الباحث القرآني

﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم أنْ يَكْفُرُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ اسْتِئْنافٌ لِذَمِّهِمْ وتَسْفِيهِ رَأْيِهِمْ إذْ رَضُوا لِأنْفُسِهِمُ الكُفْرَ بِالقُرْآنِ وبِمُحَمَّدٍ ﷺ وأعْرَضُوا عَنِ النَّظَرِ فِيما اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ كُتُبُهم مِنَ الوَعْدِ بِمَجِيءِ رَسُولٍ بَعْدَ مُوسى، إرْضاءً لِداعِيَةِ الحَسَدِ وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم مَعَ ذَلِكَ قَدِ اسْتَبْقَوْا أنْفُسَهم عَلى الحَقِّ إذْ كَفَرُوا بِالقُرْآنِ فَهَذا إيقاظٌ لَهم نَحْوَ مَعْرِفَةِ داعِيهِمْ إلى الكُفْرِ وإشْهارٌ لِما يَنْطَوِي عَلَيْهِ عِنْدَ المُسْلِمِينَ. و(بِئْسَما) مُرَكَّبٌ مِن (بِئْسَ) و(ما) الزّائِدَةِ. وفي (بِئْسَ) وضِدِّها (نِعْمَ) خِلافٌ في كَوْنِهِما فِعْلَيْنِ أوِ اسْمَيْنِ والأصَحُّ أنَّهُما فِعْلانِ وفي (ما) المُتَّصِلَةِ بِهِما مَذاهِبُ أحَدُها أنَّها مَعْرِفَةٌ تامَّةٌ أيْ تُفَسَّرُ بِاسْمٍ مُعَرَّفٍ (p-٦٠٤)بِلامِ التَّعْرِيفِ وغَيْرُ مُحْتاجَةٍ إلى صِلَةٍ احْتِرازًا عَنْ ما المَوْصُولَةِ فَقَوْلُهُ (بِئْسَما) يُفَسَّرُ بِبِئْسَ الشَّيْءِ قالَهُ سِيبَوَيْهِ والكِسائِيُّ. والآخَرُ أنَّها مَوْصُولَةٌ قالَهُ الفَرّاءُ والفارِسِيُّ وهَذانِ هُما أوْضَحُ الوُجُوهِ فَإذا وقَعَتْ بَعْدَها ما وحْدَها كانَتْ ما مَعْرِفَةً تامَّةً نَحْوَ قَوْلِهِ تَعالى ﴿إنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمّا هِيَ﴾ [البقرة: ٢٧١] أيْ نِعْمَ الشَّيْءُ هي، وإنْ وقَعَتْ بَعْدَ (ما) جُمْلَةٌ تَصْلُحُ لِأنْ تَكُونَ صِلَةً كانَتْ ما مَعْرِفَةً ناقِصَةً أيْ مَوْصُولَةً نَحْوَ قَوْلِهِ هُنا ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ و(ما) فاعِلُ بِئْسَ. وقَدْ يُذْكَرُ بَعْدَ بِئْسَ ونِعْمَ اسْمٌ يُفِيدُ تَعْيِينَ المَقْصُودِ بِالذَّمِّ أوِ المَدْحِ ويُسَمّى في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ المَخْصُوصَ وقَدْ لا يُذْكَرُ لِظُهُورِهِ مِنَ المَقامِ أوْ لِتَقَدُّمِ ما يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ فَقَوْلُهُ (أنْ يَكْفُرُوا) هو المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ؛ والتَّقْدِيرُ كُفْرُهم بِآياتِ اللَّهِ، ولَكَ أنْ تَجْعَلَهُ مُبْتَدَأً مَحْذُوفَ الخَبَرِ أوْ خَبَرًا مَحْذُوفَ المُبْتَدَأِ أوْ بَدَلًا أوْ بَيانًا مِن (ما) وعَلَيْهِ فَقَوْلُهُ تَعالى (اشْتَرَوْا) إمّا صِفَةٌ لِلْمَعْرِفَةِ أوْ صِلَةٌ لِلْمَوْصُولَةِ و”أنْ يَكْفُرُوا“ هو المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ وذَلِكَ عَلى وِزانِ قَوْلِكَ نِعْمَ الرَّجُلُ فُلانٌ. والِاشْتِراءُ الِابْتِياعُ وقَدْ تَقَدَّمَ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالهُدى﴾ [البقرة: ١٦] فَقَوْلُهُ تَعالى هُنا ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ مُجازٌ أُطْلِقَ فِيهِ الِاشْتِراءُ عَلى اسْتِبْقاءِ الشَّيْءِ المَرْغُوبِ فِيهِ تَشْبِيهًا لِاسْتِبْقائِهِ بِابْتِياعِ شَيْءٍ مَرْغُوبٍ فِيهِ فَهم قَدْ آثَرُوا أنْفُسَهم في الدُّنْيا فَأبْقَوْا عَلَيْها بِأنْ كَفَرُوا بِالقُرْآنِ حَسَدًا. فَإنْ كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّهم مُحِقُّونَ في إعْراضِهِمْ عَنْ دَعْوَةِ مُحَمَّدٍ ﷺ لِتَمَسُّكِهِمْ بِالتَّوْراةِ وأنَّ قَوْلَهُ فِيما تَقَدَّمَ ﴿فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا﴾ [البقرة: ٨٩] بِمَعْنى جاءَهم ما عَرَفُوا صِفَتَهُ وإنْ فَرَّطُوا في تَطْبِيقِها عَلى المَوْصُوفِ. فَمَعْنى اشْتِراءِ أنْفُسِهِمْ جارٍ عَلى اعْتِقادِهِمْ لِأنَّهم نَجَّوْها مِنَ العَذابِ في اعْتِقادِهِمْ فَقَوْلُهُ ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ أيْ بِئْسَما هو في الواقِعِ وأمّا كَوْنُهُ اشْتِراءً فَبِحَسَبِ اعْتِقادِهِمْ، وقَوْلُهُ ﴿أنْ يَكْفُرُوا بِما أنْزَلَ اللَّهُ﴾ هو أيْضًا بِحَسَبِ الواقِعِ وفِيهِ تَنْبِيهٌ لَهم عَلى حَقِيقَةِ حالِهِمْ وهي أنَّهم كَفَرُوا بِرَسُولٍ مُرْسَلٍ إلَيْهِمْ لِلدَّوامِ عَلى شَرِيعَةٍ نُسِخَتْ. وإنْ كانُوا مُعْتَقِدِينَ صِدْقَ الرَّسُولِ وكانَ إعْراضُهم لِمُجَرَّدِ المُكابَرَةِ كَما يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ قَبْلَهُ ﴿فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا﴾ [البقرة: ٨٩] عَلى أحَدِ الِاحْتِمالَيْنِ المُتَقَدِّمَيْنِ؛ فالِاشْتِراءُ بِمَعْنى الِاسْتِبْقاءِ الدُّنْيَوِيِّ أيْ بِئْسَ العِوَضُ بِذْلُهُمُ الكُفْرَ ورِضاهم بِهِ لِبَقاءِ الرِّئاسَةِ والسُّمْعَةِ وعَدَمُ الِاعْتِرافِ بِرِسالَةِ الصّادِقِ؛ فالآيَةُ عَلى نَحْوِ قَوْلِهِ تَعالى ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ﴾ [البقرة: ٨٦] (p-٦٠٥)وقِيلَ إنَّ اشْتَرَوْا بِمَعْنى باعُوا أيْ بَذَلُوا أنْفُسَهم والمُرادُ بَذْلُها لِلْعَذابِ في مُقابَلَةِ إرْضاءِ مُكابَرَتِهِمْ وحَسَدِهِمْ وهَذا الوَجْهُ مَنظُورٌ فِيهِ إلى قَوْلِهِ قَبْلَهُ ﴿فَلَمّا جاءَهم ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ﴾ [البقرة: ٨٩] وهو بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ لِأنَّ اسْتِعْمالَ الِاشْتِراءِ بِمَعْنى البَيْعِ مَجازٌ بَعِيدٌ إذْ هو يُفْضِي إلى إدْخالِ الغَلَطِ عَلى السّامِعِ، وإفْسادِ ما أحْكَمَتْهُ اللُّغَةُ مِنَ التَّفْرِقَةِ وإنَّما دَعا إلَيْهِ قَصْدُ قائِلِهِ إلى بَيانِ حاصِلِ المَعْنى. عَلى أنَّكَ قَدْ عَلِمْتَ إمْكانَ الجَمْعِ بَيْنَ مُقْتَضى قَوْلِهِ ما عَرَفُوا وقَوْلِهِ هُنا ﴿اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ فَأنْتَ في غِنًى عَنِ التَّكَلُّفِ. وعَلى كِلا التَّفْسِيرَيْنِ يَكُونُ اشْتَرَوْا مَعَ ما تَفَرَّعَ عَنْهُ مِن قَوْلِهِ ﴿فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ﴾ تَمْثِيلًا لِحالِهِمْ بِحالِ مَن حاوَلَ تِجارَةً لِيَرْبَحَ فَأصابَهُ خُسْرانٌ وهو تَمْثِيلٌ يَقْبَلُ بَعْضُ أجْزائِهِ أنْ يَكُونَ اسْتِعارَةً وذَلِكَ مِن مَحاسِنِ التَّمْثِيلِيَّةِ. وجِيءَ بِصِيغَةِ المُضارِعِ في قَوْلِهِ (أنْ يَكْفُرُوا) ولَمْ يُؤْتَ بِهِ عَلى ما يُناسِبُ المُبَيَّنَ وهو (ما اشْتَرَوْا) المُقْتَضِي أنَّ الِاشْتِراءَ قَدْ مَضى لِلدِّلالَةِ عَلى أنَّهم صَرَّحُوا بِالكُفْرِ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ نُزُولِ الآيَةِ؛ فَقَدْ تَبَيَّنَ أنَّ اشْتِراءَ أنْفُسِهِمْ بِالكُفْرِ عَمَلٌ اسْتَقَرَّ ومَضى. ثُمَّ لَمّا أُرِيدَ بَيانُ ما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم نُبِّهَ عَلى أنَّهم لَمْ يَزالُوا يَكْفُرُونَ ويُعْلَمُ أنَّهم كَفَرُوا فِيما مَضى أيْضًا إذْ كانَ المُبَيَّنُ بِأنْ يَكْفُرُوا مُعَبَّرًا عَنْهُ بِالماضِي بِقَوْلِهِ (ما اشْتَرَوْا) . وقَوْلُهُ (بَغْيًا) مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ عِلَّةٌ لِقَوْلِهِ أنْ يَكْفُرُوا لِأنَّهُ الأقْرَبُ إلَيْهِ، ويَجُوزُ كَوْنُهُ عِلَّةً لِاشْتَرَوْا لِأنَّ الِاشْتِراءَ هَنا صادِقٌ عَلى الكُفْرِ فَإنَّهُ المَخْصُوصُ بِحُكْمِ الذَّمِّ وهو عَيْنُ المَذْمُومِ، والبَغْيُ هُنا مَصْدَرُ بَغى يَبْغِي إذا ظَلَمَ وأرادَ بِهِ هُنا ظُلْمًا خاصًّا وهو الحَسَدُ. وإنَّما جُعِلَ الحَسَدُ ظُلْمًا لِأنَّ الظُّلْمَ هو المُعامَلَةُ بِغَيْرِ حَقٍّ. والحَسَدَ تَمَنِّي زَوالَ النِّعْمَةِ عَنِ المَحْسُودِ ولا حَقَّ لِلْحاسِدِ في ذَلِكَ لِأنَّهُ لا يَنالُهُ مِن زَوالِها نَفْعٌ، ولا مِن بَقائِها ضُرٌّ، ولَقَدْ أجادَ أبُو الطَّيِّبِ إذْ أخَذَ هَذا المَعْنى في قَوْلِهِ: ؎وأظْلَمُ خَلْقِ اللَّهِ مَن باتَ حاسِدًا لِمَن باتَ في نَعْمائِهِ يَتَقَلَّبُ وقَوْلُهُ ”أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ“ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ ”بَغْيًا“ بِحَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ وهو حَرْفُ الِاسْتِعْلاءِ لِتَأْوِيلِ بَغْيًا بِمَعْنى حَسَدًا. فاليَهُودُ كَفَرُوا حَسَدًا عَلى خُرُوجِ النُّبُوءَةِ مِنهم إلى العَرَبِ وهو المُشارُ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى ﴿عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ . وقَوْلُهُ ﴿فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ﴾ أيْ فَرَجَعُوا مِن تِلْكَ الصَّفْقَةِ وهي اشْتِراءُ أنْفُسِهِمْ بِالخُسْرانِ المُبِينِ وهو تَمْثِيلٌ لِحالِهِمْ بِحالِ الخارِجِ بِسِلْعَتِهِ لِتِجارَةٍ فَأصابَتْهُ خَسارَةٌ فَرَجَعَ (p-٦٠٦)إلى مَنزِلِهِ خاسِرًا. شَبَّهَ مَصِيرَهم إلى الخُسْرانِ بِرُجُوعِ التّاجِرِ الخاسِرِ بَعْدَ ضَمِيمَةِ قَوْلِهِ ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ . والظّاهِرُ أنَّ المُرادَ ”بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ“ الغَضَبُ الشَّدِيدُ عَلى حَدِّ قَوْلِهِ تَعالى ﴿نُورٌ عَلى نُورٍ﴾ [النور: ٣٥] أيْ نُورٌ عَظِيمٌ. وقَوْلِهِ ﴿ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ﴾ [النور: ٤٠] وقَوْلِ أبِي الطَّيِّبِ ؎أرَقٌ عَلى أرَقٍ ومِثْلِيَ يَأْرَقُ وهَذا مِنَ اسْتِعْمالِ التَّكْرِيرِ بِاخْتِلافِ صِيغَةٍ في مَعْنى القُوَّةِ والشِّدَّةِ كَقَوْلِ الحُطَيْئَةِ: ؎أتَتْ آلُ شَمّاسِ بْنِ لَأْيٍ وإنَّما ∗∗∗ أتاهم بِها الأحْلامُ والحَسَبُ العَدُّ أيِ الكَثِيرُ العَدَدِ أيِ العَظِيمُ وقالَ المَعَرِّيُّ ؎بَنِي الحَسَبِ الوَضّاحِ والمَفْخَرِ الجَمِّ أيِ العَظِيمِ. قالَ القُرْطُبِيُّ قالَ بَعْضُهم: المُرادُ بِهِ شِدَّةُ الحالِ لا أنَّهُ أرادَ غَضَبَيْنِ وهُما غَضَبُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ لِلْكُفْرِ ولِلْحَسَدِ أوْ لِلْكُفْرِ بِمُحَمَّدٍ وعِيسى عَلَيْهِما السَّلامُ. وقَوْلُهُ ﴿ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ هو كَقَوْلِهِ ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلى الكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩] أيْ ولَهم عَذابٌ مُهِينٌ لِأنَّهم مِنَ الكافِرِينَ. والمَهِينُ المُذِلُّ أيْ فِيهِ كَيْفِيَّةُ احْتِقارِهِمْ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب