الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا وذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلّا قَلِيلًا مِنكم وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ اعْلَمْ أنَّ هَذا نَوْعٌ آخَرُ مِن أنْواعِ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّهُمُ اللَّهُ بِها، وذَلِكَ لِأنَّ التَّكْلِيفَ بِهَذِهِ الأشْياءِ مُوَصِّلٌ إلى أعْظَمِ النِّعَمِ وهو الجَنَّةُ، والمُوَصِّلُ إلى النِّعْمَةِ نِعْمَةٌ، فَهَذا التَّكْلِيفُ لا مَحالَةَ مِنَ النِّعَمِ، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى بَيَّنَ هَهُنا أنَّهُ كَلَّفَهم بِأشْياءَ: التَّكْلِيفُ الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ ”يَعْبُدُونَ“ بِالياءِ والباقُونَ بِالتّاءِ، ووَجْهُ الياءِ أنَّهم غَيْبٌ أخْبَرَ عَنْهم، ووَجْهُ التّاءِ أنَّهم كانُوا مُخاطَبِينَ والِاخْتِيارُ التّاءُ، قالَ أبُو عَمْرٍو: ألا تَرى أنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ قالَ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ فَدَلَّتِ المُخاطَبَةُ عَلى التّاءِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا في مَوْضِعِ ”يَعْبُدُونَ“ مِنَ الإعْرابِ عَلى خَمْسَةِ أقْوالٍ: (p-١٥٠)القَوْلُ الأوَّلُ: قالَ الكِسائِيُّ: رَفْعُهُ عَلى أنْ لا يَعْبُدُوا كَأنَّهُ قِيلَ: أخَذْنا مِيثاقَهم بِأنْ لا يَعْبُدُوا إلّا أنَّهُ لَمّا أُسْقِطَتْ ”أنْ“ رُفِعَ الفِعْلُ كَما قالَ طَرَفَةُ: ؎ألا أيُّهَذا اللّائِمِي أحْضُرَ الوَغى وأنْ أشْهَدَ اللَّذّاتِ هَلْ أنْتَ مُخْلِدِي أرادَ أنْ أحْضُرَ ولِذَلِكَ عَطَفَ عَلَيْهِ ”أنْ“ وأجازَ هَذا الوَجْهَ الأخْفَشُ والفَرّاءُ والزَّجّاجُ وقُطْرُبٌ وعَلِيُّ بْنُ عِيسى وأبُو مُسْلِمٍ. القَوْلُ الثّانِي: مَوْضِعُهُ رَفْعٌ عَلى أنَّهُ جَوابُ القَسَمِ، كَأنَّهُ قِيلَ: وإذْ أقْسَمْنا عَلَيْهِمْ لا يَعْبُدُونَ، وأجازَ هَذا الوَجْهَ المُبَرِّدُ والكِسائِيُّ والفَرّاءُ والزَّجّاجُ وهو أحَدُ قَوْلَيِ الأخْفَشِ. القَوْلُ الثّالِثُ: قَوْلُ قُطْرُبٍ: أنَّهُ يَكُونُ في مَوْضِعِ الحالِ فَيَكُونُ مَوْضِعُهُ نَصْبًا كَأنَّهُ قالَ: أخَذْنا مِيثاقَكم غَيْرَ عابِدِينَ إلّا اللَّهَ. القَوْلُ الرّابِعُ: قَوْلُ الفَرّاءِ إنَّ مَوْضِعَ ”لا تَعْبُدُونَ“ عَلى النَّهْيِ إلّا أنَّهُ جاءَ عَلى لَفْظِ الخَبَرِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا تُضارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها﴾ [البقرة: ٢٣٣] بِالرَّفْعِ والمَعْنى عَلى النَّهْيِ، والَّذِي يُؤَكِّدُ كَوْنَهُ نَهْيًا أُمُورٌ: أحَدُها: قَوْلُهُ: (أقِيمُوا) . وثانِيها: أنَّهُ يَنْصُرُهُ قِراءَةُ عَبْدِ اللَّهِ وأُبَيٍّ: (لا تَعْبُدُوا) . وثالِثُها: أنَّ الإخْبارَ في مَعْنى الأمْرِ والنَّهْيِ آكَدُ وأبْلَغُ مِن صَرِيحِ الأمْرِ والنَّهْيِ، لِأنَّهُ كَأنَّهُ سُورِعَ إلى الِامْتِثالِ والِانْتِهاءِ فَهو يُخْبِرُ عَنْهُ. القَوْلُ الخامِسُ: التَّقْدِيرُ أنْ لا تَعْبُدُوا تَكُونُ ”أنْ“ مَعَ الفِعْلِ بَدَلًا عَنِ المِيثاقِ، كَأنَّهُ قِيلَ: أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ بِتَوْحِيدِهِمْ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: هَذا المِيثاقُ يَدُلُّ عَلى تَمامِ ما لا بُدَّ مِنهُ في الدِّينِ لِأنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ بِعِبادَةِ اللَّهِ تَعالى ونَهى عَنْ عِبادَةِ غَيْرِهِ، ولا شَكَّ أنَّ الأمْرَ بِعِبادَتِهِ والنَّهْيَ عَنْ عِبادَةِ غَيْرِهِ مَسْبُوقٌ بِالعِلْمِ بِذاتِهِ سُبْحانَهُ، وجَمِيعُ ما يَجِبُ ويَجُوزُ ويَسْتَحِيلُ عَلَيْهِ، وبِالعِلْمِ بِوَحْدانِيَّتِهِ وبَراءَتِهِ عَنِ الأضْدادِ والأنْدادِ والبَراءَةِ عَنِ الصّاحِبَةِ والأوْلادِ، ومَسْبُوقٌ أيْضًا بِالعِلْمِ بِكَيْفِيَّةِ تِلْكَ العِبادَةِ الَّتِي لا سَبِيلَ إلى مَعْرِفَتِها إلّا بِالوَحْيِ والرِّسالَةِ، فَقَوْلُهُ: ﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ يَتَضَمَّنُ كُلَّ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ عِلْمُ الكَلامِ وعِلْمُ الفِقْهِ والأحْكامِ لِأنَّ العِبادَةَ لا تَتَأتّى إلّا مَعَها. التَّكْلِيفُ الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: يُقالُ: بِمَ يَتَّصِلُ الباءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ وعَلامَ انْتَصَبَ ؟ قُلْنا فِيهِ ثَلاثَةُ أقْوالٍ: الأوَّلُ: قالَ الزَّجّاجُ: انْتَصَبَ عَلى مَعْنى أحْسِنُوا بِالوالِدَيْنِ إحْسانًا. والثّانِي: قِيلَ عَلى مَعْنى وصَّيْناهم بِالوالِدَيْنِ إحْسانًا لِأنَّ اتِّصالَ الباءِ بِهِ أحْسَنُ عَلى هَذا الوَجْهِ ولَوْ كانَ عَلى الأوَّلِ لَكانَ: وإلى الوالِدَيْنِ كَأنَّهُ قِيلَ: وأحْسِنُوا إلى الوالِدَيْنِ. الثّالِثُ: قِيلَ: بَلْ هو عَلى الخَبَرِ المَعْطُوفِ عَلى المَعْنى الأوَّلِ يَعْنِي أنْ تَعْبُدُوا وتُحْسِنُوا. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنَّما أرْدَفَ عِبادَةَ اللَّهِ بِالإحْسانِ إلى الوالِدَيْنِ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ تَعالى عَلى العَبْدِ أعْظَمُ، فَلا بُدَّ مِن تَقْدِيمِ شُكْرِهِ عَلى شُكْرِ غَيْرِهِ ثُمَّ بَعْدَ نِعْمَةِ اللَّهِ فَنِعْمَةُ الوالِدَيْنِ أعَمُّ النِّعَمِ، وذَلِكَ لِأنَّ الوالِدَيْنِ هُما الأصْلُ والسَّبَبُ في كَوْنِ الوَلَدِ ووُجُودِهِ، كَما أنَّهُما مُنْعِمانِ عَلَيْهِ بِالتَّرْبِيَةِ، وأمّا غَيْرُ الوالِدَيْنِ فَلا يَصْدُرُ عَنْهُ الإنْعامُ بِأصْلِ الوُجُودِ، بَلْ بِالتَّرْبِيَةِ فَقَطْ، فَثَبَتَ أنَّ إنْعامَهُما أعْظَمُ وُجُوهِ الإنْعامِ بَعْدَ إنْعامِ اللَّهِ تَعالى.(p-١٥١) وثانِيها: أنَّ اللَّهَ سُبْحانَهُ هو المُؤَثِّرُ في وُجُودِ الإنْسانِ في الحَقِيقَةِ والوالِدانِ هُما المُؤَثِّرانِ في وُجُودِهِ بِحَسَبِ العُرْفِ الظّاهِرِ، فَلَمّا ذَكَرَ المُؤَثِّرَ الحَقِيقِيَّ أرْدَفَهُ بِالمُؤَثِّرِ بِحَسَبِ العُرْفِ الظّاهِرِ. وثالِثُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَطْلُبُ بِإنْعامِهِ عَلى العَبْدِ عِوَضًا البَتَّةَ بَلِ المَقْصُودُ إنَّما هو مَحْضُ الإنْعامِ والوالِدانِ كَذَلِكَ، فَإنَّهُما لا يَطْلُبانِ عَلى الإنْعامِ عَلى الوَلَدِ عِوَضًا مالِيًّا ولا ثَوابًا، فَإنَّ مَن يُنْكِرُ المِيعادَ يُحْسِنُ إلى ولَدِهِ ويُرَبِّيهِ، فَمِن هَذا الوَجْهِ أشْبَهَ إنْعامُهُما إنْعامَ اللَّهِ تَعالى. الرّابِعُ: أنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَمَلُّ مِنَ الإنْعامِ عَلى العَبْدِ ولَوْ أتى العَبْدُ بِأعْظَمِ الجَرائِمِ، فَإنَّهُ لا يَقْطَعُ عَنْهُ مَوادَّ نِعَمِهِ ورَوادِفَ كَرَمِهِ، وكَذا الوالِدانِ لا يَمَلّانِ الوَلَدَ ولا يَقْطَعانِ عَنْهُ مَوادَّ مَنحِهِما وكَرَمِهِما، وإنْ كانَ الوَلَدُ مُسِيئًا إلى الوالِدَيْنِ. الخامِسُ: كَما أنَّ الوالِدَ المُشْفِقَ يَتَصَرَّفُ في مالِ ولَدِهِ بِالِاسْتِرْباحِ وطَلَبِ الزِّيادَةِ ويَصُونُهُ عَنِ البَخْسِ والنُّقْصانِ، فَكَذا الحَقُّ سُبْحانَهُ وتَعالى مُتَصَرِّفٌ في طاعَةِ العَبْدِ فَيَصُونُها عَنِ الضَّياعِ ثُمَّ إنَّهُ سُبْحانَهُ يَجْعَلُ أعْمالَهُ الَّتِي لا تَبْقى كالشَّيْءِ الباقِي أبَدَ الآبادِ كَما قالَ: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أمْوالَهم في سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ في كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ﴾ [البقرة: ٢٦١] . السّادِسُ: أنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ وإنْ كانَتْ أعْظَمَ مِن نِعْمَةِ الوالِدَيْنِ ولَكِنَّ نِعْمَةَ اللَّهِ مَعْلُومَةٌ بِالِاسْتِدْلالِ ونِعْمَةَ الوالِدَيْنِ مَعْلُومَةٌ بِالضَّرُورَةِ، إلّا أنَّها قَلِيلَةٌ بِالنِّسْبَةِ إلى نِعَمِ اللَّهِ فاعْتَدَلا مِن هَذِهِ الجِهَةِ والرُّجْحانِ لِنِعَمِ اللَّهِ فَلا جَرَمَ جَعَلْنا نِعَمَ الوالِدَيْنِ كالتّالِيَةِ لِنِعَمِ اللَّهِ تَعالى. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اتَّفَقَ أكْثَرُ العُلَماءِ عَلى أنَّهُ يَجِبُ تَعْظِيمُ الوالِدَيْنِ وإنْ كانا كافِرَيْنِ، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ قَوْلَهُ في هَذِهِ الآيَةِ: ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ غَيْرُ مُقَيَّدٍ بِكَوْنِهِما مُؤْمِنَيْنِ أمْ لا، ولِأنَّهُ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ الحُكْمَ المُرَتَّبَ عَلى الوَصْفِ مُشْعِرٌ بِعِلِّيَّةِ الوَصْفِ، فَدَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى أنَّ الأمْرَ بِتَعْظِيمِ الوالِدَيْنِ لِمَحْضِ كَوْنِهِما والِدَيْنِ وذَلِكَ يَقْتَضِي العُمُومَ، وهَكَذا الِاسْتِدْلالُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وقَضى رَبُّكَ ألّا تَعْبُدُوا إلّا إيّاهُ وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ [الإسراء: ٢٣] . وثانِيها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ ولا تَنْهَرْهُما﴾ [الإسراء: ٢٣] الآيَةَ، وهَذا نِهايَةُ المُبالَغَةِ في المَنعِ مِن إيذائِهِما، ثُمَّ إنَّهُ تَعالى قالَ في آخِرِ الآيَةِ: ﴿وقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيرًا﴾ [الإسراء: ٢٤] فَصَرَّحَ بِبَيانِ السَّبَبِ في وُجُوبِ هَذا التَّعْظِيمِ. وثالِثُها: أنَّ اللَّهَ تَعالى حَكى عَنْ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ أنَّهُ كَيْفَ تَلَطَّفَ في دَعْوَةِ أبِيهِ مِنَ الكُفْرِ إلى الإيمانِ في قَوْلِهِ: ﴿ياأبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا﴾ [مريم: ٤٢] ثُمَّ إنَّ أباهُ كانَ يُؤْذِيهِ ويَذْكُرُ الجَوابَ الغَلِيظَ وهو عَلَيْهِ السَّلامُ كانَ يَتَحَمَّلُ ذَلِكَ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ في حَقِّ إبْراهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ ثَبَتَ مِثْلُهُ في حَقِّ هَذِهِ الأُمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ثُمَّ أوْحَيْنا إلَيْكَ أنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْراهِيمَ حَنِيفًا﴾ [النحل: ١٢٣] . المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اعْلَمْ أنَّ الإحْسانَ إلَيْهِما هو ألّا يُؤْذِيَهُما البَتَّةَ ويُوَصِّلَ إلَيْهِما مِنَ المَنافِعِ قَدْرَ ما يَحْتاجانِ إلَيْهِ، فَيَدْخُلُ فِيهِ دَعْوَتُهُما إلى الإيمانِ إنْ كانا كافِرَيْنِ وأمْرُهُما بِالمَعْرُوفِ عَلى سَبِيلِ الرِّفْقِ إنْ كانا فاسِقَيْنِ. التَّكْلِيفُ الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وذِي القُرْبى﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لَوْ أوْصى لِأقارِبِ زَيْدٍ دَخَلَ فِيهِ الوارِثُ المَحْرَمُ وغَيْرُ المَحْرَمِ، ولا يَدْخُلُ الأبُ والِابْنُ لِأنَّهُما لا يُعْرَفانِ بِالقَرِيبِ، ويَدْخُلُ الأحْفادُ والأجْدادُ، وقِيلَ: لا يَدْخُلُ الأُصُولُ والفُرُوعُ وقِيلَ بِدُخُولِ الكُلِّ. وهَهُنا دَقِيقَةٌ، وهي أنَّ العَرَبَ يَحْفَظُونَ الأجْدادَ العالِيَةَ فَيَتَّسِعُ نَسْلُهم وكُلُّهم (p-١٥٢)أقارِبُ، فَلَوْ تَرَقَّيْنا إلى الجَدِّ العالِي وحَسَبْنا أوْلادَهُ كَثُرُوا، فَلِهَذا قالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَرْتَقِي إلى أقْرَبِ جَدٍّ يَنْتَسِبُ هو إلَيْهِ ويُعْرَفُ بِهِ وإنْ كانَ كافِرًا، وذَكَرَ الأصْحابُ في مِثالِهِ: أنَّهُ لَوْ أوْصى لِأقارِبِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَإنّا نَصْرِفُهُ إلى بَنِي شافِعٍ دُونَ بَنِي المُطَّلِبِ وبَنِي عَبْدِ مَنافٍ وإنْ كانُوا أقارِبَ، لِأنَّ الشّافِعِيَّ يَنْتَسِبُ في المَشْهُورِ إلى شافِعٍ دُونَ عَبْدِ مَنافٍ. قالَ الشَّيْخُ الغَزالِيُّ: وهَذا في زَمانِ الشّافِعِيِّ، أمّا في زَمانِنا فَلا يَنْصَرِفُ إلّا إلى أوْلادِ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ولا يَرْتَقِي إلى بَنِي شافِعٍ لِأنَّهُ أقْرَبُ مَن يُعْرَفُ بِهِ أقارِبُهُ في زَمانِنا، أمّا قَرابَةُ الأُمِّ فَإنَّها تَدْخُلُ في وصِيَّةِ العَجَمِ ولا تَدْخُلُ في وصِيَّةِ العَرَبِ عَلى الأظْهَرِ، لِأنَّهم لا يُعِدُّونَ ذَلِكَ قَرابَةً، أمّا لَوْ قالَ لِأرْحامِ فُلانٍ دَخَلَ فِيهِ قَرابَةُ الأبِ والأُمِّ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اعْلَمْ أنَّ حَقَّ ذِي القُرْبى كالتّابِعِ لِحَقِّ الوالِدَيْنِ لِأنَّ الإنْسانَ إنَّما يَتَّصِلُ بِهِ أقْرِباؤُهُ بِواسِطَةِ اتِّصالِهِمْ بِالوالِدَيْنِ، والِاتِّصالُ بِالوالِدَيْنِ مُقَدَّمٌ عَلى الِاتِّصالِ بِذِي القُرْبى، فَلِهَذا أخَّرَ اللَّهُ ذِكْرَهُ عَنِ الوالِدَيْنِ، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ أنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ قالَ: ”«إنَّ الرَّحِمَ شِجْنَةٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَإذا كانَ يَوْمُ القِيامَةِ يَقُولُ: أيْ رَبِّ إنِّي ظُلِمْتُ، إنِّي أُسِيءَ إلَيَّ، إنِّي قُطِعْتُ. قالَ فَيُجِيبُها رَبُّها: ألا تَرْضَيْنَ أنِّي أقْطَعُ مَن قَطَعَكِ وأصِلُ مَن وصَلَكِ، ثُمَّ قَرَأ ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إنْ تَوَلَّيْتُمْ أنْ تُفْسِدُوا في الأرْضِ وتُقَطِّعُوا أرْحامَكُمْ»﴾، والسَّبَبُ العَقْلِيُّ في تَأْكِيدِ رِعايَةِ هَذا الحَقِّ أنَّ القَرابَةَ مَظِنَّةُ الِاتِّحادِ والأُلْفَةِ والرِّعايَةِ والنُّصْرَةِ، فَلَوْ لَمْ يَحْصُلْ شَيْءٌ مِن ذَلِكَ لَكانَ ذَلِكَ أشَقَّ عَلى القَلْبِ وأبْلَغَ في الإيلامِ والإيحاشِ والضَّرُورَةِ، وكُلَّما كانَ أقْوى كانَ دَفْعُهُ أوْجَبَ، فَلِهَذا وجَبَتْ رِعايَةُ حُقُوقِ الأقارِبِ. التَّكْلِيفُ الرّابِعُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿واليَتامى﴾ وفِيهِ مَسْألَتانِ: المَسْألَةُ الأُولى: اليَتِيمُ الَّذِي ماتَ أبُوهُ حَتّى يَبْلُغَ الحُلُمَ وجَمْعُهُ أيْتامٌ ويَتامى، كَقَوْلِهِمْ: نَدِيمٌ ونَدامى، ولا يُقالُ لِمَن ماتَتْ أُمُّهُ إنَّهُ يَتِيمٌ. قالَ الزَّجّاجُ: هَذا في الإنْسانِ، أمّا في غَيْرِ الإنْسانِ فَيُتْمُهُ مِن قِبَلِ أُمِّهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: اليَتِيمُ كالتّالِي لِرِعايَةِ حُقُوقِ الأقارِبِ وذَلِكَ لِأنَّهُ لِصِغَرِهِ لا يَنْتَفِعُ بِهِ ولِيُتْمِهِ وخُلُوِّهِ عَمَّنْ يَقُومُ بِهِ يَحْتاجُ إلى مَن يَنْفَعُهُ، والإنْسانُ قَلَّما يَرْغَبُ في صُحْبَةِ مِثْلِ هَذا، وإذا كانَ هَذا التَّكْلِيفُ شاقًّا عَلى النَّفْسِ لا جَرَمَ كانَتْ دَرَجَتُهُ عَظِيمَةً في الدِّينِ. التَّكْلِيفُ الخامِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿والمَساكِينِ﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى:“ والمَساكِينُ ”واحِدُها مِسْكِينٌ، أُخِذَ مِنَ السُّكُونِ كَأنَّ الفَقْرَ قَدْ سَكَنَهُ وهو أشَدُّ فَقْرًا مِنَ الفَقِيرِ عِنْدَ أكْثَرِ أهْلِ اللُّغَةِ وهو قَوْلُ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ واحْتَجُّوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أوْ مِسْكِينًا ذا مَتْرَبَةٍ﴾ [البلد: ١٦] وعِنْدَ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الفَقِيرُ أسْوَأُ حالًا، لِأنَّ الفَقِيرَ اشْتِقاقُهُ مِن فَقارِ الظَّهْرِ كَأنَّ فَقارَهُ انْكَسَرَ لِشِدَّةِ حاجَتِهِ وهو قَوْلُ ابْنِ الأنْبارِيِّ. واحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿أمّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ في البَحْرِ﴾ [الكهف: ٧٩] جَعَلَهم مَساكِينَ مَعَ أنَّ السَّفِينَةَ كانَتْ مِلْكًا لَهم. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: إنَّما تَأخَّرَتْ دَرَجَتُهم عَنِ اليَتامى لِأنَّ المِسْكِينَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يُنْتَفَعُ بِهِ في الِاسْتِخْدامِ فَكانَ المَيْلُ إلى مُخالَطَتِهِ أكْثَرَ مِنَ المَيْلِ إلى مُخالَطَةِ اليَتامى، ولِأنَّ المِسْكِينَ أيْضًا يُمْكِنُهُ الِاشْتِغالُ بِتَعَهُّدِ نَفْسِهِ ومَصالِحِ مَعِيشَتِهِ، واليَتِيمُ لَيْسَ كَذَلِكَ فَلا جَرَمَ قَدَّمَ اللَّهُ ذِكْرَ اليَتِيمِ عَلى المِسْكِينِ.(p-١٥٣) المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: الإحْسانُ إلى ذِي القُرْبى واليَتامى، لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُغايِرًا لِلزَّكاةِ لِأنَّ العَطْفَ يَقْتَضِي التَّغايُرَ. التَّكْلِيفُ السّادِسُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ وفِيهِ مَسائِلُ: المَسْألَةُ الأُولى: قَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ: (حَسَنًا) بِفَتْحِ الحاءِ والسِّينِ عَلى مَعْنى الوَصْفِ لِلْقَوْلِ، كَأنَّهُ قالَ: قُولُوا لِلنّاسِ قَوْلًا حَسَنًا، والباقُونَ بِضَمِّ الحاءِ وسُكُونِ السِّينِ، واسْتَشْهَدُوا بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨] وبِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ﴾ [النمل: ١١] وفِيهِ أوْجُهٌ: الأوَّلُ: قالَ الأخْفَشُ: مَعْناهُ قَوْلًا ذا حُسْنٍ. الثّانِي: يَجُوزُ أنْ يَكُونَ حُسْنًا في مَوْضِعِ حَسَنًا كَما تَقُولُ: رَجُلٌ عَدْلٌ. الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾‌‌ ‌‌‌‌أيْ لِيَحْسُنَ قَوْلُكم نُصِبَ عَلى مَصْدَرِ ‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌‌الفِعْلِ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ الأوَّلُ. الرّابِعُ: حُسْنًا أيْ قَوْلٌ هو حَسَنٌ في نَفْسِهِ لِإفْراطِ حُسْنِهِ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: يُقالُ: لِمَ خُوطِبُوا بِقُولُوا بَعْدَ الإخْبارِ ؟ والجَوابُ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّهُ عَلى طَرِيقَةِ الِالتِفاتِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿حَتّى إذا كُنْتُمْ في الفُلْكِ وجَرَيْنَ بِهِمْ﴾ [يونس: ٢٢] . وثانِيها: فِيهِ حَذْفٌ أيْ قُلْنا لَهم قُولُوا. وثالِثُها: المِيثاقُ لا يَكُونُ إلّا كَلامًا كَأنَّهُ قِيلَ: قُلْتُ لا تَعْبُدُوا وقُولُوا [ لِلنّاسِ حُسْنًا ] . المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: اخْتَلَفُوا في أنَّ المُخاطَبَ بِقَوْلِهِ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ مَن هو ؟ فَيُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى أخَذَ المِيثاقَ عَلَيْهِمْ أنْ لا يَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ وعَلى أنْ يَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا ويُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: إنَّهُ تَعالى أخَذَ المِيثاقَ عَلَيْهِمْ أنْ لا يَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ ثُمَّ قالَ لِمُوسى وأُمَّتِهِ: قُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا، والكُلُّ مُمْكِنٌ بِحَسَبِ اللَّفْظِ وإنْ كانَ الأوَّلُ أقْرَبَ حَتّى تَكُونَ القِصَّةُ واحِدَةً مُشْتَمِلَةً عَلى مَحاسِنِ العاداتِ ومَكارِمِ الأخْلاقِ مِن كُلِّ الوُجُوهِ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: مِنهم مَن قالَ: إنَّما يَجِبُ القَوْلُ الحَسَنُ مَعَ المُؤْمِنِينَ، أمّا مَعَ الكُفّارِ والفُسّاقِ فَلا، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ وجْهانِ: الأوَّلُ: أنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهم وذَمُّهم والمُحارَبَةُ مَعَهم، فَكَيْفَ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ القَوْلُ مَعَهم حَسَنًا. والثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨] فَأباحَ الجَهْرَ بِالسُّوءِ لِمَن ظُلِمَ، ثُمَّ إنَّ القائِلِينَ بِهَذا القَوْلِ مِنهم مَن زَعَمَ أنَّ هَذا الأمْرَ صارَ مَنسُوخًا بِآيَةِ القِتالِ، ومِنهم مَن قالَ: إنَّهُ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ، وعَلى هَذا التَّقْدِيرِ يَحْصُلُ هَهُنا احْتِمالانِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ التَّخْصِيصُ واقِعًا بِحَسَبِ المُخاطَبِ وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ وقُولُوا لِلْمُؤْمِنِينَ حُسْنًا. والثّانِي: أنْ يَقَعَ بِحَسَبِ المُخاطَبِ وهو أنْ يَكُونَ المُرادُ قُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا في الدُّعاءِ إلى اللَّهِ تَعالى، وفي الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ. فَعَلى الوَجْهِ الأوَّلِ يَتَطَرَّقُ التَّخْصِيصُ إلى المُخاطَبِ دُونَ الخِطابِ، وعَلى الثّانِي يَتَطَرَّقُ إلى الخِطابِ دُونَ المُخاطَبِ، وزَعَمَ أبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الباقِرُ أنَّ هَذا العُمُومَ باقٍ عَلى ظاهِرِهِ وأنَّهُ لا حاجَةَ إلى التَّخْصِيصِ، وهَذا هو الأقْوى، والدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ مُوسى وهارُونَ مَعَ جَلالِ مَنصِبِهِما أُمِرا بِالرِّفْقِ واللِّينِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وكَذَلِكَ مُحَمَّدٌ ﷺ مَأْمُورٌ بِالرِّفْقِ وتَرْكِ الغِلْظَةِ وكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾ [النحل: ١٢٥] وقالَ تَعالى: ﴿ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [الأنعام: ١٠٨] وقَوْلُهُ: ﴿وإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا﴾ [الفرقان: ٧٢] وقَوْلُهُ: ﴿وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] أمّا الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ أوَّلًا مِن أنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهم وذَمُّهم فَلا يُمْكِنُهُمُ القَوْلُ الحَسَنُ مَعَهم، قُلْنا: أوَّلًا لا نُسَلِّمُ أنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهم وسَبُّهم والدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١٠٨] سَلَّمْنا أنَّهُ يَجِبُ لَعْنُهم لَكِنْ (p-١٥٤)لا نُسَلِّمُ أنَّ اللَّعْنَ لَيْسَ قَوْلًا حَسَنًا. بَيانُهُ: أنَّ القَوْلَ الحَسَنَ لَيْسَ عِبارَةً عَنِ القَوْلِ الَّذِي يَشْتَهُونَهُ ويُحِبُّونَهُ، بَلِ القَوْلُ الحَسَنُ هو الَّذِي يَحْصُلُ انْتِفاعُهم بِهِ ونَحْنُ إذا لَعَنّاهم وذَمَمْناهم لِيَرْتَدِعُوا بِهِ عَنِ الفِعْلِ القَبِيحِ كانَ ذَلِكَ المَعْنى نافِعًا في حَقِّهِمْ فَكانَ ذَلِكَ اللَّعْنُ قَوْلًا حَسَنًا ونافِعًا، كَما أنَّ تَغْلِيظَ الوالِدِ [ لِلْوَلَدِ ] في القَوْلِ قَدْ يَكُونُ حَسَنًا ونافِعًا مِن حَيْثُ إنَّهُ يَرْتَدِعُ بِهِ عَنِ الفِعْلِ القَبِيحِ، سَلَّمْنا أنَّ لَعْنَهم لَيْسَ قَوْلًا حَسَنًا ولَكِنْ لا نُسَلِّمُ أنَّ وُجُوبَهُ يُنافِي وُجُوبَ القَوْلِ الحَسَنِ. بَيانُهُ أنَّهُ لا مُنافاةَ بَيْنَ كَوْنِ الشَّخْصِ مُسْتَحِقًّا لِلتَّعْظِيمِ بِسَبَبِ إحْسانِهِ إلَيْنا ومُسْتَحِقًّا لِلتَّحْقِيرِ بِسَبَبِ كُفْرِهِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ وُجُوبُ القَوْلِ الحَسَنِ مَعَهم، وأمّا الَّذِي تَمَسَّكُوا بِهِ ثانِيًا وهو قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨] فالجَوابُ لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ المُرادُ مِنهُ كَشْفَ حالِ الظّالِمِ لِيَحْتَرِزَ النّاسُ عَنْهُ ؟ وهو المُرادُ بِقَوْلِهِ ﷺ:“ «اذْكُرُوا الفاسِقَ بِما فِيهِ كَيْ يَحْذَرَهُ النّاسُ» " . المَسْألَةُ الخامِسَةُ: قالَ أهْلُ التَّحْقِيقِ: كَلامُ النّاسِ مَعَ النّاسِ إمّا أنْ يَكُونَ في الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ أوْ في الأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ، فَإنْ كانَ في الأُمُورِ الدِّينِيَّةِ فَإمّا أنْ يَكُونَ في الدَّعْوَةِ إلى الإيمانِ وهو مَعَ الكُفّارِ أوْ في الدَّعْوَةِ إلى الطّاعَةِ وهو مَعَ الفاسِقِ، أمّا الدَّعْوَةُ إلى الإيمانِ فَلا بُدَّ وأنْ تَكُونَ بِالقَوْلِ الحَسَنِ كَما قالَ تَعالى لِمُوسى وهارُونَ: ﴿فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أوْ يَخْشى﴾ [طه: ٤٤] أمَرَهُما اللَّهُ تَعالى بِالرِّفْقِ مَعَ فِرْعَوْنَ مَعَ جَلالَتِهِما ونِهايَةِ كُفْرِ فِرْعَوْنَ وتَمَرُّدِهِ وعُتُوِّهِ عَلى اللَّهِ تَعالى، وقالَ لِمُحَمَّدٍ ﷺ: ﴿ولَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ القَلْبِ لانْفَضُّوا مِن حَوْلِكَ﴾ [آل عمران: ١٥٩] الآيَةَ، وأمّا دَعْوَةُ الفُسّاقِ فالقَوْلُ الحَسَنُ فِيهِ مُعْتَبَرٌ، قالَ تَعالى: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾ [النحل: ١٢٥] وقالَ: ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هي أحْسَنُ فَإذا الَّذِي بَيْنَكَ وبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأنَّهُ ولِيٌّ حَمِيمٌ﴾ [فصلت: ٣٤] وأمّا في الأُمُورِ الدُّنْيَوِيَّةِ فَمِنَ المَعْلُومِ بِالضَّرُورَةِ أنَّهُ إذا أمْكَنَ التَّوَصُّلُ إلى الغَرَضِ بِالتَّلَطُّفِ مِنَ القَوْلِ لَمْ يَحْسُنْ سِواهُ، فَثَبَتَ أنَّ جَمِيعَ آدابِ الدِّينِ والدُّنْيا داخِلَةٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ ? . المَسْألَةُ السّادِسَةُ: ظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الإحْسانَ إلى ذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ كانَ واجِبًا عَلَيْهِمْ في دِينِهِمْ، وكَذا القَوْلُ الحَسَنُ لِلنّاسِ كانَ واجِبًا عَلَيْهِمْ، لِأنَّ أخْذَ المِيثاقِ يَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ، وذَلِكَ لِأنَّ ظاهِرَ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ ولِأنَّهُ تَعالى ذَمَّهم عَلى التَّوَلِّي عَنْهُ وذَلِكَ يُفِيدُ الوُجُوبَ والأمْرَ في شَرْعِنا أيْضًا، كَذَلِكَ مِن بَعْضِ الوُجُوهِ، ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّهُ قالَ: إنَّ الزَّكاةَ نَسَخَتْ كُلَّ حَقٍّ، وهَذا ضَعِيفٌ لِأنَّهُ لا خِلافَ أنَّ مَنِ اشْتَدَّتْ بِهِ الحاجَةُ وشاهَدْناهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ فَإنَّهُ يَلْزَمُنا التَّصَدُّقُ عَلَيْهِ، وإنْ لَمْ يَجِبْ عَلَيْنا الزَّكاةُ حَتّى أنَّهُ إنْ لَمْ تَنْدَفِعْ حاجَتُهم بِالزَّكاةِ كانَ التَّصَدُّقُ واجِبًا ولا شَكَّ في وُجُوبِ مُكالَمَةِ النّاسِ بِطَرِيقٍ لا يَتَضَرَّرُونَ بِهِ. التَّكْلِيفُ السّابِعُ والثّامِنُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ وقَدْ تَقَدَّمَ تَفْسِيرُهُما. واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا شَرَحَ أنَّهُ أخَذَ المِيثاقَ عَلَيْهِمْ في هَذِهِ التَّكالِيفِ الثَّمانِيَةِ بَيَّنَ أنَّهُ مَعَ إنْعامِهِ عَلَيْهِمْ بِأخْذِ المِيثاقِ عَلَيْهِمْ بِكُلِّ ذَلِكَ لِيَقْبَلُوا فَتَحْصُلُ لَهُمُ المَنزِلَةُ العُظْمى عِنْدَ رَبِّهِمْ، تَوَلَّوْا وأساءُوا إلى أنْفُسِهِمْ ولَمْ يَتَلَقَّوْا نِعَمَ رَبِّهِمْ بِالقَبُولِ مَعَ تَوْكِيدِ الدَّلائِلِ والمَواثِيقِ عَلَيْهِمْ، وذَلِكَ يَزِيدُ في قُبْحِ ما هم عَلَيْهِ مِنَ الإعْراضِ والتَّوَلِّي؛ لِأنَّ الإقْدامَ عَلى مُخالَفَةِ اللَّهِ تَعالى بَعْدَ أنْ بَلَغَ الغايَةَ في البَيانِ والتَّوَثُّقِ يَكُونُ أعْظَمَ مِنَ المُخالَفَةِ مَعَ الجَهالَةِ، واخْتَلَفُوا فِيمَنِ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ عَلى ثَلاثَةِ أوْجُهٍ: أحَدُها: أنَّهُ مَن تَقَدَّمَ مِن بَنِي (p-١٥٥)إسْرائِيلَ. وثانِيها: أنَّهُ خِطابٌ لِمَن كانَ في عَصْرِ النَّبِيِّ ﷺ مِنَ اليَهُودِ، يَعْنِي أعْرَضْتُمْ بَعْدَ ظُهُورِ المُعْجِزاتِ كَإعْراضِ أسْلافِكم. وثالِثُها: المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ مَن تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ: ﴿وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ ومَن تَأخَّرَ. أمّا وجْهُ القَوْلِ الأوَّلِ أنَّهُ إذا كانَ الكَلامُ الأوَّلُ في المُتَقَدِّمِينَ مِنهم فَظاهِرُ الخَطّابِ يَقْتَضِي أنَّ آخِرَهُ فِيهِمْ أيْضًا إلّا بِدَلِيلٍ يُوجِبُ الِانْصِرافَ عَنْ هَذا الظّاهِرِ، يُبَيِّنُ ذَلِكَ أنَّهُ تَعالى ساقَ الكَلامَ الأوَّلَ سِياقَةَ إظْهارِ النِّعَمِ بِإقامَةِ الحُجَجِ عَلَيْهِمْ، ثُمَّ بَيَّنَ مِن بَعْدُ أنَّهم تَوَلَّوْا إلّا قَلِيلًا مِنهم فَإنَّهم بَقَوْا عَلى ما دَخَلُوا فِيهِ. أمّا وجْهُ القَوْلِ الثّانِي أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ خِطابُ مُشافَهَةٍ وهو بِالحاضِرِينَ ألْيَقُ وما تَقَدَّمَ حِكايَةٌ، وهو بِسَلَفِهِمُ الغائِبِينَ ألْيَقُ، فَكَأنَّهُ تَعالى بَيَّنَ أنَّ تِلْكَ العُهُودَ والمَواثِيقَ كَما لَزِمَهُمُ التَّمَسُّكُ بِها فَذَلِكَ هو لازِمٌ لَكم لِأنَّكم تَعْلَمُونَ ما في التَّوْراةِ مِن حالِ مُحَمَّدٍ ﷺ وصِحَّةِ نُبُوَّتِهِ، فَيَلْزَمُكم مِنَ الحُجَّةِ مِثْلُ الَّذِي لَزِمَهم وأنْتُمْ مَعَ ذَلِكَ قَدْ تَوَلَّيْتُمْ وأعْرَضْتُمْ عَنْ ذَلِكَ إلّا قَلِيلًا مِنكم وهُمُ الَّذِينَ آمَنُوا وأسْلَمُوا، فَهَذا مُحْتَمَلٌ، وأمّا وجْهُ القَوْلِ الثّالِثِ فَهو أنَّهُ تَعالى لَمّا بَيَّنَ أنَّهُ أنْعَمَ عَلَيْهِمْ بِتِلْكَ النِّعَمِ، ثُمَّ إنَّهم تَوَلَّوْا عَنْها كانَ ذَلِكَ دالًّا عَلى نِهايَةِ قُبْحِ أفْعالِهِمْ ويَكُونُ قَوْلُهُ: ﴿وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ مُخْتَصًّا بِمَن في زَمانِ مُحَمَّدٍ ﷺ أيْ أنَّكم بِمَنزِلَةِ المُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ تَوَلَّوْا بَعْدَ أخْذِ هَذِهِ المَواثِيقِ فَإنَّكم بَعْدَ اطِّلاعِكم عَلى دَلائِلِ صِدْقِ مُحَمَّدٍ ﷺ أعْرَضْتُمْ عَنْهُ وكَفَرْتُمْ بِهِ، فَكُنْتُمْ في هَذا الإعْراضِ بِمَثابَةِ أُولَئِكَ المُتَقَدِّمِينَ في ذَلِكَ التَّوَلِّي واللَّهُ أعْلَمُ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب