الباحث القرآني

القَوْلُ في تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعالى: [٩٠ ] ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهم أنْ يَكْفُرُوا بِما أنْـزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ فَباءُوا بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ ولِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ ﴿بِئْسَما اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ "ما" نَكِرَةٌ مَوْصُوفَةٌ بِما بَعْدَها، مَنصُوبَةٌ عَلى التَّمْيِيزِ، مُفَسِّرَةٌ لِفاعِلِ بِئْسَ. أيْ بِئْسَ شَيْئًا باعُوا بِهِ أنْفُسَهم واعْتاضُوا لَها، فَرَضُوا بِهِ وعَدَلُوا إلَيْهِ. والمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ يَكْفُرُوا بِما أنْـزَلَ اللَّهُ﴾ أيْ كُفْرُهم بِالكِتابِ المُصَدِّقِ (p-١٨٩)لِما مَعَهم بَعْدَ الوُقُوفِ عَلى حَقِيقَتِهِ "بَغْيًا" حَسَدًا "أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ" لِأنْ يُنَزِّلَ، أوْ عَلى أنْ يُنَزِّلَ. أيْ حَسَدُوهُ عَلى أنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ "مِن فَضْلِهِ" الَّذِي هو الوَحْيُ "عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ" أيْ: يَشاؤُهُ ويَصْطَفِيهِ لِلرِّسالَةِ "فَباؤُوا بِغَضَبٍ" أيْ رَجَعُوا لِأجْلِ ذَلِكَ بِغَضَبٍ، في حَسَدِهِمْ لِهَذا النَّبِيِّ ﷺ حَتّى كَفَرُوا بِهِ "عَلى غَضَبٍ" كانُوا اسْتَحَقُّوهُ قَبْلَ بِعْثَتِهِ ﷺ مِن أجْلِ تَحْرِيفِهِمُ الكَلِمَ، وتَضْيِيعِهِمْ بَعْضَ أحْكامِ التَّوْراةِ، وكُفْرِهِمْ بِعِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ. قالَ الرّازِيُّ: إنَّ غَضَبَهُ تَعالى يَتَزايَدُ ويَكْثُرُ ويَصِحُّ فِيهِ ذَلِكَ كَصِحَّتِهِ في العَذابِ، فَلا يَكُونُ غَضَبُهُ عَلى مَن كَفَرَ بِخِصْلَةٍ واحِدَةٍ، كَغَضَبِهِ عَلى مَن كَفَرَ بِخِصالٍ كَثِيرَةٍ. قُلْتُ: وفي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ: ««اشْتَدَّ غَضَبُ اللَّهِ عَلى مَن زَعَمَ أنَّهُ مَلِكُ الأمْلاكِ؛ لا مَلِكَ إلّا اللَّهُ»» . والرِّواياتُ في تَوْصِيفِ غَضَبِهِ تَعالى بِالشِّدَّةِ عَلى بَعْضِ المُنْكَراتِ مُتَوافِرَةٌ. انْظُرِ الجامِعَ الصَّغِيرَ. ويَحْتَمِلُ المَعْنى. فَصارُوا أحِقّاءَ بِغَضَبٍ مُتَرادِفٍ، فَلا يَكُونُ القَصْدُ إثْباتَ غَضَبَيْنِ (p-١٩٠)لِأمْرَيْنِ مُتَنَوِّعَيْنِ أوْ أُمُورٍ، بَلِ المُرادُ بِهِ تَأْكِيدُ الغَضَبِ وتَكْثِيرُهُ لِأجْلِ أنَّ هَذا الكُفْرَ، وإنْ كانَ واحِدًا، إلّا أنَّهُ عَظِيمٌ. واللَّهُ أعْلَمُ. وقَدْ قَدَّمْنا في تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ولا الضّالِّينَ﴾ [الفاتحة: ٧] أنَّ الغَضَبَ صِفَةٌ وصَفَ اللَّهُ تَعالى نَفْسَهُ بِها. ولَيْسَ غَضَبُهُ كَغَضَبِنا. كَما أنَّ ذاتَهُ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَواتِنا، فَلَيْسَ هو مُماثِلًا لِأبْدانِنا ولا لِأرْواحِنا، وصِفاتُهُ كَذاتِهِ. وما قِيلَ: إنَّ الغَضَبَ مِن الِانْفِعالاتِ النَّفْسانِيَّةِ فَيُقالُ نَحْنُ وذَواتُنا مُنْفَعِلَةٌ، فَكَوْنُها انْفِعالاتٍ فِينا لا يَجِبُ أنْ يَكُونَ اللَّهُ مُنْفَعِلًا بِها. كَما أنَّ نَفْسَهُ المُقَدَّسَةَ لَيْسَتْ مِثْلَ ذَواتِ المَخْلُوقِينَ. فَصِفاتُهُ كَذَلِكَ لَيْسَتْ كَصِفاتِ المَخْلُوقِينَ، ونِسْبَةُ صِفَةِ المَخْلُوقِ إلَيْهِ كَنِسْبَةِ صِفَةِ الخالِقِ إلَيْهِ. ولَيْسَ المَنسُوبُ كالمَنسُوبِ والمَنسُوبُ إلَيْهِ كالمَنسُوبِ إلَيْهِ. كَما قالَ ﷺ: ««تَرَوْنَ رَبَّكم كَما تَرَوْنَ الشَّمْسَ والقَمَرَ»» فَشَبَّهَ الرُّؤْيَةَ بِالرُّؤْيَةِ لا المَرْئِيِّ بِالمَرْئِيِّ. وهَذا يَتَبَيَّنُ بِقاعِدَةٍ: وهي أنَّ كَثِيرًا مِنَ النّاسِ يَتَوَهَّمُ، في بَعْضِ الصِّفاتِ أوْ كَثِيرٍ مِنها، أوْ أكْثَرِها أوْ كُلِّها، أنَّها تُماثِلُ صِفاتِ المَخْلُوقِينَ. ثُمَّ يُرِيدُ نَفْيَ ذَلِكَ الَّذِي فَهِمَهُ فَيَقَعُ في أرْبَعَةِ أنْواعٍ مِنَ المَحاذِيرِ: أحَدُها: كَوْنُهُ مِثْلَ ما فَهِمَهُ مِنَ النُّصُوصِ لِصِفاتِ المَخْلُوقِينَ. وظَنَّ أنَّ مَدْلُولَ النُّصُوصِ هو التَّمْثِيلُ. الثّانِي: أنَّهُ إذْ جَعَلَ ذَلِكَ هو مَفْهُومُها وعَطَّلَهُ فَبَقِيَتِ النُّصُوصُ مُعَطَّلَةً عَمّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِن إثْباتِ الصِّفاتِ اللّائِقَةِ بِاللَّهِ فَيَبْقى مَعَ جِنايَةٍ عَلى النُّصُوصِ، وظَنِّهِ السَّيِّئِ الَّذِي ظَنَّهُ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ، حَيْثُ خِلافُ الَّذِي يُفْهَمُ مِن كَلامِهِما، مِن إثْباتِ صِفاتِ اللَّهِ، والمَعانِي الإلَهِيَّةِ اللّائِقَةِ بِجَلالِ اللَّهِ تَعالى. الثّالِثُ: أنَّهُ يَنْفِي تِلْكَ الصِّفاتِ عَنِ اللَّهِ بِغَيْرِ دَلِيلٍ. فَيَكُونُ مُعَطَّلًا عَمّا يَسْتَحِقُّهُ الرَّبُّ تَبارَكَ وتَعالى. الرّابِعُ: أنَّهُ يَصِفُ الرَّبَّ بِنَقِيضِ تِلْكَ الصِّفاتِ مِن صِفاتِ المَواتِ، والجَماداتِ، وصِفاتِ المَعْدُوماتِ. فَيَكُونُ قَدْ عَطَّلَ صِفاتِ الكَمالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّها الرَّبُّ. ومَثَّلَهُ بِالمَنقُوصاتِ والمَعْدُوماتِ. وعَطَّلَ النُّصُوصَ عَمّا دَلَّتْ عَلَيْهِ مِنَ الصِّفاتِ. وجَعَلَ مَدْلُولَها هو التَّمْثِيلُ بِالمَخْلُوقاتِ. فَيَجْمَعُ في اللَّهِ وفي كَلامِ اللَّهِ بَيْنَ التَّعْطِيلِ والتَّمْثِيلِ. سُبْحانَهُ وتَعالى عَمّا يَقُولُ الظّالِمُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا. أفادَهُ الإمامُ ابْنُ تَيْمِيَّةَ. عَلَيْهِ الرَّحْمَةُ، في القاعِدَةِ التَّدْمُرِيَّةِ. (p-١٩١)"ولِلْكافِرِينَ" أيْ لَهم. والإظْهارُ في مَوْضِعِ الإضْمارِ لِلْإشْعارِ بِعِلِّيَّةِ كُفْرِهِمْ لِما حاقَ بِهِمْ "عَذابٌ مُهِينٌ" يُرادُ بِهِ إهانَتُهم. أيْ إذْلالُهم. فَإنَّ كُفْرَهم، لَمّا كانَ سَبَبُهُ البَغْيَ والحَسَدَ، ومَنشَأُ ذَلِكَ التَّكَبُّرُ، قُوبِلُوا بِالإهانَةِ والصِّغارِ في الآخِرَةِ كَما قالَ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ﴾ [غافر: ٦٠] أيْ: صاغِرِينَ حَقِيرِينَ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب