(لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضاً) مستأنفة مقررة لما قبلها أي لا تجعلوا دعوته إياكم كالدعاء من بعضكم لبعض في التساهل في بعض الأحوال عن الإجابة بل أجيبوه فوراً وإن كنتم في الصلاة أو الرجوع بعير استئذان أو رفع الصوت وقال سعيد بن جبير ومجاهد: المعنى قولوا يا رسول الله برفق ولين ولا تقولوا يا محمد بتجهم وعلى هذا جماعة كثيرة وقال قتادة: أمرهم أن يشرفوه ويفخموه، وقيل المعنى لا تتعرضوا الدعاء الرسول عليكم بإسخاطه فإن دعوته موجبة.
وقيل: المعنى يجب عليكم المبادرة لأمره، واختاره أبو العباس، ويؤيده قوله: (فليحذر الذين يخالفون عن أمره) وقيل معناه لا تجعلوا دعاء الرسول ربه مثل ما يدعو صغيركم، وكبيركم وفقيركم، وغنيكم، يسأله حاجة، فربما تجاب دعوته وربما لا تجاب فإن دعوات الرسول مسموعة مستجابة، وعن سعيد بن جبير في الآية قال: يعني كدعاء أحدكم إذا دعا أخاه باسمه، ولكن وقروه، وقولوا له: يا رسول الله؛ يا نبي الله، قال: لا تصيحوا به من بعيد: يا أبا القاسم!! ولكن كما قال الله في الحجرات: (إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله)، والأول أولى.
(قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً) أي: يخرجون وينسلون من المسجد في الخطبة واحداً بعد واحد، من غير استئذان، خفية مستترين بشيء، و (قد) للتحقيق، والتسلل: الخروج من البين في خفية. يقال: تسلل فلان من بين أصحابه، إذا خرج من بينهم، واللواذ من الملاوذة، وهو أن تستر بشيء مخافة من يراك؛ وأصله أن يلوذ هذا بذاك وذاك بهذا واللوذ ما يطيف بالجبل، وقيل اللواذ الروغان من شيء إلى شيء في خفية، أي متلاوذين، يلوذ بعضهم ببعض، وينضم إليه، وقيل: يلوذون لواذاً، وقرئ: لَوَاذ بفتح اللام.
وفي الآية بيان ما كان يقع من المنافقين، فإنهم كانوا يتسللون عن صلاة الجمعة متلاوذين ينضم بعضهم إلى بعض استتاراً من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد كان يوم الجمعة أثقل يوم على المنافقين لما يرون من الاجتماع للصلاة والخطبة، فكانوا يفرون عن الحضور ويتسللون في خفية، ويستتر بعضهم ببعض، وينضم إليه وقيل اللواذ الفرار من الجهاد، وبه قال الحسن عن مقاتل قال: كان لا يخرج أحد لرعاف أو إحداث حتى يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، يشير إليه بأصبعه التي تلي الإبهام، فيأذن له النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشير إليه بيده. وكان من المنافقين من يثقل عليه الخطبة، والجلوس في المسجد فكان إذا استأذن رجل من المسلمين قام المنافق إلى جنبه يستر به حتى يخرج، فأنزل الله هذه الآية، أخرجه أبو داود في مراسيله.
(فليحذر الذين يخالفون عن أمره) الفاء لترتيب ما بعدها على ما قبلها أي: يخالفون أمر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بترك العمل بمقتضاه، ويذهبون سمتاً خلاف سمته، وعُدِّيَ فعل المخالفة بعن، مع كونه متعدياً بنفسه لتضمينه، معنى الإعراض، أو الصد. وقيل الضمير لله سبحانه لأنه الآمر بالحقيقة. قال أبو عبيدة والأخفش (عن) زائدة هنا، وقال الخليل وسيبويه: ليست بزائدة، بل هي بمعنى: بعد كقوله: (ففسق عن أمر ربه)، أي: بعد أمر ربه، والأولى ما ذكرناه من التضمين.
(أن تصيبهم فتنة) أي: فليحذر المخالفون عن أمر الله، أو أمر رسوله، أو أمرهما جميعاً إصابة فتنة لهم، والفتنة هنا غير مقيدة بنوع من أنواع الفتن، وقيل: هي القتل. وقيل: الزلازل. وقيل: تسلط سلطان جائر. وقيل: الطبع على قلوبهم. وقيل: إسباغ النعم استدراجاً، أو محنة في الدنيا.
(أو يصيبهم عذاب أليم) أي: في الآخرة، كما أن الفتنة التي حذرهم من إصابتها لهم هي في الدنيا، وكلمة (أو) لمنع الخلو، قال القرطبي: احتج الفقهاء على أن الأمر للوجوب بهذه الآية، ووجه ذلك أن الله سبحانه حذرهم من مخالفة أمره، وتوعد بالعقاب عليها، بقوله: (أن تصيبهم فتنة) الآية، فيجب امتثال أمره، ويحرم مخالفته، والآية تشمل كل من خالف أمر الله، وأمر رسوله.
{"ayah":"لَّا تَجۡعَلُوا۟ دُعَاۤءَ ٱلرَّسُولِ بَیۡنَكُمۡ كَدُعَاۤءِ بَعۡضِكُم بَعۡضࣰاۚ قَدۡ یَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ یَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذࣰاۚ فَلۡیَحۡذَرِ ٱلَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦۤ أَن تُصِیبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ یُصِیبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ"}