الباحث القرآني

و ﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكم كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا﴾ اسْتِئْنافٌ مُقَرَّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلِهِ، والِالتِفاتُ لِإبْرازِ مَزِيدِ الِاعْتِناءِ بِشَأْنِهِ أيْ لا تَقِيسُوا دُعاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ إيّاكم عَلى دُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا في حالٍ مِنَ الأحْوالِ وأمْرٍ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها المُساهَلَةُ فِيهِ والرُّجُوعُ عَنْ مَجْلِسِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِغَيْرِ اسْتِئْذانٍ فَإنَّ ذَلِكَ مِنَ المُحَرَّماتِ، وإلى نَحْوِ هَذا ذَهَبَ أبُو مُسْلِمٍ واخْتارَهُ المِبْرَدُ والقَفّالُ وقِيلَ: المَعْنى لا تَحْسَبُوا دُعاءَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عَلَيْكم كَدُعاءِ بَعْضِكم (p-225)عَلى بَعْضٍ فَتَعْرِضُوا لِسُخْطِهِ ودُعائِهِ عَلَيْكم عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ بِمُخالَفَةِ أمْرِهِ والرُّجُوعِ عَنْ مَجْلِسِهِ بِغَيْرِ اسْتِئْذانٍ ونَحْوِ ذَلِكَ، وهو مَأْخُوذٌ مِمّا جاءَ في بَعْضِ الرِّواياتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُما ورُوِيَ عَنِ الشَّعْبِيِّ وتَعَقَّبَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بِأنَّ لَفْظَ الآيَةِ يَدْفَعُ هَذا المَعْنى، وكَأنَّهُ أرادَ أنَّ الظّاهِرَ عَلَيْهِ عَلى بَعْضٍ، وقِيلَ: إنَّهُ يَأْباهُ ﴿بَيْنَكُمْ﴾ وهو في حَيِّزِ المَنعِ، وقِيلَ: المَعْنى لا تَجْعَلُوا دُعاءَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ رَبَّهُ عَزَّ وجَلَّ كَدُعاءِ صَغِيرِكم كَبِيرِكم وفَقِيرِكم غَنِيِّكم يَسْألُهُ حاجَتَهُ فَرُبَّما أجابَهُ ورُبَّما رَدَّهُ فَإنَّ دُعاءَهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ مُسْتَجابٌ لا مَرَدَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَتَعْرِضُوا لِدُعائِهِ لَكم بِامْتِثالِ أمْرِهِ واسْتِئْذانِهِ عِنْدَ الِانْصِرافِ عَنْهُ إذا كُنْتُمْ مَعَهُ عَلى أمْرٍ جامِعٍ وتُحَقِّقُوا قَبُولَ اسْتِغْفارِهِ لَكم ولا تَتَعَرَّضُوا لِدُعائِهِ عَلَيْكم بِضِدِّ ذَلِكَ. ولا يَخْفى وجْهُ تَقْرِيرِ الجُمْلَةِ لِما قَبْلِها عَلى هَذَيْنَ القَوْلَيْنِ لَكِنْ بَحْثٌ في دَعْوى أنَّ جَمِيعَ دُعائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ مُسْتَجابٌ بِأنَّهُ قَدْ صَحَّ أنَّهُ صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ سَألَ اللَّهَ تَعالى في أُمَّتِهِ أنْ لا يُدِيقُ بَعْضُهم بَأْسَ بَعْضٍ فَمَنَعَهُ، وهو ظاهِرٌ في أنَّهُ قَدْ يَرُدُّ بَعْضَ دُعائِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ. وتَعَقَّبَ بِأنَّهُ كَيْفَ يَرُدُّ وقَدْ قالَ اللَّهُ تَعالى: ﴿ادْعُونِي أسْتَجِبْ لَكُمْ﴾ وفِي الحَدِيثِ ««إنَّ اللَّهَ تَعالى لا يَرُدُّ دُعاءَ المُؤْمِنِ وإنْ تَأخَّرَ»» وقَدْ قالَ الإمامُ السُّهَيْلِيُّ في الرَّوْضِ: الِاسْتِجابَةُ أقْسامٌ إمّا تَعْجِيلُ ما سالَ أوْ أنْ يَدَّخِرَ لَهُ خَيْرٌ مِمّا طَلَبَ أوْ يَصْرِفُ عَنْهُ مِنَ البَلاءِ بِقَدْرِ ما سالَ مِنَ الخَيْرِ، وقَدْ أعْطى صَلّى اللَّهُ تَعالى عَلَيْهِ وسَلَّمَ عِوَضًا مِن أنْ لا يُذِيقَ بَعْضُهم بَأْسِ بَعْضِ الشَّفاعَةِ وقالَ: ««أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْها في الآخِرَةِ عَذابُها في الدُّنْيا الزِّلْزالُ والفِتَنُ»» كَما في أبِي داوُدَ فَإذا كانَتِ الفِتْنَةُ سَبَبًا لِصَرْفِ عَذابِ الآخِرَةِ عَنِ الأُمَّةِ فَلا يُقالُ: ما أجابَ دُعاءَهُ ﷺ لِأنَّ عَدَمَ اسْتِجابَتِهِ أنْ لا يُعْطِي ما سَألَ أوْ لا يُعَوِّضُ عَنْهُ ما هو خَيْرٌ مِنهُ، والمُرادُ بِالمَنعِ في الحَدِيثِ مَنعُ ذَلِكَ بِخُصُوصِهِ لا عَدَمَ اسْتِجابَةِ الدُّعاءِ بِذَلِكَ بِالمَعْنى المَذْكُورِ، وتَمامِ الكَلامِ في هَذا المَقامِ يُطْلَبُ مِن مَحَلِّهِ. وقِيلَ: المَعْنى لا تَجْعَلُوا نِداءَهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ وتَسْمِيَتَهُ كَنِداءِ بَعْضِكم بَعْضًا بِاسْمِهِ ورَفْعِ الصَّوْتِ بِهِ والنِّداءِ وراءَ الحُجُراتِ ولَكِنْ بِلَقَبِهِ المُعَظَّمِ مِثْلِ يا نَبِيَّ اللَّهِ ويا رَسُولَ اللَّهِ مَعَ التَّوْقِيرِ والتَّواضُعِ وخَفْضِ الصَّوْتِ. أخْرَجَ ابْنُ أبِي حاتِمٍ وابْنُ مَرْدُويَهٍ وأبُو نَعِيمٍ في الدَّلائِلِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ قالَ: كانُوا يَقُولُونَ: يا مُحَمَّدُ يا أبا القاسِمِ فَنَهاهُمُ اللَّهُ تَعالى عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ: ﴿لا تَجْعَلُوا﴾ الآيَةَ إعْظامًا لِنَبِيِّهِ ﷺ فَقالُوا: يا نَبِيَّ اللَّهِ يا رَسُولَ اللَّهِ، ورُوِيَ نَحْوُ هَذا عَنْ قَتادَةَ والحَسَنِ وسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٍ وفي أحْكامِ القُرْآنِ لِلسُّيُوطِيَ أنَّ في هَذا النَّهْيِ تَحْرِيمُ نِدائِهِ ﷺ بِاسْمِهِ. والظّاهِرُ اسْتِمْرارُ ذَلِكَ بَعْدَ وفاتِهِ إلى الآنِ. وذَكَرَ الطَّبَرْسِيُّ أنَّ مِن جُمْلَةِ المَنهِيِّ عَنْهُ النِّداءُ بِيا ابْنَ عَبْدِ اللَّهِ فَإنَّهُ مِمّا يُنادِي بِهِ العَرَبُ بَعْضُهم بَعْضًا. وتَعَقَّبَ هَذا القَوْلُ بِأنَّ الآيَةَ عَلَيْهِ لا تُلائِمُ السِّباقَ واللَّحاقَ. وقالَ بَعْضُهُمْ: وجْهُ الِارْتِباطِ بِما قَبْلِها عَلَيْهِ الإرْشادُ إلى أنَّ الِاسْتِئْذانَ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بِقَوْلِهِمْ: يا رَسُولَ اللَّهِ إنّا نَسْتَأْذِنُكَ ونَحْوُهُ، وكَذا خِطابُ مَن مَعَهُ في أمْرٍ جامِعٍ إيّاهُ ﷺ يَنْبَغِي أنْ يَكُونَ بِنَحْوِ يا رَسُولَ اللَّهِ لا بِنَحْوِ يا مُحَمَّدُ، ويَكْفِي هَذا القَدْرُ مِنَ الِارْتِباطِ بِما قَبْلُ ولا حاجَةَ إلى بَيانِ المُناسِبَةِ بِأنَّ في كُلٍّ مِنهُما ما يُنافِي التَّعْظِيمَ اللّائِقَ بِشَأْنِهِ العَظِيمِ ﷺ، نَعَمِ الأظْهَرُ في مَعْنى الآيَةِ ما ذَكَرْناهُ أوَّلًا كَما لا يَخْفى. وقَرَأ الحَسَنُ ويَعْقُوبُ في رِوايَةِ «نَبِيِّكُمْ» بِنُونٍ مَفْتُوحَةٍ وباءٍ مَكْسُورَةٍ وياءٍ آخَرِ الحُرُوفِ مُشَدَّدَةٍ بَدَلِ ﴿بَيْنَكُمْ﴾ الظَّرْفُ في قِراءَةِ الجُمْهُورِ، وخَرَجَ عَلى أنَّهُ بَدَلٌ مِن ﴿الرَّسُولِ﴾ ولَمْ يُجْعَلْ نَعْتًا لَهُ لِأنَّهُ مُضافٌ إلى الضَّمِيرِ والمُضافُ إلَيْهِ في رُتْبَةِ العِلْمِ (p-226)وهُوَ أعْرَفُ مِنَ المُعَرَّفِ بِألْ ويُشْتَرَطُ في النَّعْتِ أنْ يَكُونَ دُونَ المَنعُوتِ أوْ مُساوِيًا لَهُ في التَّعْرِيفِ، وقالَ أبُو حَيّانَ: يَنْبَغِي أنْ يَجُوزَ النَّعْتُ لِأنَّ ﴿الرَّسُولِ﴾ قَدْ صارَ عِلْمًا بِالغَلَبَةِ كالبَيْتِ لِلْكَعْبَةِ فَقَدْ تَساوَيا في التَّعْرِيفِ. ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ﴾ وعِيدٌ لِمَن هو بِضِدٍّ أُولَئِكَ المُؤْمِنِينَ الَّذِينَ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّى يَسْتَأْذِنُوهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، والتَّسَلُّلُ الخُرُوجُ مِنَ البَيْنِ عَلى التَّدْرِيجِ والخُفْيَةِ، وقَدْ لِلتَّحْقِيقِ، وجَوَّزَ أنْ تَكُونَ لِتَقْلِيلِ المُتَسَلِّلِينَ في جَنْبِ مَعْلُوماتِهِ تَعالى وأنْ تَكُونَ لِلتَّكْثِيرِ إمّا حَقِيقَةً أوِ اسْتِعارَةً ضِدِّيَّةً، وقالَ أبُو حَيّانَ: إنَّ قَوْلَ بَعْضِ النُّحاةِ بِإفادَةِ قَدِ التَّكْثِيرُ إذا دَخَلَتْ عَلى المُضارِعِ غَيْرِ صَحِيحٍ وإنَّما التَّكْثِيرُ مَفْهُومٌ مِن سِياقِ الكَلامِ كَما في قَوْلِ زُهَيْرٍ: ؎أخِي ثِقَةٍ لا يَهْلَكُ الخَمْرُ مالَهُ ولَكِنَّهُ قَدْ يَهْلَكُ المالُ نائِلَهُ فَإنَّ سِياقَ الكَلامِ لِلْمَدْحِ يُفْهَمُ مِنهُ ذَلِكَ أيْ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ الجَماعَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلى خُفْيَةٍ ﴿لِواذًا﴾ أيْ مُلاوَذَةٍ بِأنْ يَسْتَتِرَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ حَتّى يَخْرُجَ. وأخْرَجَ أبُو داوُدَ في مَراسِيلِهِ عَنْ مُقاتِلٍ قالَ: كانَ لا يَخْرُجُ أحَدٌ لِرُعافٍ أوْ إحْداثٍ حَتّى يَسْتَأْذِنَ النَّبِيَّ ﷺ يُشِيرُ إلَيْهِ بِإصْبَعِهِ الَّتِي تَلِي الإبْهامَ فَيَأْذَنُ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ يُشِيرُ إلَيْهِ بِيَدِهِ وكانَ مِنَ المُنافِقِينَ مَن تَثْقُلُ عَلَيْهِ الخُطْبَةُ والجُلُوسُ في المَسْجِدِ فَكانَ إذا اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ قامَ المُنافِقُ إلى جَنْبِهِ يَسْتَتِرُ بِهِ حَتّى يَخْرُجَ فَأنْزَلَ اللَّهُ تَعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ﴾ الآيَةُ، وقِيلَ يَلُوذُ بِهِ إراءَةَ أنَّهُ مِن أتْباعِهِ. ونُصِبَ ﴿لِواذًا﴾ عَلى المَصْدَرِيَّةِ أوِ الحالِيَّةِ بِتَأْوِيلِ مُلاوِذِينَ وهو مَصْدَرُ لاوَذَ لِعَدَمِ قَلْبِ واوَهِ ياءً تَبَعًا لِفِعْلِهِ ولَوْ كانَ مَصْدَرُ لاذَ لَقِيلَ لِياذًا كَقِيامًا. وقَرَأ يَزِيدُ بْنُ قَطِيبٍ «لَوْ إذا» بِفَتْحِ اللّامِ فاحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرُ لاذَ ولَمْ تُقْلَبْ واوُهُ ياءً لِأنَّهُ لا كَسْرَةَ قَبْلَها فَهو كَطَوافٍ مَصْدَرُ طافَ، واحْتَمَلَ أنْ يَكُونَ مَصْدَرُ لاوَذَ وفَتْحَةُ اللّامِ لِأجْلِ فَتْحَةِ الواوِ، والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ﴾ لِتَرْتِيبِ الحَذَرِ أوِ الأمْرِ بِهِ عَلى ما قَبْلِها مِن عِلْمِهِ تَعالى بِأحْوالِهِمْ فَإنَّهُ مِمّا يُوجِبُ الحَذَرَ البَتَّةَ، والمُخالَفَةُ كَما قالَ الرّاغِبُ: أنْ يَأْخُذَ كُلُّ واحِدٍ طَرِيقًا غَيْرَ طَرِيقِ الآخَرِ في حالِهِ أوْ فِعْلِهِ والأكْثَرُ اسْتِعْمالُها بِدُونِ عَنْ فَيُقالُ خالَفَ زَيْدٌ عُمْرًا وإذا اسْتُعْمِلَتْ بِعْنَ فَذاكَ عَلى تَضْمِينِ مَعْنى الإعْراضِ. وقِيلَ الخُرُوجُ أيْ يُخالِفُونَ مُعْرِضِينَ أوْ خارِجِينَ عَنْ أمْرِهِ. وقالَ ابْنُ الحاجِبِ: عُدَيٌّ يُخالِفُونَ بِعْنَ لِما في المُخالَفَةِ مِن مَعْنى التَّباعُدِ والحَيْدِ كَأنَّهُ قِيلَ الَّذِينَ يَحِيدُونَ عَنْ أمْرِهِ بِالمُخالَفَةِ وهو أبْلَغُ مِن أنْ يُقالَ: يُخالِفُونَ أمْرَهُ. وقِيلَ عَلى تَضْمِينِ مَعْنى الصَّدِّ، وقِيلَ إذا عُدِّيَ بِعْنَ يُرادُ بِهِ الصَّدُّ دُونَ تَضْمِينٍ ويَتَعَدّى إلى مَفْعُولٍ بِنَفْسِهِ يُقالُ: خالَفَ زَيْدًا عَنِ الأمْرِ أيْ صَدَّهُ عَنْهُ والمَفْعُولُ عَلَيْهِ هُنا مَحْذُوفٌ أيْ يُخالِفُونَ المُؤْمِنُونَ أيْ يَصُدُّونَهم عَنْ أمْرِهِ وحَذَفَ المَفْعُولَ لِأنَّ المُرادَ تَقْبِيحُ حالِ المُخالِفِ وتَعْظِيمُ أمْرِ المُخالِفِ عَنْهُ فَذَكَرَ الأهَمَّ وتَرَكَ ما لا اهْتِمامَ بِهِ وقَدْ يَتَعَدّى بِإلى فَيُقالُ خالَفَ إلَيْهِ إذا أقْبَلَ نَحْوَهُ. وقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ﴿عَنْ﴾ هُنا بِمَعْنى بُعْدٍ، والمَعْنى يَقَعُ خِلافَهم بَعْدَ أمْرِهِ كَما تَقُولُ: كانَ المَطَرُ عَنْ رِيحٍ وأطْعَمْتُهُ عَنْ جُوعٍ. وقالَ أبُو عُبَيْدَةَ والأخْفَشُ: هي زائِدَةٌ أيْ يُخالِفُونَ ﴿أمْرِهِ﴾ وضَمِيرُ أمْرِهِ لِلَّهِ عَزَّ وجَلَّ فَإنَّ الأمْرَ لَهُ سُبْحانَهُ في الحَقِيقَةِ أوْ لِلرَّسُولِ ﷺ فَإنَّهُ المَقْصُودُ بِالذِّكْرِ، والأمْرُ لَهُ قِيلَ الطَّلَبُ أوِ الشَّأْنُ أوْ ما يَعُمُّهُما، ولا يَخْفى أنَّ في تَجْوِيزٍ عَلى كُلٍّ مِنَ الِاحْتِمالَيْنِ في الضَّمِيرِ نَظَرًا فَلا تَغْفُلْ. وقُرِئَ «يَخْلِّفُونَ» بِالتَّشْدِيدِ أيْ يَخْلُفُونَ أنْفُسَهَمْ عَنْ أمْرِهِ (p-227)﴿أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ﴾ أيْ بَلاءٍ ومِحْنَةٍ في الدُّنْيا كَما رُوِيَ عَنْ مُجاهِدٍ وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ تَفْسِيرُ الفِتْنَةِ بِالقَتْلِ، وعَنْ جَعْفَرٍ الصّادِقِ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ تَفْسِيرُها بِتَسْلِيطِ سُلْطانٍ جائِرٍ، وعَنِ السَّدِّيِّ ومُقاتِلٍ تَفْسِيرُها بِالكُفْرِ والأوَّلُ أوْلى. ﴿أوْ يُصِيبَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ أيْ في الآخِرَةِ. وقِيلَ في الدُّنْيا، والمُرادُ بِالعَذابِ الألِيمِ القَتْلُ وبِالفِتْنَةِ ما دُونَهُ ولَيْسَ بِشَيْءٍ. وكَلِمَةٌ أوْ لِمَنعِ الخُلُوِّ دُونَ الجَمْعِ. وإعادَةُ الفِعْلِ صَرِيحًا لِلِاعْتِناءِ بِالتَّهْدِيدِ والتَّحْذِيرِ. وشاعَ الِاسْتِدْلالُ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ فَإنَّهُ تَعالى أوْجَبَ فِيها عَلى مُخالِفِ الأمْرِ الحَذِرِ عَنِ العَذابِ وذَلِكَ تَهْدِيدٌ عَلى مُخالَفَةِ الأمْرِ وهو دَلِيلُ كَوْنِ الأمْرِ لِلْوُجُوبِ إذْ لا تَهْدِيدَ عَلى تَرْكِ غَيْرِ الواجِبِ، وأيْضًا بِناءُ حُكْمِ الحَذَرِ عَنِ العَذابِ إلى المُخالِفِ يَقْتَضِي أنْ يَكُونَ حَذَرَهُ عَنْهُ مِن حَيْثُ المُخالَفَةِ، وذَلِكَ إنَّما يَكُونُ إذا أفْضى إلى العَذابِ كَما في قَوْلِكَ فَلْيَحْذَرِ الشّاتِمُ لِلْأمِيرِ أنْ يَضْرِبَهُ ولا إفْضاءَ في تَرْكِ غَيْرِ الواجِبِ. وهَذا الأمْرُ أعْنِي ﴿فَلْيَحْذَرِ﴾ بِخُصُوصِهِ مُسْتَعْمَلٌ في الإيجابِ إذْ لا مَعْنى لِنَدْبِ الحَذَرِ عَنِ العِقابِ أوْ إباحَتِهِ، وأيْضًا إشْعارُ الآيَةِ بِوُجُوبِ الحَذَرِ غَيْرُ خافٍ بِقَرِينَةِ وُرُودِها في مَعْرِضِ الوَعِيدِ بِتَوَقُّعِ إصابَةِ العَذابِ عَلى أنَّهُ لَوْ حَمَلَ الأمْرَ المَذْكُورَ عَلى أنَّهُ لِلنَّدْبِ يَحْصُلُ المَطْلُوبُ وذَلِكَ لَأنَّ التَّحْذِيرَ عَمّا لَمْ يَعْلَمْ أوْ لَمْ يَظُنَّ تَحَقُّقَهُ ولا تَحَقَّقَ ما يُفْضِي إلى وُقُوعِهِ في الجُمْلَةِ سَفَهٌ غَيْرُ جائِزٍ بِمَعْنى أنَّهُ مُخالِفٌ لِلْحِكْمَةِ ولِهَذا يُلامُ مَن يُحَذِّرُ عَنْ سُقُوطِ الجِدارِ المُحْكَمُ الغَيْرِ المائِلِ، وأيًّا ما كانَ يَنْدَفِعُ ما يُقالُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ﴾ لِلْوُجُوبِ لِأنَّهُ عَيْنُ مَحَلِّ النِّزاعِ إذْ يَكْفِي في المَطْلُوبِ عَلى ما قَرَّرْنا اسْتِعْمالَهُ في النَّدْبِ أيْضًا، والقَوْلُ بِأنَّ مَعْنى مُخالَفَةِ الأمْرِ عَدَمُ اعْتِقادِ حَقِّيَّتِهِ أوْ حَمْلِهِ عَلى غَيْرِ ما هو عَلَيْهِ بِأنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ أوِ النَّدْبِ مَثَلًا فَيَحْمِلُ عَلى غَيْرِهِ بَعِيدٍ جِدًّا، والظّاهِرُ المُتَبادِرُ إلى الفَهْمِ أنَّهُ تَرَكَ الِامْتِثالَ والإتْيانَ بِالمَأْمُورِ فَلا يُتْرَكُ إلى ذَلِكَ إلّا بِدَلِيلٍ. واعْتَرَضَ بِأنَّهُ بَعْدَ هَذا القِيلِ والقالِ لا يَدُلُّ عَلى أنَّ جَمِيعَ الأوامِرِ حَقِيقَةً في الوُجُوبِ لِإطْلاقِ الأمْرِ. وأُجِيبُ بِأنَّ ﴿أمْرِهِ﴾ مَصْدَرٌ مُضافٌ وهو يُفِيدُ العُمُومَ حَيْثُ فُقِدَتْ قَرِينَةُ العَهْدِ عَلى أنَّ الإطْلاقَ كافٍ في المَطْلُوبِ، وهو كَوْنُ الأمْرِ المُطْلَقِ لِلْوُجُوبِ خاصَّةً. إذْ لَوْ كانَ حَقِيقَةً لِغَيْرِهِ أيْضًا لَمْ يَتَرَتَّبِ التَّهْدِيدُ عَلى مُخالَفَةِ مُطْلَقِ الأمْرِ. وقالَ بَعْضُ الأجِلَّةِ: لا قائِلَ بِالفَصْلِ في صِيَغِ الأمْرِ بِأنَّ بَعْضَها لِلْوُجُوبِ وبَعْضَها لِغَيْرِهِ. وزَعَمَ بَعْضُهم أنَّ الِاسْتِدْلالَ لا يَتِمُّ إذا أُرِيدَ بِالأمْرِ الطَّلَبَ، ولَوْ فَسَّرَ بِالشَّأْنِ وكانَ الضَّمِيرُ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ لَزِمَ مِنَ القَوْلِ بِدَلالَتِها عَلى الوُجُوبِ أنْ يَكُونَ كُلُّ ما يَفْعَلُهُ ﷺ واجِبًا عَلَيْنا ولا قائِلَ بِهِ. والزَّمَخْشَرِيُّ فَسَّرَهُ بِالدِّينِ والطّاعَةِ. وقالَ صاحِبُ الكَشْفِ: إنَّ الِاسْتِدْلالَ بِالآيَةِ عَلى أنَّ الأمْرَ لِلْوُجُوبِ مَشْهُورٌ سَواءً فَسِرْ بِما ذَكَرَ لِأنَّ الطّاعَةَ امْتِثالُ الأمْرِ القَوْلِيِّ أوْ فَسَّرَ عَلى الحَقِيقَةِ، وأمّا إذا جَعَلَ إشارَةً إلى ما سَبَقَ مِنَ الأمْرِ الجامِعِ ومَعْنى ﴿يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ﴾ يَنْصَرِفُونَ عَنْهُ فَلا ولَيْسَ بِالوَجْهِ وإنْ آثَرَهُ جَمْعٌ لِفَواتِ المُبالَغَةِ والتَّناوُلِ الأوَّلِيِّ والعُدُولِ عَنِ الحَقِيقَةِ في لَفْظِ الأمْرِ ثُمَّ المُخالَفَةُ مِن غَيْرِ ضَرُورَةٍ انْتَهى، وهَذا الَّذِي آثَرَهُ جَمْعٌ ذَكَرَهُ الطِّيبِيُّ عَنِ البَغْوِيُّ ثُمَّ قالَ: هَذا هو التَّفْسِيرُ الَّذِي عَلَيْهِ التَّعْوِيلُ ويُساعِدُ عَلَيْهِ النَّظْمُ والتَّأْوِيلُ لِأنَّ الأمْرَ حِينَئِذٍ بِمَعْنى الشَّأْنِ وواحِدُ الأُمُورِ وبَيانُهُ أنَّ ما قَبْلَهُ حَدِيثٌ في الأمْرِ الجامِعِ وهو الأمْرُ الَّذِي يَجْمَعُ عَلَيْهِ النّاسُ ومَدْحُ مَن لَزِمَ مَجْلِسَ رَسُولًا لِلَّهِ ﷺ ولَمْ يَذْهَبْ عَنْهُ وذَمَّ مَن فارَقَهُ بِغَيْرِ الإذْنِ وأمَرَ بِالِاسْتِغْفارِ في حَقِّ مَن فارَقَ بِالإذْنِ لِأنَّ (p-228)قَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَأْذَنْ لِمَن شِئْتَ مِنهُمْ﴾ يُؤْذِنُ أنَّ القَوْمَ ثَلاثُ فِرَقٍ المَأْذُونُ في الذَّهابِ بَعْدَ الِاسْتِئْذانِ والمُتَخَلِّفُ عَنْهُ ثُمَّ المُتَخَلِّفُ إمّا أنْ يَدُومَ في مَجْلِسِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ولَمْ يَذْهَبْ وهُمُ المُؤْمِنُونَ المُخْلِصُونَ أوْ يَتَسَلَّلْ لِواذًا وهُمُ المُنافِقُونَ وقَوْلَهُ تَعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ﴾ إلَخْ مُتَرَتِّبٌ عَلى القِسْمِ الثّالِثِ عَلى سَبِيلِ الوَعِيدِ والفِعْلِ المُضارِعِ يُفِيدُ مَعْنى الدَّأْبِ والعادَةِ وقَدْ أُقِيمَ المَظْهَرُ مَوْضِعَ المُضْمِرِ عِلَّةً لِاسْتِحْقاقِهِمْ فِتْنَةَ الدّارَيْنِ انْتَهى، وقَدْ كَشَفَ عَنْ بَعْضِ ما فِيهِ صاحِبُ الكَشْفِ نَعَمْ قِيلَ عَلَيْهِ: إنَّ فَواتَ المُبالَغَةِ والتَّناوُلِ لا يُقاوِمُ العَهْدَ ولا عُدُولَ عَنِ الحَقِيقَةِ لِأنَّ الأمْرَ حَقِيقَةٌ في الحادِثَةِ وكَذا المُخالَفَةُ فِيما ذَكَرَ ولَوْ سَلَّمَ فَهو مُشْتَرِكُ الإلْزامِ فَإنَّ الأمْرَ لَيْسَ حَقِيقَةً في الأمْرِ العامِّ وقَوْلُهُ: بِلا ضَرُورَةٍ مَمْنُوعٌ فَإنَّ إضافَةَ العَهْدِ صارِفَةٌ. وتَعَقَّبَ بِأنَّ هَذا مُكابَرَةٌ ومَنعٌ مُجَرَّدٌ لا يَسْمَعُ فَإنَّ الأبْلَغِيَّةَ لا شُبْهَةَ فِيا فَإنَّ تَهْدِيدَ مَن لَمْ يَمْتَثِلْ أمْرُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أشَدُّ مِن تَرْكِهِ بِلا إذْنٍ وكَوْنُ الأمْرِ حَقِيقَةً في الطَّلَبِ هو الأصَحُّ في الأُصُولِ والمُخالِفَةُ المُقارِنَةُ لِلْأمْرِ لا شُبْهَةَ في أنَّ حَقِيقَتَها عَدَمُ الِامْتِثالِ واشْتِراكُ الإلْزامِ لَيْسَ بِتامٍّ لِأنَّ أمْرَهُ إذا عَمَّ يَشْمَلُ الأمْرَ الجامِعَ بِمَعْنى الطَّلَبِ أيْضًا وعَهْدَ الإضافَةِ لَيْسَ بِمُتَعَيِّنٍ حَتّى يُعَدَّ صارِفًا كَذا قِيلَ وفِيهِ بَحْثٌ فَتَأمَّلْ، وقَدْ يُقالُ بِناءً عَلى كَوْنِ الأمْرِ المَذْكُورِ إشارَةً إلى الأمْرِ الجامِعِ: إنَّهُ جِيءَ بِأوْفى قَوْلِهِ: ﴿أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ أوْ يُصِيبَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ لِما أنَّ الأمْرَ الجامِعَ إمّا أنْ يَكُونَ أمْرًا دُنْيَوِيًّا كالتَّشاوُرِ وفي الأُمُورِ الحَرْبِيَّةِ فالِانْصِرافُ عَنْهُ مَظِنَّةُ إصابَةِ المِحْنَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ لِلْمُنْصَرِفِينَ وإمّا أنْ يَكُونَ أمْرًا دِينِيًّا كَإقامَةِ الجُمْعَةِ الَّتِي فِيها تَعْظِيمُ شَعائِرِ الإسْلامِ فالِانْصِرافُ عَنْهُ مَظِنَّةُ إصابَةِ العَذابِ الأُخْرَوِيِّ. وبِالجُمْلَةِ لا اسْتِدْلالَ بِالآيَةِ عَلى اعْتِبارِ العَهْدِ وأمّا إذا لَمْ يَعْتَبِرْ فَقَدِ اسْتَدَلَّ بِها، وقَدْ سَمِعْتُ شَيْئًا مِنَ الكَلامِ في ذَلِكَ وتَمامُهُ جُرْحًا وتَعْدِيلًا وغَيْرُ ذَلِكَ في كُتُبِ الأُصُولِ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب