيْدَةَ: إنَّها زائِدَةٌ لَغْوًا، والمَعْنى: قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ، ولا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، قالَ الزَّجّاجُ: لَمْ يَصْنَعْ أبُو عُبَيْدَةَ في هَذا شَيْئًا، لِأنَّهُ لا يَجُوزُ إلْغاءُ حَرْفٍ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى، ولا يَجُوزُ حَذْفُ حَرْفٍ مِن كِتابِ اللَّهِ تَعالى مِن غَيْرِ ضَرُورَةً. والثّانِي: قالَ الأخْفَشُ والمُبَرِّدُ: التَّقْدِيرُ اذْكُرْ ”إذْ قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ“ ومِثْلُهُ في كِتابِ اللَّهِ تَعالى كَثِيرٌ. الثّالِثُ: قالَ الزَّجّاجُ، التَّقْدِيرُ: واصْطَفى آلَ عِمْرانَ عَلى العالَمِينَ إذْ قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ، وطَعَنَ ابْنُ الأنْبارِيِّ فِيهِ وقالَ: إنَّ اللَّهَ تَعالى قَرَنَ اصْطِفاءَ آلِ عِمْرانَ بِاصْطِفاءِ آدَمَ ونُوحٍ، ولَمّا كانَ اصْطِفاؤُهُ تَعالى آدَمَ ونُوحًا قَبْلَ قَوْلِ امْرَأةِ عِمْرانَ اسْتَحالَ أنْ يُقالَ: إنَّ هَذا الِاصْطِفاءَ مُقَيَّدٌ بِذَلِكَ الوَقْتِ الَّذِي قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ هَذا الكَلامَ فِيهِ، ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّ أثَرَ اصْطِفاءِ كُلِّ واحِدٍ إنَّما ظَهَرَ عِنْدَ وُجُودِهِ، وظُهُورِ طاعاتِهِ، فَجازَ أنْ يُقالَ: إنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ عِنْدَ وُجُودِهِ، ونُوحًا عِنْدَ وُجُودِهِ، وآلَ عِمْرانَ عِنْدَما قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ هَذا الكَلامَ. الرّابِعُ: قالَ بَعْضُهم: هَذا مُتَعَلِّقٌ بِما قَبْلَهُ، والتَّقْدِيرُ: واللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ إذْ قالَتِ امْرَأةُ عِمْرانَ هَذا القَوْلَ. فَإنْ قِيلَ: إنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ قَبْلَ أنْ قالَتِ المَرْأةُ هَذا القَوْلَ، فَما مَعْنى هَذا التَّقْيِيدِ ؟ قُلْنا: إنَّ سَمْعَهُ تَعالى لِذَلِكَ الكَلامِ مُقَيَّدٌ بِوُجُودِ ذَلِكَ الكَلامِ، وعِلْمُهُ تَعالى بِأنَّها تَذْكُرُ ذَلِكَ مُقَيَّدٌ بِذِكْرِها لِذَلِكَ، والتَّغَيُّرُ في العِلْمِ والسَّمْعِ إنَّما يَقَعُ في النِّسَبِ والمُتَعَلِّقاتِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: أنَّ زَكَرِيّا بْنَ آذَنَ، وعِمْرانَ بْنَ ماثانَ، كانا في عَصْرٍ واحِدٍ، وامْرَأةُ عِمْرانَ حَنَّةُ بِنْتُ فاقُوذَ، وقَدْ تَزَوَّجَ زَكَرِيّا بِابْنَتِهِ إيشاعَ أُخْتِ مَرْيَمَ، وكانَ يَحْيى وعِيسى -عَلَيْهِما السَّلامُ - ابْنَيْ خالَةٍ، ثُمَّ في كَيْفِيَّةِ هَذا النَّذْرِ رِواياتٌ: الرِّوايَةُ الأُولى: قالَ عِكْرِمَةُ: إنَّها كانَتْ عاقِرًا لا تَلِدُ، وكانَتْ تَغْبِطُ النِّساءَ بِالأوْلادِ، ثُمَّ قالَتْ: اللَّهُمَّ إنَّ لَكَ عَلَيَّ نَذْرًا إنْ رَزَقْتَنِي ولَدًا أنْ أتَصَدَّقَ بِهِ عَلى بَيْتِ المَقْدِسِ لِيَكُونَ مِن سَدَنَتِهِ. والرِّوايَةُ الثّانِيَةُ: قالَ مُحَمَّدُ بْنُ إسْحاقَ: إنَّ أُمَّ مَرْيَمَ ما كانَ يَحْصُلُ لَها ولَدٌ حَتّى شاخَتْ، وكانَتْ يَوْمًا في ظِلِّ شَجَرَةٍ فَرَأتْ طائِرًا يُطْعِمُ فَرْخًا لَهُ فَتَحَرَّكَتْ نَفْسُها لِلْوَلَدِ، فَدَعَتْ رَبَّها أنْ يَهَبَ لَها ولَدًا فَحَمَلَتْ بِمَرْيَمَ، وهَلَكَ عِمْرانُ، فَلَمّا عَرَفَتْ جَعَلَتْهُ لِلَّهِ مُحَرَّرًا، أيْ خادِمًا لِلْمَسْجِدِ، قالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ: إنَّها إنَّما فَعَلَتْ ذَلِكَ بِإلْهامٍ مِنَ اللَّهِ ولَوْلاهُ ما فَعَلَتْ كَما رَأى إبْراهِيمُ ذَبْحَ ابْنِهِ في المَنامِ فَعَلِمَ أنَّ ذَلِكَ أمْرٌ مِنَ اللَّهِ وإنْ لَمْ يَكُنْ عَنْ وحْيِ، وكَما ألْهَمَ اللَّهُ أُمَّ مُوسى فَقَذَفَتْهُ في اليَمِّ ولَيْسَ بِوَحْيٍ.(p-٢٣) المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: المُحَرَّرُ الَّذِي يُجْعَلُ حُرًّا خالِصًا، يُقالُ: حَرَّرْتُ العَبْدَ إذا خَلَّصْتَهُ عَنِ الرِّقِّ، وحَرَّرْتُ الكِتابَ إذا أصْلَحْتَهُ وخَلَّصْتَهُ فَلَمْ تُبْقِ فِيهِ شَيْئًا مِن وُجُوهِ الغَلَطِ، ورَجُلٌ حُرٌّ إذا كانَ خالِصًا لِنَفْسِهِ لَيْسَ لِأحَدٍ عَلَيْهِ تَعَلُّقٌ، والطِّينُ الحُرُّ الخالِصُ عَنِ الرَّمْلِ والحِجارَةِ والحَمْأةِ والعُيُوبِ. أمّا التَّفْسِيرُ فَقِيلَ مُخْلِصًا لِلْعِبادَةِ عَنِ الشَّعْبِيِّ، وقِيلَ: خادِمًا لِلْبِيعَةِ، وقِيلَ: عَتِيقًا مِن أمْرِ الدُّنْيا لِطاعَةِ اللَّهِ، وقِيلَ: خادِمًا لِمَن يُدَرِّسُ الكِتابَ، ويُعَلِّمُ في البِيَعِ، والمَعْنى أنَّها نَذَرَتْ أنْ تَجْعَلَ ذَلِكَ الوَلَدَ وقْفًا عَلى طاعَةِ اللَّهِ، قالَ الأصَمُّ: لَمْ يَكُنْ لِبَنِي إسْرائِيلَ غَنِيمَةٌ ولا سَبْيٌ، فَكانَ تَحْرِيرُهم جَعْلَهم أوْلادَهم عَلى الصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرْنا، وذَلِكَ لِأنَّهُ كانَ الأمْرُ في دِينِهِمْ أنَّ الوَلَدَ إذا صارَ بِحَيْثُ يُمْكِنُ اسْتِخْدامُهُ كانَ يَجِبُ عَلَيْهِ خِدْمَةُ الأبَوَيْنِ، فَكانُوا بِالنَّذْرِ يَتْرُكُونَ ذَلِكَ النَّوْعَ مِنَ الِانْتِفاعِ، ويَجْعَلُونَهم مُحَرَّرِينَ لِخِدْمَةِ المَسْجِدِ وطاعَةِ اللَّهِ تَعالى، وقِيلَ: كانَ المُحَرَّرُ يُجْعَلُ في الكَنِيسَةِ يَقُومُ بِخِدْمَتِها حَتّى يَبْلُغَ الحُلُمَ، ثُمَّ يُخَيَّرُ بَيْنَ المُقامِ والذَّهابِ، فَإنْ أبى المُقامَ وأرادَ أنْ يَذْهَبَ ذَهَبَ، وإنِ اخْتارَ المُقامَ فَلَيْسَ لَهُ بَعْدَ ذَلِكَ خِيارٌ، ولَمْ يَكُنْ نَبِيٌّ إلّا ومِن نَسْلِهِ مُحَرَّرٌ في بَيْتِ المَقْدِسِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: هَذا التَّحْرِيرُ لَمْ يَكُنْ جائِزًا إلّا في الغِلْمانِ أمّا الجارِيَةُ فَكانَتْ لا تَصْلُحُ لِذَلِكَ لِما يُصِيبُها مِنَ الحَيْضِ، والأذى، ثُمَّ إنَّ حَنَّةَ نَذَرَتْ مُطْلَقًا إمّا لِأنَّها بَنَتِ الأمْرَ عَلى التَّقْدِيرِ، أوْ لِأنَّها جَعَلَتْ ذَلِكَ النَّذْرَ وسِيلَةً إلى طَلَبِ الذَّكَرِ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: في انْتِصابِ قَوْلِهِ: (مُحَرَّرًا) وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ نُصِبَ عَلى الحالِ مِن ”ما“ وتَقْدِيرُهُ: نَذَرْتُ لَكَ الَّذِي في بَطْنِي مُحَرَّرًا. والثّانِي: وهو قَوْلُ ابْنِ قُتَيْبَةَ أنَّ المَعْنى نَذَرْتُ لَكَ أنْ أجْعَلَ ما في بَطْنِي مُحَرَّرًا. ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى حاكِيًا عَنْها: ﴿فَتَقَبَّلْ مِنِّي إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ التَّقَبُّلُ: أخْذُ الشَّيْءِ عَلى الرِّضا، قالَ الواحِدِيُّ: وأصْلُهُ مِنَ المُقابَلَةِ لِأنَّهُ يُقْبَلُ بِالجَزاءِ، وهَذا كَلامُ مَن لا يُرِيدُ بِما فَعَلَهُ إلّا الطَّلَبَ لِرِضا اللَّهِ تَعالى، والإخْلاصَ في عِبادَتِهِ، ثُمَّ قالَ: ﴿إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ العَلِيمُ﴾ والمَعْنى: إنَّكَ أنْتَ السَّمِيعُ لِتَضَرُّعِي ودُعائِي ونِدائِي، العَلِيمُ بِما في ضَمِيرِي وقَلْبِي ونِيَّتِي. واعْلَمْ أنَّ هَذا النَّوْعَ مِنَ النَّذْرِ كانَ في شَرْعِ بَنِي إسْرائِيلَ وغَيْرُ مَوْجُودٍ في شَرْعِنا، والشَّرائِعُ لا يَمْتَنِعُ اخْتِلافُها في مِثْلِ هَذِهِ الأحْكامِ. قالَ تَعالى: ﴿فَلَمّا وضَعَتْها﴾ واعْلَمْ أنَّ هَذا الضَّمِيرَ إمّا أنْ يَكُونَ عائِدًا إلى الأُنْثى الَّتِي كانَتْ في بَطْنِها وكانَ عالِمًا بِأنَّها كانَتْ أُنْثى أوْ يُقالُ: إنَّها عادَتْ إلى النَّفْسِ والنَّسَمَةِ أوْ يُقالُ: عادَتْ إلى المَنذُورَةِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿قالَتْ رَبِّ إنِّي وضَعْتُها أُنْثى﴾ واعْلَمْ أنَّ الفائِدَةَ في هَذا الكَلامِ أنَّهُ تَقَدَّمَ مِنها النَّذْرُ في تَحْرِيرِ ما في بَطْنِها، وكانَ الغالِبُ عَلى ظَنِّها أنَّهُ ذَكَرٌ فَلَمْ تَشْتَرِطْ ذَلِكَ في كَلامِها، وكانَتِ العادَةُ عِنْدَهم أنَّ الَّذِي يُحَرَّرُ ويُفَرَّغُ لِخِدْمَةِ المَسْجِدِ وطاعَةِ اللَّهِ هو الذَّكَرُ دُونَ الأُنْثى فَقالَتْ: ﴿رَبِّ إنِّي وضَعْتُها أُنْثى﴾ خائِفَةً أنَّ نَذْرَها لَمْ يَقَعِ المَوْقِعَ الَّذِي يُعْتَمَدُ بِهِ ومُعْتَذِرَةً مِن إطْلاقِها النَّذْرَ المُتَقَدِّمَ فَذَكَرَتْ ذَلِكَ لا عَلى سَبِيلِ الإعْلامِ لِلَّهِ (p-٢٤)تَعالى، تَعالى اللَّهُ عَنْ أنْ يَحْتاجَ إلى إعْلامِها، بَلْ ذَكَرَتْ ذَلِكَ عَلى سَبِيلِ الِاعْتِذارِ. ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعَتْ﴾ قَرَأ أبُو بَكْرٍ عَنْ عاصِمٍ وابْنِ عامِرٍ ”وضَعْتُ“ بِرَفْعِ التّاءِ عَلى تَقْدِيرِ أنَّها حِكايَةُ كَلامِها، والفائِدَةُ في هَذا الكَلامِ أنَّها لَمّا قالَتْ: ﴿إنِّي وضَعْتُها أُنْثى﴾ خافَتْ أنْ يُظَنَّ بِها أنَّها تُخْبِرُ اللَّهَ تَعالى، فَأزالَتِ الشُّبْهَةَ بِقَوْلِها: ﴿واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعَتْ﴾ وثَبَتَ أنَّها إنَّما قالَتْ ذَلِكَ لِلِاعْتِذارِ لا لِلْإعْلامِ، والباقُونَ بِالجَزْمِ عَلى أنَّهُ كَلامُ اللَّهِ، وعَلى هَذِهِ القِراءَةِ يَكُونُ المَعْنى أنَّهُ تَعالى قالَ: واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعَتْ تَعْظِيمًا لِوَلَدِها، وتَجْهِيلًا لَها بِقَدْرِ ذَلِكَ الوَلَدِ، ومَعْناهُ: واللَّهُ أعْلَمُ بِالشَّيْءِ الَّذِي وضَعَتْ وبِما عَلَّقَ بِهِ مِن عَظائِمِ الأُمُورِ، وأنْ يَجْعَلَهُ ووَلَدَهُ آيَةً لِلْعالَمِينَ، وهي جاهِلَةٌ بِذَلِكَ لا تَعْلَمُ مِنهُ شَيْئًا فَلِذَلِكَ تَحَسَّرَتْ وفي قِراءَةِ ابْنِ عَبّاسٍ ”واللَّهُ أعْلَمُ بِما وضَعْتِ“ عَلى خِطابِ اللَّهِ لَها، أيْ: إنَّكِ لا تَعْلَمِينَ قَدْرَ هَذا المَوْهُوبِ واللَّهُ هو العالِمُ بِما فِيهِ مِنَ العَجائِبِ والآياتِ. ثُمَّ قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْها: ﴿ولَيْسَ الذَّكَرُ كالأُنْثى﴾ وفِيهِ قَوْلانِ: الأوَّلُ: أنَّ مُرادَها تَفْضِيلُ الوَلَدِ الذَّكَرِ عَلى الأُنْثى، وسَبَبُ هَذا التَّفْضِيلِ مِن وُجُوهٍ. أحَدُها: أنَّ شَرْعَهم أنَّهُ لا يَجُوزُ تَحْرِيرُ الذُّكُورِ دُونَ الإناثِ. والثّانِي: أنَّ الذَّكَرَ يَصِحُّ أنْ يَسْتَمِرَّ عَلى خِدْمَةِ مَوْضِعِ العِبادَةِ، ولا يَصِحُّ ذَلِكَ في الأُنْثى لِمَكانِ الحَيْضِ وسائِرِ عَوارِضِ النِّسْوانِ. والثّالِثُ: الذَّكَرُ يَصْلُحُ لِقُوَّتِهِ وشِدَّتِهِ لِلْخِدْمَةِ دُونَ الأُنْثى فَإنَّها ضَعِيفَةٌ لا تَقْوى عَلى الخِدْمَةِ. والرّابِعُ: أنَّ الذَّكَرَ لا يَلْحَقُهُ عَيْبٌ في الخِدْمَةِ والِاخْتِلاطِ بِالنّاسِ ولَيْسَ كَذَلِكَ الأُنْثى. والخامِسُ: أنَّ الذَّكَرَ لا يَلْحَقُهُ مِنَ التُّهْمَةِ عِنْدَ الِاخْتِلاطِ ما يَلْحَقُ الأُنْثى فَهَذِهِ الوُجُوهُ تَقْتَضِي فَضْلَ الذَّكَرِ عَلى الأُنْثى في هَذا المَعْنى. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ المَقْصُودَ مِن هَذا الكَلامِ تَرْجِيحُ هَذِهِ الأُنْثى عَلى الذَّكَرِ، كَأنَّها قالَتِ: الذَّكَرُ مَطْلُوبِي وهَذِهِ الأُنْثى مَوْهُوبَةُ اللَّهِ تَعالى، ولَيْسَ الذَّكَرُ الَّذِي يَكُونُ مَطْلُوبِي كالأُنْثى الَّتِي هي مَوْهُوبَةٌ لِلَّهِ، وهَذا الكَلامُ يَدُلُّ عَلى أنَّ تِلْكَ المَرْأةَ كانَتْ مُسْتَغْرِقَةً في مَعْرِفَةِ جَلالِ اللَّهِ، عالِمَةً بِأنَّ ما يَفْعَلُهُ الرَّبُّ بِالعَبْدِ خَيْرٌ مِمّا يُرِيدُهُ العَبْدُ لِنَفْسِهِ. * * * ثُمَّ حَكى تَعالى عَنْها كَلامًا ثانِيًا وهو قَوْلُها: ﴿وإنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ﴾ وفِيهِ أبْحاثٌ: البَحْثُ الأوَّلُ: أنَّ ظاهِرَ هَذا الكَلامِ يَدُلُّ عَلى ما حَكَيْنا مِن أنَّ عِمْرانَ كانَ قَدْ ماتَ في حالِ حَمْلِ حَنَّةَ بِمَرْيَمَ، فَلِذَلِكَ تَوَلَّتِ الأُمُّ تَسْمِيَتَها؛ لِأنَّ العادَةَ أنَّ ذَلِكَ يَتَوَلّاهُ الآباءُ. البَحْثُ الثّانِي: أنَّ مَرْيَمَ في لُغَتِهِمْ: العابِدَةُ، فَأرادَتْ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ أنْ تَطْلُبَ مِنَ اللَّهِ تَعالى أنْ يَعْصِمَها مِن آفاتِ الدِّينِ والدُّنْيا، والَّذِي يُؤَكِّدُ هَذا قَوْلُها بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿وإنِّي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ . البَحْثُ الثّالِثُ: أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وإنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ﴾ مَعْناهُ: وإنِّي سَمَّيْتُها بِهَذا اللَّفْظِ أيْ جَعَلْتُ هَذا اللَّفْظَ اسْمًا لَها، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الِاسْمَ والمُسَمّى والتَّسْمِيَةَ أُمُورٌ ثَلاثَةٌ مُتَغايِرَةٌ. ثُمَّ حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْها كَلامًا ثالِثًا وهو قَوْلُها: ﴿وإنِّي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ﴾ وذَلِكَ (p-٢٥)لِأنَّهُ لَمّا فاتَها ما كانَتْ تُرِيدُ مِن أنْ يَكُونَ رَجُلًا خادِمًا لِلْمَسْجِدِ تَضَرَّعَتْ إلى اللَّهِ تَعالى في أنْ يَحْفَظَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ، وأنْ يَجْعَلَها مِنَ الصّالِحاتِ القانِتاتِ، وتَفْسِيرُ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ قَدْ تَقَدَّمَ في أوَّلِ الكِتابِ. * * * ولَمّا حَكى اللَّهُ تَعالى عَنْ حَنَّةَ هَذِهِ الكَلِماتِ قالَ: ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: إنَّما قالَ ﴿فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ﴾ ولَمْ يَقُلْ: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِتَقَبُّلٍ لِأنَّ القَبُولَ والتَّقَبُّلَ مُتَقارِبانِ قالَ تَعالى: ﴿واللَّهُ أنْبَتَكم مِنَ الأرْضِ نَباتًا﴾ [نوح: ١٧] أيْ إنْباتًا، والقَبُولُ مَصْدَرُ قَوْلِهِمْ: قَبِلَ فُلانٌ الشَّيْءَ قَبُولًا إذا رَضِيَهُ، قالَ سِيبَوَيْهِ: خَمْسَةُ مَصادِرَ جاءَتْ عَلى فَعُولٍ: قَبُولٌ وطَهُورٌ ووَضُوءٌ ووَقُودٌ ووَلُوغٌ، إلّا أنَّ الأكْثَرَ في الوَقُودِ إذا كانَ مَصْدَرًا الضَّمُّ، وأجازَ الفَرّاءُ والزَّجّاجُ: قُبُولًا بِالضَّمِّ، ورَوى ثَعْلَبٌ عَنِ ابْنِ الأعْرابِيِّ يُقالُ: قَبِلْتُهُ قَبُولًا وقُبُولًا، وفي الآيَةِ وجْهٌ آخَرُ وهو أنَّ ما كانَ مِن بابِ التَّفَعُّلِ فَإنَّهُ يَدُلُّ عَلى شِدَّةِ اعْتِناءِ ذَلِكَ الفاعِلِ بِإظْهارِ ذَلِكَ الفِعْلِ كالتَّصَبُّرِ والتَّجَلُّدِ ونَحْوِهِما فَإنَّهُما يُفِيدانِ الجِدِّ في إظْهارِ الصَّبْرِ والجَلادَةِ، فَكَذا هاهُنا التَّقَبُّلُ يُفِيدُ المُبالَغَةَ في إظْهارِ القَبُولِ. فَإنْ قِيلَ: فَلِمَ لَمْ يَقُلْ: فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِتَقَبُّلٍ حَسَنٍ حَتّى صارَتِ المُبالَغَةُ أكْمَلَ ؟ والجَوابُ: أنَّ لَفْظَ التَّقَبُّلِ وإنْ أفادَ ما ذَكَرْنا إلّا أنَّهُ يُفِيدُ نَوْعَ تَكَلُّفٍ عَلى خِلافِ الطَّبْعِ، أمّا القَبُولُ فَإنَّهُ يُفِيدُ مَعْنى القَبُولِ عَلى وفْقِ الطَّبْعِ فَذَكَرَ التَّقَبُّلَ لِيُفِيدَ الجِدَّ والمُبالَغَةَ، ثُمَّ ذَكَرَ القَبُولَ لِيُفِيدَ أنَّ ذَلِكَ لَيْسَ عَلى خِلافِ الطَّبْعِ، بَلْ عَلى وفْقِ الطَّبْعِ، وهَذِهِ الوُجُوهُ وإنْ كانَتْ مُمْتَنِعَةً في حَقِّ اللَّهِ تَعالى، إلّا أنَّها تَدُلُّ مِن حَيْثُ الِاسْتِعارَةُ عَلى حُصُولِ العِنايَةِ العَظِيمَةِ في تَرْبِيَتِها، وهَذا الوَجْهُ مُناسِبٌ مَعْقُولٌ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في تَفْسِيرِ ذَلِكَ القَبُولِ الحَسَنِ وُجُوهًا: الوَجْهُ الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى عَصَمَها وعَصَمَ ولَدَها عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - مِن مَسِّ الشَّيْطانِ رَوى أبُو هُرَيْرَةَ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«ما مِن مَوْلُودٍ يُولَدُ إلّا والشَّيْطانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صارِخًا مِن مَسِّ الشَّيْطانِ إلّا مَرْيَمَ وابْنَها» “ ثُمَّ قالَ أبُو هُرَيْرَةَ: اقْرَءُوا إنْ شِئْتُمْ ﴿وإنِّي أُعِيذُها بِكَ وذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ﴾ طَعَنَ القاضِي في هَذا الخَبَرِ وقالَ: إنَّهُ خَبَرُ واحِدٍ عَلى خِلافِ الدَّلِيلِ فَوَجَبَ رَدُّهُ، وإنَّما قُلْنا: إنَّهُ عَلى خِلافِ الدَّلِيلِ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ الشَّيْطانَ إنَّما يَدْعُو إلى الشَّرِّ مَن يَعْرِفُ الخَيْرَ والشَّرَّ والصَّبِيُّ لَيْسَ كَذَلِكَ. والثّانِي: أنَّ الشَّيْطانَ لَوْ تَمَكَّنَ مِن هَذا النَّخْسِ لَفَعَلَ أكْثَرَ مِن ذَلِكَ مِن إهْلاكِ الصّالِحِينَ وإفْسادِ أحْوالِهِمْ. والثّالِثُ: لِمَ خُصَّ بِهَذا الِاسْتِثْناءِ مَرْيَمُ وعِيسى -عَلَيْهِما السَّلامُ - دُونَ سائِرِ الأنْبِياءِ - عَلَيْهِمُ السَّلامُ ؟ . الرّابِعُ: أنَّ ذَلِكَ النَّخْسَ لَوْ وُجِدَ بَقِيَ أثَرُهُ، ولَوْ بَقِيَ أثَرُهُ لَدامَ الصُّراخُ والبُكاءُ، فَلَمّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنا بُطْلانَهُ، واعْلَمْ أنَّ هَذِهِ الوُجُوهَ مُحْتَمَلَةٌ، وبِأمْثالِها لا يَجُوزُ دَفْعُ الخَبَرِ واللَّهُ أعْلَمُ. الوَجْهُ الثّانِي: في تَفْسِيرِ أنَّ اللَّهَ تَعالى تَقَبَّلَها بِقَبُولٍ حَسَنٍ، ما رُوِيَ أنَّ حَنَّةَ حِينَ ولَدَتْ مَرْيَمَ لَفَّتْها في خِرْقَةٍ وحَمَلَتْها إلى المَسْجِدِ ووَضَعَتْها عِنْدَ الأحْبارِ أبْناءِ هارُونَ، وهم في بَيْتِ المَقْدِسِ كالحَجَبَةِ في الكَعْبَةِ، وقالَتْ: خُذُوا هَذِهِ النَّذِيرَةَ، فَتَنافَسُوا فِيها لِأنَّها كانَتْ بِنْتَ إمامِهِمْ، وكانَتْ بَنُو ماثانَ رُؤُوسَ بَنِي إسْرائِيلَ وأحْبارَهم ومُلُوكَهم فَقالَ لَهم زَكَرِيّا: أنا أحَقُّ بِها عِنْدِي خالَتُها فَقالُوا لا حَتّى نَقْتَرِعَ عَلَيْها، فانْطَلَقُوا وكانُوا سَبْعَةً وعِشْرِينَ إلى نَهْرٍ فَألْقَوْا فِيهِ أقْلامَهُمُ الَّتِي كانُوا يَكْتُبُونَ الوَحْيَ بِها عَلى أنَّ كُلَّ مَنِ ارْتَفَعَ قَلَمُهُ فَهو (p-٢٦)الرّاجِحُ، ثُمَّ ألْقَوْا أقْلامَهم ثَلاثَ مَرّاتٍ، فَفي كُلِّ مَرَّةٍ كانَ يَرْتَفِعُ قَلَمُ زَكَرِيّا فَوْقَ الماءِ وتَرْسُبُ أقْلامُهم فَأخَذَها زَكَرِيّا. الوَجْهُ الثّالِثُ: رَوى القَفّالُ عَنِ الحَسَنِ أنَّهُ قالَ: إنَّ مَرْيَمَ تَكَلَّمَتْ في صِباها كَما تَكَلَّمَ المَسِيحُ ولَمْ تَلْتَقِمْ ثَدْيًا قَطُّ، وإنَّ رِزْقَها كانَ يَأْتِيها مِنَ الجَنَّةِ. الوَجْهُ الرّابِعُ: في تَفْسِيرِ القَبُولِ الحَسَنِ أنَّ المُعْتادَ في تِلْكَ الشَّرِيعَةِ أنَّ التَّحْرِيرَ لا يَجُوزُ إلّا في حَقِّ الغُلامِ حِينَ يَصِيرُ عاقِلًا قادِرًا عَلى خِدْمَةِ المَسْجِدِ، وهاهُنا لَمّا عَلِمَ اللَّهُ تَعالى تَضَرُّعَ تِلْكَ المَرْأةِ قَبِلَ تِلْكَ الجارِيَةَ حالَ صِغَرِها وعَدَمِ قُدْرَتِها عَلى خِدْمَةِ المَسْجِدِ، فَهَذا كُلُّهُ هو الوُجُوهُ المَذْكُورَةُ في تَفْسِيرِ القَبُولِ الحَسَنِ. ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا﴾ قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ: التَّقْدِيرُ أنْبَتَها فَنَبَتَتْ هي نَباتًا حَسَنًا ثُمَّ مِنهم مَن صَرَفَ هَذا النَّباتَ الحَسَنَ إلى ما يَتَعَلَّقُ بِالدُّنْيا، ومِنهم مَن صَرَفَهُ إلى ما يَتَعَلَّقُ بِالدِّينِ، أمّا الأوَّلُ فَقالُوا: المَعْنى أنَّها كانَتْ تَنْبُتُ في اليَوْمِ مِثْلَ ما يَنْبُتُ المَوْلُودُ في عامٍ واحِدٍ، وأمّا في الدِّينِ فَلِأنَّها نَبَتَتْ في الصَّلاحِ والسَّدادِ والعِفَّةِ والطّاعَةِ. * * * ثُمَّ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿وكَفَّلَها زَكَرِيّا﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: يُقالُ: كَفَلَ يَكْفُلُ كَفالَةً وكَفْلًا فَهو كافِلٌ، وهو الَّذِي يُنْفِقُ عَلى إنْسانٍ ويَهْتَمُّ بِإصْلاحِ مَصالِحِهِ، وفي الحَدِيثِ ”«أنا وكافِلُ اليَتِيمِ كَهاتَيْنِ» “ وقالَ اللَّهُ تَعالى: (أكْفِلْنِيها) [ص: ٢٣] . المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قَرَأ عاصِمٌ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”وكَفَّلَها“ بِالتَّشْدِيدِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في زَكَرِيّا فَقَرَأ عاصِمٌ بِالمَدِّ، وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ بِالقَصْرِ عَلى مَعْنى ضَمَّها اللَّهُ تَعالى إلى زَكَرِيّا، فَمَن قَرَأ ”زَكَرِيّاءَ“ بِالمَدِّ أظْهَرَ النَّصْبَ ومَن قَرَأ بِالقَصْرِ كانَ في مَحَلِّ النَّصْبِ والباقُونَ قَرَءُوا بِالمَدِّ والرَّفْعِ عَلى مَعْنى ضَمَّها زَكَرِيّاءُ إلى نَفْسِهِ وهو الِاخْتِيارُ، لِأنَّ هَذا مُناسِبٌ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أيُّهم يَكْفُلُ مَرْيَمَ﴾ [ آلِ عِمْرانَ: ٤٤] وعَلَيْهِ الأكْثَرُ، وعَنِ ابْنِ كَثِيرٍ في رِوايَةٍ ”كَفِلَها“ بِكَسْرِ الفاءِ، وأمّا القَصْرُ والمَدُّ في زَكَرِيّا فَهُما لُغَتانِ، كالهَيْجاءِ والهَيْجا، وقَرَأ مُجاهِدٌ ”فَتَقَبَّلْها رَبَّها، وأنْبِتْها، وكَفِّلْها“ عَلى لَفْظِ الأمْرِ في الأفْعالِ الثَّلاثَةِ، ونَصْبِ (رَبَّها) كَأنَّها كانَتْ تَدْعُو اللَّهَ فَقالَتْ: اقْبَلْها يا رَبَّها، وأنْبِتْها يا رَبَّها، واجْعَلْ زَكَرِيّا كافِلًا لَها. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في كَفالَةِ زَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - إيّاها مَتى كانَتْ، فَقالَ الأكْثَرُونَ: كانَ ذَلِكَ حالَ طُفُولِيَّتِها، وبِهِ جاءَتِ الرِّواياتُ، وقالَ بَعْضُهم: بَلْ إنَّما كَفَلَها بَعْدَ أنْ فُطِمَتْ، واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِوَجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وأنْبَتَها نَباتًا حَسَنًا﴾ ثُمَّ قالَ: ﴿وكَفَّلَها زَكَرِيّا﴾ وهَذا يُوهِمُ أنَّ تِلْكَ الكَفالَةَ بَعْدَ ذَلِكَ النَّباتِ الحَسَنِ. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وكَفَّلَها زَكَرِيّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يامَرْيَمُ أنّى لَكِ هَذا قالَتْ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّها كانَتْ قَدْ فارَقَتِ الرَّضاعَ وقْتَ تِلْكَ الكَفالَةِ، وأصْحابُ القَوْلِ الأوَّلِ أجابُوا بِأنَّ الواوَ لا تُوجِبُ التَّرْتِيبَ، فَلَعَلَّ الإنْباتَ الحَسَنَ وكَفالَةَ زَكَرِيّاءَ حَصَلا مَعًا. وأمّا الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: فَلَعَلَّ دُخُولَهُ عَلَيْها وسُؤالَهُ مِنها هَذا السُّؤالَ إنَّما وقَعَ في آخِرِ زَمانِ الكَفالَةِ. * * * (p-٢٧)ثُمَّ قالَ اللَّهُ: ﴿كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيّا المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: (المِحْرابَ) المَوْضِعَ العالِيَ الشَّرِيفَ، قالَ عُمَرُ بْنُ أبِي رَبِيعَةَ: ؎رَبَّةُ مِحْرابٍ إذا جِئْتُها لَمْ أدْنُ حَتّى أرْتَقِيَ سُلَّما واحْتَجَّ الأصْمَعِيُّ عَلى أنَّ المِحْرابَ هو الغُرْفَةُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿إذْ تَسَوَّرُوا المِحْرابَ﴾ [ص: ٢١] والتَّسَوُّرُ لا يَكُونُ إلّا مِن عُلُوٍّ، وقِيلَ: المِحْرابُ أشْرَفُ المَجالِسِ وأرْفَعُها، يُرْوى أنَّها لَمّا صارَتْ شابَّةً بَنى زَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - لَها غُرْفَةً في المَسْجِدِ، وجَعَلَ بابَها في وسَطِهِ لا يُصْعَدُ إلَيْهِ إلّا بِسُلَّمٍ، وكانَ إذا خَرَجَ أغْلَقَ عَلَيْها سَبْعَةَ أبْوابٍ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: احْتَجَّ أصْحابُنا عَلى صِحَّةِ القَوْلِ بِكَرامَةِ الأوْلِياءِ بِهَذِهِ الآيَةِ، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ أنَّهُ تَعالى أخْبَرَ أنْ زَكَرِيّاءَ كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها المِحْرابَ وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا قالَ يا مَرْيَمُ: أنّى لَكِ هَذا ؟ قالَتْ: هو مِن عِنْدِ اللَّهِ، فَحُصُولُ ذَلِكَ الرِّزْقِ عِنْدَها إمّا أنْ يَكُونَ خارِقًا لِلْعادَةِ، أوْ لا يَكُونَ، فَإنْ قُلْنا: إنَّهُ غَيْرُ خارِقٍ لِلْعادَةِ فَهو باطِلٌ مِن خَمْسَةِ أوْجُهٍ: الأوَّلُ: أنَّ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ لا يَكُونُ حُصُولُ ذَلِكَ الرِّزْقِ عِنْدَ مَرْيَمَ دَلِيلًا عَلى عُلُوِّ شَأْنِها وشَرَفِ دَرَجَتِها وامْتِيازِها عَنْ سائِرِ النّاسِ بِتِلْكَ الخاصِّيَّةِ، ومَعْلُومٌ أنَّ المُرادَ مِنَ الآيَةِ هَذا المَعْنى. والثّانِي: أنَّهُ تَعالى قالَ بَعْدَ هَذِهِ الآيَةِ: ﴿هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً﴾ [آل عمران: ٣٨] والقُرْآنُ دَلَّ عَلى أنَّهُ كانَ آيِسًا مِنَ الوَلَدِ بِسَبَبِ شَيْخُوخَتِهِ وشَيْخُوخَةِ زَوْجَتِهِ، فَلَمّا رَأى انْخِراقَ العادَةِ في حَقِّ مَرْيَمَ طَمِعَ في حُصُولِ الوَلَدِ فَيَسْتَقِيمُ قَوْلُهُ: ﴿هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ﴾ [ آلِ عِمْرانَ: ٣٨] أمّا لَوْ كانَ الَّذِي شاهَدَهُ في حَقِّ مَرْيَمَ لَمْ يَكُنْ خارِقًا لِلْعادَةِ لَمْ تَكُنْ مُشاهَدَةُ ذَلِكَ سَبَبًا لِطَمَعِهِ في انْخِراقِ العادَةِ بِحُصُولِ الوَلَدِ مِنَ المَرْأةِ الشَّيْخَةِ العاقِرِ. الثّالِثُ: أنَّ التَّنَكُّرَ في قَوْلِهِ: ﴿وجَدَ عِنْدَها رِزْقًا﴾ يَدُلُّ عَلى تَعْظِيمِ حالِ ذَلِكَ الرِّزْقِ، كَأنَّهُ قِيلَ: رِزْقًا، أيْ رِزْقٌ غَرِيبٌ عَجِيبٌ، وذَلِكَ إنَّما يُفِيدُ الغَرَضَ اللّائِقَ لِسِياقِ هَذِهِ الآيَةِ لَوْ كانَ خارِقًا لِلْعادَةِ. الرّابِعُ: هو أنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وجَعَلْناها وابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ﴾ [الأنْبِياءِ: ٩١ ] ولَوْلا أنَّهُ ظَهَرَ عَلَيْهِما مِنَ الخَوارِقِ، وإلّا لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ. فَإنْ قِيلَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ: المُرادُ مِن ذَلِكَ هو أنَّ اللَّهَ تَعالى خَلَقَ لَها ولَدًا مِن غَيْرِ ذَكَرٍ ؟ قُلْنا: لَيْسَ هَذا بِآيَةٍ، بَلْ يَحْتاجُ تَصْحِيحُهُ إلى آيَةٍ، فَكَيْفَ نَحْمِلُ الآيَةَ عَلى ذَلِكَ، بَلِ المُرادُ مِنَ الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى صِدْقِها وطَهارَتِها، وذَلِكَ لا يَكُونُ إلّا بِظُهُورِ خَوارِقِ العاداتِ عَلى يَدِها كَما ظَهَرَتْ عَلى يَدِ ولَدِها عِيسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - . الخامِسُ: ما تَواتَرَتِ الرِّواياتُ بِهِ أنَّ زَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ يَجِدُ عِنْدَها فاكِهَةَ الشِّتاءِ في الصَّيْفِ، وفاكِهَةَ الصَّيْفِ في الشِّتاءِ، فَثَبَتَ أنَّ الَّذِي ظَهَرَ في حَقِّ مَرْيَمَ - عَلَيْها السَّلامُ - كانَ فِعْلًا خارِقًا لِلْعادَةِ، فَنَقُولُ: إمّا أنْ يُقالَ: إنَّهُ كانَ مُعْجِزَةً لِبَعْضِ الأنْبِياءِ أوْ ما كانَ كَذَلِكَ، والأوَّلُ باطِلٌ لِأنَّ النَّبِيَّ المَوْجُودَ في ذَلِكَ الزَّمانِ هو زَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ -، ولَوْ كانَ ذَلِكَ مُعْجِزَةً لَهُ لَكانَ هو عالِمًا بِحالِهِ وشَأْنِهِ، فَكانَ يَجِبُ أنْ لا يَشْتَبِهَ أمْرُهُ عَلَيْهِ وأنْ لا يَقُولَ لِمَرْيَمَ: ﴿أنّى لَكِ هَذا﴾ وأيْضًا فَقَوْلُهُ تَعالى: ﴿هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ﴾ [آل عمران: ٣٨] مُشْعِرٌ بِأنَّهُ لَمّا سَألَها عَنْ أمْرِ تِلْكَ الأشْياءِ ثُمَّ إنَّها ذَكَرَتْ لَهُ أنَّ ذَلِكَ مِن عِنْدِ اللَّهِ فَهُنالِكَ طَمِعَ في انْخِراقِ العادَةِ في حُصُولِ الوَلَدِ مِنَ المَرْأةِ العَقِيمَةِ الشَّيْخَةِ العاقِرِ وذَلِكَ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ ما وقَفَ عَلى تِلْكَ الأحْوالِ إلّا (p-٢٨)إلّا بِإخْبارِ مَرْيَمَ، ومَتى كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ ثَبَتَ أنَّ تِلْكَ الخَوارِقَ ما كانَتْ مُعْجِزَةً لِزَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - فَلَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ: إنَّها كانَتْ كَرامَةً لِعِيسى -عَلَيْهِ السَّلامُ -، أوْ كانَتْ كَرامَةً لِمَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ، وعَلى التَّقْدِيرَيْنِ فالمَقْصُودُ حاصِلٌ، فَهَذا هو وجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهَذِهِ الآيَةِ عَلى وُقُوعِ كَراماتِ الأوْلِياءِ. اعْتَرَضَ أبُو عَلِيٍّ الجُبّائِيُّ وقالَ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يُقالَ إنَّ تِلْكَ الخَوارِقَ كانَتْ مِن مُعْجِزاتِ زَكَرِيّا -عَلَيْهِ السَّلامُ -، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ زَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - دَعا لَها عَلى الإجْمالِ أنْ يُوَصِّلَ اللَّهُ إلَيْها رِزْقًا، وأنَّهُ رُبَّما كانَ غافِلًا عَنْ تَفاصِيلِ ما يَأْتِيها مِنَ الأرْزاقِ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى، فَإذا رَأى شَيْئًا بِعَيْنِهِ في وقْتٍ مُعَيَّنٍ قالَ لَها: ﴿أنّى لَكِ هَذا قالَتْ هو مِن عِنْدِ اللَّهِ﴾ فَعِنْدَ ذَلِكَ يُعْلَمُ أنَّ اللَّهَ تَعالى أظْهَرَ بِدُعائِهِ تِلْكَ المُعْجِزَةَ. والثّانِي: يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ زَكَرِيّا يُشاهِدُ عِنْدَ مَرْيَمَ رِزْقًا مُعْتادًا إلّا أنَّهُ كانَ يَأْتِيها مِنَ السَّماءِ، وكانَ زَكَرِيّا يَسْألُها عَنْ ذَلِكَ حَذَرًا مِن أنْ يَكُونَ يَأْتِيها مِن عِنْدِ إنْسانٍ يَبْعَثُهُ إلَيْها، فَقالَتْ: هو مِن عِنْدِ اللَّهِ لا مِن عِنْدِ غَيْرِهِ. المَقامُ الثّانِي: أنّا لا نُسَلِّمُ أنَّهُ كانَ قَدْ ظَهَرَ عَلى مَرْيَمَ شَيْءٌ مِن خَوارِقِ العاداتِ، بَلْ مَعْنى الآيَةِ أنَّ اللَّهَ تَعالى كانَ قَدْ سَبَّبَ لَها رِزْقًا عَلى أيْدِي المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ كانُوا يَرْغَبُونَ في الإنْفاقِ عَلى الزّاهِداتِ العابِداتِ، فَكانَ زَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - إذا رَأى شَيْئًا مِن ذَلِكَ خافَ أنَّهُ رُبَّما أتاها ذَلِكَ الرِّزْقُ مِن وجْهٍ لا يَنْبَغِي، فَكانَ يَسْألُها عَنْ كَيْفِيَّةِ الحالِ، هَذا مَجْمُوعُ ما قالَهُ الجُبّائِيُّ في تَفْسِيرِهِ وهو في غايَةِ الضَّعْفِ، لِأنَّهُ لَوْ كانَ ذَلِكَ مُعْجِزًا لِزَكَرِيّا - عَلَيْهِ السَّلامُ - كانَ مَأْذُونًا لَهُ مِن عِنْدِ اللَّهِ تَعالى في طَلَبِ ذَلِكَ، ومَتى كانَ مَأْذُونًا في ذَلِكَ الطَّلَبِ كانَ عالِمًا قَطْعًا بِأنَّهُ يَحْصُلُ، وإذا عَلِمَ ذَلِكَ امْتَنَعَ أنْ يَطْلُبَ مِنها كَيْفِيَّةَ الحالِ، ولَمْ يَبْقَ أيْضًا لِقَوْلِهِ: ﴿هُنالِكَ دَعا زَكَرِيّا رَبَّهُ﴾ [ آلِ عِمْرانَ: ٣٨] فائِدَةٌ، وهَذا هو الجَوابُ بِعَيْنِهِ عَنِ الوَجْهِ الثّانِي. وأمّا سُؤالُهُ الثّالِثُ فَفي غايَةِ الرَّكاكَةِ لِأنَّ هَذا التَّقْدِيرَ لا يَبْقى فِيهِ وجْهُ اخْتِصاصٍ لِمَرْيَمَ بِمِثْلِ هَذِهِ الواقِعَةِ، وأيْضًا فَإنْ كانَ في قَلْبِهِ احْتِمالٌ أنَّهُ رُبَّما أتاها هَذا الرِّزْقُ مِنَ الوَجْهِ الَّذِي لا يَنْبَغِي، فَبِمُجَرَّدِ إخْبارِها كَيْفَ يُعْقَلُ زَوالُ تِلْكَ التُّهْمَةِ فَعَلِمْنا سُقُوطَ هَذِهِ الأسْئِلَةِ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. أمّا المُعْتَزِلَةُ فَقَدِ احْتَجُّوا عَلى امْتِناعِ الكَراماتِ بِأنَّها دَلالاتُ صِدْقِ الأنْبِياءِ، ودَلِيلُ النُّبُوَّةِ لا يُوجَدُ مَعَ غَيْرِ الأنْبِياءِ، كَما أنَّ الفِعْلَ المُحْكَمَ لَمّا كانَ دَلِيلًا عَلى العِلْمِ لا جَرَمَ لا يُوجَدُ في حَقِّ غَيْرِ العالِمِ. والجَوابُ مِن وُجُوهٍ: الأوَّلُ: وهو أنَّ ظُهُورَ الفِعْلِ الخارِقِ لِلْعادَةِ دَلِيلٌ عَلى صِدْقِ المُدَّعِي، فَإنِ ادَّعى صاحِبُهُ النُّبُوَّةَ فَذاكَ الفِعْلُ الخارِقُ لِلْعادَةِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ نَبِيًّا، وإنِ ادَّعى الوِلايَةَ فَذَلِكَ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ ولِيًّا. والثّانِي: قالَ بَعْضُهُمُ: الأنْبِياءُ مَأْمُورُونَ بِإظْهارِها، والأوْلِياءُ مَأْمُورُونَ بِإخْفائِها. والثّالِثُ: وهو أنَّ النَّبِيَّ يَدَّعِي المُعْجِزَ ويَقْطَعُ بِهِ، والوَلِيُّ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَقْطَعَ بِهِ. والرّابِعُ: أنَّ المُعْجِزَةَ يَجِبُ انْفِكاكُها عَنِ المُعارَضَةِ، والكَرامَةُ لا يَجِبُ انْفِكاكُها عَنِ المُعارَضَةِ، فَهَذا جُمْلَةُ الكَلامِ في هَذا البابِ وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. ثُمَّ قالَ تَعالى حِكايَةً عَنْ مَرْيَمَ - عَلَيْها السَّلامُ -: ﴿إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ فَهَذا يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مِن جُمْلَةِ كَلامِ مَرْيَمَ، وأنْ يَكُونَ مِن كَلامِ اللَّهِ سُبْحانَهُ وتَعالى، وقَوْلُهُ: ﴿بِغَيْرِ حِسابٍ﴾ أيْ بِغَيْرِ تَقْدِيرٍ لِكَثْرَتِهِ، أوْ مِن غَيْرِ مَسْألَةٍ سَألَها عَلى سَبِيلٍ يُناسِبُ حُصُولَها، وهَذا كَقَوْلِهِ: ﴿ويَرْزُقْهُ مِن حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: ٣] وهاهُنا آخِرُ الكَلامِ في قِصَّةِ حَنَّةَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب