﴿لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ﴾ اسْتِئْنافٌ مُقَرَّرٌ لِمَضْمُونِ ما قَبْلَهُ، والِالتِفاتُ لِإبْرازِ مَزِيدِ الِاعْتِناءِ بِشَأْنِهِ، أيْ: لا تَجْعَلُوا دَعْوَتَهُ ﷺ إيّاكم في الِاعْتِقادِ والعَمَلِ بِها ﴿كَدُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا﴾ أيْ: لا تَقِيسُوا دُعاءَهُ ﷺ إيّاكم عَلى دُعاءِ بَعْضِكم بَعْضًا في حالٍ مِنَ الأحْوالِ وأمْرٍ مِنَ الأُمُورِ الَّتِي مِن جُمْلَتِها المُساهَلَةُ فِيهِ والرُّجُوعُ عَنْ مَجْلِسِهِ ﷺ بِغَيْرِ اسْتِئْذانٍ، فَإنَّ ذَلِكَ مِنَ المُحَرَّماتِ. وقِيلَ: لا تَجْعَلُوا دُعاءَهُ ﷺ رَبَّهُ كَدُعاءِ صَغِيرِكم كَبِيرَكم يُجِيبُهُ مَرَّةً ويَرُدُّهُ أُخْرى، فَإنَّ دُعاءَهُ مُسْتَجابٌ لا مَرَدَّ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ، وتَقْرِيرُ الجُمْلَةِ حِينَئِذٍ لِما قَبْلَها إمّا مِن حَيْثُ إنَّ اسْتِجابَتَهُ تَعالى لِدُعائِهِ ﷺ مِمّا يُوجِبُ امْتِثالَهم بِأوامِرِهِ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ سَلَّمَ ومُتابَعَتَهم لَهُ في الوُرُودِ والصُّدُورِ أكْمَلَ إيجابٍ، وإمّا مِن حَيْثُ إنَّها مُوجِبَةٌ لِلِاحْتِرازِ عَنِ التَّعَرُّضِ لِسُخْطِهِ ﷺ المُؤَدِّي إلى ما يُوجِبُ هَلاكَهم مِن دُعائِهِ ﷺ عَلَيْهِمْ، وأمّا ما قِيلَ مِن أنَّ المَعْنى: لا تَجْعَلُوا نِداءَهُ ﷺ كَنِداءِ بَعْضِكم بَعْضًا بِاسْمِهِ ورَفْعِ الصَّوْتِ والنِّداءِ مِن وراءِ الحُجُراتِ ولَكِنْ بِلَقَبِهِ المُعَظَّمِ مِثْلِ: يا رَسُولَ اللَّهِ، يا نَبِيَّ اللَّهِ مَعَ غايَةِ التَّوْقِيرِ والتَّفْخِيمِ والتَّواضُعِ وخَفْضِ الصَّوْتِ فَلا يُناسِبُ المَقامَ. فَإنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ﴾ إلَخِ وعِيدٌ لِمُخالِفِي أمْرِهِ ﷺ فِيما ذُكِرَ مِن قَبْلُ فَتَوْسِيطُ ما ذُكِرَ بَيْنَهُما مِمّا لا وجْهَ لَهُ. والتَّسَلُّلُ: الخُرُوجُ مِنَ البَيْتِ عَلى التَّدْرِيجِ والخُفْيَةِ، و"قَدْ" لِلتَّحْقِيقِ، كَما أنَّ رُبَّ تَجِيءُ لِلتَّكْثِيرِ حَسَبَما بُيِّنَ في مَطْلَعِ سُورَةِ الحِجْرِ، أيْ: يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَخْرُجُونَ مِنَ الجَماعَةِ قَلِيلًا قَلِيلًا عَلى خُفْيَةٍ.
﴿لِواذًا﴾ أيْ: مُلاوَذَةً بِأنْ يَسْتَتِرَ بَعْضُهم بِبَعْضٍ حَتّى يَخْرُجَ، أوْ بِأنْ يَلُوذَ بِمَن يَخْرُجُ بِالإذْنِ إراءَةَ أنَّهُ مِن أتْباعِهِ. وقُرِئَ بِفَتْحِ اللّامِ وانْتِصابِهِ عَلى الحالِيَّةِ مِن ضَمِيرِ "يَتَسَلَّلُونَ"، أيْ: مُلاوِذِينَ، أوْ عَلى أنَّهُ مَصْدَرٌ مُؤَكِّدٌ لِفِعْلٍ مُضْمَرٍ هو الحالُ في الحَقِيقَةِ، أيْ: يَلُوذُونَ لِواذًا. والفاءُ في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أمْرِهِ﴾ لِتَرْتِيبِ الحَذَرِ أوِ الأمْرِ بِهِ عَلى ما قَبْلَها مَن علمه تعالى بِأحْوالِهِمْ فَإنَّهُ مِمّا يُوجِبُ الحَذَرَ البَتَّةَ، أيْ: يُخالِفُونَ أمْرَهُ بِتَرْكِ مُقْتَضاهُ ويَذْهَبُونَ سَمْتًا خِلافَ سَمْتِهِ. و"عَنْ" إمّا لِتَضَمُّنِهِ مَعْنى الإعْراضِ، أوْ حَمْلِهِ عَلى مَعْنى: يَصُدُّونَ عَنْ أمْرِهِ دُونَ المُؤْمِنِينَ، مَن خالَفَهُ عَنِ الأمْرِ: إذا صَدَّ عَنْهُ دُونَهُ، وحُذِفَ المَفْعُولُ لِما أنَّ المَقْصُودَ بَيانُ المُخالِفِ والمُخالَفَ عَنْهُ، والضَّمِيرُ لِلَّهِ تَعالى لِأنَّهُ الآمِرُ حَقِيقَةً أوْ لِلرَّسُولِ ﷺ لِأنَّهُ المَقْصُودُ بِالذِّكْرِ.
﴿أنْ تُصِيبَهم فِتْنَةٌ﴾ أيْ: مِحْنَةٌ في الدُّنْيا ﴿أوْ يُصِيبَهم عَذابٌ ألِيمٌ﴾ أيْ: في الآخِرَةِ. وكَلِمَةُ "أوْ" لِمَنعِ الخُلُوِّ دُونَ الجَمْعِ وإعادَةِ الفِعْلِ صَرِيحًا (p-199)لِلِاعْتِناءِ بِالتَّهْدِيدِ والتَّحْذِيرِ، واسْتُدِلَّ بِهِ عَلى أنَّ الأمْرَ لِلْإيجابِ فَإنَّ تَرْتِيبَ العَذابَيْنِ عَلى مُخالَفَتِهِ كَما يُعْرِبُ عَنْهُ التَّحْذِيرُ عَنْ إصابَتِهِما يُوجِبُ وُجُوبَ الِامْتِثالِ بِهِ حَتْمًا.
{"ayah":"لَّا تَجۡعَلُوا۟ دُعَاۤءَ ٱلرَّسُولِ بَیۡنَكُمۡ كَدُعَاۤءِ بَعۡضِكُم بَعۡضࣰاۚ قَدۡ یَعۡلَمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِینَ یَتَسَلَّلُونَ مِنكُمۡ لِوَاذࣰاۚ فَلۡیَحۡذَرِ ٱلَّذِینَ یُخَالِفُونَ عَنۡ أَمۡرِهِۦۤ أَن تُصِیبَهُمۡ فِتۡنَةٌ أَوۡ یُصِیبَهُمۡ عَذَابٌ أَلِیمٌ"}