الباحث القرآني

القول في تأويل قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنزلَ اللَّهُ بَغْيًا﴾ قال أبوجعفر ومعنى قوله جل ثناؤه: ﴿بئس ما اشتروا به أنفسهم﴾ : ساء ما اشتروا به أنفسهم. * * * وأصل"بئس" "بَئِس" من"البؤس"، سكنت همزتها، ثم نقلت حركتها إلى"الباء"، كما قيل في"ظللت""ظلت"، وكما قيل"للكبد"،"كِبْد" - فنقلت حركة"الباء" إلى"الكاف" لما سكنت"الباء". وقد يحتمل أن تكون"بئس"، وإن كان أصلها"بَئِس"، من لغة الذين ينقلون حركة العين من"فعل" إلى الفاء، إذا كانت عين الفعل أحد حروف الحلق الستة، كما قالوا من"لعب" "لِعْب"، ومن"سئم""سِئْم"، وذلك -فيما يقال- لغة فاشية في تميم. ثم جعلت دالة على الذم والتوبيخ، ووصلت بـ "ما". واختلف أهل العربية في معنى"ما" التي مع"بئسما". فقال بعض نحويي البصرة: هي وحدها اسم، و"أن يكفروا" تفسير له، [["التفسير" هو ما اصطلح البصريون على تسميته"التمييز"، ويقال له التبيين أيضًا، (همع الهوامع ١: ٢٥٠) .]] نحو: نعم رجلا زيد، و"أن ينزل الله" بدل من"أنزل الله". وقال بعض نحويي الكوفة: معنى ذلك: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا، ف"ما" اسم"بئس"، و"أن يكفروا" الاسم الثاني. وزعم أن:"أن يكفروا" إن شئت جعلت"أن" في موضع رفع، وإن شئت في موضع خفض. [[في المطبوعة: "وزعم أن أن ينزل من فضله إن شئت جعلت. . . "، وهو سهو من النساخ، وصوابه ماأثبته من معاني القرآن للفراء ١: ٥٦.]] أما الرفع: فبئس الشيء هذا أن يفعلوه. وأما الخفض: فبئس الشيء اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا. قال: وقوله: ﴿لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ﴾ [سورة المائدة: ٨٠] كمثل ذلك. والعرب تجعل"ما" وحدها في هذا الباب، بمنزلة الاسم التام، كقوله: ﴿فنعما هي﴾ [سورة البقرة: ٢٧١] ، و"بئسما أنت"، واستشهد لقوله ذلك برجز بعض الرجاز: لا تعجلا في السير وادْلُوها ... لبئسما بطءٌ ولا نرعاها [[لم أعرف الراجز، والبيتان في اللسان (دلو) . دلوت الناقة دلوا: سقتها سوقا رفيقا رويدا ورعى الماشية وأرعاها: أطلقها في المرعى.]] قال أبو جعفر: والعرب تقول: لبئسما تزويج ولا مهر"، فيجعلون"ما" وحدها اسما بغير صلة. وقائل هذه المقالة لا يجيز أن يكون الذي يلي"بئس" معرفة مُوَقَّتَة، وخبره معرفة موقتة. وقد زعم أن"بئسما" بمنزلة: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم، فقد صارت"ما" بصلتها اسما موقتا، لأن"اشتروا" فعل ماض من صلة"ما"، في قول قائل هذه المقالة. وإذا وصلت بماض من الفعل، كانت معرفة موقتة معلومة، فيصير تأويل الكلام حينئذ:"بئس شراؤهم كفرهم". وذلك عنده غير جائز: فقد تبين فساد هذا القول. [[انظر معاني القرآن للفراء ١: ٥٦ - ٥٧، كأنه قول الكسائي. والمعرفة الموقتة: وهي المعرفة المحددة. وانظر شرح ذلك فيما سلف ١: ١٨١، تعليق: ١.]] وكان آخر منهم يزعم أن"أن" في موضع خفض إن شئت، ورفع إن شئت. فأما الخفض: فأن ترده على"الهاء" التي في،"به" على التكرير على كلامين. كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع: فأن يكون مكرورا على موضع"ما" التي تلي"بئس". [[في المطبوعة: "مكررا"، والصواب من معاني القرآن للفراء ١: ٥٦.]] قال: ولا يجوز أن يكون رفعا على قولك:"بئس الرجل عبد الله. [[هذه الفقرة هي نص كلام الفراء في معاني القرآن ١: ٥٦.]] وقال بعضهم:"بئسما" شيء واحد يرافع ما بعده [[في المطبوعة: "يعرف ما بعده"، والصواب ما أثبت.]] كما حكي عن العرب: "بئسما تزويج ولا مهر" فرافع"تزويج""بئسما"، [[في المطبوعة: "فرفع"، والصواب ما أثبت.]] كما يقال:"بئسما زيد، وبئس ما عمرو"، فيكون"بئسما" رفعا بما عاد عليها من"الهاء". كأنك قلت: بئس شيء الشيء اشتروا به أنفسهم، وتكون"أن" مترجمة عن"بئسما". [[الترجمة: هو ما يسميه البصريون: "عطف البيان" و"البدل"، فقوله"مترجما عن بئسما"، أي عطف بيان.]] * * * وأولى هذه الأقوال بالصواب، قول من جعل"بئسما" مرفوعا بالراجع من"الهاء" في قوله: ﴿اشتروا به﴾ ، كما رفعوا ذلك بـ "عبد الله" إذ قالوا:"بئسما عبد الله"، وجعل"أن يكفروا" مترجمة عن"بئسما". [[الترجمة: هو ما يسميه البصريون: "عطف البيان" و"البدل"، فقوله"مترجما عن بئسما"، أي عطف بيان.]] فيكون معنى الكلام حينئذ: بئس الشيء باع اليهود به أنفسهم، كفرهم بما أنزل الله بغيا وحسدا أن ينزل الله من فضله. وتكون"أن" التي في قوله:"أن ينزل الله"، في موضع نصب. لأنه يعني به"أن يكفروا بما أنزل الله": من أجل أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. موضع "أن" جزاء. [[الجزاء: المفعول لأجله هنا، وفي المطبوعة: "جر"، وهو خطأ، وصوابه في معاني القرآن للفراء ١: ٥٨.]] وكان بعض أهل العربية من الكوفيين يزعم أن"أن" في موضع خفض بنية"الباء". وإنما اخترنا فيها النصب لتمام الخبر قبلها، ولا خافض معها يخفضها. والحرف الخافض لا يخفض مضمرا. * * * وأما قوله: ﴿اشتروا به أنفسهم﴾ ، فإنه يعني به: باعوا أنفسهم * كما:- ١٥٣٤ - حدثني موسى بن هارون قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿بئسما اشتروا به أنفسهم﴾ ، يقول: باعوا أنفسهم"أن يكفروا بما أنزل الله بغيا". ١٥٣٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسن قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج قال، قال مجاهد: ﴿بئسما اشتروا به أنفسهم﴾ ، يهود، شروا الحق بالباطل، وكتمان ما جاء به محمد ﷺ بأن يبينوه. [[في المطبوعة: "بأن بينوه"، وهو خطأ، والصواب من تفسير ابن كثير ١: ٢٣١. والمعنى اشتروا الكتمان بالبيان.]] قال أبو جعفر: والعرب تقول:"شريته"، بمعنى بعته. و"اشتروا"، في هذا الموضع،"افتعلوا" من"شريت". وكلام العرب -فيما بلغنا- أن يقولوا:"شريت" بمعنى: بعت، و"اشتريت" بمعنى: ابتعت. وقيل: إنما سمي"الشاري"،"شاريا"، لأنه باع نفسه ودنياه بآخرته. [[الشاري واحد الشراة (بضم الشين) ، وهم الخوارج، وقال قطري بن الفجاءة الخارجي في معنى ذلك، ويذكر أم حكيم، وذلك في يوم دولاب: فلو شهدتنا يوم ذاك، وخيلنا ... تبيح من الكفار كل حريم رأت فتية باعوا الإله نفوسهم ... بجنات عدن عنده ونعيم وقال الخوارج: نحن الشراة، لقول الله عز وجل: "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" أي يبيعها ويبذلها في الجهاد، وثمنها الجنة، وقيل: سموا بذلك لقولهم: "إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله حين فارقنا الأئمة الجائرة"، أي: بعناها بالجنة.]] ومن ذلك قول يزيد بن مفرغ الحميري: وشريت بردا ليتني ... من قبل برد كنت هامة [[طبقات فحول الشعراء: ٥٥٥ من قصيدة له، في هجاء عباد بن زياد، حين باع ما له في دين كان عليه، وقضى الغرماء، وكان فيما باع غلام لابن مفرغ، يقال له"برد"، وجارية يقال لها"أراكة". وقوله: "كنت هامة" أي هالكا. يقال: فلان هامة اليوم أو غد، أي قريب هلاكه، فإذا هو"هامة"، وذلك زعم أبطله الله بالإسلام كان في الجاهلية: أن عظم الميت أو روحه تصير هامة (وهو طير كالبومة) فتطير. ورواية غيره: "من بعد برد".]] ومنه قول المسيب بن علس: يعطى بها ثمنا فيمنعها ... ويقول صاحبها ألا تشري؟ [[ديوانه: ٣٥٢ (من ملحق ديوان الأعشى - والمسيب خال الأعشى، والأعشى راويته) ، ورواية الديوان"ويقول صاحبه"، وهي الصواب. والبيت من أبيات آية في الجودة، يصف الغواص الفقير، قد ظفر بدرة لا شبيه لها، فضن بها على البيع، وقد أعطى فيها ما يغنى من الثمن، فأبى، وصاحبه يحضضه على بيعها، وبعده: وترى الصراري يسجدون لها ... ويضمها بيديه للنحر والصراري: الملاحون، من أصحاب الغواصين.]] يعني به: بعت بردا. وربما استعمل"اشتريت" بمعنى: بعت، و"شريت" في معنى:"ابتعت". والكلام المستفيض فيهم هو ما وصفت. * * * وأما معنى قوله: ﴿بغيا﴾ ، فإنه يعني به: تعديا وحسدا، كما:- ١٥٣٦ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد عن قتادة: ﴿بغيا﴾ ، قال: أي حسدا، وهم اليهود. ١٥٣٧ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿بغيا﴾ ، قال: بغوا على محمد ﷺ وحسدوه، وقالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟ فحسدوه أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده. ١٥٣٨ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ﴿بغيا﴾ ، يعني: حسدا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده، وهم اليهود كفروا بما أنزل على محمد ﷺ. ١٥٣٩ - حُدثت عن عمار بن الحسن قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. * * * قال أبو جعفر: فمعنى الآية: بئس الشيء باعوا به أنفسهم، الكفر بالذي أنزل الله في كتابه على موسى - من نبوة محمد ﷺ، والأمر بتصديقه واتباعه - من أجل أن أنزل الله من فضله = وفضله: حكمته وآياته ونبوته = على من يشاء من عباده - يعني به: على محمد ﷺ - بغيا وحسدا لمحمد ﷺ، من أجل أنه كان من ولد إسماعيل، ولم يكن من بني إسرائيل. * * * فإن قال قائل: وكيف باعت اليهود أنفسها بالكفر، فقيل: ﴿بئس ما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله﴾ ؟ وهل يشتري بالكفر شيء؟ قيل: إن معنى:"الشراء" و"البيع" عند العرب، هو إزالة مالك ملكه إلى غيره، بعوض يعتاضه منه. ثم تستعمل العرب ذلك في كل معتاض من عمله عوضا، شرا أو خيرا، فتقول:"نعم ما باع به فلان نفسه" و"بئس ما باع به فلان نفسه"، بمعنى: نعم الكسب أكسبها، وبئس الكسب أكسبها - إذا أورثها بسعيه عليها خيرا أو شرا. فكذلك معنى قوله جل ثناؤه: ﴿بئس ما اشتروا به أنفسهم﴾ - لما أوبقوا أنفسهم بكفرهم بمحمد ﷺ فأهلكوها، خاطبهم الله والعرب بالذي يعرفونه في كلامهم، فقال: ﴿بئس ما اشتروا به أنفسهم﴾ ، يعني بذلك: بئس ما أكسبوا أنفسهم بسعيهم، وبئس العوض اعتاضوا، من كفرهم بالله في تكذيبهم محمدا، إذْ كانوا قد رضوا عوضا من ثواب الله وما أعد لهم - لو كانوا آمنوا بالله وما أنزل على أنبيائه - بالنار وما أعد لهم بكفرهم بذلك. * * * وهذه الآية - وما أخبر الله فيها عن حسد اليهود محمدا ﷺ وقومه من العرب، من أجل أن الله جعل النبوة والحكمة فيهم دون اليهود من بني إسرائيل، حتى دعاهم ذلك إلى الكفر به، مع علمهم بصدقه، وأنه نبي لله مبعوث ورسول مرسل - [[قوله"- نظيره الآية. . " خبر قوله في صدر هذه الفقرة: "وهذه الآية-".]] نظيره الآية الأخرى في سورة النساء، وذلك قوله، ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا﴾ [سورة النساء: ٥١-٥٤] . * * * القول في تأويل قوله: ﴿أَنْ يُنزلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾ قال أبو جعفر: قد ذكرنا تأويل ذلك وبينا معناه، ولكنا نذكر الرواية بتصحيح ما قلنا فيه:- ١٥٤٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة قال، حدثني ابن إسحاق، عن عاصم بن عمر بن قتادة الأنصاري، عن أشياخ منهم، قوله: ﴿بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده﴾ ، أي أن الله تعالى جعله في غيرهم. [[الأثر: ١٥٤٠ - سيرة ابن هشام ٢: ١٩٠]] . ١٥٤١ - حدثنا بشر قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قال: هم اليهود. لما بعث الله نبيه محمدا ﷺ فرأوا أنه بعث من غيرهم، كفروا به - حسدا للعرب - وهم يعلمون أنه رسول الله ﷺ، يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة. ١٥٤٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية مثله. ١٥٤٣ - حُدثت عن عمار قال، حدثنا ابن أبي جعفر، عن أبيه، عن الربيع مثله. ١٥٤٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو بن حماد قال، حدثنا أسباط، عن السدي قال: قالوا: إنما كانت الرسل من بني إسرائيل، فما بال هذا من بني إسماعيل؟ ١٥٤٥- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى، عن ابن أبي نجيح، عن علي الأزدي. قال: نزلت في اليهود. [[الأثر: ١٥٤٥ - انظر التعليق على رقم: ١٥٢٣، ١٥٢٤.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله: ﴿فباءوا بغضب على غضب﴾ ، [[انظر تفسير. "باء" فيما سلف من هذا الجزء ٢: ١٣٨.]] فرجعت اليهود من بني إسرائيل - بعد الذي كانوا عليه من الاستنصار بمحمد ﷺ والاستفتاح به، وبعد الذي كانوا يخبرون به الناس من قبل مبعثه أنه نبي مبعوث - مرتدين على أعقابهم حين بعثه الله نبيا مرسلا فباءوا بغضب من الله = استحقوه منه بكفرهم بمحمد حين بعث، وجحودهم نبوته، وإنكارهم إياه أن يكون هو الذي يجدون صفته في كتابهم، عنادا منهم له وبغيا وحسدا له وللعرب = على غضب سالف، كان من الله عليهم قبل ذلك، سابقٍ غضبه الثاني، لكفرهم الذي كان قبل عيسى ابن مريم، أو لعبادتهم العجل، أو لغير ذلك من ذنوب كانت لهم سلفت، يستحقون بها الغضب من الله، كما:- ١٥٤٦ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة بن الفضل قال، حدثني ابن إسحاق، عن محمد بن أبي محمد، فيما روى عن سعيد بن جبير، أو عكرمة، عن ابن عباس: ﴿فباءوا بغضب على غضب﴾ ، فالغضب على الغضب، غضبه عليهم فيما كانوا ضيعوا من التوراة وهي معهم، وغضب بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله إليهم. [[الأثر: ١٥٤٦- سيرة ابن هشام ٢: ١٩٠.]] ١٥٤٧ - حدثنا ابن بشار قال، حدثنا يحيى بن سعيد وعبد الرحمن، قالا حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن عكرمة: ﴿فباءوا بغضب على غضب﴾ قال: كفر بعيسى، وكفر بمحمد ﷺ. [[الأثر: ١٥٤٧ - في الدر المنثور: "كفرهم" في الموضعين، وهما سواء.]] ١٥٤٨ - حدثنا أبو كريب قال، حدثنا يحيى بن يمان قال، حدثنا سفيان، عن أبي بكير، عن عكرمة: ﴿فباءوا بغضب على غضب﴾ ، قال: كفرهم بعيسى ومحمد ﷺ. ١٥٤٩ - حدثنا الحسن بن يحيى قال، أخبرنا عبد الرزاق قال، أخبرنا الثوري، عن أبي بكير، عن عكرمة مثله. ١٥٥٠ - حدثنا ابن حميد قال، حدثنا جرير، عن مغيرة، عن الشعبي قال: الناس يوم القيامة على أربعة منازل: رجل كان مؤمنا بعيسى وآمن بمحمد صلى الله عليهما، فله أجران. ورجل كان كافرا بعيسى فآمن بمحمد ﷺ، فله أجر. ورجل كان كافرا بعيسى فكفر بمحمد، فباء بغضب على غضب. ورجل كان كافرا بعيسى من مشركي العرب، فمات بكفره قبل محمد ﷺ، فباء بغضب. ١٥٥١ - حدثنا بشر بن معاذ قال، حدثنا يزيد قال، حدثنا سعيد، عن قتادة قوله: ﴿فباءوا بغضب على غضب﴾ ، غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وبعيسى، وغضب عليهم بكفرهم بالقرآن وبمحمد ﷺ. ١٥٥٢ - حدثني المثنى قال، حدثنا أبو حذيفة قال، حدثنا شبل، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد: ﴿فباءوا بغضب﴾ ، اليهود بما كان من تبديلهم التوراة قبل خروج النبي ﷺ، ﴿على غضب﴾ ، جحودهم النبي ﷺ، وكفرهم بما جاء به. ١٥٥٣ - حدثنا المثنى قال، حدثنا آدم قال، حدثنا أبو جعفر، عن الربيع، عن أبي العالية: ﴿فباءوا بغضب على غضب﴾ ، يقول: غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى، ثم غضبه عليهم بكفرهم بمحمد ﷺ وبالقرآن. ١٥٥٤ - حدثني موسى قال، حدثنا عمرو قال، حدثنا أسباط، عن السدي: ﴿فباءوا بغضب على غضب﴾ ، أما الغضب الأول فهو حين غضب الله عليهم في العجل؛ وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد ﷺ. ١٥٥٥ - حدثنا القاسم قال، حدثنا الحسين قال، حدثني حجاج، عن ابن جريج وعطاء وعبيد بن عمير قوله: ﴿فباءوا بغضب على غضب﴾ ، قال: غضب الله عليهم فيما كانوا فيه من قبل خروج النبي ﷺ - من تبديلهم وكفرهم -، ثم غضب عليهم في محمد ﷺ - إذ خرج، فكفروا به. * * * قال أبو جعفر: وقد بينا معنى"الغضب" من الله على من غضب عليه من خلقه - واختلاف المختلفين في صفته - فيما مضى من كتابنا هذا، بما أغنى عن إعادته. [[انظر ما سلف ١: ١٨٨ - ١٨٩، وما مضى في هذا الجزء ٢: ١٣٨ هذا وقد كان في المطبوعة بعد قوله: "عن إعادته" ما نصه: "والله تعالى أعلم"، وليس لها مكان هنا، وهي بلا شك زيادة بعض النساخ، فلذلك تركتها.]] * * * القول في تأويل قوله تعالى: ﴿وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (٩٠) ﴾ قال أبو جعفر: يعني بقوله جل ثناؤه: ﴿وللكافرين عذاب مهين﴾ ، وللجاحدين نبوة محمد ﷺ من الناس كلهم، عذاب من الله، إما في الآخرة، وإما في الدنيا والآخرة، ﴿مهين﴾ هو المذل صاحبه، المخزي، الملبسه هوانا وذلة. * * * فإن قال قائل: أي عذاب هو غير مهين صاحبه، فيكون للكافرين المهين منه؟ قيل: إن المهين هو الذي قد بينا أنه المورث صاحبه ذلة وهوانا، الذي يخلد فيه صاحبه، لا ينتقل من هوانه إلى عز وكرامة أبدا، وهو الذي خص الله به أهل الكفر به وبرسله. وأما الذي هو غير مهين صاحبه، فهو ما كان تمحيصا لصاحبه. وذلك هو كالسارق من أهل الإسلام، يسرق ما يجب عليه به القطع فتقطع يده، والزاني منهم يزني فيقام عليه الحد، وما أشبه ذلك من العذاب والنكال الذي جعله الله كفارات للذنوب التي عذب بها أهلها، وكأهل الكبائر من أهل الإسلام الذين يعذبون في الآخرة بمقادير جرائمهم التي ارتكبوها، ليمحصوا من ذنوبهم، ثم يدخلون الجنة. فإن كل ذلك، وإن كان عذابا، فغير مهين من عذب به. إذ كان تعذيب الله إياه به ليمحصه من آثامه، ثم يورده معدن العز والكرامة، ويخلده في نعيم الجنان.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب