الباحث القرآني

﴿وإذْ أخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إسْرائِيلَ﴾ شُرُوعٌ في تَعْدادِ بَعْضِ آخَرَ مِن قَبائِحِ أسْلافِ اليَهُودِ مِمّا يُنادِي بِاسْتِبْعادِ إيمانِ أخْلافِهِمْ، وقِيلَ: إنَّهُ نَوْعٌ آخَرُ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي خَصَّهُمُ اللَّهُ تَعالى بِها، وذَلِكَ لِأنَّ التَّكْلِيفَ بِهَذِهِ الأشْياءِ مُوَصِّلٌ إلى أعْظَمِ النِّعَمِ، وهو الجَنَّةُ، والمُوَصِّلُ إلى النِّعْمَةِ نِعْمَةٌ، وهَذا المِيثاقُ ما أُخِذَ عَلَيْهِمْ عَلى لِسانِ مُوسى وغَيْرِهِ مِن أنْبِيائِهِمْ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، أوْ مِيثاقٌ أُخِذَ عَلَيْهِمْ في التَّوْراةِ، وقَوْلُ مَكِّيٍّ: إنَّهُ مِيثاقٌ أخَذَهُ اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِمْ، وهم في أصْلابِ آبائِهِمْ كالذَّرِّ، لا يُظْهِرُهم وجْهُهُ هُنا. ﴿لا تَعْبُدُونَ إلا اللَّهَ﴾ عَلى إرادَةِ القَوْلِ، أيْ قُلْنا، أوْ قائِلِينَ، لِيَرْتَبِطَ بِما قَبْلَهُ، وهو إخْبارٌ في مَعْنى النَّهْيِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا يُضارَّ كاتِبٌ ولا شَهِيدٌ﴾ وكَما تَقُولُ: تَذْهَبُ إلى فُلانٍ، وتَقُولُ لَهُ كَيْتَ وكَيْتَ، وإلى ذَلِكَ ذَهَبَ الفَرّاءُ، ويُرَجِّحُهُ أنَّهُ أبْلَغُ مِن صَرِيحِ النَّهْيِ لِما فِيهِ مِن إيهامِ أنَّ المَنهِيَّ كَأنَّهُ سارَعَ إلى ذَلِكَ، فَوَقَعَ مِنهُ حَتّى أخْبَرَ عَنْهُ بِالحالِ، أوِ الماضِي، أيْ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، فَلا يَرُدُّ أنَّ حالَ المُخْبَرِ عَنْهُ عَلى خِلافِهِ، وأنَّهُ قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ (لا تَعْبُدُوا) عَلى النَّهْيِ، وأنَّ (قُولُوا) عُطِفَ عَلَيْهِ، فَيَحْصُلُ التَّناسُبُ المَعْنَوِيُّ بَيْنَهُما في كَوْنِهِما إنْشاءً، وإنْ كانَ يَجُوزُ عَطْفُ الإنْشاءِ عَلى الإخْبارِ فِيما لَهُ مَحَلٌّ مِنَ الإعْرابِ، وقِيلَ: تَقْدِيرُهُ أنْ لا تَعْبُدُوا، فَلَمّا حُذِفَ النّاصِبُ ارْتَفَعَ الفِعْلُ، ولا يَجِبُ الرَّفْعُ بَعْدَ الحَذْفِ في مِثْلِ ذَلِكَ خِلافًا لِبَعْضِهِمْ، وإلى هَذا ذَهَبَ الأخْفَشُ، ونَظِيرُهُ مِن نَثْرِ العَرَبِ: (p-308)مُرْهُ يَحْفِرُها، ومِن نَظْمِها: ؎ألا أيُّها الزّاجِرِي احْضُرِ الوَغى وإنْ أشْهَدِ اللَّذّاتِ هَلْ أنْتَ مُخَلِّدِي ويُؤَيِّدُ هَذا قِراءَةُ (أنْ لا تَعْبُدُوا) ويُضَعِّفُهُ أنَّ (أنْ) لا تُحْذَفُ قِياسًا في مَواضِعَ لَيْسَ هَذا مِنها، فَلا يَنْبَغِي تَخْرِيجُ الآيَةِ عَلَيْهِ، وعَلى تَخْرِيجِها عَلَيْهِ فَهو مَصْدَرٌ مُؤَوَّلٌ بَدَلٌ مِنَ المِيثاقِ، أوْ مَفْعُولٌ بِهِ بِحَذْفِ حَرْفِ الجَرِّ، أيْ بِأنْ لا، أوْ عَلى أنْ لا، وقِيلَ: إنَّهُ جَوابُ قَسَمٍ دَلَّ عَلَيْهِ الكَلامُ، أيْ حَلَّفْناهم لا تَعْبُدُونَ، أوْ جَوابُ المِيثاقِ نَفْسِهِ، لِأنَّ لَهُ حُكْمَ القَسَمِ، وعَلَيْهِ يَخْلُو الكَلامُ عَمّا مَرَّ في وجْهِ رُجْحانِ الأوَّلِ، وقَرَأ نافِعٌ، وابْنُ عامِرٍ، وأبُو عَمْرٍو، وعاصِمٌ، ويَعْقُوبُ بِالتّاءِ حِكايَةً لِما خُوطِبُوا بِهِ، والباقُونَ بِالياءِ لِأنَّهم غَيْبٌ، وفي الآيَةِ حِينَئِذٍ التِفاتانِ، في لَفْظِ الجَلالَةِ و(يَعْبُدُونَ). ﴿وبِالوالِدَيْنِ إحْسانًا﴾ مُتَعَلِّقٌ بِمُضْمَرٍ تَقْدِيرُهُ: وتُحْسِنُونَ، أوْ أحْسِنُوا، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى (تَعْبُدُونَ)، وجُوِّزَ تَعَلُّقُهُ بِإحْسانًا، وهو يَتَعَدّى بِالباءِ، وإلى، كَـ ﴿أحْسَنَ بِي إذْ أخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ﴾ و﴿وأحْسِنْ كَما أحْسَنَ اللَّهُ إلَيْكَ﴾ ومَنعُ تَقَدُّمِ مَعْمُولِ المَصْدَرِ عَلَيْهِ مُطْلَقًا مَمْنُوعٌ، ومِنَ المُعْرِبِينَ مَن قَدَّرَ اسْتَوْصُوا، (فَبِالوالِدَيْنِ) مُتَعَلِّقٌ بِهِ، (وإحْسانًا) مَفْعُولُهُ، ومِنهم مَن قَدَّرَ: ووَصَّيْناهُمْ، فَإحْسانًا مَفْعُولٌ لِأجْلِهِ، والوالِدانِ تَثْنِيَةُ والِدٍ، لِأنَّهُ يُطْلَقُ عَلى الأبِ، والأُمِّ، أوْ تَغْلِيبٌ بِناءً عَلى أنَّهُ لا يُقالُ إلّا لِلْأبِ، كَما ذَهَبَ إلَيْهِ الحَلَبِيُّ، وقَدْ دَلَّتِ الآيَةُ عَلى الحَثِّ بِبِرِّ الوالِدَيْنِ، وإكْرامِهِما، والآياتُ والأحادِيثُ في ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، وناهِيكَ احْتِفالًا بِهِما، أنَّ اللَّهَ عَزَّ اسْمُهُ قَرَنَ ذَلِكَ بِعِبادَتِهِ، ﴿وذِي القُرْبى واليَتامى والمَساكِينِ﴾ عَطْفٌ عَلى الوالِدَيْنِ، والقُرْبى مَصْدَرٌ كالرُّجْعى، والألِفُ فِيهِ لِلتَّأْنِيثِ، وهي قَرابَةُ الرَّحِمِ والصُّلْبِ، واليَتامى وزْنُهُ فَعالى، وألِفُهُ لِلتَّأْنِيثِ، وهو جَمْعُ يَتِيمٍ كَنَدِيمِ ونَدامى، ولا يَنْقاسُ، ويُجْمَعُ عَلى أيْتامٍ، واليُتْمُ أصْلٌ مَعْناهُ الِانْفِرادُ، ومِنهُ الدُّرَّةُ اليَتِيمَةُ، وقالَ ثَعْلَبٌ: الغَفْلَةُ، وسُمِّيَ اليَتِيمُ يَتِيمًا لِأنَّهُ يُتَغافَلُ عَنْ بِرِّهِ، وقالَ أبُو عَمْرٍو: الإبْطاءُ لِإبْطاءِ البِرِّ عَنْهُ، وهو في الآدَمِيِّينَ مِن قِبَلِ الآباءِ، ولا يُتْمَ بَعْدَ بُلُوغٍ، وفي البَهائِمِ مِن قِبَلِ الأُمَّهاتِ، وفي الطُّيُورِ مِن جِهَتِهِما، وحَكى الماوَرْدِيُّ أنَّهُ يُقالُ في الآدَمِيِّينَ لِمَن فُقِدَتْ أُمُّهُ أيْضًا، والأوَّلُ هو المَعْرُوفُ، والمَساكِينُ جَمْعُ مِسْكِينٍ عَلى وزْنِ مِفْعِيلٍ، مُشْتَقٌّ مِنَ السُّكُونِ كَأنَّ الحاجَةَ أسْكَنَتْهُ، فالمِيمُ زائِدَةٌ كَمَحْضَرٍ، مِنَ الحُضُورِ، ورُوِيَ تَمَسْكَنَ فُلانٌ، والأصَحُّ تَسَكَّنَ أيْ صارَ مِسْكِينًا، والفَرْقُ بَيْنَهُ وبَيْنَ الفَقِيرِ مَعْرُوفٌ، وسَيَأْتِي إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى، وقَدْ جاءَ هَذا التَّرْتِيبُ اعْتِناءً بِالأوْكَدِ فالأوْكَدِ، فَبَدَأ بِالوالِدَيْنِ إذْ لا يَخْفى تَقَدُّمُهُما عَلى كُلِّ أحَدٍ في الإحْسانِ إلَيْهِما، ثُمَّ بِذِي القُرْبى، لِأنَّ صِلَةَ الأرْحامِ مُؤَكَّدَةٌ، ولِمُشارَكَةِ الوالِدَيْنِ في القَرابَةِ، وكَوْنِهِما مَنشَأً لَها، وقَدْ ورَدَ في الأثَرِ: إنَّ اللَّهَ تَعالى خاطَبَ الرَّحِمَ فَقالَ: «(أنْتِ الرَّحِمُ، وأنا الرَّحْمَنُ، أصِلُ مَن وصَلَكِ، وأقْطَعُ مَن قَطَعَكِ)،» ثُمَّ بِاليَتامى، لِأنَّهم لا قُدْرَةَ لَهم تامَّةً عَلى الِاكْتِسابِ، وقَدْ جاءَ «(أنا وكافِلُ اليَتِيمِ في الجَنَّةِ كَهاتَيْنِ، وأشارَ ﷺ إلى السَّبّابَةِ والوُسْطى)،» وتَأخَّرَتْ دَرَجَةُ المَساكِينِ لِأنَّ المِسْكِينَ يُمْكِنُهُ أنْ يَتَعَهَّدَ نَفْسَهُ بِالِاسْتِخْدامِ، ويُصْلِحَ مَعِيشَتَهُ مَهْما أمْكَنَ بِخِلافِ اليَتِيمِ، فَإنَّهُ لِصِغَرِهِ لا يُنْتَفَعُ بِهِ، ويَحْتاجُ إلى مَن يَنْفَعُهُ، وأفْرَدَ ذِي القُرْبى، كَما في البَحْرِ، لِأنَّهُ أُرِيدَ بِهِ الجِنْسُ، ولِأنَّ إضافَتَهُ إلى المَصْدَرِ يَنْدَرِجُ فِيهِ كُلُّ ذِي قَرابَةٍ، وكَأنَّ فِيهِ إشارَةً إلى أنَّ ذَوِي القُرْبى، وإنْ كَثُرُوا كَشَيْءٍ واحِدٍ لا يَنْبَغِي أنْ يُضْجَرَ مِنَ الإحْسانِ إلَيْهِمْ، ﴿وقُولُوا لِلنّاسِ حُسْنًا﴾ أيْ قَوْلًا حَسَنًا، سَمّاهُ بِهِ لِلْمُبالَغَةِ، وقِيلَ: هو لُغَةٌ في الحُسْنِ، كالبُخْلِ، والبَخَلِ، والرُّشْدِ والرَّشَدِ، والعُرْبُ والعَرَبِ، والمُرادُ: قُولُوا لَهُمُ القَوْلَ الطَّيِّبَ، وجاوِبُوهم بِأحْسَنِ ما يُحِبُّونَ، قالَهُ أبُو العالِيَةِ، وقالَ سُفْيانُ الثَّوْرِيُّ: مُرُوهم بِالمَعْرُوفِ، وانْهُوهم (p-309)عَنِ المُنْكَرِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما: قُولُوا لَهُمْ: لا إلَهَ إلّا اللَّهُ، مُرُوهم بِها، وقالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: أعْلِمُوهم مِمّا في كِتابِكم مِن صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وقَوْلُ أبِي العالِيَةِ في المَرْتَبَةِ العالِيَةِ، والظّاهِرُ أنَّ هَذا الأمْرَ مِن جُمْلَةِ المِيثاقِ المَأْخُوذِ عَلى بَنِي إسْرائِيلَ، ومَن قالَ: إنَّ المُخاطَبَ بِهِ الأُمَّةُ، وهو مُحْكَمٌ، أوْ مَنسُوخٌ بِآيَةِ السَّيْفِ، أوْ إنَّ النّاسَ مَخْصُوصٌ بِصالِحِي المُؤْمِنِينَ، إذْ لا يَكُونُ القَوْلُ الحَسَنُ مَعَ الكُفّارِ والفُسّاقِ، لِأنّا أُمِرْنا بِلَعْنِهِمْ، وذَمِّهِمْ، ومُحارَبَتِهِمْ، فَقَدْ أبْعَدَ، وقَرَأ حَمْزَةُ، والكِسائِيُّ، ويَعْقُوبُ (حَسَنًا) بِفَتْحَتَيْنِ، وعَطاءٌ، وعِيسى بِضَمَّتَيْنِ، وهي لُغَةُ الحِجازِ، وأبُو طَلْحَةَ بْنُ مُصَرِّفٍ (حُسْنى) عَلى وزْنِ فُعْلى، واخْتُلِفَ في وجْهِهِ، فَقِيلَ: هو مَصْدَرٌ كَرُجْعى، واعْتَرَضَهُ أبُو حَيّانَ، بِأنَّهُ غَيْرُ مَقِيسٍ، ولَمْ يُسْمَعْ فِيهِ، وقِيلَ: هو صِفَةٌ كَحُبْلى، أيْ مَقالَةً أوْ كَلِمَةً حُسْنى، وفي الوَصْفِ بِها وجْهانِ: أحَدُهُما أنْ تَكُونَ باقِيَةً عَلى أنَّها لِلتَّفْضِيلِ، واسْتِعْمالُها بِغَيْرِ الألِفِ واللّامِ، والإضافَةِ لِلْمَعْرِفَةِ نادِرٌ، وقَدْ جاءَ ذَلِكَ في الشِّعْرِ كَقَوْلِهِ: ؎وإنْ دَعَوْتَ إلى جَلى ومَكْرُمَةٍ ∗∗∗ يَوْمًا كِرامَ سُراةِ النّاسِ فادْعِينا وثانِيهِما: أنْ تُجَرَّدَ عَنِ التَّفْضِيلِ فَتَكُونَ بِمَعْنى حَسَنَةٍ، كَما قالُوا ذَلِكَ فِي: يُوسُفُ أحْسَنُ إخْوَتِهِ، وقَرَأ الجَحْدَرِيُّ (إحْسانًا) عَلى أنَّهُ مَصْدَرُ أحْسَنَ الَّذِي هَمْزَتُهُ لِلصَّيْرُورَةِ، كَما تَقُولُ: أعْشَبَتِ الأرْضُ إعْشابًا، أيْ صارَتْ ذا عُشْبٍ، فَهو حِينَئِذٍ نَعَتٌ لِمَصْدَرٍ مَحْذُوفٍ، أيْ قَوْلًا ذا حُسْنٍ، ﴿وأقِيمُوا الصَّلاةَ وآتُوا الزَّكاةَ﴾ أرادَ سُبْحانَهُ بِهِما ما فُرِضَ عَلَيْهِمْ في مِلَّتِهِمْ، لِأنَّهُ حِكايَةٌ لِما وقَعَ في زَمانِ مُوسى عَلَيْهِ السَّلامُ، وكانَتْ زَكاةُ أمْوالِهِمْ كَما رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما قُرْبانًا تَهْبِطُ إلَيْها نارٌ فَتَحْمِلُها، وكانَ ذَلِكَ عَلامَةَ القَبُولِ، وما لا تَفْعَلُ النّارُ بِهِ كَذَلِكَ كانَ غَيْرَ مُتَقَبِّلٍ، والقَوْلُ بِأنَّ المُرادَ بِهِما هَذِهِ الصَّلاةُ، وهَذِهِ الزَّكاةُ المَفْرُوضَتانِ عَلَيْنا، والخِطابُ لِمَن بِحَضْرَةِ النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مِن أبْناءِ اليَهُودِ لا غَيْرُ، والأمْرُ بِهِما كِنايَةٌ عَنِ الأمْرِ بِالإسْلامِ، أوْ لِلْإيذانِ بِأنَّ الكُفّارَ مُخاطَبُونَ بِالفُرُوعِ أيْضًا لَيْسَ بِشَيْءٍ كَما لا يَخْفى، ﴿ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ﴾ أيْ أعْرَضْتُمْ عَنِ المِيثاقِ، ورَفَضْتُمُوهُ، وثُمَّ لِلِاسْتِبْعادِ، أوْ لِحَقِيقَةِ التَّراخِي، فَيَكُونُ تَوْبِيخًا لَهم بِالِارْتِدادِ بَعْدَ الِانْقِيادِ مُدَّةً مَدِيدَةً، وهو أشْنَعُ مِنَ العِصْيانِ مِنَ الأوَّلِ، وقَدْ ذَكَرَ بَعْضُ المُحَقِّقِينَ أنَّهُ إذا جُعِلَ ناصِبُ الظَّرْفِ خِطابًا لَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ والمُؤْمِنِينَ، فَهَذا التِفاتٌ إلى خِطابِ بَنِي إسْرائِيلَ جَمِيعًا بِتَغْلِيبِ أخْلافِهِمْ عَلى أسْلافِهِمْ، لِجَرَيانِ ذِكْرِهِمْ كُلِّهِمْ حِينَئِذٍ عَلى نَهْجِ الغَيْبَةِ، فَإنَّ الخِطاباتِ السّابِقَةَ لِلْأسْلافِ مَحْكِيَّةٌ بِالقَوْلِ المُقَدَّرِ قَبْلَ ﴿لا تَعْبُدُونَ﴾ كَأنَّهُمُ اسْتَحْضَرُوا عِنْدَ ذِكْرِ جِناياتِهِمْ فَنُعِيَتْ عَلَيْهِمْ، وإنْ جُعِلَ خِطابًا لِلْيَهُودِ المُعاصِرِينَ فَهَذا تَعْمِيمٌ لِلْخِطابِ بِتَنْزِيلِ الأسْلافِ مَنزِلَةَ الأخْلافِ، كَما أنَّهُ تَعْمِيمٌ لِلتَّوَلِّي بِتَنْزِيلِ الأخْلافِ مَنزِلَةَ الأسْلافِ لِلتَّشْدِيدِ في التَّوْبِيخِ، وقِيلَ: الِالتِفاتُ إنَّما يَجِيءُ عَلى قِراءَةِ (لا يَعْبُدُونَ) بِالغَيْبَةِ، وأمّا عَلى قِراءَةِ الخِطابِ فَلا التِفاتَ، ومِنَ النّاسِ مَن جَعَلَ هَذا الخِطابَ خاصًّا بِالحاضِرِينَ في زَمَنِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وما تَقَدَّمَ خاصًّا بِمَن تَقَدَّمَ، وجَعَلَ الِالتِفاتَ عَلى القِراءَتَيْنِ، لَكِنَّهُ بِالمَعْنى الغَيْرِ المُصْطَلَحِ عَلَيْهِ أنَّ كَوْنَ الِالتِفاتِ بَيْنَ خِطابَيْنِ لِاخْتِلافِهِما لَمْ يَقُلْ بِهِ أهْلُ المَعانِي، لَكِنَّهُ وقَعَ مِثْلُهُ في كَلامِ بَعْضِ الأُدَباءِ، وما ذَكَرْناهُ مِنَ التَّغْلِيبِ أوْلى وأحْرى خِلافًا لِمَنِ التَفَتَ عَنْهُ. ﴿إلا قَلِيلا مِنكُمْ﴾ وهم مِنَ الأسْلافِ مَن أقامَ اليَهُودِيَّةَ عَلى وجْهِها قَبْلَ النَّسْخِ، ومِنَ الأخْلافِ مَن أسْلَمَ كَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلامٍ، وأضْرابِهِ، فالقِلَّةُ في عَدَدِ الأشْخاصِ، وقَوْلُ ابْنِ عَطِيَّةَ: إنَّهُ يُحْتَمَلُ أنْ تَكُونَ في الإيمانِ، أيْ لَمْ (p-310)يَبْقَ حِينَ عَصَوْا وكَفَرَ آخِرُهم بِمُحَمَّدٍ ﷺ إلّا إيمانٌ قَلِيلٌ إذْ لا يَنْفَعُهُمْ، لا يَقْدَمُ عَلَيْهِ إلّا القَلِيلُ مِمَّنْ لَمْ يُعْطَ فَهْمًا في الألْفاظِ العَرَبِيَّةِ، ورُوِيَ عَنْ أبِي عَمْرٍو، وغَيْرِهِ رَفْعُ قَلِيلٍ، والكَثِيرُ المَشْهُورُ في أمْثالِ ذَلِكَ النَّصْبُ، لِأنَّ ما قَبْلَهُ مُوجِبٌ، واخْتَلَفُوا في تَخْرِيجِ الرَّفْعِ، فَقِيلَ: إنَّ المَرْفُوعَ تَأْكِيدٌ لِلضَّمِيرِ، أوْ بَدَلٌ مِنهُ، وجازَ لِأنَّ (تَوَلَّيْتُمْ)، في مَعْنى النَّفْيِ، أيْ لَمْ يَفُوا، وقَدْ خَرَّجَ غَيْرُ واحِدٍ قَوْلَهُ ﷺ: فِيما صَحَّ عَلى الصَّحِيحِ: «(العالَمُونَ هَلْكى إلّا العالِمُونَ، والعالِمُونَ هَلْكى إلّا العامِلُونَ، والعامِلُونَ هَلْكى إلّا المُخْلِصُونَ، والمُخْلِصُونَ عَلى خَطَرٍ)،» وقَوْلَ الشّاعِرِ: ؎وبِالصَّرِيمَةِ مِنهم مَنزِلٌ خَلِقٌ ∗∗∗ عافٍ تَغَيَّرَ إلّا النَّوْءُ والوَتَدُ عَلى ذَلِكَ، وقَوْلُ أبِي حَيّانَ إنَّهُ لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ ما مِن إثْباتٍ إلّا ويُمْكِنُ تَأْوِيلُهُ بِنَفْيٍ، فَيَلْزَمُ جَوازُ: قامَ القَوْمُ إلّا زَيْدٌ بِالرَّفْعِ عَلى التَّأْوِيلِ، والإبْدالِ، ولَمْ يُجَوِّزْهُ النَّحْوِيُّونَ، لَيْسَ بِشَيْءٍ كَما لا يَخْفى، وقِيلَ: إنَّ (إلّا) صِفَةٌ بِمَعْنى غَيْرُ، ظَهَرَ إعْرابُها فِيما بَعْدَها، وقَدْ عَقَدَ سِيبَوَيْهِ لِذَلِكَ بابًا في كِتابِهِ، فَقالَ: هَذا بابُ ما يَكُونُ فِيهِ إلّا، وما بَعْدَها وصْفًا بِمَنزِلَةِ غَيْرُ، ومَثَّلَ وذَكَرَ مِن أمْثِلَةِ هَذا البابِ: لَوْ كانَ مَعَنا رَجُلٌ إلّا زَيْدٌ لَغَلَبْنا، و﴿لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إلا اللَّهُ لَفَسَدَتا﴾ وقَوْلُهُ: ؎أيْنَخَتْ فَألْقَتْ بَلْدَةً فَوْقَ بَلْدَةٍ ∗∗∗ قَلِيلٍ بِها الأصْواتُ إلّا بُغامُها وخُرِّجَ جَمْعُ جَمِيعِ ما سَلَفَ عَلى هَذا، وفِيهِ أنَّ ذَلِكَ فِيما نَحْنُ فِيهِ لا يَسْتَقِيمُ إلّا عَلى مَذْهَبِ ابْنِ عُصْفُورٍ، حَيْثُ ذَهَبَ إلى أنَّ الوَصْفَ بِإلّا يُخالِفُ الوَصْفَ بِغَيْرِها مِن حَيْثُ إنَّهُ يُوصَفُ بِها النَّكِرَةُ والمَعْرِفَةُ، والظّاهِرُ والمُضْمَرُ، وأمّا عَلى مَذْهَبِ غَيْرِهِ، وهو ابْنُ شاهِينَ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ مِن أنَّهُ لا يُوصَفُ بِها إلّا إذا كانَ المَوْصُوفُ نَكِرَةً أوْ مَعْرِفَةً بِلامِ الجِنْسِ، فَلا، والمُبَرِّدُ يَشْتَرِطُ في الوَصْفِ بِها صَلاحِيَّةَ البَدَلِ في مَوْضِعِهِ، وقِيلَ: إنَّهُ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ، أيْ لَمْ يَقُولُوا، ولا يَرُدُّ عَلَيْهِ شَيْءٌ مِمّا تَقَدَّمَ، إلّا أنَّ فِيهِ كَلامًا سَنَذْكُرُهُ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿إلا إبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ﴾ ﴿وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ جُمْلَةٌ مُعْتَرِضَةٌ أيْ وأنْتُمْ قَوْمٌ عادَتُكُمُ الإعْراضُ، والتَّوَلِّي عَنِ المَواثِيقِ، ويُؤْخَذُ كَوْنُهُ عادَتَهم مِنَ الِاسْمِيَّةِ الدّالَّةِ عَلى الثُّبُوتِ، وقِيلَ: حالٌ مُؤَكِّدَةٌ، والتَّوَلِّي والإعْراضُ شَيْءٌ واحِدٌ، ويَجُوزُ فَصْلُ الحالِ المُؤَكِّدَةِ بِالواوِ عِنْدَ المُحَقِّقِينَ، وفَرَّقَ بَعْضُهم بَيْنَ التَّوَلِّي والإعْراضِ بِأنَّ الأوَّلَ قَدْ يَكُونُ لِحاجَةٍ تَدْعُو إلى الِانْصِرافِ مَعَ ثُبُوتِ العَقْدِ، والإعْراضُ هو الِانْصِرافُ عَنِ الشَّيْءِ بِالقَلْبِ، وقِيلَ: إنَّ التَّوَلِّيَ أنْ يَرْجِعَ عَوْدُهُ إلى بَدْئِهِ، والإعْراضُ أنْ يَتْرُكَ المَنهَجَ ويَأْخُذَ في عُرْضِ الطَّرِيقِ، والمُتَوَلِّي أقْرَبُ أمْرًا مِنَ المُعْرِضِ، لِأنَّهُ مَتى عَزَمَ سَهُلَ عَلَيْهِ العَوْدُ إلى سُلُوكِ المَنهَجِ، والمُعْرِضُ حَيْثُ تَرَكَ المَنهَجَ وأخَذَ في عُرْضِ الطَّرِيقِ يَحْتاجُ إلى طَلَبِ مَنهَجِهِ، فَيَعْسُرُ عَلَيْهِ العَوْدُ إلَيْهِ. ومِنَ النّاسِ مَن جَوَّزَ أنْ يَكُونَ مُعْرِضُونَ عَلى ظاهِرِهِ، والجُمْلَةُ حالٌ مُقَيَّدَةٌ، أيْ لَمْ يَتَوَلَّ القَلِيلُ ﴿وأنْتُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عَنْهم ساخِطُونَ لَهُمْ، فَيَكُونُ في ذَلِكَ مَزِيدُ تَوْبِيخٍ لَهُمْ، ومَدْحًا لِلْقَلِيلِ، فَهو بَعِيدٌ، كالقَوْلِ بِأنَّها مُقَيَّدَةٌ، ومُتَعَلِّقُ التَّوَلِّي والإعْراضِ مُخْتَلِفٌ، أيْ تَوَلَّيْتُمْ عَلى المُضِيِّ في المِيثاقِ وأعْرَضْتُمْ عَنِ اتِّباعِ هَذا النَّبِيِّ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب