فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَوْله تَعَالَى {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ} [النور: 63] فِيهِ مَسْأَلَةٌ بَدِيعَةٌ مِنْ الْعَرَبِيَّةِ، وَهِيَ أَنَّ الْمَصْدَرَ قَدْ يُضَافُ إلَى الْمَفْعُولِ، كَمَا يُضَافُ إلَى الْفَاعِلِ، تَقُولُ: أَعْجَبَنِي ضَرْبُ زَيْدٍ عَمْرُو، عَلَى الْأَوَّلِ، كَمَا تَقُولُ: كَرِهْت ضَرْبَ زَيْدٍ عَمْرًا، عَلَى الثَّانِي.
وَقَدْ جَهِلَ بَعْضُ الْأُدَبَاءِ هَذَا الْمِقْدَارَ، فَعَقَدَ فَصْلًا فِي تَرْغِيبِ النَّاسِ فِي الدُّعَاءِ قَالَ فِيهِ: فَاهْتَبِلُوا بِالدُّعَاءِ، وَابْتَهِلُوا بِرَفْعِ أَيْدِيكُمْ إلَى السَّمَاءِ، وَتَضَرَّعُوا إلَى مَالِكِ أَزِمَّةِ الْقَضَاءِ، فَإِنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان: 77] وَأَرَادَ لَوْلَا سُؤَالُكُمْ إيَّاهُ، وَطَلَبُكُمْ مِنْهُ، وَرَأَى أَنَّهُ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى فَاعِلٍ.
وَلَيْسَ كَمَا زَعَمَ، وَإِنَّمَا هُوَ مَصْدَرٌ أُضِيفَ إلَى الْمَفْعُولِ. وَالْمَعْنَى قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِلْكُفَّارِ: مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ بِبَعْثِهِ الرُّسُلَ إلَيْكُمْ، وَتَبْيِينِ الْأَدِلَّةِ لَكُمْ، فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ عَذَابُكُمْ لِزَامًا. الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
قَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ النَّاسِ: إنَّ الْمُرَادَ بِالْإِضَافَةِ هَاهُنَا إضَافَةُ الْمَصْدَرِ إلَى الْفَاعِلِ، وَيَكُونُ لِذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَعَانٍ: أَحَدُهَا: لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ بَيْنَكُمْ، فَإِنَّ إجَابَتَهُ وَاجِبَةٌ، وَلَيْسَتْ إجَابَتُكُمْ وَاجِبَةً. يَعْنِي عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَإِنَّمَا تَجِبُ إجَابَةُ الْخَلْقِ بِقَرَائِنَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ، أَوْ مِنْ حُقُوقِ الدَّاعِي. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ وُجُوبِ إجَابَةِ دُعَاءِ الرَّسُولِ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ.
وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ احْذَرُوا أَنْ تَتَفَرَّقُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيَدْعُوَ عَلَيْكُمْ، وَلَيْسَ دُعَاؤُهُ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا، فَإِنَّ دَعْوَتَهُ مُجَابَةٌ، وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنِّي عَاهَدْت رَبِّي عَهْدًا، قُلْت: اللَّهُمَّ إنِّي بَشَرٌ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُ الْبَشَرُ، فَأَيُّمَا رَجُلٍ لَعَنْتُهُ أَوْ سَبَبْتُهُ فَاجْعَلْ ذَلِكَ صَلَاةً عَلَيْهِ وَرَحْمَةً إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ».
الْمَعْنَى الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تُسَوُّوا بَيْنَ الرَّسُولِ وَبَيْنَكُمْ فِي الدَّعْوَةِ، كُلُّ أَحَدٍ يُدْعَى بِاسْمِهِ إلَّا رَسُولَ اللَّهِ فَإِنَّهُ يُدْعَى بِخُطَّتِهِ وَهِيَ الرِّسَالَةُ.
وَكَذَلِكَ قَالَ الْعُلَمَاءُ غَفِيرًا: إنَّ الْخَلِيفَةَ يُدْعَى بِهَا، وَالْأَمِيرَ وَالْمُعَلِّمَ، وَيُوَفَّرُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ حَظُّهُ مِنْ الْخُطَّةِ، فَيُدْعَى بِهَا قَصْدَ الْكَرَامَةِ.
[مَسْأَلَة الْأَمْرَ صَرِيحٌ فِي الِاقْتِضَاءِ وَالْوُجُوبُ]
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ قَوْله تَعَالَى {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]
بِهَذِهِ الْآيَةِ احْتَجَّ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْوُجُوبِ.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْأَمْرَ صَرِيحٌ فِي الِاقْتِضَاءِ، وَالْوُجُوبُ لَا يُؤْخَذُ مِنْ نَفْسِ الْأَمْرِ، وَإِنَّمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَوَجُّهِ اللَّوْمِ وَالذَّمِّ، فَالْأَمْرُ مُقْتَضٍ، وَاللَّوْمُ وَالذَّمُّ خَاتَمٌ، وَذِكْرُ الْعِقَابِ بِالثَّأْرِ مُكَبَّرٌ، يُعَدُّ بِهِ الْفِعْلُ فِي جُمْلَةِ الْكَبَائِرِ، فَلْيُنْظَرْ تَحْقِيقُهُ هُنَالِكَ.
وَقَدْ قَالَ جَمَاعَةٌ: إنَّ الْأَمْرَ هَاهُنَا بِمَعْنَى الْبَيَانِ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ وَالْمُخَالَفَةُ تَكُونُ بِالْقَوْلِ وَبِالْفِعْلِ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى أَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَفِعْلِهِ، فَإِنْ كَانَ وَاجِبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ حَرَامًا، وَإِنْ كَانَ الْأَمْرُ وَالْفِعْلُ نَدْبًا كَانَتْ الْمُخَالَفَةُ مَكْرُوهَةً، وَذَلِكَ يَتَرَتَّبُ عَلَى الْأَدِلَّةِ، وَيَنْسَاقُ بِمُقْتَضَى الْأَحْوَالِ وَالْأَسْبَابِ الْقَاضِيَةِ عَلَيْهِ بِذَلِكَ.
[مَسْأَلَة مَعْنَى قَوْله تَعَالَى أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ]
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي قَوْلِهِ: {أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} [النور: 63]
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: الْكُفْرُ.
الثَّانِي: الْعُقُوبَةُ.
الثَّالِثُ: بَلِيَّةٌ يَظْهَرُ بِهَا مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ النِّفَاقِ.
وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ صَحِيحَةٌ كُلُّهَا، وَلَكِنَّ مُتَعَلِّقَاتِهَا مُخْتَلِفَةٌ، فَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ تُوجِبُ الْكُفْرَ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْعَقَائِدِ، وَهُنَالِكَ مُخَالَفَةٌ هِيَ مَعْصِيَةٌ، وَذَلِكَ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِأَعْمَالِ الْجَوَارِحِ، حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِ أُصُولِ الدِّينِ وَالرَّدِّ عَلَى الْمُخَالِفِينَ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ وَالْمُلْحِدِينَ، وَرَتَّبْنَا مَنَازِلَ ذَلِكَ كُلِّهِ، وَمَسَاقَهُ وَمُتَعَلَّقَهُ بِدَلِيلِهِ.
وَقَدْ أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ الْقَاسِمِ الْأَزْدِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْعَتِيقِيُّ، أَنْبَأَنَا أَبُو عُمَرَ مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ بْنِ حَيْوَةَ، حَدَّثَنَا جُرْهُمِيُّ بْنُ أَبِي الْعَلَاءِ قَالَ: سَمِعْت الزُّبَيْرَ بْنَ بَكَّارٍ يَقُولُ: سَمِعْت سُفْيَانَ بْنَ عُيَيْنَةَ يَقُولُ: سَمِعْت مَالِكَ بْنَ أَنَسٍ، وَأَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مِنْ أَيْنَ أُحْرِمُ؟ قَالَ: مِنْ ذِي الْحُلَيْفَةِ مِنْ حَيْثُ أَحْرَمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. فَقَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ. فَقَالَ: لَا تَفْعَلْ. قَالَ: إنِّي أُرِيدُ أَنْ أُحْرِمَ مِنْ الْمَسْجِدِ مِنْ عِنْدِ الْقَبْرِ. قَالَ: لَا تَفْعَلْ، فَإِنِّي أَخْشَى عَلَيْك الْفِتْنَةَ. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ فِي هَذَا؟ إنَّمَا هِيَ أَمْيَالٌ أَزِيدُهَا. قَالَ: وَأَيُّ فِتْنَةٍ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ تَرَى أَنَّك سَبَقْت إلَى فَضِيلَةٍ قَصَّرَ عَنْهَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، إنِّي سَمِعْتُ اللَّهَ يَقُولُ: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: 63] وَثَبَتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «افْتَرَقَتْ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى إحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ، إلَّا وَاحِدَةً. قِيلَ: مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي».
وَاَللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلْعِصْمَةِ بِالطَّاعَةِ وَالْمُتَابَعَةِ فِي الْأُلْفَةِ، فَإِنَّ يَدَ اللَّهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، كَمَا قَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
{"ayah":"لَّا تَجۡعَلُوا۟ دُعَاۤءَ ٱلرَّسُولِ بَیۡنَكُمۡ كَدُعَاۤءِ بَعۡضِكُم بَعۡضࣰاۚ قَدۡ یَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ یَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذࣰاۚ فَلۡیَحۡذَرِ ٱلَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦۤ أَن تُصِیبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ یُصِیبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ"}