الباحث القرآني

قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهم ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا ومَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ فَإذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوالَهم فَأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ . واعْلَمْ أنَّهُ تَعالى لَمّا أمَرَ مِن قَبْلُ بِدَفْعِ مالِ اليَتِيمِ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وآتُوا اليَتامى أمْوالَهُمْ﴾ بَيَّنَ بِهَذِهِ الآيَةِ مَتى يُؤْتِيهِمْ أمْوالَهم، فَذَكَرَ هَذِهِ الآيَةَ وشَرَطَ في دَفْعِ أمْوالِهِمْ إلَيْهِمْ شَرْطَيْنِ: أحَدُهُما: بُلُوغُ النِّكاحِ، والثّانِي: إيناسُ الرُّشْدِ، ولا بُدَّ مِن ثُبُوتِهِما حَتّى يَجُوزَ دَفْعُ مالِهِمْ إلَيْهِمْ، وفي الآيَةِ مَسائِلُ: (p-١٥٣)المَسْألَةُ الأُولى: قالَ أبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: تَصَرُّفاتُ الصَّبِيِّ العاقِلِ المُمَيِّزِ بِإذْنِ الوَلِيِّ صَحِيحَةٌ، وقالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ: غَيْرُ صَحِيحَةٍ، احْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ عَلى قَوْلِهِ بِهَذِهِ الآيَةِ، وذَلِكَ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ﴾ يَقْتَضِي أنَّ هَذا الِابْتِلاءَ إنَّما يَحْصُلُ قَبْلَ البُلُوغِ، والمُرادُ مِن هَذا الِابْتِلاءِ اخْتِبارُ حالِهِ في أنَّهُ هَلْ لَهُ تَصَرُّفٌ صالِحٌ لِلْبَيْعِ والشِّراءِ، وهَذا الِاخْتِبارُ إنَّما يَحْصُلُ إذا أذِنَ لَهُ في البَيْعِ والشِّراءِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ هَذا المَعْنى نَفْسَ الِاخْتِبارِ، فَهو داخِلٌ في الِاخْتِبارِ بِدَلِيلِ أنَّهُ يَصِحُّ الِاسْتِثْناءُ، يُقالُ: وابْتَلُوا اليَتامى إلّا في البَيْعِ والشِّراءِ، وحُكْمُ الِاسْتِثْناءِ إخْراجُ ما لَوْلاهُ لَدَخَلَ، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى﴾ أمْرٌ لِلْأوْلِياءِ بِأنْ يَأْذَنُوا لَهم في البَيْعِ والشِّراءِ قَبْلَ البُلُوغِ، وذَلِكَ يَقْتَضِي صِحَّةَ تَصَرُّفاتِهِمْ. أجابَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِأنْ قالَ: لَيْسَ المُرادُ بِقَوْلِهِ: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى﴾ الإذْنَ لَهم في التَّصَرُّفِ حالَ الصِّغَرِ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعالى بَعْدَ ذَلِكَ: ﴿فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهُمْ﴾ فَإنَّما أمَرَ بِدَفْعِ المالِ إلَيْهِمْ بَعْدَ البُلُوغِ وإيناسِ الرُّشْدِ، وإذا ثَبَتَ بِمُوجِبِ هَذِهِ الآيَةِ أنَّهُ لا يَجُوزُ دَفْعُ المالِ إلَيْهِ حالَ الصِّغَرِ، وجَبَ أنْ لا يَجُوزَ تَصَرُّفُهُ حالَ الصِّغَرِ، لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا دَلالَةُ هَذِهِ الآيَةِ عَلى قَوْلِ الشّافِعِيِّ، وأمّا الَّذِي احْتَجُّوا بِهِ، فَجَوابُهُ: أنَّ المُرادَ مِنَ الِابْتِلاءِ اخْتِبارُ عَقْلِهِ واسْتِبْراءُ حالِهِ، في أنَّهُ هَلْ لَهُ فَهْمٌ وعَقْلٌ وقُدْرَةٌ في مَعْرِفَةِ المَصالِحِ والمَفاسِدِ، وذَلِكَ إذا باعَ الوَلِيَّ واشْتَرى بِحُضُورِ الصَّبِيِّ، ثُمَّ يَسْتَكْشِفُ مِنَ الصَّبِيِّ أحْوالَ ذَلِكَ البَيْعِ والشِّراءِ وما فِيهِما مِنَ المَصالِحِ والمَفاسِدِ ولا شَكَّ أنَّ بِهَذا القَدْرِ يَحْصُلُ الِاخْتِبارُ والِابْتِلاءُ، وأيْضًا: هَبْ أنّا سَلَّمْنا أنَّهُ يَدْفَعُ إلَيْهِ شَيْئًا لِيَبِيعَ أوْ يَشْتَرِيَ، فَلِمَ قُلْتَ إنَّ هَذا القَدْرَ يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ ذَلِكَ البَيْعِ والشِّراءِ، بَلْ إذا باعَ واشْتَرى وحَصَلَ بِهِ اخْتِبارُ عَقْلِهِ، فالوَلِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ يُتَمِّمُ البَيْعَ وذَلِكَ الشِّراءَ، وهَذا مُحْتَمَلٌ واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: المُرادُ مِن بُلُوغِ النِّكاحِ هو الِاحْتِلامُ المَذْكُورُ في قَوْلِهِ: ﴿وإذا بَلَغَ الأطْفالُ مِنكُمُ الحُلُمَ﴾ وهو في قَوْلِ عامَّةِ الفُقَهاءِ عِبارَةٌ عَنِ البُلُوغِ مَبْلَغَ الرِّجالِ الَّذِي عِنْدَهُ يَجْرِي عَلى صاحِبِهِ القَلَمُ ويَلْزَمُهُ الحُدُودُ والأحْكامُ، وإنَّما سُمِّيَ الِاحْتِلامُ بُلُوغَ النِّكاحِ لِأنَّهُ إنْزالُ الماءِ الدّافِقِ الَّذِي يَكُونُ في الجِماعِ. واعْلَمْ أنَّ لِلْبُلُوغِ عَلاماتٌ خَمْسَةٌ: مِنها ثَلاثَةٌ مُشْتَرَكَةٌ بَيْنَ الذُّكُورِ والإناثِ، وهو الِاحْتِلامُ والسِّنُّ المَخْصُوصُ، ونَباتُ الشَّعْرِ الخَشِنِ عَلى العانَةِ، واثْنانِ مُخْتَصّانِ بِالنِّساءِ، وهُما: الحَيْضُ والحَبَلُ. المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: أمّا إيناسُ الرُّشْدِ فَلا بُدَّ فِيهِ مِن تَفْسِيرِ الإيناسِ ومِن تَفْسِيرِ الرُّشْدِ، أمّا الإيناسُ فَقَوْلُهُ: (آنَسْتُمْ) أيْ عَرَفْتُمْ وقِيلَ: رَأيْتُمْ، وأصْلُ الإيناسِ في اللُّغَةِ الإبْصارُ، ومِنهُ قَوْلُهُ: ﴿آنَسَ مِن جانِبِ الطُّورِ نارًا قالَ﴾ [القصص: ٢٩] وأمّا الرُّشْدُ فَمَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ المُرادُ الرُّشْدَ الَّذِي لا تَعَلُّقَ لَهُ بِصَلاحِ مالِهِ، بَلْ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ هَذا مُرادًا، وهو أنْ يَعْلَمَ أنَّهُ مُصْلِحٌ لِما لَهُ حَتّى لا يَقَعَ مِنهُ إسْرافٌ ولا يَكُونَ بِحَيْثُ يَقْدِرُ الغَيْرُ عَلى خَدِيعَتِهِ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا في أنَّهُ هَلْ يُضَمُّ إلَيْهِ الصَّلاحُ في الدِّينِ ؟ فَعِنْدَ الشّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لا بُدَّ مِنهُ، وعِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ هو غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، والأوَّلُ أوْلى، ويَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: أحَدُها: أنَّ أهْلَ اللُّغَةِ قالُوا: الرُّشْدُ هو إصابَةُ الخَيْرِ، والمُفْسِدُ في دِينِهِ لا يَكُونُ مُصِيبًا لِلْخَيْرِ. وثانِيها: أنَّ الرُّشْدَ نَقِيضُ الغَيِّ قالَ تَعالى: ﴿قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ﴾ [البقرة: ٢٥٦] والغَيُّ هو الضَّلالُ والفَسادُ وقالَ تَعالى: ﴿وعَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى﴾ [طه: ١٢١] فَجَعَلَ العاصِيَ غَوِيًّا، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ الرُّشْدَ لا يَتَحَقَّقُ إلّا مَعَ الصَّلاحِ في الدِّينِ. وثالِثُها: أنَّهُ تَعالى قالَ: (p-١٥٤)﴿وما أمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ﴾ [هود: ٩٧] نَفْيُ الرُّشْدِ عَنْهُ لِأنَّهُ ما كانَ يُراعِي مَصالِحَ الدِّينِ. واللَّهُ أعْلَمُ. إذا عَرَفْتَ هَذا فَنَقُولُ: فائِدَةُ هَذا الِاخْتِلافِ أنَّ الشّافِعِيَّ رَحِمَهُ اللَّهُ يَرى الحَجْرَ عَلى الفاسِقِ، وأبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لا يَراهُ. المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: اتَّفَقُوا عَلى أنَّهُ إذا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ فَإنَّهُ لا يُدْفَعُ إلَيْهِ مالُهُ، ثُمَّ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ لا يُدْفَعُ إلَيْهِ مالُهُ حَتّى يَبْلُغَ خَمْسًا وعِشْرِينَ سَنَةً، فَإذا بَلَغَ ذَلِكَ دُفِعَ إلَيْهِ مالُهُ عَلى كُلِّ حالٍ، وإنَّما اعْتَبَرَ هَذا السِّنَّ؛ لِأنَّ مُدَّةَ بُلُوغِ الذَّكَرِ عِنْدَهُ بِالسِّنِّ ثَمانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، فَإذا زادَ عَلَيْهِ سَبْعَ سِنِينَ وهي مُدَّةٌ مُعْتَبَرَةٌ في تَغَيُّرِ أحْوالِ الإنْسانِ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«مُرُوهم بِالصَّلاةِ لِسَبْعٍ» “ فَعِنْدَ ذَلِكَ تَمَّتِ المُدَّةُ الَّتِي يُمْكِنُ فِيها حُصُولُ تَغَيُّرِ الأحْوالِ، فَعِنْدَها يُدْفَعُ إلَيْهِ مالُهُ، أُونِسَ مِنهُ الرُّشْدُ أوْ لَمْ يُؤْنَسْ وقالَ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا يُدْفَعُ إلَيْهِ أبَدًا إلّا بِإيناسِ الرُّشْدِ، وهو قَوْلُ أبِي يُوسُفَ ومُحَمَّدٌ رَحِمَهُما اللَّهُ. احْتَجَّ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ لِأبِي حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: لا شَكَّ أنَّ اسْمَ الرُّشْدِ واقِعٌ عَلى العَقْلِ في الجُمْلَةِ، واللَّهُ تَعالى شَرَطَ رُشْدًا مُنَكَّرًا ولَمْ يَشْتَرِطْ سائِرَ ضُرُوبِ الرُّشْدِ، فاقْتَضى ظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ لَمّا حَصَلَ العَقْلُ فَقَدْ حَصَلَ ما هو الشَّرْطُ المَذْكُورُ في هَذِهِ الآيَةِ، فَيَلْزَمُ جَوازَ دَفْعِ المالِ إلَيْهِ تَرْكُ العَمَلِ بِهِ فِيما دُونَ خَمْسٍ وعِشْرِينَ سَنَةً، فَوَجَبَ العَمَلُ بِمُقْتَضى الآيَةِ فِيما زادَ عَلى خَمْسٍ وعِشْرِينَ سَنَةً ويُمْكِنُ أنْ يُجابَ عَنْهُ بِأنَّهُ تَعالى قالَ: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى﴾ ولا شَكَّ أنَّ المُرادَ ابْتِلاؤُهم فِيما يَتَعَلَّقُ بِمَصالِحِ حِفْظِ المالِ، ثُمَّ قالَ: ﴿فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا﴾ ويَجِبُ أنْ يَكُونَ المُرادُ: فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا في حِفْظِ المالِ وضَبْطِ مَصالِحِهِ، فَإنَّهُ إنْ لَمْ يَكُنِ المُرادُ ذَلِكَ تَفَكَّكَ النَّظْمُ ولَمْ يَبْقَ لِلْبَعْضِ تَعَلُّقٌ بِالبَعْضِ، وإذا ثَبَتَ هَذا عَلِمْنا أنَّ الشَّرْطَ المُعْتَبَرَ في الآيَةِ هو حُصُولُ الرُّشْدِ في رِعايَةِ مَصالِحِ المالِ، وعِنْدَ هَذا سَقَطَ اسْتِدْلالُ أبِي بَكْرٍ الرّازِيِّ، بَلْ تَنْقَلِبُ هَذِهِ الآيَةُ دَلِيلًا عَلَيْهِ؛ لِأنَّهُ جَعَلَ رِعايَةَ مَصالِحِ المالِ شَرْطًا في جَوازِ دَفْعِ المالِ إلَيْهِ، فَإذا كانَ هَذا الشَّرْطُ مَفْقُودًا بَعْدَ خَمْسٍ وعِشْرِينَ سَنَةً، وجَبَ أنْ لا يَجُوزَ دَفْعُ المالِ إلَيْهِ، والقِياسُ الجَلِيُّ أيْضًا يُقَوِّي الِاسْتِدْلالَ بِهَذا النَّصِّ؛ لِأنَّ الصَّبِيَّ إنَّما مُنِعَ مِنهُ المالُ لِفِقْدانِ العَقْلِ الهادِي إلى كَيْفِيَّةِ حِفْظِ المالِ وكَيْفِيَّةِ الِانْتِفاعِ بِهِ، فَإذا كانَ هَذا المَعْنى حاصِلًا في الشَّبابِ والشَّيْخِ كانَ في حُكْمِ الصَّبِيِّ، فَثَبَتَ أنَّهُ لا وجْهَ لِقَوْلِ مَن يَقُولُ: إنَّهُ إذا بَلَغَ خَمْسًا وعِشْرِينَ سَنَةً دُفِعُ إلَيْهِ مالُهُ وإنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنهُ الرُّشْدُ. المَسْألَةُ الخامِسَةُ: إذا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ تَغَيَّرَ وصارَ سَفِيهًا حُجِرَ عَلَيْهِ عِنْدَ الشّافِعِيِّ ولا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وقَدْ مَرَّتْ هَذِهِ المَسْألَةُ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكم قِيامًا﴾ والقِياسُ الجَلِيُّ أيْضًا يَدُلُّ عَلَيْهِ؛ لِأنَّ هَذِهِ الآيَةَ دالَّةٌ عَلى أنَّهُ إذا بَلَغَ غَيْرَ رَشِيدٍ لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ مالُهُ، وإنَّما لَمْ يُدْفَعْ إلَيْهِ مالُهُ لِئَلّا يَصِيرَ المالُ ضائِعًا فَيَكُونَ باقِيًا مُرْصَدًا لِيَوْمِ حاجَتِهِ، وهَذا المَعْنى قائِمٌ في السَّفَهِ الطّارِئِ، فَوَجَبَ اعْتِبارُهُ. واللَّهُ أعْلَمُ. المَسْألَةُ السّادِسَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: الفائِدَةُ في تَنْكِيرِ الرُّشْدِ التَّنْبِيهُ عَلى أنَّ المُعْتَبَرَ هو الرُّشْدُ في التَّصَرُّفِ والتِّجارَةِ، أوْ عَلى أنَّ المُعْتَبَرَ هو حُصُولُ طَرَفٍ مِنَ الرُّشْدِ وظُهُورِ أثَرٍ مِن آثارِهِ حَتّى لا يُنْتَظَرَ بِهِ تَمامُ الرُّشْدِ. المَسْألَةُ السّابِعَةُ: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: قَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: فَإنْ أحَسْتُمْ، بِمَعْنى أحْسَسْتُمْ قالَ:(p-١٥٥) ؎أحَسْنَ بِهِ فَهُنَّ إلَيْهِ شُوسُ وقُرِئَ: رَشَدًا بِفَتْحَتَيْنِ ورُشُدًا بِضَمَّتَيْنِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهُمْ﴾ والمُرادُ أنَّ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرْطَيْنِ، أعْنِي البُلُوغَ وإيناسَ الرُّشْدِ يَجِبُ دَفْعُ المالِ إلَيْهِمْ، وإنَّما لَمْ يَذْكُرْ تَعالى مَعَ هَذَيْنِ الشَّرْطَيْنِ كَمالَ العَقْلِ؛ لِأنَّ إيناسَ الرُّشْدِ لا يَحْصُلُ إلّا مَعَ العَقْلِ؛ لِأنَّهُ أمْرٌ زائِدٌ عَلى العَقْلِ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا﴾ أيْ مُسْرِفِينَ ومُبادِرِينَ كِبَرِهِمْ أوْ لِإسْرافِكم ومُبادَرَتِكم كِبَرَهم تُفَرِّطُونَ في إنْفاقِها وتَقُولُونَ: نُنْفِقُ كَما نَشْتَهِي قَبْلَ أنْ يَكْبُرَ اليَتامى فَيَنْزِعُوها مِن أيْدِينا، ثُمَّ قَسَمَ الأمْرَ بَيْنَ أنْ يَكُونَ الوَصِيُّ غَنِيًّا وبَيْنَ أنْ يَكُونَ فَقِيرًا فَقالَ: ﴿ومَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ قالَ الواحِدِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ: اسْتَعَفَّ عَنِ الشَّيْءِ وعَفَّ إذا امْتَنَعَ مِنهُ وتَرَكَهُ، وقالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: اسْتَعَفَّ أبْلَغُ مِن عَفَّ كَأنَّهُ طالَبَ زِيادَةَ العِفَّةِ وقالَ: ﴿ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ﴾ واخْتَلَفَ العُلَماءُ في أنَّ الوَصِيَّ هَلْ لَهُ أنْ يَنْتَفِعَ بِمالِ اليَتِيمِ ؟ وفي هَذِهِ المَسْألَةِ أقْوالٌ: أحَدُهُما: أنَّ لَهُ أنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ ما يُحْتاجُ إلَيْهِ مِن مالِ اليَتِيمِ وبِقَدْرِ أجْرِ عَمَلِهِ، واحْتَجَّ القائِلُونَ بِهَذا القَوْلِ بِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: أنَّ قَوْلَهُ تَعالى: ﴿ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا﴾ مُشْعِرٌ بِأنَّ لَهُ أنْ يَأْكُلَ بِقَدَرِ الحاجَةِ. وثانِيها: أنَّهُ قالَ: ﴿ومَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ﴾ فَقَوْلُهُ: ﴿ومَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ لَيْسَ المُرادُ مِنهُ نَهْيَ الوَصِيِّ الغَنِيِّ عَنِ الِانْتِفاعِ بِمالِ نَفْسِهِ، بَلِ المُرادُ مِنهُ نَهْيُهُ عَنِ الِانْتِفاعِ بِمالِ اليَتِيمِ، وإذا كانَ كَذَلِكَ لَزِمَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ: ﴿ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ﴾ إذْنًا لِلْوَصِيِّ في أنْ يَنْتَفِعَ بِمالِ اليَتِيمِ بِمِقْدارِ الحاجَةِ. وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا﴾ [النساء: ١٠] وهَذا دَلِيلٌ عَلى أنَّ مالَ اليَتِيمِ قَدْ يُؤْكَلُ ظُلْمًا وغَيْرَ ظُلْمٍ، ولَوْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا﴾ فائِدَةٌ، وهَذا يَدُلُّ عَلى أنَّ لِلْوَصِيِّ المُحْتاجِ أنْ يَأْكُلَ مِن مالِهِ بِالمَعْرُوفِ. ورابِعُها: ما رُوِيَ «عَنِ النَّبِيِّ ﷺ أنَّ رَجُلًا قالَ لَهُ: إنَّ تَحْتَ حِجْرِي يَتِيمًا أآكُلُ مِن مالِهِ ؟ قالَ: بِالمَعْرُوفِ غَيْرَ مُتَأثِّلٍ مالًا ولا واقٍ مالَكَ بِمالِهِ، قالَ: أفَأضْرِبُهُ ؟ قالَ: مِمّا كُنْتَ ضارِبًا مِنهُ ولَدَكَ» . وخامِسُها: ما رُوِيَ أنَّ عُمَرَ بْنَ الخَطّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إلى عَمّارٍ وابْنِ مَسْعُودٍ وعُثْمانَ بْنِ حُنَيْفٍ: سَلامٌ عَلَيْكم أمّا بَعْدُ: فَإنِّي رَزَقْتُكم كُلَّ يَوْمٍ شاةً شَطْرُها لِعَمّارٍ، ورُبُعُها لِعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ، ورُبُعُها لِعُثْمانَ، ألا وإنِّي قَدْ أنْزَلْتُ نَفْسِي وإيّاكم مِن مالِ اللَّهِ بِمَنزِلَةِ ولِيِّ مالِ اليَتِيمِ: مَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ، ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ. وعَنِ ابْنِ عَبّاسٍ أنَّ ولِيَّ يَتِيمٍ قالَ لَهُ: أفَأشْرَبُ مِن لَبَنِ إبِلِهِ ؟ قالَ: إنْ كُنْتَ تَبْغِي ضالَّتَها وتَلُوطُ حَوْضَها وتَهْنَأُ جَرْباها وتَسْقِيها يَوْمَ وِرْدِها، فاشْرَبْ غَيْرَ مُضِرٍّ بِنَسْلٍ، ولا ناهِكٍ في الحَلْبِ، وعَنْهُ أيْضًا: يَضْرِبُ بِيَدِهِ مَعَ أيْدِيهِمْ فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ ولا يَلْبَسْ عِمامَةً فَما فَوْقَها. وسادِسُها: أنَّ الوَصِيَّ لَمّا تَكَفَّلَ بِإصْلاحِ مُهِمّاتِ الصَّبِيِّ وجَبَ أنْ يَتَمَكَّنَ مِن أنْ يَأْكُلَ مِن مالِهِ بِقَدْرِ عَمَلِهِ قِياسًا عَلى السّاعِي في أخْذِ الصَّدَقاتِ وجَمْعِها، فَإنَّهُ يُضْرَبُ لَهُ في تِلْكَ الصَّدَقاتِ بِسَهْمٍ، فَكَذا هَهُنا، فَهَذا تَقْرِيرُ هَذا القَوْلِ. والقَوْلُ الثّانِي: أنَّ لَهُ أنْ يَأْخُذَ بِقَدْرِ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ مِن مالِ اليَتِيمِ قَرْضًا، ثُمَّ إذا أيْسَرَ قَضاهُ، وإنْ ماتَ ولَمْ يَقْدِرْ عَلى القَضاءِ فَلا شَيْءَ عَلَيْهِ، وهَذا قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ومُجاهِدٍ وأبِي العالِيَةِ، وأكْثَرُ الرِّواياتِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ. وبَعْضُ أهْلِ العِلْمِ خَصَّ هَذا الإقْراضَ بِأُصُولِ الأمْوالِ مِنَ الذَّهَبِ والفِضَّةِ وغَيْرِها، فَأمّا التَّناوُلُ مِن (p-١٥٦)ألْبانِ المَواشِي واسْتِخْدامِ العَبِيدِ ورُكُوبِ الدَّوابِّ، فَمُباحٌ لَهُ إذا كانَ غَيْرَ مُضِرٍّ بِالمالِ، وهَذا قَوْلُ أبِي العالِيَةِ وغَيْرِهِ، واحْتَجُّوا بِأنَّ اللَّهَ تَعالى قالَ: ﴿فَإذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوالَهُمْ﴾ فَحَكَمَ في الأمْوالِ بِدَفْعِها إلَيْهِمْ. والقَوْلُ الثّالِثُ: قالَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ: الَّذِي نَعْرِفُهُ مِن مَذْهَبِ أصْحابِنا أنَّهُ لا يَأْخُذُ عَلى سَبِيلِ القَرْضِ ولا عَلى سَبِيلِ الِابْتِداءِ، سَواءً كانَ غَنِيًّا أوْ فَقِيرًا. واحْتَجَّ عَلَيْهِ بِآياتٍ: مِنها: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وآتُوا اليَتامى أمْوالَهُمْ﴾ إلى قَوْلِهِ: ﴿إنَّهُ كانَ حُوبًا كَبِيرًا﴾ ومِنها: قَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا إنَّما يَأْكُلُونَ في بُطُونِهِمْ نارًا وسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا﴾ [النساء: ١٠] . ومِنها قَوْلُهُ: ﴿وأنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالقِسْطِ﴾ [النساء: ١٢٧] ومِنها: قَوْلُهُ: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨] قالَ: فَهَذِهِ الآيَةُ مُحْكَمَةٌ حاصِرَةٌ لِمالِ اليَتِيمِ عَلى وصِيِّهِ في حالِ الغِنى والفَقْرِ، وقَوْلُهُ: ﴿ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ﴾ مُتَشابِهٌ مُحْتَمِلٌ فَوَجَبَ رَدُّهُ لِكَوْنِهِ مُتَشابِهًا إلى تِلْكَ المُحْكَماتِ، وعِنْدِي أنَّ هَذِهِ الآيَةَ لا تَدُلُّ عَلى ما ذَهَبَ الرّازِيُّ إلَيْهِ. أمّا قَوْلُهُ: ﴿وآتُوا اليَتامى أمْوالَهُمْ﴾ [النساء: ٢] فَهو عامٌّ وهَذِهِ الآيَةُ الَّتِي نَحْنُ فِيها خاصَّةٌ، والخاصُّ مُقَدَّمٌ عَلى العامِّ. وقَوْلُهُ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا﴾ فَهو إنَّما يَتَناوَلُ هَذِهِ الواقِعَةَ لَوْ ثَبَتَ أنَّ أكْلَ الوَصِيِّ مِن مالِ الصَّبِيِّ بِالمَعْرُوفِ ظُلْمٌ، وهَلِ النِّزاعُ إلّا فِيهِ، وهو الجَوابُ بِعَيْنِهِ عَنْ قَوْلِهِ: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨] أمّا قَوْلُهُ: ﴿وأنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالقِسْطِ﴾ [النساء: ١٢٧] فَهو إنَّما يَتَناوَلُ مَحَلَّ النِّزاعِ لَوْ ثَبَتَ أنَّ هَذا الأكْلَ لَيْسَ بِقِسْطٍ، والنِّزاعُ لَيْسَ إلّا فِيهِ، فَثَبَتَ أنَّ كَلامَهُ في هَذا المَوْضِعِ ساقِطٌ رَكِيكٌ. واللَّهُ أعْلَمُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿فَإذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوالَهم فَأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ . واعْلَمْ أنَّ الأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلى أنَّ الوَصِيَّ إذا دَفَعَ المالَ إلى اليَتِيمِ بَعْدَ صَيْرُورَتِهِ بالِغًا، فَإنَّ الأوْلى والأحْوَطَ أنْ يُشْهِدَ عَلَيْهِ لِوُجُوهٍ: أحَدُها: أنَّ اليَتِيمَ إذا كانَ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ بِقَبْضِ المالِ كانَ أبْعَدَ مِن أنْ يَدَّعِيَ ما لَيْسَ لَهُ. وثانِيها: أنَّ اليَتِيمَ إذا أقْدَمَ عَلى الدَّعْوى الكاذِبَةِ أقامَ الوَصِيُّ الشَّهادَةَ عَلى أنَّهُ دَفَعَ مالَهُ إلَيْهِ. ثالِثُها: أنْ تَظْهَرَ أمانَةُ الوَصِيِّ وبَراءَةُ ساحَتِهِ، ونَظِيرُهُ أنَّ النَّبِيَّ ﷺ قالَ: ”«مَن وجَدَ لُقَطَةً فَلْيُشْهِدْ ذَوَيْ عَدْلٍ ولا يَكْتُمْ ولا يُغَيِّبْ» “ فَأمَرَهُ بِالإشْهادِ لِتَظْهَرَ أمانَتُهُ وتَزُولَ التُّهْمَةُ عَنْهُ، فَثَبَتَ بِما ذَكَرْنا مِنَ الإجْماعِ والمَعْقُولِ أنَّ الأحْوَطَ هو الإشْهادُ. واخْتَلَفُوا في أنَّ الوَصِيَّ إذا ادَّعى بَعْدَ بُلُوغِ اليَتِيمِ أنَّهُ قَدْ دَفَعَ المالَ إلَيْهِ هَلْ هو مُصَدَّقٌ ؟ وكَذَلِكَ لَوْ قالَ: أنْفَقْتُ عَلَيْهِ في صِغَرِهِ هَلْ هو مُصَدَّقٌ ؟ قالَ مالِكٌ والشّافِعِيُّ: لا يُصَدَّقُ، وقالَ أبُو حَنِيفَةَ وأصْحابُهُ: يُصَدَّقُ، واحْتَجَّ الشّافِعِيُّ بِهَذِهِ الآيَةِ فَإنَّ قَوْلَهُ: ﴿فَأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ أمْرٌ، وظاهِرُ الأمْرِ الوُجُوبُ، وأيْضًا قالَ الشّافِعِيُّ: القَيِّمُ غَيْرُ مُؤْتَمَنٍ مِن جِهَةِ اليَتِيمِ، وإنَّما هو مُؤْتَمَنٌ مِن جِهَةِ الشَّرْعِ، وطَعَنَ أبُو بَكْرٍ الرّازِيُّ في هَذا الكَلامِ مَعَ السَّفاهَةِ الشَّدِيدَةِ وقالَ: لَوْ كانَ ما ذَكَرَهُ عِلَّةً لَنَفْيِ التَّصْدِيقِ لَوَجَبَ أنْ لا يُصَدَّقَ القاضِي إذا قالَ لِلْيَتِيمِ: قَدْ دَفَعْتُ إلَيْكَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنهُ، وكَذَلِكَ يَلْزَمُهُ أنْ يَقُولَ في الأبِ إذا قالَ بَعْدَ بُلُوغِ الصَّبِيِّ: قَدْ دَفَعْتُ مالَكَ إلَيْكَ أنْ لا يُصَدَّقَ؛ لِأنَّهُ لَمْ يَأْتَمِنهُ، ويَلْزَمُهُ أيْضًا أنْ يُوجِبَ الضَّمانَ عَلَيْهِمْ إذا تَصادَقُوا بَعْدَ البُلُوغِ أنَّهُ قَدْ هَلَكَ لِأنَّهُ أمْسَكَ مالَهُ مِن غَيْرِ ائْتِمانٍ لَهُ عَلَيْهِ، فَيُقالُ لَهُ: إنَّ قَوْلَكَ هَذا لَبَعِيدٌ عَنْ مَعانِي الفِقْهِ، أمّا النَّقْضُ بِالقاضِي فَبَعِيدٌ؛ لِأنَّ القاضِيَ حاكِمٌ فَيَجِبُ إزالَةُ التُّهْمَةِ عَنْهُ لِيَصِيرَ قَضاؤُهُ نافِذًا، ولَوْلا ذَلِكَ لَتَمَكَّنَ كُلُّ مَن قَضى القاضِي عَلَيْهِ بِأنْ يَنْسُبَهُ إلى الكَذِبِ والمَيْلِ والمُداهَنَةِ، وحِينَئِذٍ يَحْتاجُ القاضِي إلى قاضٍ آخَرَ، ويَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا المَعْنى غَيْرُ مَوْجُودٍ في وصِيِّ اليَتِيمِ، وأمّا الأبُ فالفَرْقُ ظاهِرٌ لِوَجْهَيْنِ: أحَدُهُما: (p-١٥٧)أنَّ شَفَقَتَهُ أتَمُّ مِن شَفَقَةِ الأجْنَبِيِّ، ولا يَلْزَمُ مِن قِلَّةِ التُّهْمَةِ في حَقِّ الأبِ قِلَّتُها في حَقِّ الأجْنَبِيِّ، وأمّا إذا تَصادَقُوا بَعْدَ البُلُوغِ أنَّهُ قَدْ هَلَكَ فَنَقُولُ: إنْ كانَ قَدِ اعْتَرَفَ بِأنَّهُ هَلَكَ لِسَبَبِ تَقْصِيرِهِ فَهَهُنا يَلْزَمُهُ الضَّمانُ، أمّا إذا اعْتَرَفَ بِأنَّهُ هَلَكَ لا بِتَقْصِيرِهِ، فَهَهُنا يَجِبُ أنْ يُقْبَلَ قَوْلُهُ، وإلّا لَصارَ ذَلِكَ مانِعًا لِلنّاسِ مِن قَبُولِ الوَصايَةِ، فَيَقَعُ الخَلَلُ في هَذا المُهِمِّ العَظِيمِ، فَأمّا الإشْهادُ عِنْدَ الرَّدِّ إلَيْهِ بَعْدَ البُلُوغِ فَإنَّهُ لا يُفْضِي إلى هَذِهِ المَفْسَدَةِ فَظَهَرَ الفَرْقُ، ومِمّا يُؤَكِّدُ هَذا الفَرْقَ أنَّهُ تَعالى ذَكَرَ قَبْلَ هَذِهِ الآيَةِ ما يَدُلُّ عَلى أنَّ اليَتِيمَ حَصَلَ في حَقِّهِ ما يُوجِبُ التُّهْمَةَ، وهو قَوْلُهُ: ﴿ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا﴾ وهَذا يَدُلُّ عَلى جَرَيانِ العادَةِ بِكَثْرَةِ إقْدامِ الوَلِيِّ عَلى ظُلْمِ الأيْتامِ والصِّبْيانِ، وإذَنْ دَلَّتْ هَذِهِ الآيَةُ عَلى تَأكُّدِ مُوجِباتِ التُّهْمَةِ في حَقِّ ولِيِّ اليَتِيمِ: * * * ثُمَّ قالَ بَعْدَهُ: ﴿فَإذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوالَهم فَأشْهِدُوا﴾ أشْعَرَ ذَلِكَ بِأنَّ الغَرَضَ مِنهُ رِعايَةُ جانِبِ الصَّبِيِّ؛ لِأنَّهُ إذا كانَ لا يَتَمَكَّنُ مِنِ ادِّعاءِ دَفْعِ المالِ إلَيْهِ إلّا عِنْدَ حُضُورِ الشّاهِدِ، صارَ ذَلِكَ مانِعًا لَهُ مِنَ الظُّلْمِ والبَخْسِ والنُّقْصانِ، وإذا كانَ الأمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنا أنَّ قَوْلَهُ: (فَأشْهِدُوا) كَما أنَّهُ يَجِبُ لِظاهِرِ الإيجابِ، فَكَذَلِكَ يَجِبُ أنَّ القَرائِنَ والمَصالِحَ تَقْتَضِي الإيجابَ، ثُمَّ قالَ هَذا الرّازِيُّ، ويَدُلُّ عَلى أنَّهُ مُصَدَّقٌ فِيهِ بِغَيْرِ إشْهادٍ، اتِّفاقُ الجَمِيعِ عَلى أنَّهُ مَأْمُورٌ بِحِفْظِهِ وإمْساكِهِ عَلى وجْهِ الأمانَةِ حَتّى يُوصِلَهُ إلى اليَتِيمِ في وقْتِ اسْتِحْقاقِهِ، فَهو بِمَنزِلَةِ الوَدائِعِ والمُضارِباتِ، فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مُصَدَّقًا عَلى الرَّدِّ كَما يُصَدَّقُ عَلى رَدِّ الوَدِيعَةِ، فَيُقالُ لَهُ: أمّا الفَرْقُ بَيْنَ هَذِهِ الصُّورَةِ وصُورَةِ الوَدِيعَةِ فَقَدْ ذَكَرَهُ الشّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعالى عَنْهُ، واعْتِراضُكَ عَلى ذَلِكَ الفَرْقِ قَدْ سَبَقَ إبْطالُهُ، وأيْضًا فَعادَتُكَ تَرْكُ الِالتِفاتِ إلى كِتابِ اللَّهِ لِقِياسٍ رَكِيكٍ تَتَخَيَّلُهُ، ومِثْلُ هَذا الفِقْهِ مُسَلَّمٌ لَكَ، ولا يَجِبُ المُشارَكَةُ فِيهِ مَعَكَ. وبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ. * * * ثُمَّ قالَ تَعالى: ﴿وكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ قالَ ابْنُ الأنْبارِيِّ والأزْهَرِيُّ: يَحْتَمِلُ أنْ يَكُونَ الحَسِيبُ بِمَعْنى المُحاسِبِ، وأنْ يَكُونَ بِمَعْنى الكافِي، فَمِنَ الأوَّلِ قَوْلُهم لِلرَّجُلِ لِلتَّهْدِيدِ: حَسْبُهُ اللَّهُ، ومَعْناهُ يُحاسِبُهُ اللَّهُ عَلى ما يَفْعَلُ مِنَ الظُّلْمِ، ونَظِيرُ قَوْلِنا الحَسِيبُ بِمَعْنى المُحاسِبِ، قَوْلُنا: الشَّرِيبُ بِمَعْنى المُشارِبِ، ومِنَ الثّانِي قَوْلُهم: حَسِيبُكَ اللَّهُ أيْ كافِيكَ اللَّهُ. واعْلَمْ أنَّ هَذا وعِيدٌ لِوَلِيِّ اليَتِيمِ وإعْلامٌ لَهُ أنَّهُ تَعالى يَعْلَمُ باطِنَهُ كَما يَعْلَمُ ظاهِرَهُ لِئَلّا يَنْوِيَ أوْ يَعْمَلَ في مالِهِ ما لا يَحِلُّ، ويَقُومَ بِالأمانَةِ التّامَّةِ في ذَلِكَ إلى أنْ يَصِلَ إلَيْهِ مالُهُ، وهَذا المَقْصُودُ حاصِلٌ سَواءً فَسَّرْنا الحَسِيبَ بِالمُحاسِبِ أوْ بِالكافِي. واعْلَمْ أنَّ الباءَ في قَوْلِهِ: ﴿وكَفى بِاللَّهِ﴾ ﴿وكَفى بِرَبِّكَ﴾ [الإسراء: ٦٥] في جَمِيعِ القُرْآنِ زائِدَةٌ، هَكَذا نَقَلَهُ الواحِدِيُّ عَنِ الزَّجّاجِ و(حَسِيبًا) نَصْبٌ عَلى الحالِ أيْ كَفى اللَّهُ حالَ كَوْنِهِ مُحاسِبًا، وحالَ كَوْنِهِ كافِيًا.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب