الباحث القرآني

(p-٥٨٢)﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا وذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلّا قَلِيلًا مِنكم وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ أُعِيدَ ذِكْرُ أحْوالِ بَنِي إسْرائِيلَ بَعْدَ ذَلِكَ الِاسْتِطْرادِ المُتَفَنَّنِ فِيهِ فَأُعِيدَ الأُسْلُوبُ القَدِيمُ وهو العَطْفُ بِإعادَةِ لَفْظِ إذْ في أوَّلِ القَصَصِ. وأظْهَرَ هُنا لَفْظَ بَنِي إسْرائِيلَ وعَدَلَ عَنِ الأُسْلُوبِ السّابِقِ الواقِعِ فِيهِ التَّعْبِيرُ بِضَمِيرِ الخِطابِ المُرادِ بِهِ سَلَفُ المُخاطَبِينَ وخَلَفُهم لِوَجْهَيْنِ أحَدُهُما أنَّ هَذا رُجُوعٌ إلى مُجادَلَةِ بَنِي إسْرائِيلَ وتَوْقِيفِهِمْ عَلى مَساوِيهِمْ فَهو افْتِتاحٌ ثانٍ جَرى عَلى أُسْلُوبِ الِافْتِتاحِ الواقِعِ في قَوْلِهِ تَعالى ﴿يا بَنِي إسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أنْعَمْتُ عَلَيْكم وأوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمُ﴾ [البقرة: ٤٠] الآيَةَ. ثانِيهِما أنَّ ما سَيُذْكَرُ هُنا لَمّا كانَ مِنَ الأحْوالِ الَّتِي اتَّصَفَ بِها السَّلَفُ والخَلَفُ وكانَ المَقْصُودُ الأوَّلُ مِنهُ إثْباتَ سُوءِ صَنِيعِ المَوْجُودِينَ في زَمَنِ القُرْآنِ تَعَيَّنَ أنْ يُعَبَّرَ عَنْ سَلَفِهِمْ بِاللَّفْظِ الصَّرِيحِ لِيَتَأتّى تَوْجِيهُ الخِطابِ مِن بَعْدِ ذَلِكَ إلى المُخاطَبِينَ حَتّى لا يُظَنَّ أنَّهُ مِنَ الخِطابِ الَّذِي أُرِيدَ بِهِ أسْلافُهم عَلى وِزانِ ﴿وإذْ نَجَّيْناكم مِن آلِ فِرْعَوْنَ﴾ [البقرة: ٤٩] أوْ عَلى وِزانِ ﴿ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ العِجْلَ مِن بَعْدِهِ﴾ [البقرة: ٩٢] وقَوْلُهُ ﴿مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ أُرِيدَ بِهِ أسْلافَهم لِأنَّهُمُ الَّذِينَ أعْطَوُا المِيثاقَ لِمُوسى عَلى امْتِثالِ ما أنْزَلَ اللَّهُ مِنَ التَّوْراةِ كَما قَدَّمْناهُ أوِ المُرادُ بِلَفْظِ بَنِي إسْرائِيلَ المُتَقَدِّمُونَ والمُتَأخِّرُونَ والمُرادُ بِالخِطابِ في تَوَلَّيْتُمْ خُصُوصُ ”مَن بَعْدَهم“ لِأنَّهُمُ الَّذِينَ تَوَلَّوْا فَلَيْسَ في الكَلامِ التِفاتٌ ما وهو أوْلى مِن جَعْلِ ما صَدَّقَ بَنِي إسْرائِيلَ هو ما صَدَّقَ ضَمِيرَ تَوَلَّيْتُمْ وأنَّ الكَلامَ التِفاتٌ. وقَوْلُهُ ﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ خَبَرٌ في مَعْنى الأمْرِ ومَجِيءُ الخَبَرِ لِلْأمْرِ أبْلَغُ مِن صِيغَةِ الأمْرِ لِأنَّ الخَبَرَ مُسْتَعْمَلٌ في غَيْرِ مَعْناهُ لِعَلاقَةِ مُشابَهَةِ الأمْرِ المَوْثُوقِ بِامْتِثالِهِ بِالشَّيْءِ الحاصِلِ حَتّى إنَّهُ يُخْبِرُ عَنْهُ. وجُمْلَةُ لا تَعْبُدُونَ مَبْدَأُ بَيانٍ لِلْمِيثاقِ فَلِذَلِكَ فُصِلَتْ وعُطِفَ ما بَعْدَها عَلَيْها لِيَكُونَ مُشارِكًا لَها في مَعْنى البَيانِيَّةِ سَواءٌ قَدَّرْتَ (أنْ) أوْ لَمْ تُقَدِّرْها أوْ قَدَّرْتَ قَوْلًا مَحْذُوفًا. وقَوْلُهُ ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ هو مِمّا أُخِذَ عَلَيْهِمُ المِيثاقُ بِهِ وهو أمْرٌ مُؤَكِّدٌ لِما دَلَّ عَلَيْهِ تَقْدِيمُ المُتَعَلِّقِ عَلى مُتَعَلِّقِهِ وهُما ﴿بِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ وأصْلُهُ وإحْسانًا بِالوالِدَيْنِ، والمَصْدَرُ بَدَلٌ (p-٥٨٣)مِن فِعْلِهِ والتَّقْدِيرُ وأحْسِنُوا بِالوالِدَيْنِ إحْسانًا. ولا يُرِيبُكم أنَّهُ مَعْمُولُ مَصْدَرٍ وهو لا يَتَقَدَّمُ عَلى عامِلِهِ عَلى مَذْهَبِ البَصْرِيِّينَ لِأنَّ تِلْكَ دَعْوى واهِيَةٌ دَعاهم إلَيْها أنَّ المَصْدَرَ في مَعْنى أنْ والفِعْلِ فَهو في قُوَّةِ الصِّلَةِ ومَعْمُولُ الصِّلَةِ لا يَتَقَدَّمُ عَلَيْها مَعَ أنَّ (أنْ) والفِعْلَ هي الَّتِي تَكُونُ في مَعْنى المَصْدَرِ لا العَكْسُ. والعَجَبُ مِنَ ابْنِ جِنِّي كَيْفَ تابَعَهم في شَرْحِهِ لِلْحَماسَةِ عَلى هَذا عِنْدَ قَوْلِ الحَماسِيِّ: ؎وبَعْضُ الحِلْمِ عِنْدَ الجَهْلِ لِلذِّلَّةِ إذْعانُ وعَلى طَرِيقَتِهِمْ تَعَلَّقَ قَوْلُهُ وبِالوالِدَيْنِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ وأحْسِنُوا. وقَوْلُهُ إحْسانًا مَصْدَرٌ ويَرُدُّ عَلَيْهِمْ أنَّ حَذْفَ عامِلِ المَصْدَرِ المُؤَكَّدِ مُمْتَنِعٌ لِأنَّهُ تَبْطُلُ بِهِ فائِدَةُ التَّأْكِيدِ الحاصِلَةُ مِنَ التَّكْرِيرِ فَلا حاجَةَ إلى جَمِيعِ ذَلِكَ. ونَجْزِمُ بِأنَّ المَجْرُورَ مُقَدَّمٌ عَلى المَصْدَرِ، عَلى أنَّ التَّوَسُّعَ في المَجْرُوراتِ أمْرٌ شائِعٌ وأصْلٌ مَفْرُوغٌ مِنهُ، واليَتامى جَمْعُ يَتِيمٍ كالنَّدامى لِلنَّدِيمِ وهو قَلِيلٌ في جَمْعِ فَعِيلٍ. وجَعَلَ الإحْسانَ لِسائِرِ النّاسِ بِالقَوْلِ لِأنَّهُ القَدْرُ الَّذِي يُمْكِنُ مُعامَلَةُ جَمِيعِ النّاسِ بِهِ وذَلِكَ أنَّ أصْلَ القَوْلِ أنْ يَكُونَ عَنِ اعْتِقادٍ، فَهم إذا قالُوا لِلنّاسِ حُسْنًا فَقَدْ أضْمَرُوا لَهم خَيْرًا وذَلِكَ أصْلُ حُسْنِ المُعامَلَةِ مَعَ الخَلْقِ قالَ النَّبِيءُ ﷺ: «لا يُؤْمِنُ أحَدُكم حَتّى يُحِبَّ لِأخِيهِ ما يُحِبُّ لِنَفْسِهِ» وقَدْ عَلَّمَنا اللَّهُ تَعالى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ ﴿ولا تَجْعَلْ في قُلُوبِنا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا﴾ [الحشر: ١٠] عَلى أنَّهُ إذا عَرَضَ ما يُوجِبُ تَكَدُّرَ الخاطِرِ فَإنَّ القَوْلَ الحَسَنَ يُزِيلُ ما في نَفْسِ القائِلِ مِنَ الكَدَرِ ويَرى لِلْمَقُولِ لَهُ الصَّفاءَ فَلا يُعامِلُهُ إلّا بِالصَّفاءِ قالَ المَعَرِّيُّ: ؎والخَلُّ كالماءِ يُبْدِي لِي ضَمائِرَهُ ∗∗∗ مَعَ الصَّفاءِ ويُخْفِيها مَعَ الكَدَرِ . عَلى أنَّ اللَّهَ أمَرَ بِالإحْسانِ الفِعْلِيِّ حَيْثُ يَتَعَيَّنُ ويَدْخُلُ تَحْتَ قُدْرَةِ المَأْمُورِ وذَلِكَ الإحْسانُ لِلْوالِدَيْنِ وذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وإيتاءِ الزَّكاةِ، وأمَرَ بِالإحْسانِ القَوْلِيِّ إذا تَعَذَّرَ الفِعْلِيُّ عَلى حَدِّ قَوْلِ أبِي الطَّيِّبِ: ؎فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إنْ لَمْ تُسْعِدِ الحالُ وقَوْلُهُ ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ أُطْلِقَتِ الزَّكاةُ عَلى الصَّدَقَةِ مُطْلَقًا أوْ عَلى الصَّدَقَةِ الواجِبَةِ عَلى الأمْوالِ ولَيْسَ المُرادُ الكِنايَةَ عَنْ شَرِيعَةِ الإسْلامِ لِما عَلِمْتُ مِن أنْ هاتِهِ المَعاطِيفَ تابِعَةٌ لِبَيانِ المِيثاقِ وهو عَهْدُ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ. (p-٥٨٤)وقَوْلُهُ ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلّا قَلِيلًا مِنكُمْ﴾ خِطابٌ لِلْحاضِرِينَ ولَيْسَ بِالتِفاتٍ كَما عَلِمْتَ آنِفًا. والمَعْنى أخَذْنا مِيثاقَ الأُمَّةِ الإسْرائِيلِيَّةِ عَلى التَّوْحِيدِ وأُصُولِ الإحْسانِ فَكُنْتُمْ مِمَّنْ تَوَلّى عَنْ ذَلِكَ وعَصَيْتُمْ شَرْعًا اتَّبَعْتُمُوهُ. والتَّوَلِّي الإعْراضُ وإبْطالُ ما التَزَمُوهُ وحَذْفُ مُتَعَلِّقِهِ لِدِلالَةِ ما تَقَدَّمَ عَلَيْهِ، أيْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ جَمِيعِ ما أخَذَ عَلَيْكُمُ المِيثاقَ بِهِ أيْ أشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ وعَبَدْتُمُ الأصْنامَ وعَقَقْتُمُ الوالِدَيْنِ وأسَأْتُمْ لِذَوِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وقُلْتُمْ لِلنّاسِ أفْحَشَ القَوْلِ وتَرَكْتُمُ الصَّلاةَ ومَنَعْتُمُ الزَّكاةَ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ بِالخِطابِ في تَوَلَّيْتُمُ المُخاطَبِينَ زَمَنَ نُزُولِ الآيَةِ، وبَعْضُ مِن تَقَدَّمَهم مِن مُتَوَسِّطِ عُصُورِ الإسْرائِيلِيِّنَ فَيَكُونُ ضَمِيرُ الخِطابِ تَغْلِيبًا، نُكْتَتُهُ إظْهارُ بَراءَةِ الَّذِينَ أُخِذَ عَلَيْهِمُ العَهْدُ أوَّلًا مِن نَكْثِهِ وهو مِنَ الإخْبارِ بِالجَمْعِ. والمُرادُ التَّوْزِيعُ أيْ تَوَلَّيْتُمْ فَمِنكم مَن لَمْ يُحْسِنْ لِلْوالِدَيْنِ وذِي القُرْبى إلَخْ وهَذا مِن صِفاتِ اليَهُودِ في عَصْرِ نُزُولِ الآيَةِ كَما سَيَأْتِي في تَفْسِيرِ الآيَةِ الَّتِي بَعْدَها. ومِنكم مَن أشْرَكَ بِاللَّهِ وهَذا لَمْ يُنْقَلْ عَنْ يَهُودَ زَمَنَ النُّزُولِ وإنَّما هو مِن صِفاتِ مَن تَقَدَّمَهم مِن بَعْدِ سُلَيْمانَ فَقَدْ كانَتْ مِن مُلُوكِ إسْرائِيلَ عَبَدَةُ أصْنامٍ وتَكَرَّرَ ذَلِكَ فِيهِمْ مِرارًا كَما هو مَسْطُورٌ في سِفْرَيِ المُلُوكِ الأُوَلِ والثّانِي مِنَ التَّوْراةِ. وثَمَّ لِلتَّرْتِيبَيْنِ التَّرَتُّبِيِّ والخارِجِيَّ. وقَوْلُهُ ﴿إلّا قَلِيلًا مِنكُمْ﴾ إنْصافٌ لَهم في تَوْبِيخِهِمْ ومَذَمَّتِهِمْ وإعْلانٌ بِفَضْلِ مَن حافَظَ عَلى العَهْدِ. وقَوْلُهُ ﴿وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ ولِكَوْنِها اسْمِيَّةً أفادَتْ أنَّ الإعْراضَ وصْفٌ ثابِتٌ لَهم وعادَةٌ مَعْرُوفَةٌ مِنهم كَما أشارَ إلَيْهِ في الكَشّافِ وهو مَبْنِيٌّ عَلى اعْتِبارِ اسْمِ الفاعِلِ مُشْتَقًّا مِن فِعْلٍ مَنزِلَ اللّازِمِ ولا يُقَدَّرُ لَهُ مُتَعَلِّقٌ ويَجُوزُ أنْ يُقَدَّرَ مُشْتَقًّا مِن فِعْلٍ حُذِفَ مُتَعَلَّقُهُ تَعْوِيلًا عَلى القَرِينَةِ أيْ ﴿وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عَنِ الوَصايا الَّتِي تَضَمَّنَتْ ذَلِكَ المِيثاقَ أيْ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ تَعَمُّدٍ وجُرْأةٍ وقِلَّةِ اكْتِراثٍ بِالوَصايا وتَرْكًا لِلتَّدَبُّرِ فِيها والعَمَلِ بِها.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب