الباحث القرآني

﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا وذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلّا قَلِيلًا مِنكم وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَكم لا تَسْفِكُونَ دِماءَكم ولا تُخْرِجُونَ أنْفُسَكم مِن دِيارِكم ثُمَّ أقْرَرْتُمْ وأنْتُمْ تَشْهَدُونَ﴾ [البقرة: ٨٤] ﴿ثُمَّ أنْتُمْ هَؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أنْفُسَكم وتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنكم مِن دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالإثْمِ والعُدْوانِ وإنْ يَأْتُوكم أُسارى تُفادُوهم وهو مُحَرَّمٌ عَلَيْكم إخْراجُهم أفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكِتابِ وتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكم إلّا خِزْيٌ في الحَياةِ الدُّنْيا ويَوْمَ القِيامَةِ يُرَدُّونَ إلى أشَدِّ العَذابِ وما اللَّهُ بِغافِلٍ عَمّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ٨٥] ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الحَياةَ الدُّنْيا بِالآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذابُ ولا هم يُنْصَرُونَ﴾ [البقرة: ٨٦] . الوالِدانِ: الأبُ والأُمُّ، وكُلٌّ مِنهُما يُطْلَقُ عَلَيْهِ والِدٌ، وظاهِرُ الإطْلاقِ الحَقِيقَةُ، قالَ: ؎وذِي ولَدٍ لَمْ يَلْدَهُ أبَوانِ ويُقالُ لِلْأُمِّ: والِدٌ ووالِدَةٌ، وقِيلَ: الوالِدُ لِلْأبِ وحْدَهُ، وثُنِّيا تَغْلِيبًا لِلْمُذَكَّرِ. الإحْسانُ: النَّفْعُ بِكُلِّ حَسَنٍ. ذُو: بِمَعْنى صاحِبٍ، وهو مِنَ الأسْماءِ السِّتَّةِ الَّتِي تُرْفَعُ وفِيها الواوُ، وتُنْصَبُ وفِيها الألِفُ، وتُجَرُّ وفِيها الياءُ. وأصْلُها عِنْدَ سِيبَوَيْهِ ذَوْيٌ، ووَزْنُها عِنْدَهُ: فَعْلٌ، وعِنْدَ الخَلِيلِ: ذُوَّةٌ، مِن بابِ خُوَّةٍ، وقُوَّةٍ، ووَزْنُها عِنْدَهُ فُعْلٌ، وهو لازِمُ الإضافَةِ، وتَنْقاسُ إضافَتُهُ إلى اسْمِ جِنْسٍ، وفي إضافَتِهِ إلى مُضْمَرٍ خِلافٌ، وقَدْ يُضافُ إلى العَلَمِ وُجُوبًا إذا اقْتَرَنا وضْعًا، كَقَوْلِهِمْ: ذُو جَدَنٍ، وذُو يَزَنَ، وذُو رُعَيْنٍ، وذُو الكُلاعِ، وإنْ لَمْ يَقْتَرِنا وضْعًا، فَقَدْ يَجُوزُ، كَقَوْلِهِمْ في عَمْرٍو، وقَطَرِيٍّ: ذُو عَمْرٍو، وذُو قَطَرِيٍّ، ويَعْنُونَ بِهِ صاحِبَ هَذا الِاسْمِ. وإضافَتُهُ إلى العَلَمِ في وُجْهَتِهِ مَسْمُوعٌ، وكَذَلِكَ: أنا ذُو بَكَّةَ، واللَّهُمَّ صَلِّ عَلى مُحَمَّدٍ وعَلى ذَوِيهِ. ومِمّا أُضِيفَ إلى العَلَمِ، وأُرِيدَ بِهِ مَعْنى ذِي مالٍ، ومِمّا أُضِيفَ إلى ضَمِيرِ العَلَمِ، وأُضِيفَ أيْضًا إلى ضَمِيرِ (p-٢٨١)المُخاطَبِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وإنّا لَنَرْجُوَ عاجِلًا مِنكَ مِثْلَ ما ∗∗∗ رَجَوْناهُ قِدْمًا مِن ذَوِيكَ الأفاضِلِ وقَدْ أتَتْ ذُو في لُغَةِ طَيِّءٍ مَوْصُولَةً، ولَها أحْكامٌ في النَّحْوِ. القُرْبى: مَصْدَرٌ كالرُّجْعى، والألِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وهي قَرابَةُ الرَّحِمِ والصُّلْبِ، قالَ طَرَفَةُ: ؎وقَرَّبْتُ بِالقُرْبى وجَدِّكَ أنَّهُ ∗∗∗ مَتّى يَكُ أمْرٌ لِلنَّكِيثَةِ أشْهَدِ وقالَ أيْضًا: ؎وظُلْمُ ذَوِي القُرْبى أشَدُّ مَضاضَةً ∗∗∗ عَلى الحُرِّ مِن وقْعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ اليَتامى: فَعالى، وهو جَمْعٌ لا يَنْصَرِفُ؛ لِأنَّ الألِفَ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، ومُفْرَدُهُ: يَتِيمٌ، كَنَدِيمٍ، وهو جَمْعٌ عَلى غَيْرِ قِياسٍ، وكَذا جَمْعُهُ عَلى أيْتامٍ. وقالَ الأصْمَعِيُّ: اليُتْمُ في بَنِي آدَمَ مِن قِبَلِ الأبِ، وفي غَيْرِهِمْ مِن قِبَلِ الأُمِّ. وحَكى الماوَرْدِيُّ أنَّ اليُتْمَ في بَنِي آدَمَ يُقالُ: مَن فَقَدَ الأُمَّ، والأوَّلُ هو المَعْرُوفُ، وأصْلُهُ الِانْفِرادُ. فَمَعْنى صَبِيٍّ يَتِيمٍ: أيْ مُنْفَرِدٍ عَنْ أبِيهِ، وسُمِّيَتِ الدُّرَّةُ الَّتِي لا مَثِيلَ لَها يَتِيمَةً لِانْفِرادِها، قالَهُ ثَعْلَبٌ. وقِيلَ: أصْلُ اليُتْمِ: الغَفْلَةُ، وسُمِّيَ الصَّبِيُّ يَتِيمًا لِأنَّهُ يُتَغافَلُ عَنْ بِرِّهِ. وقِيلَ: أصْلُ اليُتْمِ: الإبْطاءُ، ومِنهُ أُخِذَ اليَتِيمُ؛ لِأنَّ البِرَّ يُبْطِئُ عَنْهُ، قالَهُ أبُو عَمْرٍو. المَساكِينُ: جَمْعُ مِسْكِينٍ، وهو مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ، فالمِيمُ زائِدَةٌ، كَمِحْضِيرٍ مِنَ الحَضَرِ. وقَدْ رُوِيَ: تَمَسْكَنَ فُلانٌ، والأصَحُّ في اللُّغَةِ تَسَكَّنَ، أيْ صارَ مِسْكِينًا، وهو مُرادِفٌ لِلْفَقِيرِ، وهو الَّذِي لا شَيْءَ لَهُ. وقِيلَ: هو الَّذِي لَهُ أدْنى شَيْءٍ. الحَسَنُ والحُسْنُ، قِيلَ: هُما لُغَتانِ: كالبُخْلِ والبَخَلِ. والحُسْنُ: مَصْدَرُ حَسُنَ، كالقُبْحِ مَصْدَرِ قَبُحَ، مُقابِلُ حَسُنَ. القَلِيلُ: اسْمُ فاعِلٍ مِن قَلَّ، كَما أنَّ كَثِيرًا مُقابِلُهُ اسْمُ فاعِلٍ مِن كَثُرَ. يُقالُ؛ قَلَّ يَقِلُّ قِلَّةً وقَلًّا وقُلًّا، الإعْراضُ: التَّوَلِّي، وقِيلَ: التَّوَلِّي بِالجِسْمِ، والإعْراضُ بِالقَلْبِ. والعَرْضُ: النّاحِيَةُ، فَيُمْكِنُ أنْ يَكُونَ قَوْلُكَ: أعْرَضَ زَيْدٌ عَنْ عَمْرٍو، أيْ صارَ في ناحِيَةٍ مِنهُ، فَتَكُونُ الهَمْزَةُ فِيهِ لِلصَّيْرُورَةِ. الدَّمُ: مَعْرُوفٌ، وهو مَحْذُوفُ اللّامِ، وهي ياءٌ، لِقَوْلِهِ: ؎جَرى الدَّمَيانِ بِالخَيْرِ اليَقِينِ أوْ: واوٌ، لِقَوْلِهِمْ: دَمَوانِ، ووَزْنُهُ فَعْلٌ. وقِيلَ: فِعْلٌ، وقَدْ سُمِعَ مَقْصُورًا، قالَ: ؎غَفَلَتْ ثُمَّ أتَتْ تَطْلُبُهُ ∗∗∗ فَإذا هي بِعِظامٍ ودِما وقالَ: ؎ولَكِنْ عَلى أعْقابِنا يَقْطُرُ الدِّما فِي رِوايَةِ مَن رَواهُ كَذَلِكَ، وقَدْ سُمِعَ مُشَدَّدَ المِيمِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎أهانَ دَمَّكَ فَرْغًا بَعْدَ عِزَّتِهِ ∗∗∗ يا عَمْرُو نَعْيُكَ إصْرارًا عَلى الحَسَدِ الدِّيارُ: جَمْعُ دارٍ، وهو قِياسٌ في فِعْلِ الِاسْمِ، إذا لَمْ يَكُنْ مُضاعَفًا، ولا مُعْتَلَّ لامٍ نَحْوَ طَلَلٍ، وفَتًى. والياءُ في هَذا الجَمْعِ مُنْقَلِبَةٌ عَنْ واوٍ، إذْ أصْلُهُ دُوارٌ، وهو قِياسٌ، أعْنِي هَذا الإبْدالَ إذا كانَ جَمْعًا واحِدًا مُعْتَلَّ العَيْنِ، كَثَوْبٍ وحَوْضٍ ودارٍ، بِشَرْطِ أنْ يَكُونَ فِعالًا صَحِيحَ اللّامِ. فَإنْ كانَ مُعْتَلَّهُ، لَمْ يُبْدَلْ نَحْوُ: رَوا، وقالُوا: في جَمْعِ طَوِيلٍ: طُوالٌ وطِيالٌ. أقَرَّ بِالشَّيْءِ: اعْتَرَفَ بِهِ. تَظاهَرُونَ: تَتَعاوَنُونَ، كَأنَّ المُتَظاهِرِينَ يُسْنِدُ كُلُّ واحِدٍ مِنهم ظَهْرَهُ إلى صاحِبِهِ، والظَّهْرُ: المُعِينُ. الإثْمُ: الذَّنْبُ، جَمْعُهُ آثامٌ. الأسْرى: جَمْعُ أسِيرٍ، وفَعْلى مَقِيسٌ في فَعِيلٍ، بِمَعْنى مَماتٍ، أوْ مُوجَعٍ، كَقَتِيلٍ وجَرِيحٍ. وأمّا الأُسارى فَقِيلَ: جَمْعُ أسِيرٍ، وسُمِعَ الأسارى بِفَتْحِ الهَمْزَةِ، ولَيْسَتْ بِالعالِيَةِ. وقِيلَ: أسارى جَمْعُ أسْرى، فَيَكُونُ جَمْعَ الجَمْعِ، قالَهُ المُفَضَّلُ. وقالَ أبُو عَمْرِو بْنُ العَلاءِ: الأسْرى: مَن في اليَدِ، والأُسارى: مَن في الوِثاقِ، والأسِيرُ: هو المَأْخُوذُ عَلى سَبِيلِ القَهْرِ والغَلَبَةِ. الفِداءُ: يُكْسَرُ أوَّلُهُ فَيُمَدُّ، كَما قالَ النّابِغَةُ: ؎مَهْلًا فِداءً لَكَ الأقْوامُ كُلُّهُمُ ∗∗∗ وما أثَمَّرُ مِن مالٍ ومِن ولَدِ ويُقْصَرُ، قالَ: ؎فِدًا لَكَ مِن رَبٍّ طَرِيفِي وتالِدِي وإذا فُتِحَ أوَّلُهُ قُصِرَ، يُقالُ: قُمْ فَدًا لَكَ أبِي، قالَهُ الجَوْهَرِيُّ. ومَعْنى فَدى فُلانٌ فُلانًا: أيْ أعْطى عِوَضَهُ. المُحَرَّمُ: اسْمُ مَفْعُولٍ مِن حَرَّمَ، وهو راجِعٌ إلى (p-٢٨٢)مَعْنى المَنعِ. تَقُولُ: حَرَمَهُ يَحْرِمُهُ، إذا مَنَعَهُ. الجَزاءُ: المُقابَلَةُ، ويُطْلَقُ في الخَيْرِ والشَّرِّ. الخِزْيُ: الهَوانُ. قالَ الجَوْهَرِيُّ: خَزِيَ، بِالكَسْرِ، يَخْزى خِزْيًا. وقالَ ابْنُ السِّكِّيتِ: مَعْنى خَزِيَ: وقَعَ في بَلِيَّةٍ، وأخْزاهُ اللَّهُ أيْضًا، وخَزى الرَّجُلُ في نَفْسِهِ يَخْزى خَزايَةً، إذا اسْتَحْيا، وهو خَزْيانُ، وقَوُمٌ خَزايا، أوِ امْرَأةٌ خَزْيا. الدُّنْيا: تَأْنِيثُ الأدْنى، ويَرْجِعُ إلى الدُّنُوِّ، بِمَعْنى القُرْبِ. والألِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، ولا تُحْذَفُ مِنها الألِفُ واللّامُ إلّا في شِعْرٍ، نَحْوَ قَوْلِهِ: ؎فِي سَعْيِ دُنْيا طالَما قَدْ مُدَّتْ والدُّنْيا تارَةً تُسْتَعْمَلُ صِفَةً، وتارَةً تُسْتَعْمَلُ اسْتِعْمالَ الأسْماءِ، فَإذا كانَتْ صِفَةً، فالياءُ مُبْدَلَةٌ مِن واوٍ، إذْ هي مُشْتَقَّةٌ مِنَ الدُّنُوِّ، وذَلِكَ نَحْوُ: العُلْيا. ولِذَلِكَ جَرَتْ صِفَةً عَلى الحَياةِ في قَوْلِهِ: ﴿إنَّما مَثَلُ الحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ﴾ [يونس: ٢٤]، فَأمّا القُصْوى والحَلْوى فَشاذٌّ. وإذا اسْتُعْمِلَتِ اسْتِعْمالَ الأسْماءِ، فَكَذَلِكَ. وقالَ أبُو بَكْرِ بْنُ السَّرّاجِ: في المَقْصُورِ والمَمْدُودِ لَهُ: الدُّنْيا مُؤَنَّثَةٌ مَقْصُورَةٌ، تُكْتَبُ بِالألِفِ هَذِهِ لُغَةُ نَجْدٍ وتَمِيمٍ خاصَّةً، إلّا أنَّ أهْلَ الحِجازِ وبَنِي أسَدٍ يُلْحِقُونَها ونَظائِرَها بِالمَصادِرِ ذَواتِ الواوِ، فَيَقُولُونَ: دُنْوى، مِثْلَ: شَرْوى، وكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ بِكُلِّ فُعْلى مَوْضِعُ لامِها واوٌ، يَفْتَحُونَ أوَّلَها ويَقْلِبُونَ الواوَ ياءً، لِأنَّهم يَسْتَثْقِلُونَ الضَّمَّةَ والواوَ. ﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾ الآيَةَ، هَذِهِ الآيَةُ مُناسِبَةٌ لِلْآياتِ الوارِدَةِ قَبْلَها في ذِكْرِ تَوْبِيخِ بَنِي إسْرائِيلَ وتَقْرِيعِهِمْ، وتَبْيِينِ ما أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِن مِيثاقِ العِبادَةِ لِلَّهِ، وإفْرادِهِ تَعالى بِالعِبادَةِ، وما أمَرَهم بِهِ مِن مَكارِمِ الأخْلاقِ، مِن صِلَةِ الأرْحامِ والإحْسانِ إلى المَساكِينِ، والمُواظِبَةِ عَلى رُكْنَيِ الإسْلامِ البَدَنِيِّ والمالِيِّ. ثُمَّ ذِكْرِ تَوَلِّيهِمْ عَنْ ذَلِكَ، ونَقْضِهِمْ لِذَلِكَ المِيثاقِ، عَلى عادَتِهِمُ السّابِقَةِ وطَرِيقَتِهِمُ المَأْلُوفَةِ لَهم. وإذْ: مَعْطُوفٌ عَلى الظُّرُوفِ السّابِقَةِ قَبْلَ هَذا. والمِيثاقُ: هو الَّذِي أخَذَهُ تَعالى عَلَيْهِمْ، وهم في صُلْبِ آبائِهِمْ كالذَّرِّ، قالَهُ مَكِّيٌّ، وضُعِّفَ بِأنَّ الخِطابَ قَدْ خُصِّصَ بِ بَنِي إسْرائِيلَ، ومِيثاقُ الآيَةِ فِيهِمْ، أوْ مِيثاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ وهم عُقَلاءُ في حَياتِهِمْ عَلى لِسانِ مُوسى - عَلَيْهِ السَّلامُ - وغَيْرِهِ مِن أنْبِيائِهِمْ، قالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ. وقِيلَ: هو مِيثاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ في التَّوْراةِ، بِأنْ يَعْبُدُوهُ، إلى آخِرِ الآياتِ. وقَرَأ ابْنُ كَثِيرٍ وحَمْزَةُ والكِسائِيُّ: لا يَعْبُدُونَ، بِالياءِ. وقَرَأ الباقُونَ: بِالتّاءِ مِن فَوْقُ. وقَرَأ أُبَيٌّ، وابْنُ مَسْعُودٍ: لا يَعْبُدُوا، عَلى النَّهْيِ. فَأمّا لا يَعْبُدُونَ فَذَكَرُوا في إعْرابِهِ وُجُوهًا: أحَدُها: أنَّهُ جُمْلَةٌ مَنفِيَّةٌ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى الحالِ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، أيْ غَيْرَ عابِدِينَ إلّا اللَّهَ أيْ مُوَحِّدِينَ اللَّهَ ومُفْرِدِيهِ بِالعِبادَةِ، وهو حالٌ مِنَ المُضافِ إلَيْهِ، وهو لا يَجُوزُ عَلى الصَّحِيحِ. لا يُقالُ إنَّ المُضافَ إلَيْهِ يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مَعْمُولًا في المَعْنى لِمِيثاقٍ، إذْ يُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ مَصْدَرًا، أوْ حُكْمُهُ حُكْمَ المَصْدَرِ. وإذا كانَ كَذَلِكَ، جازَ أنْ يَكُونَ المَجْرُورُ بَعْدَهُ فاعِلًا في المَعْنى، أوْ مَفْعُولًا؛ لِأنَّ الَّذِي يُقَدِّرُ فِيهِ العَمَلَ هو ما انْحَلَّ إلى حَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ والفِعْلُ، وهُنا لَيْسَ المَعْنى عَلى أنْ يَنْحَلَّ، لِذَلِكَ فَلا يَجُوزُ الحُكْمُ عَلى مَوْضِعِهِ بِرَفْعٍ ولا نَصْبٍ، لِأنَّكَ لَوْ قَدَّرْتَ أخَذْنا أنْ نُواثِقَ بَنِي إسْرائِيلَ، أوْ أنْ يُواثِقَنا بَنُو إسْرائِيلَ، لَمْ يَصِحَّ، بَلْ لَوْ فَرَضْنا كَوْنَهُ مَصْدَرًا حَقِيقَةً: لَمْ يَجُزْ فِيهِ ذَلِكَ. ألا تَرى أنَّكَ لَوْ قُلْتَ: أخَذْتُ عِلْمَ زَيْدٍ، لَمْ يَنْحَلَّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ والفِعْلِ: لا يُقالُ: أخَذْتُ أنْ يَعْلَمَ زَيْدٌ. فَإذا لَمْ يَتَقَدَّرِ المَصْدَرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ والفِعْلِ، ولا كانَ مِن: ضَرْبًا زَيْدًا، لَمْ يَعْمَلْ عَلى خِلافٍ في هَذا الأخِيرِ، ولِذَلِكَ مَنَعَ ابْنُ الطَّراوَةِ في تَرْجَمَةِ سِيبَوَيْهِ ”هَذا بابُ عِلْمِ ما الكَلِمُ مِنَ العَرَبِيَّةِ“، أنْ يَتَقَدَّرَ المَصْدَرُ بِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ والفِعْلِ، ورُدَّ ذَلِكَ عَلى مَن أجازَهُ. ومِمَّنْ أجازَهُ أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ حالًا المُبَرِّدُ وقُطْرُبٌ، قالُوا: ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ حالًا مُقارَنَةً، وحالًا مُقَدَّرَةً. الوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ جَوابًا لِقَسَمٍ مَحْذُوفٍ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾، أيِ اسْتَحْلَفْناهم واللَّهِ لا يَعْبُدُونَ، ونُسِبَ هَذا الوَجْهُ إلى سِيبَوَيْهِ، وأجازَهُ الكِسائِيُّ والفَرّاءُ والمُبَرِّدُ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ تَكُونَ أنْ مَحْذُوفَةً، وتَكُونَ أنْ وما بَعْدَها مَحْمُولًا عَلى إضْمارِ حَرْفِ جَرٍّ، التَّقْدِيرُ: بِأنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ (p-٢٨٣)فَحُذِفَ حَرْفُ الجَرِّ، إذْ حَذْفُهُ مَعَ أنَّ وأنْ جائِزٌ مُطَّرِدٌ، إذْ لَمْ يُلْبِسْ، ثُمَّ حَذَفَ بَعْدَ ذَلِكَ أنْ، فارْتَفَعَ الفِعْلُ، فَصارَ لا تَعْبُدُونَ، قالَهُ الأخْفَشُ، ونَظِيرُهُ مِن نَثْرِ العَرَبِ: مُرْهُ بِحَفْرِها، ومِن نَظْمِها قَوْلُهُ: ؎ألا أيُّهَذا الزّاجِرِي أحَضُرَ الوَغى أصْلُهُ: مُرْهُ بِأنْ يَحْفِرَها. وعَنْ أنْ أحْضُرَ الوَغى، فَجَرى فِيهِ مِنَ العَمَلِ ما ذَكَرْناهُ. وهَذا النَّوْعُ مِن إضْمارِ أنْ في مِثْلِ هَذا مُخْتَلَفٌ فِيهِ، فَمِنَ النَّحْوِيِّينَ مَن مَنَعَهُ، وعَلى ذَلِكَ مُتَأخِّرُو أصْحابِنا. وذَهَبَ جَماعَةٌ مِنَ النَّحْوِيِّينَ إلى أنَّهُ يَجُوزُ حَذْفُها في مِثْلِ هَذا المَوْضِعِ. ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَقِيلَ: يَجِبُ رَفْعُ الفِعْلِ إذْ ذاكَ، وهَذا مَذْهَبُ أبِي الحَسَنِ. ومِنهم مَن قالَ بِنَفْيِ العَمَلِ، وهو مَذْهَبُ المُبَرِّدِ والكُوفِيِّينَ. والصَّحِيحُ: قَصْرُ ما ورَدَ مِن ذَلِكَ عَلى السَّماعِ، وما كانَ هَكَذا فَلا يَنْبَغِي أنْ تُخَرَّجَ الآيَةُ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ فِيهِ حَذْفَ حَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ، وإبْقاءَ صِلَتِهِ في غَيْرِ المَواضِعِ المُنْقاسِ ذَلِكَ فِيها. الوَجْهُ الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ: أنْ لا تَعْبُدُوا، فَحُذِفَ أنْ وارْتَفَعَ الفِعْلُ، ويَكُونَ ذَلِكَ في مَوْضِعِ نَصْبٍ عَلى البَدَلِ مِن قَوْلِهِ: ﴿مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ . وفي هَذا الوَجْهِ ما في الَّذِي قَبْلَهُ مِن أنَّ الصَّحِيحَ عَدَمُ اقْتِياسِ ذَلِكَ، أعْنِي حَذْفَ أنْ ورَفْعَ الفِعْلِ ونَصْبَهُ. الوَجْهُ الخامِسُ: أنْ تَكُونَ مَحْكِيَّةً بِحالٍ مَحْذُوفَةٍ، أيْ قائِلِينَ لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ، ويَكُونَ إذْ ذاكَ لَفْظُهُ لَفْظَ الخَبَرِ، ومَعْناهُ النَّهْيَ، أيْ قائِلِينَ لَهم لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ، قالَهُ الفَرّاءُ، ويُؤَيِّدُهُ قِراءَةُ أُبَيٍّ، وابْنِ مَسْعُودٍ، والعَطْفُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ . الوَجْهُ السّادِسُ: أنْ يَكُونَ المَحْذُوفُ القَوْلَ، أيْ وقُلْنا لَهم: ﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾، وهو نَفْيٌ في مَعْنى النَّهْيِ أيْضًا. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: كَما يَقُولُ تَذْهَبُ إلى فُلانٍ، تَقُولُ لَهُ كَذا، تُرِيدُ الأمْرَ، وهو أبْلَغُ مِن صَرِيحِ الأمْرِ والنَّهْيِ؛ لِأنَّهُ كانَ سُورِعَ إلى الِامْتِثالِ والِانْتِهاءِ، فَهو يُخْبِرُ عَنْهُ. انْتَهى كَلامُهُ، وهو حَسَنٌ. الوَجْهُ السّابِعُ: أنْ يَكُونَ التَّقْدِيرُ أنْ لا تَعْبُدُونَ، وتَكُونَ أنْ مُفَسِّرَةً لِمَضْمُونِ الجُمْلَةِ؛ لِأنَّ في قَوْلِهِ: ﴿أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ مَعْنى القَوْلِ، فَحَذَفَ أنِ المُفَسِّرَةَ وأبْقى المُفَسَّرَ. وفي جَوازِ حَذْفِ أنِ المُفَسِّرَةِ نَظَرٌ. الوَجْهُ الثّامِنُ: أنْ تَكُونَ الجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةً، فَلا مَوْضِعَ لَها مِنَ الإعْرابِ، وذَلِكَ أنَّهُ لَمّا ذَكَرَ أنَّهُ أخَذَ مِيثاقَبَنِي إسْرائِيلَ، كانَ في ذَلِكَ إبْهامٌ لِلْمِيثاقِ ما هو، فَأتى بِهَذِهِ الجُمْلَةِ مُفَسِّرَةً لِلْمِيثاقِ، فَمَن قَرَأ بِالياءِ، فَلِأنَّ بَنِي إسْرائِيلَ لَفْظُ غَيْبَةٍ، ومَن قَرَأ بِالتّاءِ، فَهو التِفاتٌ، وحِكْمَتُهُ الإقْبالُ عَلَيْهِمْ بِالخِطابِ، لِيَكُونَ أدْعى لِلْقَبُولِ، وأقْرَبَ لِلِامْتِثالِ، إذْ فِيهِ الإقْبالُ مِنَ اللَّهِ عَلى المُخاطَبِ بِالخِطابِ. ومَعَ جَعْلِ الجُمْلَةَ مُفَسَّرَةً، لا تَخْرُجُ عَنْ أنْ يَكُونَ نَفْيٌ أُرِيدَ بِهِ نَهْيٌ، إذْ تَبْعُدُ حَقِيقَةُ الخَبَرِ فِيهِ. إلّا اللَّهَ: اسْتِثْناءٌ مُفَرَّغٌ؛ لِأنَّ لا تَعْبُدُونَ لَمْ يَأْخُذْ مَفْعُولَهُ، وفِيهِ التِفاتٌ. إذْ خَرَجَ مِن ضَمِيرِ المُتَكَلِّمِ إلى الِاسْمِ الغائِبِ. ألا تَرى أنَّهُ لَوْ جَرى عَلى نَسَقٍ واحِدٍ لَكانَ نَظْمُ الكَلامِ لا تَعْبُدُونَ إلّا إيّانا ؟ لَكِنْ في العُدُولِ إلى الِاسْمِ الظّاهِرِ مِنَ الفَخامَةِ والدَّلالَةِ عَلى سائِرِ الصِّفاتِ والتَّفَرُّدِ بِالتَّسْمِيَةِ بِهِ ما لَيْسَ في المُضْمَرِ، ولِأنَّ ما جاءَ بَعْدَهُ مِنَ الأسْماءِ، إنَّما هي أسْماءٌ ظاهِرَةٌ، فَناسَبَ مُجاوَرَةُ الظّاهِرِ الظّاهِرَ. ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾، المَعْنى: الأمْرُ بِالإحْسانِ إلى الوالِدَيْنِ وبِرِّهِما وإكْرامِهِما. وقَدْ تَضَمَّنَتْ آيٌ مِنَ القُرْآنِ وأحادِيثُ كَثِيرَةٌ ذَلِكَ، حَتّى عُدَّ العُقُوقُ مِنَ الكَبائِرِ، وناهِيكَ احْتِفالًا بِهِما كَوْنُ اللَّهِ قَرَنَ ذَلِكَ بِعِبادَتِهِ تَعالى، ومِن غَرِيبِ الحِكاياتِ: أنَّ عُمَرَ رَأى امْرَأةً تَطُوفُ بِأبِيها عَلى ظَهْرِها، وقَدْ جاءَتْ بِهِ عَلى ظَهْرِها مِنَ اليَمَنِ، فَقالَ لَها: جَزاكِ اللَّهُ خَيْرًا، لَقَدْ وفَيْتِ بِحَقِّهِ، فَقالَتْ: ما وفَّيْتُهُ ولا أنْصَفْتُهُ؛ لِأنَّهُ كانَ يَحْمِلُنِي ويَوَدُّ حَياتِي، وأنا أحْمِلُهُ وأوَدُّ مَوْتَهُ. واخْتَلَفُوا فِيما تَتَعَلَّقُ بِهِ الباءُ في قَوْلِهِ: ﴿وبِالوالِدَيْنِ﴾، وفي انْتِصابِ إحْسانًا عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلى لا تَعْبُدُونَ، أعْنِي عَلى المَصْدَرِ المُنْسَبِكِ مِنَ الحَرْفِ المَصْدَرِيِّ والفِعْلِ، إذِ التَّقْدِيرُ عِنْدَ هَذا القائِلِ بِإفْرادِ اللَّهِ بِالعِبادَةِ وبِالوالِدَيْنِ، أيْ وبِبِرِّ الوالِدَيْنِ، أوْ بِإحْسانٍ إلى الوالِدَيْنِ، ويَكُونُ انْتِصابُ إحْسانًا عَلى المَصْدَرِ مِن ذَلِكَ المُضافِ المَحْذُوفِ، فالعامِلُ فِيهِ المِيثاقُ؛ لِأنَّهُ بِهِ يَتَعَلَّقُ الجارُّ والمَجْرُورُ، ورَوائِحُ الأفْعالِ تَعْمَلُ في الظُّرُوفِ والمَجْرُوراتِ. الوَجْهُ الثّانِي: (p-٢٨٤)أنْ يَكُونَ مُتَعَلِّقًا بِإحْسانًا، ويَكُونَ إحْسانًا مَصْدَرًا مَوْضُوعًا مَوْضِعَ فِعْلِ الأمْرِ، كَأنَّهُ قالَ: وأحْسِنُوا بِالوالِدَيْنِ. قالُوا: والباءُ تُرادِفُ إلى في هَذا الفِعْلِ، تَقُولُ: أحْسَنْتُ بِهِ وإلَيْهِ بِمَعْنًى واحِدٍ، وقَدْ تَكُونُ عَلى هَذا التَّقْدِيرِ عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ وأحْسِنُوا بِبِرِّ الوالِدَيْنِ، المَعْنى: وأحْسِنُوا إلى الوالِدَيْنِ بِبِرِّهِما. وعَلى هَذَيْنِ الوَجْهَيْنِ يَكُونُ العامِلُ في الجارِّ والمَجْرُورِ مَلْفُوظًا بِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُعْتَرَضُ هَذا القَوْلُ بِأنَّ المَصْدَرَ قَدْ تَقَدَّمَ عَلَيْهِ ما هو مَعْمُولٌ لَهُ. انْتَهى كَلامُهُ. وهَذا الِاعْتِراضُ إنَّما يَتِمُّ عَلى مَذْهَبِ أبِي الحَسَنِ في مَنعِهِ تَقْدِيمَ مَفْعُولٍ نَحْوَ: ضَرْبًا زَيْدًا، ولَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّهُ لا يَصِحُّ المَنعُ إلّا إذا كانَ المَصْدَرُ مَوْصُولًا بِأنْ يَنْحَلَّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ والفِعْلِ، أمّا إذا كانَ غَيْرَ مَوْصُولٍ، فَلا يَمْتَنِعُ تَقْدِيمُهُ عَلَيْهِ. فَجائِزٌ أنْ تَقُولَ: ضَرْبًا زَيْدًا، وزَيْدًا ضَرْبًا، سَواءٌ كانَ العَمَلُ لِلْفِعْلِ المَحْذُوفِ العامِلِ في المَصْدَرِ، أوْ لِلْمَصْدَرِ النّائِبِ عَنِ الفِعْلِ؛ لِأنَّ ذَلِكَ الفِعْلَ هو أمْرٌ، والمَصْدَرَ النّائِبَ عَنْهُ أيْضًا مَعْناهُ الأمْرُ. فَعَلى اخْتِلافِ المَذْهَبَيْنِ في العامِلِ يَجُوزُ التَّقْدِيمُ. الوَجْهُ الثّالِثُ: أنْ يَكُونَ العامِلُ مَحْذُوفًا، ويُقَدَّرُ: وأحْسِنُوا، أوْ ويُحْسِنُونَ بِالوالِدَيْنِ، ويَنْتَصِبُ إحْسانًا عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِذَلِكَ الفِعْلِ المَحْذُوفِ، فَتَقْدِيرُهُ: وأحْسِنُوا، مُراعاةً لِلْمَعْنى؛ لِأنَّ مَعْنى لا تَعْبُدُونَ: لا تَعْبُدُوا، أوْ تَقْدِيرُهُ؛ ويُحْسِنُونَ، مُراعاةً لِلَفْظِ لا تَعْبُدُونَ، وإنْ كانَ مَعْناهُ الأمْرَ. وبِهَذَيْنِ قَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ هَذا المَحْذُوفَ. الوَجْهُ الرّابِعُ: أنْ يَكُونَ العامِلُ مَحْذُوفًا، وتَقْدِيرُهُ: واسْتَوْصُوا بِالوالِدَيْنِ، ويَنْتَصِبَ إحْسانًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ، قالَهُ الَمَهْدَوِيُّ. الوَجْهُ الخامِسُ: أنْ يَكُونَ العامِلُ مَحْذُوفًا، وتَقْدِيرُهُ: ووَصَّيْناهم بِالوالِدَيْنِ، ويَنْتَصِبَ إحْسانًا عَلى أنَّهُ مَفْعُولٌ مِن أجْلِهِ، أيْ ووَصَّيْناهم بِالوالِدَيْنِ إحْسانًا مِنّا، أيْ لِأجْلِ إحْسانِنا، أيْ أنَّ التَّوْصِيَةَ بِهِما سَبَبُها إحْسانُنا، إمّا لِأنَّ مِن شَأْنِنا الإحْسانَ، أوْ إحْسانًا مِنّا لِلْمُوصَيْنَ، إذْ يَتَرَتَّبُ لَهم عَلى امْتِثالِ ذَلِكَ الثَّوابُ الجَزِيلُ والأجْرُ العَظِيمُ، أوْ إحْسانًا مِنّا لِلْمُوصى بِهِمْ. وقَدْ جاءَ هَذا الفِعْلُ مُصَرَّحًا بِهِ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ووَصَّيْنا الإنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْنًا﴾ [العنكبوت: ٨] . والمُخْتارُ، الوَجْهُ الثّانِي: لِعَدَمِ الإضْمارِ فِيهِ، ولِاطِّرادِ مَجِيءِ المَصْدَرِ في مَعْنى فَعَلِ الأمْرِ. ﴿وذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ﴾: مَعْطُوفٌ عَلى قَوْلِهِ: وبِالوالِدَيْنِ. وكانَ تَقْدِيمُ الوالِدَيْنِ لِأنَّهُما آكَدُ في البِرِّ والإحْسانِ، وتَقْدِيمُ المَجْرُورِ عَلى العامِلِ اعْتِناءً بِمُتَعَلِّقِ الحَرْفِ، وهُما الوالِدانِ، واهْتِمامًا بِأمْرِهِما. وجاءَ هَذا التَّرْتِيبُ اعْتِناءً بِالأوْكَدِ. فَبَدَأ بِالوالِدَيْنِ، إذْ لا يَخْفى تَقَدُّمُهُما عَلى كُلِّ أحَدٍ في الإحْسانِ إلَيْهِما، ثُمَّ بِذِي القُرْبى؛ لِأنَّ صِلَةَ الأرْحامِ مُؤَكَّدَةٌ أيْضًا، ولِمُشارَكَتِهِ الوالِدَيْنِ في القَرابَةِ، ثُمَّ بِاليَتامى، لِأنَّهم لا قُدْرَةَ لَهم تامَّةٌ عَلى الِاكْتِسابِ، وقَدْ جاءَ: ”أنا وكافِلُ اليَتِيمِ كَهاتَيْنِ في الجَنَّةِ“ وغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الآثارِ، ثُمَّ بِالمَساكِينِ لِما في الإحْسانِ إلَيْهِمْ مِنَ الثَّوابِ. وتَأخَّرَتْ دَرَجَةُ المَساكِينِ؛ لِأنَّهُ يُمْكِنُهُ أنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِخْدامِ، ويُصْلِحَ مَعِيشَتَهُ، بِخِلافِ اليَتامى، فَإنَّهم لِصِغَرِهِمْ لا يُنْتَفَعُ بِهِمْ، وهم مُحْتاجُونَ إلى مَن يَنْفَعُهم. وأوَّلُ هَذِهِ التَّكالِيفِ هو إفْرادُ اللَّهِ بِالعِبادَةِ، ثُمَّ الإحْسانُ إلى الوالِدَيْنِ، ثُمَّ إلى ذِي القُرْبى، ثُمَّ إلى اليَتامى، ثُمَّ إلى المَساكِينِ. فَهَذِهِ خَمْسَةُ تَكالِيفَ تَجْمَعُ عِبادَةَ اللَّهِ، والحَضَّ عَلى الإحْسانِ لِلْوالِدَيْنِ، والمُواساةَ لِذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ، وأفْرَدَ ذا القُرْبى؛ لِأنَّهُ أرادَ بِهِ الجِنْسَ، ولِأنَّ إضافَتَهُ إلى المَصْدَرِ يَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ ذِي قَرابَةٍ. ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾: لَمّا ذَكَرَ بَعْدَ عِبادَةِ اللَّهِ الإحْسانَ لِمَن ذَكَرَ، وكانَ أكْثَرُ المَطْلُوبِ فِيهِ الفِعْلُ مِنَ الصِّلَةِ والإطْعامِ والِافْتِقادِ، أعْقَبَ بِالقَوْلِ الحَسَنِ، لِيَجْمَعَ المَأْخُوذُ عَلَيْهِ المِيثاقُ امْتِثالَ أمْرِ اللَّهِ تَعالى في الأفْعالِ والأقْوالِ، فَقالَ تَعالى: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ . ولَمّا كانَ القَوْلُ سَهْلَ المَرامِ، إذْ هو بَدَلُ لَفْظٍ لا مالٍ، كانَ مُتَعَلِّقُهُ بِالنّاسِ عُمُومًا إذْ لا ضَرَرَ عَلى الإنْسانِ في الإحْسانِ إلى النّاسِ بِالقَوْلِ الطَّيِّبِ. وقَرَأ حَمْزَةُ والكِسائِيُّ ويَعْقُوبُ: حَسَنًا بِفَتْحِ الحاءِ والسِّينِ. وقَرَأ عَطاءُ بْنُ أبِي رَباحٍ وعِيسى بْنُ عُمَرَ: (p-٢٨٥)حُسُنًا بِضَمِّهِما. وقَرَأ أُبَيٌّ وطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ: حُسْنى، عَلى وزْنِ فُعْلى. وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ: إحْسانًا. فَأمّا قِراءَةُ الجُمْهُورِ حُسْنًا، فَظاهِرُهُ أنَّهُ مَصْدَرٌ، وأنَّهُ كانَ في الأصْلِ قَوْلًا حَسَنًا، إمّا عَلى حَذْفِ مُضافٍ، أيْ ذا حُسْنٍ، وإمّا عَلى الوَصْفِ بِالمَصْدَرِ لِإفْراطِ حُسْنِهِ، وقِيلَ: يَكُونُ أيْضًا صِفَةً، لا أنَّ أصْلَهُ مَصْدَرٌ، بَلْ يَكُونُ كالحُلْوِ والمُرِّ، فَيَكُونُ الحُسْنُ والحَسَنُ لُغَتَيْنِ، كالحُزْنِ والحَزَنِ، والعُرْبِ والعَرَبِ. وقِيلَ: انْتَصَبَ عَلى المَصْدَرِ مِنَ المَعْنى؛ لِأنَّ المَعْنى: ولْيَحْسُنْ قَوْلُكم حُسْنًا. وأمّا مَن قَرَأ: حَسَنًا بِفَتْحَتَيْنِ، فَهو صِفَةٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ وقُولُوا لِلنّاسِ قَوْلًا حَسَنًا. وأمّا مَن قَرَأ بِضَمَّتَيْنِ، فَضَمَّةُ السِّينِ إتِّباعٌ لِضَمَّةِ الحاءِ. وأمّا مَن قَرَأ: حُسْنى، فَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رَدَّهُ سِيبَوَيْهِ؛ لِأنَّ أفْعَلَ وفُعْلى لا يَجِيءُ إلّا مَعْرِفَةً، إلّا أنْ يُزالَ عَنْها مَعْنى التَّفْضِيلِ ويَبْقى مَصْدَرًا، كالعُقْبى، فَذَلِكَ جائِزٌ، وهو وجْهُ القِراءَةِ بِها. انْتَهى كَلامُهُ. وفي كَلامِهِ ارْتِباكٌ؛ لِأنَّهُ قالَ: لِأنَّ أفْعَلَ وفُعْلى لا يَجِيءُ إلّا مَعْرِفَةً، ولَيْسَ عَلى ما ذَكَرَ. أمّا أفْعَلُ فَلَهُ اسْتِعْمالاتٌ: أحَدُها: أنْ يَكُونَ بِمِن ظاهِرَةً، أوْ مُقَدَّرَةً، أوْ مُضافًا إلى نَكِرَةٍ، فَهَذا لا يَتَعَرَّفُ بِحالٍ، بَلْ يَبْقى نَكِرَةً. والِاسْتِعْمالُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ بِالألِفِ واللّامِ، فَإذْ ذاكَ يَكُونُ مَعْرِفَةً بِهِما. الثّالِثُ: أنْ يُضافَ إلى مَعْرِفَةٍ، وفي التَّعْرِيفِ بِتِلْكَ الإضافَةِ خِلافٌ، وذَلِكَ نَحْوُ: أفْضَلُ القَوْمِ. وأمّا فُعْلى فَلَها اسْتِعْمالانِ: أحَدُهُما: بِالألِفِ واللّامِ، ويَكُونُ مَعْرِفَةً بِهِما. والثّانِي: بِالإضافَةِ إلى مَعْرِفَةٍ نَحْوُ: فُضْلى النِّساءِ. وفي التَّعْرِيفِ بِهَذِهِ الإضافَةِ الخِلافُ الَّذِي في أفْعَلَ، فَقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: لِأنَّ أفْعَلُ وفُعْلى لا يَجِيءُ إلّا مَعْرِفَةً، لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وقَوْلُهُ: إلّا أنْ يُزالَ عَنْها مَعْنى التَّفْضِيلِ، ويَبْقى مَصْدَرًا، فَيَكُونَ فُعْلى الَّذِي هو مُؤَنَّثُ أفْعَلُ، إذا أزَلْتَ مِنهُ مَعْنى التَّفْضِيلِ يَبْقى مَصْدَرًا، ولَيْسَ كَذَلِكَ، بَلْ لا يَنْقاسُ مَجِيءُ فُعْلى مَصْدَرًا إنَّما جاءَتْ مِنهُ ألْفاظٌ يَسِيرَةٌ. فَلا يَجُوزُ أنْ يُعْتَقَدَ في فُعْلى، الَّتِي مُذَكَّرُها أفْعَلُ، أنَّها تَصِيرُ مَصْدَرًا إذا زالَ مِنها مَعْنى التَّفْضِيلِ. ألا تَرى أنَّ كُبْرى وصُغْرى وجُلّى وفُضْلى، وما أشْبَهَ ذَلِكَ، لا يَنْقاسُ جَعْلُ شَيْءٍ مِنها مَصْدَرًا بَعْدَ إزالَةِ مَعْنى التَّفْضِيلِ ؟ (p-٢٨٦)بَلِ الَّذِي يَنْقاسُ عَلى رَأْيٍ أنَّكَ إذا أزَلْتَ مِنها مَعْنى التَّفْضِيلِ صارَتْ بِمَعْنى كَبِيرَةٍ وصَغِيرَةٍ وجَلِيلَةٍ وفاضِلَةٍ. كَما أنَّكَ إذا أزَلْتَ مِن مُذَكَّرِها مَعْنى التَّفْضِيلِ، كانَ أكْبَرُ بِمَعْنى كَبِيرٍ، وأفْضَلُ بِمَعْنى فاضِلٍ، وأطْوَلُ بِمَعْنى طَوِيلٍ. ويُحْتَمَلُ أنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ في عَنْها عائِدًا إلى حُسْنى، لا إلى فُعْلى، ويَكُونَ اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا، كَأنَّهُ قالَ: إلّا أنْ يُزالَ عَنْ حُسْنى، وهي اللَّفْظَةُ الَّتِي قَرَأها أُبَيٌّ وطَلْحَةُ، مَعْنى التَّفْضِيلِ، ويَبْقى مَصْدَرًا، ويَكُونُ مَعْنى الكَلامِ إلّا إنْ كانَتْ مَصْدَرًا، كالعُقْبى. ومَعْنى قَوْلِهِ: وهو وجْهُ القِراءَةِ بِها، أيْ والمَصْدَرُ وجْهُ القِراءَةِ بِها. وتَخْرِيجُ هَذِهِ القِراءَةِ عَلى وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: المَصْدَرُ، كالبُشْرى، ويَحْتاجُ ذَلِكَ إلى نَقْلِ أنَّ العَرَبَ تَقُولُ: حَسُنَ حُسْنى، كَما تَقُولُ: رَجَعَ رُجْعى، وبَشَّرَ بُشْرى، إذْ مَجِيءُ فُعْلى كَما ذَكَرْنا مَصْدَرًا يَنْقاسُ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ يَكُونَ صِفَةً لِمَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ، أيْ وقُولُوا لِلنّاسِ كَلِمَةً حُسْنى، أوْ مَقالَةً حُسْنى. وفي الوَصْفِ بِها وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ تَكُونَ باقِيَةً عَلى أنَّها لِلتَّفْضِيلِ، واسْتِعْمالُها بِغَيْرِ ألِفٍ ولامٍ ولا إضافَةٍ لِمَعْرِفَةٍ نادِرٌ، وقَدْ جاءَ ذَلِكَ في الشِّعْرِ، قالَ الشّاعِرُ: ؎وإنْ دَعَوْتَ إلى جُلًى ومُكَرُمَةٍ ∗∗∗ يَوْمًا كِرامَ سَراةِ النّاسِ فادْعِينا فَيُمْكِنُ أنْ تَكُونَ هَذِهِ القِراءَةُ مِن هَذا لِأنَّها قِراءَةٌ شاذَّةٌ. والوَجْهُ الثّانِي: أنْ تَكُونَ لَيْسَتْ لِلتَّفْضِيلِ، فَيَكُونَ مَعْنى حُسْنى حَسَنَةٌ، أيْ وقُولُوا لِلنّاسِ مَقالَةً حَسَنَةً، كَما خَرَّجُوا يُوسُفَ أحْسَنَ إخْوَتِهِ في مَعْنى: حَسَنُ إخْوَتِهِ. وأمّا مَن قَرَأ: إحْسانًا فَيَكُونُ نَعْتًا لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ قَوْلًا إحْسانًا، وإحْسانًا مَصْدَرٌ مِن أحْسَنَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلصَّيْرُورَةِ، أيْ قَوْلًا ذا حُسْنٍ، كَما تَقُولُ: أعْشَبَتِ الأرْضُ إعْشابًا، أيْ صارَتْ ذاتَ عُشْبٍ. واخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في مَعْنى قَوْلِهِ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾، فَقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: قُولُوا لَهم لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، ومُرُوهم بِها. وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قُولُوا لَهم حُسْنًا في الإعْلامِ بِما في كِتابِكم مِن صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ . وقالَ أبُو العالِيَةِ: قُولُوا لَهُمُ القَوْلَ الطَّيِّبَ، وجاوِبُوهم بِأحْسَنِ ما تُحِبُّونَ أنْ تُجاوَبُوا بِهِ. وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: مُرُوهم بِالمَعْرُوفِ، وانْهُوهم عَنِ المُنْكَرِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا صَدِّقا في أمْرِ مُحَمَّدٍ ﷺ . واخْتَلَفُوا في المُخاطَبِ بِقَوْلِهِ: وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا، مَن هو ؟ . فالظّاهِرُ أنَّهُ مِن جُمْلَةِ المِيثاقِ المَأْخُوذِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ: أنْ لا تَعْبُدُوا إلّا اللَّهَ، وأنْ تَقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا. وعَلى قِراءَةِ مَن قَرَأ: لا يَعْبُدُونَ بِالياءِ، يَكُونُ التِفاتًا، إذْ خَرَجَ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطابِ. وقِيلَ: المُخاطَبُ الأُمَّةُ، والأوَّلُ أقْرَبُ لِتَكُونَ القِصَّةُ واحِدَةً مُشْتَمِلَةً عَلى مَكارِمِ الأخْلاقِ، ولِتُناسِبَ الخِطابَ الَّذِي بَعْدَ ذَلِكَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾، إلى آخِرِ الآياتِ فَإنَّهُ، لا يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ في بَنِي إسْرائِيلَ. وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّ الإحْسانَ لِلْوالِدَيْنِ ومَن عُطِفَ عَلَيْهِ، والقَوْلُ الحَسَنُ لِلنّاسِ، كانَ واجِبًا عَلى بَنِي إسْرائِيلَ في دِينِهِمْ؛ لِأنَّ أخْذَ المِيثاقِ يَدُلُّ عَلى الوُجُوبِ، وكَذا ظاهِرُ الأمْرِ، وكَأنَّهُ ذَمَّهم عَلى التَّوَلِّي عَنْ ذَلِكَ. ورُوِيَ عَنْ قَتادَةَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، وهَذا لا يَتَأتّى إلّا إذا قُلْنا: إنَّ المُخاطَبَ بِها هَذِهِ الأُمَّةُ، ومِنَ النّاسِ مَن خَصَّصَ هَذا العُمُومَ بِالمُؤْمِنِينَ، أوْ بِالدُّعاءِ إلى اللَّهِ تَعالى بِما في الأمْرِ بِالمَعْرُوفِ، فَيَكُونُ تَخْصِيصًا بِحَسَبِ المُخاطَبِ، أوْ بِحَسَبِ الخِطابِ. وزَعَمَ أبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ الباقِرُ أنَّ هَذا العُمُومَ باقٍ عَلى ظاهِرِهِ، وأنَّهُ لا حاجَةَ إلى التَّخْصِيصِ. قِيلَ: وهَذا هو الأقْوى. والدَّلِيلُ عَلَيْهِ، أنَّ هارُونَ ومُوسى، عَلى نَبِيِّنا وعَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، أُمِرا بِالرِّفْقِ مَعَ فِرْعَوْنَ، وكَذَلِكَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قِيلَ لَهُ: ﴿ادْعُ إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ والمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ﴾ [النحل: ١٢٥]، وقالَ تَعالى: ﴿ولا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ﴾ [الأنعام: ١٠٨]، ﴿وإذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرامًا﴾ [الفرقان: ٧٢]، ﴿وأعْرِضْ عَنِ الجاهِلِينَ﴾ [الأعراف: ١٩٩] . ومَن قالَ: لا يَكُونُ القَوْلُ الحَسَنُ مَعَ الكُفّارِ والفُسّاقِ، اسْتَدَلَّ بِأنّا أُمِرْنا بِلَعْنِهِمْ وذَمِّهِمْ ومُحارَبَتِهِمْ، وبُقُولِهِ تَعالى: (p-٢٨٧)﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إلّا مَن ظُلِمَ﴾ [النساء: ١٤٨] . ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾: إنْ كانَ هَذا الخِطابُ لِلْمُؤْمِنِينَ، فَيَكُونُ مِن تَلْوِينِ الخِطابِ. وقَدْ تَقَدَّمَ الكَلامُ عَلى تَفْسِيرِ هاتَيْنِ الجُمْلَتَيْنِ. وإنْ كانَ هَذا الخِطابُ لِبَنِي إسْرائِيلَ، وهو الظّاهِرُ؛ لِأنَّ ما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ، فالصَّلاةُ هي الَّتِي أُمِرُوا بِها في التَّوْراةِ، وهم إلى الآنَ مُسْتَمِرُّونَ عَلَيْها. ورُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ: أنَّ زَكاةَ أمْوالِهِمْ كانَتْ قُرْبانًا تَهْبِطُ إلَيْهِمْ نارٌ فَتَحْمِلُها، فَكانَ ذَلِكَ تَقَبُّلَهُ، وما لا تَفْعَلُ النّارُ ذَلِكَ بِهِ، كانَ غَيْرَ مُتَقَبَّلٍ. وقِيلَ: الصَّلاةُ هي هَذِهِ المَفْرُوضَةُ عَلَيْنا، والخِطابُ لِمَن بِحَضْرَةِ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن أبْناءِ اليَهُودِ، ويَحْتَمِلُ ذَلِكَ وجْهَيْنِ: أحَدُهُما: أنْ يَكُونَ أمْرُهم بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ أمْرًا بِالإسْلامِ. والثّانِي: عَلى قَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّ الكُفّارَ مُخاطَبُونَ بِفُرُوعِ الإيمانِ، والزَّكاةُ هي هَذِهِ المَفْرُوضَةُ، وقِيلَ: الصَّلاةُ والزَّكاةُ هُنا الطّاعَةُ لِلَّهِ وحْدَهُ. ومَعْنى هَذا القَوْلِ أنَّهُ كُنِّيَ عَنِ الطّاعَةِ لِلَّهِ تَعالى بِالصَّلاةِ والزَّكاةِ اللَّتَيْنِ هُما أعْظَمُ أرْكانِ الإسْلامِ. ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إلّا قَلِيلًا مِنكم وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾: ظاهِرُهُ أنَّهُ خِطابٌ لِبَنِي إسْرائِيلَ الَّذِينَ أخَذَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ المِيثاقَ. وقِيلَ: هو خِطابٌ لِمُعاصِرِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ مِن بَنِي إسْرائِيلَ، أسْنَدَ إلَيْهِمْ تَوَلِّيَ أسْلافِهِمْ، إذْ هم كُلُّهم بِتِلْكَ السَّبِيلِ، قالَ نَحْوَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ. والمَعْنى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ عَمّا أُخِذَ عَلَيْكم مِنَ المِيثاقِ، والمَعْنِيُّ بِالقَلِيلِ القَلِيلُ في عَدَدِ الأشْخاصِ. فَقِيلَ: هَذا القَلِيلُ هو عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلامٍ وأصْحابُهُ. وقِيلَ: مَن آمَنَ قَدِيمًا مِن أسْلافِهِمْ، وحَدِيثًا كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ وغَيْرِهِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ويُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ القِلَّةُ في الإيمانِ، أيْ لَمْ يَبْقَ حِينَ عَصَوْا وكَفَرَ آخِرُهم بِمُحَمَّدٍ ﷺ إلّا إيمانٌ قَلِيلٌ، إذْ لا يَنْفَعُهم، والأوَّلُ أقْوى. انْتَهى كَلامُهُ، وهو احْتِمالٌ بَعِيدٌ مِنَ اللَّفْظِ، إذِ الَّذِي يَتَبادَرُ إلَيْهِ الفَهْمُ إنَّما هو اسْتِثْناءُ أشْخاصٍ قَلِيلِينَ مِنَ الفاعِلِ الَّذِي هو الضَّمِيرُ في تَوَلَّيْتُمْ، ونَصْبُ: قَلِيلًا، عَلى الِاسْتِثْناءِ، وهو الأفْصَحُ؛ لِأنَّ قَبْلَهُ مُوجَبٌ. ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو أنَّهُ قَرَأ: إلّا قَلِيلٌ بِالرَّفْعِ. وقَرَأ بِذَلِكَ أيْضًا قَوْمٌ، قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وهَذا عَلى بَدَلِ قَلِيلٍ مِنَ الضَّمِيرِ في تَوَلَّيْتُمْ، وجازَ ذَلِكَ، يَعْنِي البَدَلَ، مَعَ أنَّ الكَلامَ لَمْ يَتَقَدَّمْ فِيهِ نَفْيٌ؛ لِأنَّ تَوَلَّيْتُمْ مَعْناهُ النَّفْيُ، كَأنَّهُ قالَ: لَمْ يَفُوا بِالمِيثاقِ إلّا قَلِيلٌ، انْتَهى كَلامُهُ. والَّذِي ذَكَرَ النَّحْوِيُّونَ أنَّ البَدَلَ مِنَ المُوجَبِ لا يَجُوزُ، لَوْ قُلْتَ: قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدٌ، بِالرَّفْعِ عَلى البَدَلِ، لَمْ يَجُزْ، قالُوا: لِأنَّ البَدَلَ يَحِلُّ مَحَلَّ المُبْدَلِ مِنهُ، فَلَوْ قُلْتَ: قامَ إلّا زَيْدٌ، لَمْ يَجُزْ لِأنَّ إلّا لا تَدْخُلُ في المُوجَبِ. وأمّا ما اعْتُلَّ بِهِ مِن تَسْوِيغِ ذَلِكَ؛ لِأنَّ مَعْنى تَوَلَّيْتُمُ النَّفْيُ، كَأنَّهُ قِيلَ: لَمْ يَفُوا إلّا قَلِيلٌ، فَلَيْسَ بِشَيْءٍ؛ لِأنَّ كُلَّ مُوجَبٍ، إذا أخَذْتَ في نَفْيِ نَقِيضِهِ أوْ ضِدِّهِ، كانَ كَذَلِكَ، فَلْيَجُزْ: قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدٌ؛ لِأنَّهُ يُؤَوَّلُ بِقَوْلِكَ: لَمْ تَجْلِسُوا إلّا زَيْدٌ. ومَعَ ذَلِكَ لَمْ تَعْتَبِرِ العَرَبُ هَذا التَّأْوِيلَ، فَتَبْنِيَ عَلَيْهِ كَلامَها، وإنَّما أجازَ النَّحْوِيُّونَ: قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدٌ بِالرَّفْعِ، عَلى الصِّفَةِ. وقَدْ عَقَدَ سِيبَوَيْهِ في ذَلِكَ بابًا في كِتابِهِ فَقالَ: هَذا بابُ ما يَكُونُ فِيهِ إلّا وما بَعْدَهُ وصْفًا بِمَنزِلَةِ غَيْرٍ (p-٢٨٨)ومِثْلٍ. وذَكَرَ مِن أمْثِلَةِ هَذا البابِ: لَوْ كانَ مَعَنا رَجُلٌ إلّا زِيدٌ لَغَلَبْنا، ﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلّا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ [الأنبياء: ٢٢] . ؎وقَلِيلٌ بِها الأصْواتُ إلّا بُغامُها وسَوّى بَيْنَ هَذا، وبَيْنَ قِراءَةِ مَن قَرَأ: ﴿لا يَسْتَوِي القاعِدُونَ مِنَ المُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ﴾ [النساء: ٩٥]، بِرَفْعِ غَيْرٍ، وجُوِّزَ في نَحْوِ: ما قامَ القَوْمُ إلّا زِيدٌ، بِالرَّفْعِ البَدَلُ والصِّفَةُ، وخُرِّجَ عَلى ذَلِكَ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ: ؎وكُلُّ أخٍ مُفارِقُهُ أخُوهُ ∗∗∗ لَعَمْرُ أبِيكَ إلّا الفَرْقَدانِ قالَ: كَأنَّهُ قالَ: وكُلُّ أخٍ غَيْرُ الفَرْقَدَيْنِ مُفارِقُهُ أخُوهُ، كَما قالَ الشَّمّاخُ: ؎وكُلُّ خَلِيلٍ غَيْرُ هاضِمِ نَفْسِهِ ∗∗∗ لِوَصْلِ خَلِيلٍ صارِمٌ أوْ مُعارِزُ ومِمّا أنْشَدَهُ النَّحْوِيُّونَ: ؎لَدَمٌ ضائِعٌ نَأتْ أقْرَبُوهُ عَنْهُ ∗∗∗ إلّا الصَّبا وإلّا الجَنُوبُ وأنْشَدُوا أيْضًا: ؎وبِالصَّرِيمَةِ مِنهم مَنزِلٌ خَلِقٌ ∗∗∗ عافٍ تَغَيَّرَ إلّا النُّؤْيُ والوَتِدُ قالَ الأُسْتاذُ أبُو الحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: ويُخالِفُ الوَصْفُ بِإلّا الوَصْفَ بِغَيْرِهِ، مِن حَيْثُ إنَّها يُوصَفُ بِها النَّكِرَةُ والمَعْرِفَةُ والظّاهِرُ والمُضْمَرُ. وقالَ أيْضًا: وإنَّما يَعْنِي النَّحْوِيُّونَ بِالوَصْفِ بِإلّا عَطْفَ البَيانِ. وقالَ غَيْرُهُ: لا يُوصَفُ بِإلّا إلّا إذا كانَ المَوْصُوفُ نَكِرَةً أوْ مَعْرِفَةً بِلامِ الجِنْسِ. وقالَ المُبَرِّدُ: لا يُوصَفُ بِإلّا إلّا إذا كانَ الوَصْفُ في مَوْضِعٍ يَصْلُحُ فِيهِ البَدَلُ، وتَحْرِيرُ ذَلِكَ نَتَكَلَّمُ عَلَيْهِ في عِلْمِ النَّحْوِ، وإنَّما نَبَّهْنا عَلى أنَّ ما ذَهَبَ إلَيْهِ ابْنُ عَطِيَّةَ في تَخْرِيجِ هَذِهِ القِراءَةِ لَمْ يَذْهَبْ إلَيْهِ نَحْوِيٌّ. ومِن تَخْلِيطِ بَعْضِ المُعْرِبِينَ أنَّهُ أجازَ رَفْعَهُ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ، كَأنَّهُ قالَ: امْتَنَعَ قَلِيلٌ أنْ يَكُونَ تَوْكِيدًا لِلْمُضْمَرِ المَرْفُوعِ المُسْتَثْنى مِنهُ. ولَوْلا أنَّ هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ مُسَطَّرانِ في الكُتُبِ ما ذَكَرْتُهُما. وأجازَ بَعْضُهم أنْ يَكُونَ رَفْعُهُ عَلى الِابْتِداءِ، والخَبَرُ مَحْذُوفٌ، كَأنَّهُ قالَ: إلّا قَلِيلٌ مِنكم لَمْ يَتَوَلَّ، كَما قالُوا: ما مَرَرْتُ بِأحَدٍ إلّا رَجُلٌ مِن بَنِي تَمِيمٍ خَيْرٌ مِنهُ. وهَذِهِ أعارِيبُ مَن لَمْ يُمْعِنْ في النَّحْوِ. وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ: جُمْلَةٌ حالِيَّةٌ، قالُوا: مُؤَكِّدَةٌ. وهَذا قَوْلُ مَن جَعَلَ التَّوَلِّيَ هو الإعْراضَ بِعَيْنِهِ، ومَن خالَفَ بَيْنَهُما تَكُونُ الحالُ مُبَيِّنَةً، وكَذَلِكَ تَكُونُ مُبَيِّنَةً إذا اخْتَلَفَ مُتَعَلِّقُ التَّوَلِّي والإعْراضِ، كَما قالَ بَعْضُهم إنَّ مَعْناهُ: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ عَنْ عَهْدِ مِيثاقِكم وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ عَنْ هَذا النَّبِيِّ ﷺ وجاءَتِ الجُمْلَةُ الحالِيَّةُ اسْمِيَّةً مُصَدَّرَةً بِأنْتُمْ، لِأنَّها آكَدُ. وكانَ الخَبَرُ اسْمًا؛ لِأنَّهُ أدَلُّ عَلى الثُّبُوتِ، فَكَأنَّهُ قِيلَ: وأنْتُمْ عادَتُكُمُ الإعْراضُ عَنِ الحَقِّ والتَّوْلِيَةُ عَنْهُ. وفي المُواجَهَةِ بِأنْتُمْ تَقْبِيحٌ لِفِعْلِهِمْ وكَوْنِهِمُ ارْتَكَبُوا ذَلِكَ الفِعْلَ القَبِيحَ الَّذِي مِن شَأْنِهِ أنْ لا يَقَعَ، كَقَوْلِكَ: يُحْسِنُ إلَيْكَ زَيْدٌ وأنْتَ مُسِيءٌ إلَيْهِ، فَكَأنَّ المَعْنى: أنَّ مَن واثَقَهُ اللَّهُ وأخَذَ عَلَيْهِ العَهْدَ في أشْياءَ بِها انْتِظامُ دِينِهِ ودُنْياهُ، جَدِيرٌ أنْ يَثْبُتَ عَلى العَهْدِ، وأنْ لا يَنْقُضَهُ، ولا يُعْرِضَ عَنْهُ. وقِيلَ: التَّوَلِّي والإعْراضُ مَأْخُوذٌ مَن سُلُوكِ الطَّرِيقِ، ومَن تَرَكَ سُلُوكَ الطَّرِيقِ فَلَهُ حالَتانِ: إحْداهُما: أنْ يَرْجِعَ عَوْدُهُ عَلى بَدْئِهِ، وذَلِكَ هو التَّوَلِّي، والثّانِيَةُ: أنْ يَأْخُذَ في عَرْضِ الطَّرِيقِ، وذَلِكَ هو الإعْراضُ. وعَلى هَذا التَّفْسِيرِ في التَّوَلِّي والإعْراضِ لا يَكُونُ في الآيَةِ دَلِيلٌ عَلى الِاخْتِلافِ، إلّا إنْ قُصِدَ أنَّ ناسًا تَوَلَّوْا وناسًا أعْرَضُوا، وجَمَعَ ذَلِكَ لَهم، أوْ يَتَوَلَّوْنَ في وقْتٍ، ويُعْرِضُونَ في وقْتٍ. وقالَ القُشَيْرِيُّ: التَّعَبُّدُ بِهَذِهِ الخِصالِ حاصِلٌ لَنا في شَرْعِنا، وأوَّلُها التَّوْحِيدُ، وهو إفْرادُ اللَّهِ بِالعِبادَةِ والطّاعَةِ، ثُمَّ رَدَّكَ إلى مُراعاةِ حَقِّ مِثْلِكَ، إظْهارًا أنَّ مَن لا يَصْلُحُ لِصُحْبَةِ شَخْصٍ مِثْلِهِ، كَيْفَ يَقُومُ بِحَقِّ مَعْبُودٍ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ؟ فَإذا كانَتِ التَّرْبِيَةُ المُتَضَمِّنَةُ حُقُوقَ الوالِدَيْنِ تُوجِبُ عَظِيمَ هَذا الحَقِّ، فَما حَقُّ تَرْبِيَةِ سَيِّدِكَ لَكَ ؟ كَيْفَ تُؤَدِّي شُكْرَهُ ؟ ثُمَّ ذَكَرَ عُمُومَ رَحْمَتِهِ لِذِي القُرْبى، (p-٢٨٩)واليَتامى والمَساكِينِ، وأنْ يَقُولَ لِلنّاسِ حُسْنًا. وحَقِيقَةُ العُبُودِيَّةِ الصِّدْقُ مَعَ الحَقِّ، والرِّفْقُ مَعَ الخَلْقِ. انْتَهى، وبَعْضُهُ مُخْتَصَرٌ. وقالَ بَعْضُ أهْلِ الإشاراتِ: الأسْبابُ المُتَقَرَّبُ بِها إلى اللَّهِ تَعالى: اعْتِقادٌ وقَوْلٌ وعَمَلٌ ونِيَّةٌ. فَنَبَّهَ بِقَوْلِهِ: ﴿لا تَعْبُدُونَ إلّا اللَّهَ﴾، عَلى مَقامِ التَّوْحِيدِ، واعْتِقادِ ما يَجِبُ لَهُ عَلى عِبادِهِ مِنَ الطّاعاتِ والخُضُوعِ مُنْفَرِدًا بِذَلِكَ، ومالِيَّةٌ مَحْضَةٌ وهي: الزَّكاةُ، وبَدَنِيَّةٌ مَحْضَةٌ وهي: الصَّلاةُ، وبَدَنِيَّةٌ ومالِيَّةٌ وهو: بِرُّ الوالِدَيْنِ والإحْسانُ إلى اليَتِيمِ والمِسْكِينِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب