الباحث القرآني

قوله تعالى: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوا﴾ الآية. بئس ونِعم لفظان وُضِعا للمدح والذم، يخبر بأحدهما عن الشيء المذموم، وبالثاني عن الممدوح، وأصلهما: نَعِمَ وبَئِسَ [[ينظر في نعم وبئس: "المقتضب" للمبرد 2/ 140 - 152، "تهذيب اللغة" 1/ 412، "اللسان" 1/ 201 (بئس).]]، وأرادوا لفظًا يُعبِّر عن المحمود يخصه، ولفظًا يعبِّر عنِ المذموم ويقتصر، فجعلوا نعم للممدوح وبئس للمذموم، فألزمهم بهذا الغرض ضرب من التغيير ليخص هذا القَصْد بالدلالة، فأزالوا التصرف عنهما وهو المستقبل، فلا يقال والمراد المدح أو الذم: ينعَم الرجل أو يَبْأسُ، وهذا القدر من التغيير لا يزيل الإلباس، فليس يُدرى [[في (ش): (تَدْري).]] بقولك: نَعِمَ الرجل أو بَئِسَ إن المراد به الإخبار عنه على ما يقتضيه الأصل أو المدح والذم، فلم يجدوا بُدًّا من تغيير [[في (ش): (تعبير).]] زائد، فنقلوا وخففوا، والنقل والتخفيف لغة للعرب [[في (ش): (العرب).]] فيما كان على فَعُل وفَعِل، نحو. حَسُنَ وضَجِر. حَسُن وجهُك، إذا خففت، وإن ثقلت قلت: حُسْنَ وَجهُك، فنقلت ضمة السين إلى الحاء، وعلى هذا ينشد: فَإِنْ أَهْجُهُ يَضْجَرْ كَمَا ضَجْرَ بَازِلٌ ... من الأُدْمِ دِبْرَتْ [[في (ش): (ديرت).]] صفحتاه وكاهله [[البيت للأخطل في "ديوانه" ص 217، ينظر: "لسان العرب" 4/ 481 - 12/ 12.]] وإنما حملَهُم على هذا اسْتثقالهم الانتقال في الحركات المختلفة الذي يدل على هذا: أن اتفاق الحركات في فعل منعهم من هذا. فقالوا في نِعْمَ وبِئْسَ فرقًا بين المدح والذم وبين الخبر؛ ليخلُصا للمدح والذم لا يلتبسان بالخبر، ولهذا المعنى لم يتصرفا تصرف الأفعال؛ لأنهما تضمنا الدلالة على معنى الذم والمدح، كما أن التعجب لما كان خبرًا كسائر الأخبار إلا أنه زاد عليها بمعنى التعجب تُركَ تصرّفُه؛ ليدل به على زيادة المعنى، فكذلك (نعم وبئس)، يدل على أن القائل مادح أو ذامّ، وهو خبر باستحقاق المدح والذم. وبئس ذمٌّ بشدة الفساد. وأصل الكلمة من الشدة، ومنه البأساء: وهو اسم للحرب والمشقة والضرر والشدة، ومنه ﴿بِعَذَابٍ بَئِيسٍ﴾ [الأعرف: 165] أي: شديد. وكل هذا ممَّا علّقته عن مشايخ هذه الصنعة. فأما حكم هاتين الكلمتين وعملهما فقال أبو إسحاق: إنهما لا يعملان في اسم عَلم، إنما يعملان في اسم منكور دالّ على جنس، أو اسم فيه ألف ولام يدل على جنس، وإنما كانتا كذلك؛ لأنّ (نعم) مستوفية لجميع المدح، و (بئس) مستوفية لجميع الذمّ، فإذا قلت: نِعم الرجل زيدٌ، قلت [[في "معاني القرآن": فقد.]]: استحق زيد المدح الذي يكون في سائر جنسه، وكذلك [[ساقطة من (م).]] إذا قلت: بئس الرجل دللت على أنه قد استوفى الذم الذي يكون في سائر جنسه، فلم يجز إذ كان يستوفي مدح الأجناس أن يعمل في غير لفظ جنس، فإذا كان معهما [[في "معاني القرآن": معها.]] اسم جنس بغير ألف ولام فهو نصب أبدًا، وإذا كانت فيه الألف واللام فهو رفع أبدًا، وذلك قولك [[في "معاني القرآن": كقولك.]]: نعم رجُلاً زيدٌ، [[في (ش): (زيدا).]] ونعم الرجل زيد [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 172، وقد نقله الواحدي بتصرف يسير، وينظر: "تهذيب اللغة" 1/ 412، "اللسان" 1/ 201، "تفسير القرطبي" 2/ 24.]]، نصبت النكرة على التشبيه بالمفعول، وهو بمعنى التمييز، لأنك إذا قلت: نعم، جاز أن تذكر رجلًا أو حِمارًا، فإذا ذكرت نوعًا ميزته من سائر الأنواع، وفي نعم ضمير فاعل؛ لأنه فِعْلٌ، والفِعْلُ لا يخلو من فاعل، فصار المميز كالمفعول فلهذا نصب. فأما إذا قلت: نِعْمَ الرَجُل، فليس في نِعْمَ ضمير، وصار الرجل رفعًا بنعم. وارتفع زيد من وجهين، قال سيبويه والخليل [[نقله عنه الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 172، ونقله عن سيبويه ابن عطية في "المحرر" 1/ 391، "تفسير القرطبي" 2/ 240.]]: إن شئت رفعت زيدًا؛ لأنه ابتداء مؤخر، ويكون نعم وما عملت فيه خبره، وإن شئت رفعت على أنه خبر ابتداء محذوف، لأنك إذا قلت: نعم رجلًا، ونعم الرجل، لم يُعلم من تعني، فقلت: زيد، أي: هو زيد. وقال الكسائي: قولك: نعم الرجل، كالشيء الواحد يرتفع بهما زيد [[نقله الفراء في "معاني القرآن" عن الكسائي 1/ 56، ابن عطية في "المحرر" 1/ 391، "تفسير القرطبي" 2/ 24 قال ابن عطية: وهذا أيضاً معترض؛ لأن بئس لا تدخل على اسم معين متعرف بالإضافة إلى الضمير.]]؛ لأن قولك: الرجل زيد، لمعنى: صلح زيد، فارتفاع زيدٍ، كارتفاع الفاعل. قال الفراء: فإن أضفتَ النكرةَ التي بعد نِعْمَ إلى نكرة رفعت ونصبت، فقلت: نعم غلامُ سَفَرٍ زَيدٌ، وغلامَ سفرٍ زيد، فإن أضفت إلى المعرفة شيئًا رفعتَ، فقلت: نعم سائسُ الخيل أخوك، ولا يجوز النصبُ إلّا أن يضطرّ إليه شاعر؛ لأنهم حينَ أَضَافوا إلى النكرَة آثروا الرفع، فهم إذا أضَافوا إلى المعرفة أحرى أن لا ينصبوا [["معاني القرآن" للفراء 1/ 57.]]. فإن وصلت "مَا" بـ"نعم وبِئسَ" نحو: بئسما ونعِمّا، فقال الزجّاج: (ما) فيهما لغير صلة [[في "معاني القرآن" للزجاج: بغير.]]؛ لأن الصلة توضح، وتخصص، وَالقصد في بئسَ [[في "معاني القرآن" للزجاج: نعم.]] أن يليها اسم منكور واسم جنس [[في "معاني القرآن" للزجاج: اسم منكور أو جنس، وفي "الإغفال" ص 317: اسم منكور أو اسم جنس.]]. فقوله ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ بئس شيئًا اشتروا به أنفسهم [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 172، ونقله في "اللسان" 1/ 201 مادة (بئس).]]، قال: وروى جميع النحويين: بئسما تزويجٌ ولا مهر، وَالمَعنى فيه: بئسَ شيئًا تزويج ولا مَهر [[ينظر: "معاني القرآن" للزجاج 1/ 173، ونقله في "تهذيب اللغة" 1/ 412، و"اللسان" 1/ 201، وينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 58.]]. قالَ أبو علي: مَا ذكره أبو إسحاق يَدُل على أن (مَا) إذَا كانت موصولة لم يجز عنده أن يكون فاعلة نعم وبئس، وذلك عندنا لا يمتنع، وجهة جوازه: أن ما اسم مبهم يقع على الكثرة، ولا يخصص شيئًا واحدًا، كما أن أسماء الأجناس كذلك، وهي تكون للكثرة [[في "الإغفال": للنكرة]] والعموم، كما أن أسماء الأجناس تكون للكثرة [[في "الإغفال": للنكرة.]]؛ [[من قوله: كما أن .. ساقط من (ش).]] وذلك نحو قوله: ﴿وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ﴾ [يونس: 18] فالقصد به هاهنا الكثرة، وإن كان في اللفظ مفردًا؛ يدلك على ذلك قوله: هؤلاء [[في "الإغفال" فهؤلاء لا يكون للواحد.]]. وتكون ما معرفةً ونكرةً؛ كما أن أسماء الأجناس تكون معرفةً ونكرةً. فأمَّا كونها معرفةً فمأنوس به، وأَمَّا كونها نكرة فكثير أيضًا، ذكره سيبويه في مواضع، وهي و (من) قد تكونان نكرتين في التنزيل والشعر القديم الفصيح، أنشد سيبويه: ربّما تكره النفوسُ من الأمر ... له فَرجة كحلِّ العِقَال [[البيت لأمية بن أبي الصلت، في "ديوانه" ص 50 وفي "الكتاب" 1/ 315، 424 وكذا في "الخزانة" 2/ 541 و 4/ 194، وينسب البيت أيضًا: لأبي قيس اليهودي، ولابن صرمة اليهودي، ولحنيف بن عمر اليشكري، ولنهار بن أخت مسيلمة == الكذاب ويروى تجزع بدل تكره. ينظر: "الإغفال" 317، و"مغني اللبيب" 1/ 297، و"شذور الذهب" 132، والأشموني 1/ 70، و"المفصل" 4/ 2، وابن يعيش 3/ 4، و"طبقات القراء" 1/ 290، وشرح شواهد المغني ص 240، و"ديوان عبيد بن الأبرص" ص 86.]] وقال: يا رُبَّ من يُبْغِضُ أَذْوادَنا ... رُحْنَ على بَغْضَائِه واغْتَدَيْن [[البيت تقدم تخريجه.]] [[من "الإغفال" ص 317، 318 بتصرف، وقد لخصه القرطبي في "تفسيره" 2/ 24.]] وتأول سيبويه قوله تعالى: ﴿هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ [ق: 23]، على أن تكون معرفةً، وعلى أن تكون نكرةً، مثل: هذا شيء لديّ عتيد، فإنما يتخلص بعضر ذلك من بعض، بدلالةٍ مِن غير جهة اللفظ؛ لأن اللفظ محتمل لما أعلمتك في اللغة [[من "الإغفال" ص 319.]]. فقوله: ﴿بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ﴾ يجوز عندي أن تكون ما موصولة، وموضعها رفع بكونها فاعلة لـ"بئس"، ويجوز أن تكون منكورةً، ويكون (اشتروا) صفة غير صلة [[من "الإغفال" ص 319.]]، وحينئذٍ تكون (ما) نصبًا. وتقول: نِعم ما صنعت، وبئسما صنعت، إن شئت كانت (ما) منصوبة، كأنك قلت: نعم شيئًا صنعت، وإن شئت كانت مرفوعة، كأنك قلت: بئس الشيء صنعت. ولا يجوز أن يليهما (الذي)؛ لأن الألف واللام لا يفارقانه، وهما يعملان فيما عُرِّف بالألف واللام، وجاز طرحهما منه. فقال الفراء: ويجوز أن تُجعل (ما) مع نِعم وبئس بمنزلة كلمة واحدة في غير هذه الآية، فيكون مثل كلما، وإنما، كما جُعلت (ذا) مع حَبَّ كلمةً واحدة، فقالوا: حبّذا. من ذلك قوله: ﴿إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ﴾ [البقرة: 271]، رفعت هي بنعما، ولا يجوز (حينئذ) [[ساقطة من (م).]] تأنيث نعم، كما لا يجوز تأنيث حبذا [["معاني القرآن" للفراء 1/ 57.]]، قال: ويجوز أن تجعل (ما) فيه حشوًا وصلة، كما قال: عما قليل [[في "معاني القرآن" للفراء 1/ 57: عما قليل آتيك.]]، وإذا جعلت (ما) صلةً جاز فيه التأنيث [[في "معاني القرآن" للفراء 1/ 57: جاز فيه التأنيث والجمع، فقلت: بئسما رجلين أنتما، بئست ما جاريةً جاريتك.]]، تقول: بئست مَا جاريةً جاريتك [["معاني القرآن" للفراء 1/ 58 بتصرف، وقد ذكر الأقوال في إعراب ما في هذه الآية الطبري في تفسيره 1/ 413 - 414، والعكبري في "التبيان" 74، وأبو حيان في "البحر" 1/ 304 - 305، وخلاصته: اختلف في ما ألها موضع من الإعراب أم لا؟ فذهب الفراء إلى أنه بجملته شيء واحد، وظاهره أن لا موضع لها من الإعراب، والجمهور على أن لها موضعًا من الإعراب، واختلفوا أموضعها نصب أم رفع؟.]]. ومعنى الاشتراء هاهُنَا: البيع. والاشتراء والشراء والبيع كله من الأضداد، ويقال: اشتريته، أي: بعته، واشتريته، أي: ابتعته، وكذلك: شريته في المعنيين، وكذلك: بعته، قال الله تعالى: ﴿وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ﴾ [يوسف: 20]، أي: باعوه [[ينظر: "معاني القرآن" للفراء 1/ 56، "اللسان" 4/ 2253 (شرى)، وذكر في "البحر المحيط" 1/ 305: أن اشتروا هنا بمعنى: باعوا عند الأكثرين، وفي المنتخب أنه على بابه، لأن المكلف إذا خاف على نفسه من العقاب أتى بأعمال يظن أنها تخلصه، وكأنه قد اشترى نفسه بها، قال أبو حيان: ويرد عليه، ﴿بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ﴾، حيث فعلوا ذلك على سبيل البغي والحسد.]]، وقال يزيد بن المُفَرِّغ: وشُرَيْتُ بُردًا لَيْتَنِي ... مِنْ بَعْدِ بردٍ صِرتُ هامة [[البيت ليزيد بن مفرغ الحميري، في ديوانه ص 213، و"لسان العرب" 4/ 2252 مادة (شرى).]] أي: بعته؛ قال الفراء: وتقول بع لي بدرهم تَمرًا، أي: اشتر لي. وأنشد: ويأتيك بالأخبار مَن لم تَبعْ له ... بَتَاتًا ولم تضربْ له وقتَ موعِدِ [[البيت لطرفة بن العبد في "ديوانه" ص 41.]] [["معاني القرآن" للفراء 1/ 56، وقال: وللعرب في شروا واشتروا مذهبان، فالأكثر منهما أن يكون شروا: باعوا، واشتروا: ابتاعوا، وربما جعلوهما جميعًا في معنى باعوا، وكذلك البيع، يقال: بعت الثوب، على معنى: أخرجته من يدي، وبعته: اشتريته، وهذه اللغة في تميم وربيعة. ينظر: "البحر المحيط" 1/ 305.]] ومعنى الآية: بئس الشيء بَاعوا به أنفسهم الكفر؛ يريد: أنهم اختاروا الكُفر وأخذوه، وبذلوا أنفسهم للنار؛ لأن اليهود خصوصًا علموا صدق محمد ﷺ، وأن من كذبه فالنار عاقبته، فاختاروا الكفر، وسلموا أنفسهم للنار، فكان ذلك كالبيع منهم [[ينظر: "تفسير الطبري" 1/ 414 - 416، "تفسير الثعلبي" 1/ 1032، "تفسير ابن كثير" 113 - 114.]]. وقال المفسرون: في الآية إضمار معناه بئسما باعوا حظ أنفسهم بالكفر، هكذا قالوا [["تفسير الثعلبي" 1/ 1032.]]، وعلى هذا تكون الآية من باب حذف المضاف، وعلى ما قلنا أولًا تصح الآية من غير إضمار. وقوله تعالى: ﴿أَن يَكْفُرُواْ﴾ قال الزجاج: موضع أن رفع، المعنى: ذلك الشيء المذموم أن يكفروا [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 172.]]، على تقدير: بئس الشيء اشتروا به أنفسهم الكفر، فيكون كقولك: بئس الرجل زيد، على الاختلاف الذي حكينا عن سيبويه والخليل والكسائي في رفع زيد، وقال الفراء: يجوز أن يكون محله جزًا بدلًا من المكني في (به)، كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكُفْر [["معاني القرآن" للفراء 1/ 56، ونصه: أن يكفروا، في موضع خفض ورفع، فأما الخفض فأن ترده على الهاء التي في به، على التكرير على كلامين، كأنك قلت: اشتروا أنفسهم بالكفر. وأما الرفع فأن يكون مكرورا أيضا على موضع ما التي تلي بئس. اهـ. وينظر في إعراب الآية: "التبيان" للعكبري ص 75، حيث ذكر القولين السابقين وزاد: وقيل: هو مبتدأ، وبئس وما بعدها خبر عنه.]]. وقوله تعالى: ﴿بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ﴾ يعني: القرآن [["تفسير الثعلبي" 1/ 1032.]]. ﴿بَغْيًا﴾ أَصْلُ البغي في اللغة: الظلم والخروج عن النَّصَفَة والحدّ، يقال: بَغَى الفرس في عدوه، إذا اختال ومرح، وإنه ليبغي، ولا يقال: فرس باغ، وبغى الجُرحُ يَبْغِي بَغْيًا، إذا وَرم وكثر فيه المِدّة [[المِدَّة بكسر الميم القيح، وهي الغثيثة الغليظة، وأما الرقيقة فهي صديد وأَمَدّ الجرح إمدادًا، صار فيه مِدَّةٌ ينظر: "المصباح المنير" ص 567.]]، وبَغَتِ السماء، إذا كثر مطرها حتى تجاوز الحدّ، وبغى الوادي، إذا بلغ الماء منه موضعًا لم يبلغه قبل. وقالَ قوم: أصل البَغْي: الطلب [[قال في "مقاييس اللغة" 1/ 272: الباء والغين والياء أصلان: أحدهما: طلب الشيء، والثاني: جنس من الفساد.]]، يقال: بغى الشيءَ، إذا طلبه، وأَبْغَاه، أعانه على الطلب. والبَغيّ: التي تطلب الزنا، ومنه قيل للأمة: بَغِيٌّ. وما ينبغي كذا، أي: ليس بصواب طلبه، والبَغْيُ: شدة الطلَب للتطاول [[ينظر في معاني البغي: "تهذيب اللغة" 1/ 367، "مقاييس اللغة" 1/ 271 - 272، "المفردات" للراغب ص 65، "اللسان" 1/ 323.]]. قال المفسرون: البَغْيُ، هاهُنا، بمعنى الحَسَد [[ينظر: الطبري في تفسيره 1/ 415، "معاني القرآن" للزجاج 1/ 173، "زاد المسير" 1/ 114، "تفسير القرطبي" 2/ 25.]]. قال اللحياني [[هو: أبو الحسن علي بن حازم، وقيل: علي بن المبارك، تقدمت ترجمته [البقرة: 10].]]: بغيت على أخيك بغيًا، أي: حسدته، وقال الله تعالى: ﴿ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ﴾ [الحج: 60]، وقال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ﴾ [الشورى: 39] فالبغي أصله الحَسَد، ثم سمي الظلم بغيًا؛ لأن الحاسِد يظلم المحسودَ جَهْدَه إرادة زوال نعمة الله عليه عنه [[من "تهذيب اللغة" 1/ 367.]]. قال ابن عباس في هذه الآية: إنَّ كفر اليهود لم يكن شكًا ولا شيئًا اشتبه عليهم، ولكن بغيًا منهم، حيث صارت النبوة في ولد إسماعيل [[لم أجده بهذا اللفظ لكن قريب منه عند ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 173.]]. وانتصابه على المصدر؛ لأن ما قبله من الكلام يدلّ على بَغَوا، فكأنه قيل: [[في (ش): (قال).]] بَغَوا بغيًا [[ينظر: "التبيان" للعكبري ص 75.]]. وقال الزجّاج: انتصب؛ لأنه مفعول له، كما تقول: فعلت ذلك حِذارَ الشرّ، أي: لحذر الشر [[والعامل فيه: يكفروا، أي: كفرهم لأجل البغي، أو يكون العامل فيه: اشتروا. ينظر: "البحر المحيط" 1/ 305.]]، ومثله من الشعر: قول حَاتِم [[هو: حاتم بن عبد الله بن سعد بن الحشرج الطائي القحطاني، فارس شاعر جواد، جاهلي يضرب المثل بجوده، كان من أهل نجد، شعره كثير ضاع معظمه. ينظر: "الشعر والشعراء" ص 143، و"الأعلام" 2/ 151.]]: وأغفر عَورَاءَ الكريم ادّخارَه ... وأُعْرِضُ عن شَتْم اللئيم تَكَرُّما [[تقدم تخريج البيت [البقرة: 18].]] المعنى: لادخاره، وللتَّكرّم [["معاني القرآن" للزجاج 1/ 1703.]]. وقوله تعالى: ﴿أَن يُنَزِل اللَّهُ﴾ موضع أن نصب؛ لأن المعنى: أن تكفروا بما أنزل الله؛ لأن ينزل الله من فَضْلِهِ، أي: كفروا لهذه العلة، فهو كما ذكرنا في بيت حاتِم؛ لأنهم كفروا لإنزال الله عليه، كما أنه يغفر العوراء لادّخاره، هذا قول الزجاج [[بتصرف من "معاني القرآن" للزجاج 1/ 173، وينظر: "التبيان" ص 75 قال: وقيل: التقدير: بغيًا على ما أنزل الله، أي: حسدًا على ما خص الله به نبيه من الوحي.]]. وأظهر منه أن تجعل ﴿أَن يُنَزِلَ﴾ مفعولًا للبغي، كأن معناه: حسدًا إنزال الله، لأن البغي، هاهنا، بمعنى الحَسَد، وأنت تقول: حَسَدْتُ زيدًا مالَه وفضلَه [[وقيل: التقدير: بغيًا على أن ينزل الله، لأن معناه: حسدا على أن ينزل الله، فحذفت على، وقيل: أن ينزل في موضع جرًّ على أنه بدل اشتمال من ما في قوله بما أنزل الله أي: بتنزيل الله ينظر "البحر المحيط".]]. وقوله تعالى: ﴿فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ﴾ قال ابن عباس: الغضب الأول: تضييعهم التوراة، والثاني: بكفرهم بهذا النبي الذي أحدث الله فيهم [[رواه الطبري في "تفسيره" 1/ 417، ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 173، وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1032 وقال ابن أبي حاتم: وروي عن عكرمة ومجاهد وعطاء وقتادة وابن أبي خالد نحو ذلك، وقد ذكر ابن الجوزي في "زاد المسير" 1/ 114 خمسة أقوال في الآية، والخلاف فيها من قبيل اختلاف التنوع.]]. وقال قتادة: الأول بكفرهم بعيسى والإنجيل، والثاني: بكفرهم بمحمد والقرآن [[رواه الطبري في "تفسيره" 2/ 346 وذكره الثعلبي في "تفسيره" 1/ 1033، وعزاه == السيوطي في "الدر" 1/ 218 إلى عبد بن حميد. وروى الطبري، وابن أبي حاتم عن أبي العالية نحوه.]]. وقال أهل المعاني: أي: بإثم استحقوا به النار على إثم تقدم استحقوا به النار [[هذا كلام الزجاج في "معاني القرآن" 1/ 174، وروى ابن أبي حاتم في "تفسيره" 1/ 174 عن سعيد بن جبير في قوله: (فباؤوا بغضب على غضب) يقول: استوجبوا سخطا على سخط، وذكر "القرطبي" 2/ 29 قولاً فقال: وقال قوم: المراد التأييد وشدة الحال عليهم، لا أنه أراد غضبين معللين بمعصيتين. وينظر "البحر المحيط" 1/ 306.]].
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب