الباحث القرآني

قوله عزّ وجلّ: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِكاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهم ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا ومَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ فَإذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوالَهم فَأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وكَفى بِاللهِ حَسِيبًا﴾ هَذِهِ مُخاطَبَةٌ لِلْجَمِيعِ، والمَعْنى يُخْلِصُ التَلَبُّسَ بِهَذا الأمْرِ لِلْأوصِياءِ، والِابْتِلاءُ: الِاخْتِبارُ، و"بَلَغُوا النِكاحَ" مَعْناهُ: بَلَغُوا مَبْلَغَ الرِجالِ بِحُلْمٍ وحَيْضٍ أو ما يُوازِيهِ، ومَعْناهُ: جَرِّبُوا عُقُولَهم وقَرائِحَهم وتَصَرُّفَهُمْ، و"آنَسْتُمْ"، مَعْناهُ: عَلِمْتُمْ وشَعَرْتُمْ وخَبَرْتُمْ، كَما قالَ الشاعِرُ: ؎ آنَسَتْ نَبْأةً وأفْزَعَها القَنّا صُ عَصْرًا وقَدْ دَنا الإمْساءُ وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: "أحَسْتُمْ" بِالحاءِ وسُكُونِ السِينِ عَلى مِثالِ فَعَلْتُمْ، وقَرَأ أبُو عَبْدِ الرَحْمَنِ وأبُو السَمّالِ وابْنُ مَسْعُودٍ وعِيسى الثَقَفِيُّ: "رَشَدًا" بِفَتْحِ الراءِ والشِينِ، والمَعْنى واحِدٌ. ومالِكٌ رَحِمَهُ اللهُ يَرى الشَرْطَيْنِ: البُلُوغَ والرُشْدَ المُخْتَبَرَ، وحِينَئِذٍ (p-٤٧٢)يُدْفَعُ المالُ؛ وأبُو حَنِيفَةَ يَرى أنْ يُدْفَعَ المالُ بِالشَرْطِ الواحِدِ ما لَمْ يَحْتَفِظْ لَهُ سُلْفَةً كَما أُبِيحَتِ التَسْرِيَةُ بِالشَرْطِ الواحِدِ، وكِتابُ اللهِ قَدْ قَيَّدَها بِعَدَمِ الطَوْلِ وخَوْفِ العَنَتِ، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأمْثِلَةِ، كاليَمِينِ والحِنْثِ اللَذَيْنِ بَعْدَهُما تَجِبُ الكَفّارَةُ، ولَكِنَّها تَجُوزُ قَبْلَ الحِنْثِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والتَمْثِيلُ عِنْدِي في دَفْعِ المالِ بِنَوازِلِ الشَرْطَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وذَلِكَ أنَّ البُلُوغَ لَمْ تَسُقْهُ الآيَةُ سِياقَ الشَرْطِ، ولَكِنَّهُ حالَةُ الغالِبِ عَلى بَنِي آدَمَ أنْ تَلْتَئِمَ عُقُولُهم فِيها، فَهو الوَقْتُ الَّذِي لا يُعْتَبَرُ شَرْطُ الرُشْدِ إلّا فِيهِ، فَقالَ: إذا بَلَغَ ذَلِكَ الوَقْتَ فَلْيَنْظُرْ إلى الشَرْطِ وهو الرُشْدُ حِينَئِذٍ، وفَصاحَةُ الكَلامِ تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ، لِأنَّ التَوْقِيفَ بِالبُلُوغِ جاءَ "بِإذا" والمَشْرُوطُ جاءَ "بِإنْ" الَّتِي هي قاعِدَةُ حُرُوفِ الشَرْطِ، و"إذا" لَيْسَتْ بِحَرْفِ شَرْطٍ لِحُصُولِ ما بَعْدَها، وأجازَ سِيبَوَيْهِ أنْ يُجازى بِها في الشِعْرِ، وقالَ: فَعَلُوا ذَلِكَ مُضْطَرِّينَ، وإنَّما جُوزِيَ بِها لِأنَّها تَحْتاجُ إلى جَوابٍ، ولِأنَّها يَلِيها الفِعْلُ مُظْهَرًا أو مُضْمَرًا. واحْتَجَّ الخَلِيلُ عَلى مَنعِ شَرْطِيَّتِها بِحُصُولِ ما بَعْدَها، ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: أجِيئُكَ إذا احْمَرَّ البُسْرُ، ولا تَقُولُ: إنِ احْمَرَّ البُسْرُ. وقالَ الحَسَنُ وقَتادَةُ: الرُشْدُ في العَقْلِ والدِينِ، وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: بَلْ في العَقْلِ وتَدْبِيرِ المالِ لا غَيْرَ، وهو قَوْلُ ابْنِ القاسِمِ في مَذْهَبِنا. والرِوايَةُ الأُخْرى: "أنَّهُ في العَقْلِ والدِينِ" مَرْوِيَّةٌ عن مالِكٍ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: دَفْعُ الوَصِيِّ المالَ إلى المَحْجُورِ يَفْتَقِرُ إلى أنْ يَرْفَعَهُ إلى السُلْطانِ ويَثْبُتَ عِنْدَهُ رُشْدُهُ، أو يَكُونُ مِمَّنْ يَأْمَنُهُ الحاكِمُ في مِثْلِ ذَلِكَ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: ذَلِكَ مَوْكُولٌ إلى اجْتِهادِ الوَصِيِّ دُونَ أنْ يَحْتاجَ إلى رَفْعِهِ إلى السُلْطانِ. قالَ القاضِي أبُو مُحَمَّدٍ رَحِمَهُ اللهُ: والصَوابُ في أوصِياءِ زَمَنِنا أنْ لا يُتَسَنّى عن رَفْعِهِ إلى السُلْطانِ وثُبُوتِ الرُشْدِ عِنْدَهُ، لِما حُفِظَ مِن تَواطُؤِ الأوصِياءِ عَلى أنْ يُرْشَدَ الوَصِيُّ ويُبْرَأ المَحْجُورُ لِسَفَهِهِ وقِلَّةِ تَحْصِيلِهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ. وقَوْلُهُ: ﴿وَلا تَأْكُلُوها﴾..... الآيَةُ، نَهْيٌ مِنَ اللهِ تَعالى لِلْأوصِياءِ عن أكْلِ أمْوالِ اليَتامى بِغَيْرِ الواجِبِ المُباحِ لَهُمْ؛ والإسْرافُ: الإفْراطُ في الفِعْلِ، والسَرَفُ: الخَطَأُ في (p-٤٧٣)مَواضِعِ الإنْفاقِ، ومِنهُ قَوْلُ الشاعِرِ: ؎ ................. ∗∗∗.... ∗∗∗ ما في عَطائِهِمُ مَنٌّ ولا سَرَفُ. أيْ: لا يُخْطِئُونَ مَواضِعَ العَطاءِ. "وَبِدارًا": مَعْناهُ: مُبادَرَةَ كِبَرِهِمْ، أيْ: إنَّ الوَصِيَّ يَسْتَغْنِمُ مالَ مَحْجُورِهِ فَيَأْكُلُ ويَقُولُ: أُبادِرُ كِبَرَهُ لِئَلّا يَرْشُدَ ويَأْخُذَ مالَهُ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ. و"أنْ يَكْبَرُوا" نُصِبَ بِـ "بِدارًا"، ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ التَقْدِيرُ: مَخافَةَ أنْ. وقَوْلُهُ: ﴿وَمَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾... الآيَةُ، يُقالُ: عَفَّ الرَجُلُ عَنِ الشَيْءِ واسْتَعَفَّ: إذا أمْسَكَ، فَأمَرَ الغَنِيَّ بِالإمْساكِ عن مالِ اليَتِيمِ، وأباحَ اللهُ لِلْوَصِيِّ الفَقِيرِ أنْ يَأْكُلَ مِن مالِ يَتِيمِهِ بِالمَعْرُوفِ. واخْتَلَفَ العُلَماءُ في حَدِّ المَعْرُوفِ، فَقالَ عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وابْنُ عَبّاسٍ وعُبَيْدَةُ وابْنُ جُبَيْرٍ والشَعْبِيُّ ومُجاهِدٌ وأبُو العالِيَةِ: إنَّ ذَلِكَ القَرْضَ، أنْ يَتَسَلَّفَ مِن مالِ يَتِيمِهِ ويَقْضِيَ إذا أيْسَرَ، ولا يَتَسَلَّفُ أكْثَرَ مِن حاجَتِهِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وعِكْرِمَةُ والسُدِّيُّ وعَطاءٌ: رُوِيَ عن عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ قالَ: "إنِّي نَزَلْتُ مِن مالِ اللهِ مَنزِلَةَ والِي اليَتِيمِ، إنِ اسْتَغْنَيْتُ اسْتَعْفَفْتُ، وإنِ احْتَجْتُ أكَلْتُ بِالمَعْرُوفِ، فَإذا أيْسَرْتُ قَضَيْتُ". ورُوِيَ عن إبْراهِيمَ وعَطاءٍ وغَيْرِهِما أنَّهُ لا قَضاءَ عَلى الوَصِيِّ الفَقِيرِ فِيما أكَلَ بِالمَعْرُوفِ، قالَ الحَسَنُ: هي طُعْمَةٌ مِنَ اللهِ لَهُ، وذَلِكَ أنْ يَأْكُلَ ما يُقِيمُهُ أكْلًا بِأطْرافِ الأصابِعِ، ولا يَكْتَسِي مِنهُ بِوَجْهٍ، وقالَ إبْراهِيمُ النَخْعِيُّ ومَكْحُولٌ: "يَأْكُلُ ما يُقِيمُهُ ويَكْتَسِي ما يَسْتُرُ عَوْرَتَهُ، ولا يَلْبَسُ الكِتّانَ والحُلَلَ". وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ وأبُو العالِيَةِ والحَسَنُ والشَعْبِيُّ: "إنَّما يَأْكُلُ الوَصِيُّ بِالمَعْرُوفِ إذا شَرِبَ مِنَ اللَبَنِ وأكَلَ مِنَ الثَمَرِ، بِما يَهْنَؤُ الجَرْبى ويَلِيطُ الحَوْضَ ويَجُدُّ الثَمَرَ، وما شابَهَهُ. وقالَتْ فِرْقَةٌ: المَعْرُوفُ أنْ يَكُونَ لَهُ أجْرٌ بِقَدْرِ عَمَلِهِ وخِدْمَتِهِ. (p-٤٧٤)وَقالَ الحَسَنُ بْنُ حَيٍّ: إنْ كانَ وصِيَّ أبٍ فَلَهُ الأكْلُ بِالمَعْرُوفِ، وإنْ كانَ وصِيَّ حاكِمٍ فَلا سَبِيلَ لَهُ إلى المالِ بِوَجْهٍ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والنَخْعِيُّ: المُرادُ أنْ يَأْكُلَ الوَصِيُّ بِالمَعْرُوفِ مِن مالِهِ حَتّى لا يَحْتاجَ إلى مالِ اليَتِيمِ. وقالَ رَبِيعَةُ بْنُ أبِي عَبْدِ الرَحْمَنِ: المُرادُ اليَتامى في الحالَيْنِ، أيْ: مَن كانَ مِنهم غَنِيًّا فَلْيُعَفَّ بِمالِهِ، ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيُتَقَتَّرْ عَلَيْهِ بِالمَعْرُوفِ والِاقْتِصادِ. وقَوْلُهُ: "فَإذا دَفَعْتُمْ".... الآيَةُ. أمْرٌ مِنَ اللهِ بِالتَحَرُّزِ والحَزْمِ، وهَذا هو الأصْلُ في الإشْهادِ في المَدْفُوعاتِ كُلِّها، إذا كانَ حَبْسُها أوَّلًا مَعْرُوفًا. وقالَتْ فِرْقَةٌ: الإشْهادُ هاهُنا فَرْضٌ، وقالَتْ فِرْقَةٌ: هو نَدْبٌ إلى الحَزْمِ، ورَوى عُمَرُ بْنُ الخَطّابِ وابْنُ جُبَيْرَةٍ أنَّ هَذا هو دَفْعُ ما يَسْتَقْرِضُهُ الوَصِيُّ الفَقِيرُ إذا أيْسَرَ، واللَفْظُ يَعُمُّ هَذا وسِواهُ. والحَسِيبُ هُنا المُحْسِبُ، أيْ هو كافٍ مِنَ الشُهُودِ، هَكَذا قالَ الطَبَرِيُّ، والأظْهَرُ أنَّ "حَسِيبًا" مَعْناهُ: حاسِبًا أعْمالَكم ومُجازِيًا بِها، فَفي هَذا وعِيدٌ لِكُلِّ جاحِدِ حَقٍّ.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب