الباحث القرآني

أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ﴾ المَعْنى تَعْظِيمًا لَكَ ورِعايَةً لِلْأدَبِ ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ورَسُولِهِ﴾ أيْ يَعْمَلُونَ بِمُوجَبِ الإيمانِ ومُقْتَضاهُ، قالَ الضَّحّاكُ ومُقاتِلٌ: المُرادُ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، وذَلِكَ لِأنَّهُ اسْتَأْذَنَ في غَزْوَةِ تَبُوكَ في الرُّجُوعِ إلى أهْلِهِ فَأذِنَ لَهُ وقالَ لَهُ: انْطَلِقْ فَواللَّهِ ما أنْتَ بِمُنافِقٍ. يُرِيدُ أنْ يُسْمِعَ المُنافِقِينَ ذَلِكَ الكَلامَ، فَلَمّا سَمِعُوا ذَلِكَ قالُوا: ما بالُ مُحَمَّدٍ إذا اسْتَأْذَنَهُ أصْحابُهُ أذِنَ لَهم، وإذا اسْتَأْذَنّاهُ لَمْ يَأْذَنْ لَنا فَواللَّهِ ما نَراهُ يَعْدِلُ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: «إنَّ عُمَرَ اسْتَأْذَنَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ في العُمْرَةِ فَأذِنَ لَهُ، ثم قال يا أبا حَفْصٍ لا تَنْسَنا مِن صالِحِ دُعائِكَ»، وفي قَوْلِهِ: ﴿واسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ﴾ وجْهانِ: أحَدُهُما: أنْ يَسْتَغْفِرَ لَهم تَنْبِيهًا عَلى أنَّ الأوْلى أنْ لا يَقَعَ الِاسْتِئْذانُ مِنهم وإنْ أذِنَ، لِأنَّ الِاسْتِغْفارَ يَدُلُّ عَلى الذَّنْبِ، ورُبَّما ذُكِرَ عِنْدَ بَعْضِ الرُّخَصِ. الثّانِي: يُحْتَمَلُ أنَّهُ تَعالى أمَرَهُ بِأنْ يَسْتَغْفِرَ لَهم مُقابَلَةً عَلى تَمَسُّكِهِمْ بِآدابِ اللَّهِ تَعالى في الِاسْتِئْذانِ. المسألة الثّانِيَةُ: قالَ قَتادَةُ: نَسَخَتْ هَذِهِ الآيَةُ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿لِمَ أذِنْتَ لَهُمْ﴾ [التَّوْبَةِ: ٤٣] . المسألة الثّالِثَةُ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّهُ سُبْحانَهُ فَوَّضَ إلى رَسُولِهِ بَعْضَ أمْرِ الدِّينِ لِيَجْتَهِدَ فِيهِ بِرَأْيِهِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكم كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا﴾ فَفِيهِ وُجُوهٌ: أحَدُهُما: - وهو اخْتِيارُ المُبَرِّدِ والقَفّالِ - ولا تَجْعَلُوا أمْرَهُ إيّاكم ودُعاءَهُ لَكم كَما يَكُونُ مِن بَعْضِكم لِبَعْضٍ، إذْ كانَ أمْرُهُ فَرْضًا لازِمًا، والَّذِي يَدُلُّ عَلى هَذا قَوْلُهُ عَقِيبَ هَذا ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ﴾ . وثانِيها: لا تُنادُوهُ كَما يُنادِي بَعْضُكم بَعْضًا يا مُحَمَّدُ، ولَكِنْ قُولُوا: يا رَسُولَ اللَّهِ، يا نَبِيَّ اللَّهِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ. وثالِثُها: لا تَرْفَعُوا أصْواتَكم في دُعائِهِ، وهو المُرادُ مِن قَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أصْواتَهم عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ﴾ [الحُجُراتِ: ٣] عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. ورابِعُها: احْذَرُوا دُعاءَ الرَّسُولِ عَلَيْكم إذا أسْخَطْتُمُوهُ فَإنَّ دُعاءَهُ مُوجِبٌ لَيْسَ كَدُعاءِ غَيْرِهِ، والوجه الأوَّلُ أقْرَبُ إلى نَظْمِ الآيَةِ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكم لِواذًا﴾ فالمَعْنى يَتَسَلَّلُونَ قَلِيلًا قَلِيلًا، ونَظِيرُ تَسَلَّلَ تَدَرَّجَ وتَدَخَّلَ، واللِّواذُ: المُلاوَذَةُ وهي أنْ يَلُوذَ هَذا بِذاكَ وذاكَ بِهَذا، يَعْنِي يَتَسَلَّلُونَ عَنِ الجَماعَةِ عَلى سَبِيلِ الخُفْيَةِ واسْتِتارِ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، ولِواذًا حالٌ أيْ مُلاوِذِينَ، وقِيلَ: كانَ بَعْضُهم يَلُوذُ بِالرَّجُلِ إذا اسْتَأْذَنَ فَيُؤْذَنُ لَهُ فَيَنْطَلِقُ الَّذِي لَمْ يُؤْذَنْ لَهُ مَعَهُ، وقُرِئَ ”لَواذًا“ بِالفَتْحِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا عَلى وُجُوهٍ: أحَدُها: قالَ مُقاتِلٌ: كانَ المُنافِقُونَ تُثْقِلُ عَلَيْهِمْ خُطْبَةُ النَّبِيِّ ﷺ يَوْمَ الجُمُعَةِ، فَيَلُوذُونَ بِبَعْضِ أصْحابِهِ، ويَخْرُجُونَ مِن غَيْرِ اسْتِئْذانٍ. وثانِيها: قالَ مُجاهِدٌ: يَتَسَلَّلُونَ مِنَ الصَّفِّ في القِتالِ. وثالِثُها: قالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: هَذا كانَ في حَفْرِ الخَنْدَقِ. ورابِعُها: يَتَسَلَّلُونَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وعَنْ كِتابِهِ وعَنْ ذِكْرِهِ، وقَوْلُهُ: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ﴾ مَعْناهُ التَّهْدِيدُ بِالمُجازاةِ. * * * (p-٣٦)أمّا قَوْلُهُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ﴾ فَفِيهِ مَسائِلُ: المسألة الأُولى: قالَ الأخْفَشُ: ”عَنْ“ صِلَةٌ والمَعْنى يُخالِفُونَ أمْرَهُ، وقالَ غَيْرُهُ: مَعْناهُ يُعْرِضُونَ عَنْ أمْرِهِ ويَمِيلُونَ عَنْ سُنَّتِهِ، فَدَخَلَتْ ”عَنْ“ لِتَضْمِينِ المُخالَفَةِ مَعْنى الإعْراضِ. المسألة الثّانِيَةُ: كَما تَقَدَّمَ ذِكْرُ الرَّسُولِ فَقَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعالى، لَكِنَّ القَصْدَ هو الرَّسُولُ فَإلَيْهِ تَرْجِعُ الكِنايَةُ، وقالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: الأظْهَرُ أنَّها لِلَّهِ تَعالى لِأنَّهُ يَلِيهِ، وحُكْمُ الكِنايَةِ رُجُوعُها إلى ما يَلِيها دُونَ ما تَقَدَّمَها. المسألة الثّالِثَةُ: الآيَةُ تَدُلُّ عَلى أنَّ ظاهِرَ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ، ووَجْهُ الِاسْتِدْلالِ بِهِ أنْ نَقُولَ: تارِكُ المَأْمُورِ بِهِ مُخالِفٌ لِذَلِكَ الأمْرِ، ومُخالِفُ الأمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقابِ، فَتارِكُ المَأْمُورِ بِهِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقابِ، ولا مَعْنًى لِلْوُجُوبِ إلّا ذَلِكَ، إنَّما قُلْنا إنَّ تارِكَ المَأْمُورِ بِهِ مُخالِفٌ لِذَلِكَ الأمْرِ؛ لِأنَّ مُوافَقَةَ الأمْرِ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِمُقْتَضاهُ، والمُخالَفَةُ ضِدُّ المُوافَقَةِ، فَكانَتْ مُخالَفَةُ الأمْرِ عِبارَةٌ عَنِ الإخْلالِ بِمُقْتَضاهُ، فَثَبَتَ أنَّ تارِكَ المَأْمُورِ بِهِ مُخالِفٌ، وإنَّما قُلْنا إنَّ مُخالِفَ الأمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقابِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ فَأمَرَ مُخالِفَ هَذا الأمْرِ بِالحَذَرِ عَنِ العِقابِ، والأمْرُ بِالحَذَرِ عَنِ العِقابِ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ قِيامِ المُقْتَضى لِنُزُولِ العِقابِ، فَثَبَتَ أنَّ مُخالِفَ أمْرِ اللَّهِ تَعالى أوْ أمْرِ رَسُولِهِ قَدْ وُجِدَ في حَقِّهِ ما يَقْتَضِي نُزُولَ العَذابِ، فَإنْ قِيلَ: لا نُسَلِّمُ أنَّ تارِكَ المَأْمُورِ بِهِ مُخالِفٌ لِلْأمْرِ، قَوْلُهُ مُوافَقَةُ الأمْرِ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِمُقْتَضاهُ، ومُخالَفَتُهُ عِبارَةٌ عَنِ الإخْلالِ بِمُقْتَضاهُ، قُلْنا لا نُسَلِّمُ أنَّ مُوافَقَةَ الأمْرِ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِمُقْتَضاهُ، فَما الدَّلِيلُ عَلَيْهِ ؟ ثُمَّ إنّا نُفَسِّرُ مُوافَقَةَ الأمْرِ بِتَفْسِيرَيْنِ: أحَدُهُما: أنَّ مُوافَقَةَ الأمْرِ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِما يَقْتَضِيهِ الأمْرُ عَلى الوجه الَّذِي يَقْتَضِيهِ الأمْرُ، فَإنَّ الأمْرَ لَوِ اقْتَضاهُ عَلى سَبِيلِ النَّدْبِ، وأنْتَ تَأْتِي بِهِ عَلى سَبِيلِ الوُجُوبِ، كانَ ذَلِكَ مُخالَفَةٌ لِلْأمْرِ. الثّانِي: أنَّ مُوافَقَةَ الأمْرِ عِبارَةٌ عَنِ الِاعْتِرافِ بِكَوْنِ ذَلِكَ الأمْرِ حَقًّا واجِبَ القَبُولِ، فَمُخالَفَتُهُ تَكُونُ عِبارَةً عَنْ إنْكارِ كَوْنِهِ حَقًّا واجِبَ القَبُولِ، سَلَّمْنا أنَّ ما ذَكَرْتَهُ يَدُلُّ عَلى أنَّ مُخالَفَةَ الأمْرِ عِبارَةٌ عَنْ تَرْكِ مُقْتَضاهُ لَكِنَّهُ مُعارَضٌ بِوُجُوهٍ أُخَرَ، وهو أنَّهُ لَوْ كانَ تَرْكُ المَأْمُورِ بِهِ مُخالَفَةٌ لِلْأمْرِ لَكانَ تَرْكُ المَندُوبِ لا مَحالَةَ مُخالَفَةٌ لِأمْرِ اللَّهِ تَعالى، وذَلِكَ باطِلٌ، وإلّا لاسْتَحَقَّ العِقابَ عَلى ما بَيَّنْتُمُوهُ في المُقَدِّمَةِ الثّانِيَةِ، سَلَّمْنا أنَّ تارِكَ المَأْمُورِ بِهِ مُخالِفٌ لِلْأمْرِ، فَلِمَ قُلْتَ إنَّ مُخالِفَ الأمْرِ مُسْتَحِقٌّ لِلْعِقابِ لِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ﴾ ؟ قُلْنا لا نُسَلِّمُ أنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أمْرِ مَن يَكُونُ مُخالِفًا لِلْأمْرِ بِالحَذَرِ، بَلْ هي دالَّةٌ عَلى الأمْرِ بِالحَذَرِ عَنْ مُخالَفَةِ الأمْرِ، فَلِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ كَذَلِكَ ؟ سَلَّمْنا ذَلِكَ لَكِنَّها دالَّةٌ عَلى أنَّ المُخالِفَ عَنِ الأمْرِ يَلْزَمُهُ الحَذَرُ، فَلِمَ قُلْتَ إنَّ مُخالِفَ الأمْرِ لا يَلْزَمُهُ الحَذَرُ ؟ فَإنْ قُلْتَ لَفْظَةُ ”عَنْ“ صِلَةٌ زائِدَةٌ، فَنَقُولُ: الأصْلُ في الكَلامِ لا سِيَّما في كَلامِ اللَّهِ تَعالى أنْ لا يَكُونَ زائِدًا، سَلَّمْنا دَلالَةَ الآيَةِ عَلى أنَّ مُخالِفَ أمْرِ اللَّهِ تَعالى مَأْمُورٌ بِالحَذَرِ عَنِ العَذابِ، فَلِمَ قُلْتَ إنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الحَذَرُ عَنِ العَذابِ ؟ أقْصى ما في البابِ أنَّهُ ورَدَ الأمْرُ بِهِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتَ إنَّ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ ؟ وهَذا أوَّلُ المسألة، فَإنْ قُلْتَ: هَبْ أنَّهُ لا يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الحَذَرِ، لَكِنْ لا بُدَّ وأنْ يَدُلَّ عَلى حُسْنِ الحَذَرِ، وحُسْنُ الحَذَرِ إنَّما يَكُونُ بَعْدَ قِيامِ المُقْتَضِي لِنُزُولِ العَذابِ. قُلْتُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ حُسْنَ الحَذَرِ مَشْرُوطٌ بِقِيامِ المُقْتَضِي لِنُزُولِ العَذابِ، بَلِ الحَذَرُ يَحْسُنُ عِنْدَ احْتِمالِ نُزُولِ العَذابِ؛ ولِهَذا يَحْسُنُ الِاحْتِياطُ، وعِنْدَنا مُجَرَّدُ الِاحْتِمالِ قائِمٌ لِأنَّ هَذِهِ المسألة احْتِمالِيَّةٌ لا قَطْعِيَّةٌ، سَلَّمْنا دَلالَةَ الآيَةِ عَلى وُجُودِ ما يَقْتَضِي نُزُولَ (p-٣٧)العِقابِ، لَكِنْ لا في كُلِّ أمْرٍ، بَلْ في أمْرٍ واحِدٍ؛ لِأنَّ قَوْلَهُ ﴿عَنْ أمْرِهِ﴾ لا يُفِيدُ إلّا أمْرًا واحِدًا، وعِنْدَنا أنَّ أمْرًا واحِدًا يُفِيدُ الوُجُوبَ، فَلِمَ قُلْتَ إنَّ كُلَّ أمْرٍ كَذَلِكَ ؟ سَلَّمْنا أنَّ كُلَّ أمْرٍ كَذَلِكَ، لَكِنَّ الضَّمِيرَ في قَوْلِهِ: ﴿عَنْ أمْرِهِ﴾ يُحْتَمَلُ عَوْدُهُ إلى اللَّهِ تَعالى، وعَوْدُهُ إلى الرَّسُولِ، والآيَةُ لا تَدُلُّ إلّا عَلى أنَّ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ في حَقِّ أحَدِهِما، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّهُ في حَقِّ الآخَرِ كَذَلِكَ ؟ الجَوابُ: قَوْلُهُ: لِمَ قُلْتُمْ إنَّ مُوافَقَةَ الأمْرِ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِمُقْتَضاهُ ؟ قُلْنا الدَّلِيلُ عَلَيْهِ أنَّ العَبْدَ إذا امْتَثَلَ أمْرَ السَّيِّدِ حَسُنَ أنْ يُقالَ: إنَّ هَذا العَبْدَ مُوافِقٌ لِلسَّيِّدِ، ويَجْرِي عَلى وفْقِ أمْرِهِ، ولَوْ لَمْ يَمْتَثِلْ أمْرَهُ يُقالُ: إنَّهُ ما وافَقَهُ بَلْ خالَفَهُ، وحُسْنُ هَذا الإطْلاقِ مَعْلُومٌ بِالضَّرُورَةِ مِن أهْلِ اللُّغَةِ، فَثَبَتَ أنَّ مُوافَقَةَ الأمْرِ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِمُقْتَضاهُ. قَوْلُهُ: المُوافَقَةُ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِما يَقْتَضِيهِ الأمْرُ عَلى الوجه الَّذِي يَقْتَضِيهِ الأمْرُ، قُلْنا: لَمّا سَلَّمْتُمْ أنَّ مُوافَقَةَ الأمْرِ لا تَحْصُلُ إلّا عِنْدَ الإتْيانِ بِمُقْتَضى الأمْرِ، فَنَقُولُ: لا شَكَّ أنَّ مُقْتَضى الأمْرِ هو الفِعْلُ لِأنَّ قَوْلَهُ: ”افْعَلْ“ لا يَدُلُّ إلّا عَلى اقْتِضاءِ الفِعْلِ، وإذا لَمْ يُوجَدِ الفِعْلُ لَمْ يُوجَدْ مُقْتَضى الأمْرِ، فَلا تُوجَدُ المُوافَقَةُ فَوَجَبَ حُصُولُ المُخالَفَةِ لِأنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ المُوافَقَةِ والمُخالَفَةِ واسِطَةٌ. قَوْلُهُ: ”المُوافَقَةُ“ عِبارَةٌ عَنِ اعْتِقادِ كَوْنِ ذَلِكَ الأمْرِ حَقًّا واجِبَ القَبُولِ، قُلْنا هَذا لا يَكُونُ مُوافَقَةً لِلْأمْرِ، بَلْ يَكُونُ مُوافَقَةً لِلدَّلِيلِ الدّالِّ عَلى أنَّ ذَلِكَ الأمْرَ حَقٌّ، فَإنَّ مُوافَقَةَ الشَّيْءِ عِبارَةٌ عَنِ الإتْيانِ بِما يَقْتَضِي تَقْرِيرَ مُقْتَضاهُ، فَإذا دَلَّ عَلى حَقِّيَّةِ الشَّيْءِ كانَ الِاعْتِرافُ بِحَقِّيَّتِهِ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ مُقْتَضى ذَلِكَ الدَّلِيلِ، أمّا الأمْرُ فَلَمّا اقْتَضى دُخُولَ الفِعْلِ في الوُجُودِ كانَتْ مُوافَقَتُهُ عِبارَةٌ عَمّا يُقَرِّرُ ذَلِكَ الدُّخُولَ، وإدْخالُهُ في الوُجُودِ يَقْتَضِي تَقْرِيرَ دُخُولِهِ في الوُجُودِ، فَكانَتْ مُوافَقَةُ الأمْرِ عِبارَةً عَنْ فِعْلِ مُقْتَضاهُ. قَوْلُهُ: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَكانَ تارِكُ المَندُوبِ مُخالِفًا فَوَجَبَ أنْ يَسْتَحِقَّ العِقابَ، قُلْنا: هَذا الإلْزامُ إنَّما يَصِحُّ أنْ لَوْ كانَ المَندُوبُ مَأْمُورًا بِهِ وهو مَمْنُوعٌ، قَوْلُهُ: لِمَ لا يَجُوزُ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ﴾ أمْرًا بِالحَذَرِ عَنِ المُخالِفِ لا أمْرًا لِلْمُخالِفِ بِالحَذَرِ ؟ قُلْنا: لَوْ كانَ كَذَلِكَ لَصارَ التَّقْدِيرُ فَلْيَحْذَرِ المُتَسَلِّلُونَ لِواذًا عَنِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ أمْرَهُ، وحِينَئِذٍ يَبْقى قَوْلُهُ: ﴿أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ ضائِعًا لِأنَّ الحَذَرَ لَيْسَ فِعْلًا يَتَعَدّى إلى مَفْعُولَيْنِ. قَوْلُهُ: كَلِمَةُ ”عَنْ“ لَيْسَتْ بِزائِدَةٍ، قُلْنا: ذَكَرْنا اخْتِلافَ النّاسِ فِيها في المسألة الأُولى. قَوْلُهُ: لِمَ قُلْتُمْ إنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَلْيَحْذَرِ﴾ يَدُلُّ عَلى وُجُوبِ الحَذَرِ عَنِ العِقابِ ؟ قُلْنا: لا نَدَّعِي وُجُوبَ الحَذَرِ، ولَكِنْ لا أقَلَّ مِن جَوازِ الحَذَرِ، وذَلِكَ مَشْرُوطٌ بِوُجُودِ ما يَقْتَضِي وُقُوعَ العِقابِ. قَوْلُهُ: لِمَ قُلْتَ إنَّ الآيَةَ تَدُلُّ عَلى أنَّ كُلَّ مُخالِفٍ لِلْأمْرِ يَسْتَحِقُّ العِقابَ ؟ قُلْنا: لِأنَّهُ تَعالى رَتَّبَ نُزُولَ العِقابِ عَلى المُخالَفَةِ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مُعَلَّلًا بِهِ، فَيَلْزَمُ عُمُومُهُ لِعُمُومِ العِلَّةِ. قَوْلُهُ هَبْ أنَّ أمْرَ اللَّهِ أوْ أمْرَ رَسُولِهِ لِلْوُجُوبِ، فَلِمَ قُلْتُمْ إنَّ الأمْرَ كَذَلِكَ ؟ قُلْنا: لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ واللَّهُ أعْلَمُ. * * * المسألة الرّابِعَةُ: مِنَ النّاسِ مَن قالَ: لَفْظُ الأمْرِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الأمْرِ القَوْلِيِّ، وبَيْنَ الشَّأْنِ والطَّرِيقِ، كَما يُقالُ أمْرُ فُلانٍ مُسْتَقِيمٌ، وإذا ثَبَتَ ذَلِكَ كانَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿عَنْ أمْرِهِ﴾ يَتَناوَلُ قَوْلَ الرَّسُولِ وفِعْلَهُ وطَرِيقَتَهُ، وذَلِكَ يَقْتَضِي أنَّ كُلَّ ما فَعَلَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يَكُونُ واجِبًا عَلَيْنا، وهَذِهِ المسألة مَبْنِيَّةٌ عَلى أنَّ الكِنايَةَ في قَوْلِهِ ﴿عَنْ أمْرِهِ﴾ راجِعَةٌ إلى النَّبِيِّ ﷺ، أمّا لَوْ كانَتْ راجِعَةً إلى اللَّهِ تَعالى فالبَحْثُ ساقِطٌ بِالكُلِّيَّةِ، وتَمامُ تَقْرِيرِ ذَلِكَ ذَكَرْناهُ في أُصُولِ الفِقْهِ، واللَّهُ أعْلَمُ. أمّا قَوْلُهُ تَعالى: ﴿أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ فالمُرادُ أنَّ مُخالَفَةَ الأمْرِ تُوجِبُ أحَدَ هَذَيْنِ (p-٣٨)الأمْرَيْنِ، والمُرادُ بِالفِتْنَةِ العُقُوبَةُ في الدُّنْيا، وبِالعَذابِ الألِيمِ عَذابُ الآخِرَةِ، وإنَّما رَدَّدَ اللَّهُ تَعالى حالَ ذَلِكَ المُخالِفِ بَيْنَ هَذَيْنِ الأمْرَيْنِ لِأنَّ ذَلِكَ المُخالِفَ قَدْ يَمُوتُ مِن دُونِ عِقابِ الدُّنْيا، وقَدْ يَعْرِضُ لَهُ ذَلِكَ في الدُّنْيا، فَلِهَذا السَّبَبِ أوْرَدَهُ تَعالى عَلى سَبِيلِ التَّرْدِيدِ، ثم قال الحَسَنُ: الفِتْنَةُ هي ظُهُورُ نِفاقِهِمْ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما: القَتْلُ. وقِيلَ: الزَّلازِلُ والأهْوالُ، وعَنْ جَعْفَرِ بْنِ مُحَمَّدٍ: يُسَلَّطُ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ جائِرٌ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب