الباحث القرآني

ولَمّا بَيَّنَ سُبْحانَهُ بِهَذا أنَّهم أعْتى النّاسِ وأشَدُّهم تَدْلِيسًا وبُهْتًا بَلْ كَذِبًا وفِسْقًا كانُوا أحَقَّ النّاسِ بِوَصْفِ الكُفْرِ فَسَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ: ﴿فَلَعْنَةُ اللَّهِ﴾ [البقرة: ٨٩] أيِ: الَّذِي لَهُ الأمْرُ كُلُّهُ، ﴿عَلى الكافِرِينَ﴾ [البقرة: ٨٩] فَأظْهَرَ مَوْضِعَ الإضْمارِ تَعْلِيقًا لِلْحُكْمِ بِالوَصْفِ لِيَعُمَّ وإشْعارًا بِصَلاحِ مَن شاءَ اللَّهُ مِنهم. ولَمّا اسْتَحَقُّوا بِهَذا وُجُوهَ المَذامِّ كُلِّها وصَلَ بِهِ قَوْلَهُ: ﴿بِئْسَما﴾ فَأتى بِالكَلِمَةِ الجامِعَةِ لِلْمَذامِّ المُقابِلَةِ لِنِعَمِ الجامِعَةِ لِوُجُوهِ المَدائِحِ كُلِّها أيْ: (p-٤٤)بِئْسَ شَيْءٌ ﴿اشْتَرَوْا بِهِ أنْفُسَهُمْ﴾ أيْ: حُظُوظَهم، فَقَدَّمُوها وآثَرُوها فَكانَ ذَلِكَ عَيْنٌ فَأخْبَرَها عَكْسَ ما فَعَلَ المُؤْمِنُونَ مِن بَيْعِهِمْ لِأنْفُسِهِمْ وخُرُوجِهِمْ عَنْها بِتَعَبُّدِهِمْ لِلَّهِ بِإيثارِ ما يُرْضِيهِ عَلى هَوى أنْفُسِهِمْ، فَكانَ ذَلِكَ عَيْنَ تَحْصِيلِها وتَقْدِيمِها، ثُمَّ فَسَّرَ الضَّمِيرَ العائِدَ عَلى المُبْهَمِ المَأْخُوذِ في إحْرازِ النَّفْسِ فَقالَ: ﴿أنْ يَكْفُرُوا﴾ أيْ: يَسْتُرُوا عَلى التَّجَدُّدِ والِاسْتِمْرارِ عِلْمَهم، ﴿بِما أنْـزَلَ اللَّهُ﴾ الَّذِي لا كُفُؤَ لَهُ، أيِ: اشْتَرَوْا أنْفُسَهم فَأبْقَوْها لَهم عَلى زَعْمِهِمْ بِالكُفْرِ ولَمْ يَجْعَلُوها تابِعَةً؛ ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ ”اشْتَرَوْا“ بِمَعْنى: باعُوا، لِأنَّهم بَذَلُوها لِلشَّيْطانِ بِالكُفْرِ كَما بَذَلَ المُؤْمِنُونَ أنْفُسَهم لِلَّهِ بِالإيمانِ. ثُمَّ عَلَّلَ كُفْرَهم بِقَوْلِهِ: ﴿بَغْيًا﴾ أيْ: حَسَدًا وظُلْمًا لِأنْ تَكُونَ النُّبُوَّةُ في بَنِي إسْماعِيلَ عَلَيْهِ السَّلامُ. وقالَ الحَرالِّيُّ: هو اشْتِدادٌ في (p-٤٥)طَلَبِ شَيْءٍ ما، انْتَهى. وأصْلُهُ: مُطْلَقُ الطَّلَبِ والإرادَةِ، كَأنَّ الإنْسانَ لَمّا كانَ مَجْبُولًا عَلى النُّقْصانِ ومَطْبُوعًا عَلى الشَّرِّ والعِصْيانِ إلّا مَن عَصَمَ اللَّهُ وأعانَ كانَ مَذْمُومًا عَلى مُطْلَقِ الإرادَةِ، لِأنَّ مِن حَقِّهِ أنْ لا تَكُونَ لَهُ خِيرَةٌ ولا إرادَةٌ بَلْ تَكُونُ إرادَتُهُ تابِعَةً لِإرادَةِ مَوْلاهُ كَما هو شَأْنُ العَبْدِ، واللَّهُ المُوَفِّقُ. ثُمَّ عَلَّلَ بَغْيَهم بِقَوْلِهِ: ﴿أنْ يُنَـزِّلَ اللَّهُ﴾ ذُو الجَلالِ والإكْرامِ ﴿مِن فَضْلِهِ﴾ وفي صِيغَةِ ”يُنَزِّلُ“ إشْعارٌ بِتَمادِي ما يَغِيظُهم فِيما يُسْتَقْبَلُ، وبُشْرى لِلنَّبِيِّ ﷺ والمُؤْمِنِينَ ﴿عَلى مَن يَشاءُ مِن عِبادِهِ﴾ مِنَ العَرَبِ الَّذِينَ حَسَدُوهم، ثُمَّ سَبَّبَ عَنْ ذَلِكَ قَوْلَهُ ﴿فَباءُوا﴾ أيْ: رَجَعُوا لِأجْلِ ذَلِكَ، ﴿بِغَضَبٍ﴾ في حَسَدِهِمْ لِهَذا النَّبِيِّ ﷺ لِكَوْنِهِ مِنَ العَرَبِ، ﴿عَلى غَضَبٍ﴾ كانُوا اسْتَحَقُّوهُ بِكُفْرِهِمْ بِأنْبِيائِهِمْ عِنادًا، ثُمَّ عَلَّقَ الحُكْمَ الَّذِي اسْتَحَقُّوهُ بِوَصْفِهِمْ تَعْمِيمًا (p-٤٦)وإشارَةً إلى أنَّهُ سَيُؤْمِنُ بَعْضُهم فَقالَ: ﴿ولِلْكافِرِينَ﴾ أيِ: الَّذِينَ هم راسِخُونَ في هَذا الوَصْفِ مِنهم ومِن غَيْرِهِمْ، ﴿عَذابٌ مُهِينٌ﴾ مِنَ الإهانَةِ وهي الإطْراحُ إذْلالًا واحْتِقارًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب