الباحث القرآني

﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهُمْ﴾ قِيلَ: تُوُفِّيَ رِفاعَةُ وتَرَكَ ابْنَهُ ثابِتًا صَغِيرًا، فَسَألَ: إنَّ ابْنَ أخِي في حِجْرِي، فَما يَحِلُّ لِي مِن مالِهِ ؟ ومَتى أدْفَعُ إلَيْهِ مالَهُ ؟ فَنَزَلَتْ. وقِيلَ: تُوُفِّيَ أوْسُ بْنُ ثابِتٍ، ويُقالُ: أوْسُ بْنُ سُوَيْدٍ عَنْ زَوْجَتِهِ أُمِّ كَجَّةَ وثَلاثِ بَناتٍ وابْنَيْ عَمِّ سُوَيْدٍ. وقِيلَ: السُّدِّيُّ وعَرْفَجَةُ، فَأخَذا مالَهُ ولَمْ يُعْطِيا المَرْأةَ ولا البَناتِ شَيْئًا. وقِيلَ: المانِعُ إرْثَهُنَّ هو عَمُّ بَنِيها، واسْمُهُ ثَعْلَبَةُ. وكانُوا في الجاهِلِيَّةِ لا يُوَرِّثُونَ النِّساءَ ولا البَناتِ ولا الِابْنَ الصَّغِيرَ الذَّكَرَ، فَشَكَتْهُما أُمُّ كَجَّةَ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فَدَعاهُما، فَقالَ: لا يا رَسُولَ اللَّهِ، ولَدُها لا يَرْكَبُ فَرَسًا، ولا يَحْمِلُ كَلًّا، ولا يُنْكِي عَدُوًّا، فَقالَ: (انْصَرِفُوا حَتّى أنْظُرَ ما يُحْدِثُ اللَّهُ) فَنَزَلَتْ. وابْتِلاءُ اليَتامى اخْتِبارُهم في عُقُولِهِمْ، قالَهُ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ، ومُقاتِلٌ، وسُفْيانُ. أوْ في عُقُولِهِمْ ودِينِهِمْ وحِفْظِهِمْ لِأمْوالِهِمْ وحُسْنِ تَصَرُّفِهِمْ فِيها. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ. وكَيْفِيَّةُ اخْتِبارِ الصَّغِيرِ أنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ نَزْرٌ يَسِيرٌ مِنَ المالِ يَتَصَرَّفُ فِيهِ، والوَصِيُّ يُراعِي حالَهُ فِيهِ لِئَلّا يُتْلِفَهُ. واخْتِبارُ الصَّغِيرَةِ أنْ يُرَدَّ إلَيْها أمْرُ البَيْتِ والنَّظَرُ في الِاسْتِغْزالِ دَفْعًا وأُجْرَةً واسْتِيفاءً. واخْتِلافُ كُلٍّ مِنهُما بِحالِ ما يَلِيقُ بِهِ وبِما يُعانِيهِ مِنَ الأشْغالِ والصَّنائِعِ، فَإذا أنِسَ مِنهُ الرُّشْدَ بَعْدَ البُلُوغِ والِاخْتِبارِ دَفَعَ إلَيْهِ مالَهُ، وأشْهَدَ عَلَيْهِ، هَذا ظاهِرُ الآيَةِ، وهو يَعْقُبُ الدَّفْعَ. والإشْهادُ الإيناسُ المَشْرُوطُ. وقالَ ابْنُ سِيرِينَ: لا يُدْفَعُ إلَيْهِ بَعْدَ الإيناسِ والِاخْتِبارِ المَذْكُورَيْنِ حَتّى تَمْضِيَ عَلَيْهِ سَنَةٌ، وتُداوِلُهُ الفُصُولُ الأرْبَعُ، ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ لِسِنِّ البُلُوغِ، ولا بِماذا يَكُونُ. وتَكَلَّمَ فِيها هُنا بَعْضُ المُفَسِّرِينَ. والكَلامُ في البُلُوغِ مَذْكُورٌ في كُتُبِ الفِقْهِ. وظاهِرُ الآيَةِ أنَّهُ إنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنهُ رُشْدٌ بَقِيَ مَحْجُورًا عَلَيْهِ دائِمًا، ولا يُدْفَعُ إلَيْهِ المالُ، وبِهِ قالَ الجُمْهُورُ. وقالَ النَّخَعِيُّ وأبُو حَنِيفَةَ: يُنْتَظَرُ بِهِ خَمْسٌ وعِشْرُونَ سَنَةً، ويُدْفَعُ إلَيْهِ مالُهُ، أُونِسَ مِنهُ الرُّشْدُ أوْ لَمْ يُؤْنَسْ. وظاهِرُ الآيَةِ يَدُلُّ عَلى اسْتِبْدادِ الوَصِيِّ بِالدَّفْعِ والِاسْتِقْلالِ بِهِ. وقالَتْ طائِفَةٌ: يَفْتَقِرُ إلى أنْ يَدْفَعَهُ إلى السُّلْطانِ ويُثْبِتَ عِنْدَهُ رُشْدَهُ، أوْ يَكُونَ مِمَّنْ يَأْمَنُهُ الحاكِمُ. وظاهِرُ عُمُومِ اليَتامى انْدِراجُ البَناتِ في هَذا الحُكْمِ، فَيَكُونُ حُكْمُهُنَّ حُكْمَ البَنِينَ في ذَلِكَ. فَقِيلَ: يُعْتَبَرُ رُشْدُها، وإنْ لَمْ تَتَزَوَّجْ بِالبُلُوغِ. وقِيلَ: المُدَّةُ بَعْدَ الدُّخُولِ خَمْسَةُ أعْوامٍ. وقِيلَ: سَنَةٌ. وقِيلَ: سَبْعَةٌ في ذاتِ الأبِ، وعامٌ واحِدٌ في اليَتِيمَةِ الَّتِي لا وصِيَّ لَها. و(حَتّى) هُنا غايَةٌ لِلِابْتِلاءِ، ودَخَلَتْ عَلى الشَّرْطِ وهو (إذا)، وجَوابُهُ: فَإنْ آنَسْتُمْ، وجَوابُهُ وجَوابُ ﴿إنَّ اللَّهَ﴾ [النساء: ١]: (فادْفَعُوا) . وإيناسُ الرُّشْدِ مُتَرَتِّبٌ عَلى بُلُوغِ النِّكاحِ، فَيَلْزَمُ أنْ يَكُونَ بَعْدَهُ. و(حَتّى) إذا دَخَلَتْ عَلى الشَّرْطِ لا تَكُونُ عامِلَةً، بَلْ هي الَّتِي تَقَعُ بَعْدَها الجُمَلُ كَقَوْلِهِ: ؎وحَتّى الجِيادُ ما يُقَدْنَ بِأرْسانِ وقَوْلِهِ: ؎وحَتّى ماءُ دِجْلَةَ أشْكَلُ عَلى أنَّ في هَذِهِ المَسْألَةِ خِلافًا ذَهَبَ الزَّجّاجُ وابْنُ دُرَسْتَوَيْهِ إلى أنَّ الجُمْلَةَ في مَوْضِعِ جَرٍّ، وذَهَبَ الجُمْهُورُ إلى أنَّها غَيْرُ عامِلَةٍ ألْبَتَّةَ. وفي قَوْلِهِ: ﴿بَلَغُوا النِّكاحَ﴾ تَقْدِيرٌ مَحْذُوفٌ، وهو: بَلَغُوا حَدَّ النِّكاحِ أوْ وقْتَهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: مَعْنى آنَسْتُمْ عَرَفْتُمْ. وقالَ عَطاءٌ: رَأيْتُمْ. (p-١٧٢)وقالَ الفَرّاءُ: وجَدْتُمْ. وقالَ الزَّجّاجُ: عَلِمْتُمْ. وهَذِهِ الأقْوالُ مُتَقارِبَةٌ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ: (فَإنْ أحَسْتُمْ)، يُرِيدُ أحْسَسْتُمْ. فَحَذَفَ عَيْنَ الكَلِمَةِ، وهَذا الحَذْفُ شُذُوذٌ لَمْ يَرِدْ إلّا في ألْفاظٍ يَسِيرَةٍ. وحَكى غَيْرُ سِيبَوَيْهِ: أنَّها لُغَةُ سُلَيْمٍ، وأنَّها تَطَّرِدُ في عَيْنِ كُلِّ فِعْلٍ مُضاعَفٍ اتَّصَلَ بِتاءِ الضَّمِيرِ أوْ نُونِهِ. وقَرَأ ابْنُ مَسْعُودٍ وأبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ وأبُو السَّمّالِ وعِيسى الثَّقَفِيُّ: (رَشَدًا) بِفَتْحَتَيْنِ. وقُرِئَ شاذًّا: (رُشُدًا) بِضَمَّتَيْنِ، ونَكَّرَ (رُشْدًا) لِأنَّ مَعْناهُ نَوْعٌ مِنَ الرُّشْدِ، وطَرَفٌ ومَخِيلَةٌ مِن مَخِيلَتِهِ، ولا يُنْتَظَرُ بِهِ تَمامُ الرُّشْدِ. قالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: ومالِكٌ يَرى الشَّرْطَيْنِ: البُلُوغَ والرُّشْدَ، وحِينَئِذٍ يُدْفَعُ المالُ. وأبُو حَنِيفَةَ يَرى أنْ يُدْفَعَ المالُ بِالشَّرْطِ الواحِدِ ما لَمْ يُحْفَظْ لَهُ سَفَهٌ، كَما أُبِيحَتِ التَّسْرِيَةُ بِالشَّرْطِ الواحِدِ. وكِتابُ اللَّهِ قَدْ قَيَّدَها بِعَدَمِ الطَّوَلِ وخَوْفِ العَنَتِ. والتَّمْثِيلُ عِنْدِي في دَفْعِ المالِ بِتَوالِي الشَّرْطَيْنِ غَيْرُ صَحِيحٍ، وذَلِكَ أنَّ البُلُوغَ لَمْ تَسُقْهُ الآيَةُ سَبَبًا في الشَّرْطِ، ولَكِنَّها حالَةُ الغالِبِ عَلى بَنِي آدَمَ أنْ تَلْتَئِمَ عُقُولُهم فِيها، فَهو الوَقْتُ الَّذِي لا يُعْتَبَرُ شَرْطُ الرُّشْدِ إلّا فِيهِ. فَقالَ: إذا بَلَغَ ذَلِكَ الوَقْتَ فَلْيَنْظُرْ إلى الشَّرْطِ، وهو الرُّشْدُ حِينَئِذٍ. وفَصاحَةُ الكَلامِ تَدُلُّ عَلى ذَلِكَ؛ لِأنَّ التَّوْقِيتَ بِالبُلُوغِ جاءَ بِـ (إذا)، والمَشْرُوطَ جاءَ بِـ (إنِ) الَّتِي هي قاعِدَةُ حُرُوفِ الشَّرْطِ. و(إذا) لَيْسَتْ بِحَرْفِ شَرْطٍ لِحُصُولِ ما بَعْدَها، وأجازَ سِيبَوَيْهِ أنْ يُجازى بِها في الشِّعْرِ. وقالَ: فَعَلُوا ذَلِكَ مُضْطَرِّينَ، وإنَّما جُوزِيَ بِها لِأنَّها تَحْتاجُ إلى جَوابٍ، ولِأنَّها يَلِيها الفِعْلُ مُظْهَرًا أوْ مُضْمَرًا. واحْتَجَّ الخَلِيلُ عَلى مَنعِ شَرْطِيَّتِها بِحُصُولِ ما بَعْدَها. ألا تَرى أنَّكَ تَقُولُ: أجِيئُكَ إذا احْمَرَّ البُسْرُ، ولا تَقُولُ: إنِ احْمَرَّ البُسْرُ. انْتَهى كَلامُهُ. ودَلَّ كَلامُهُ عَلى أنَّ (إذا) ظَرْفٌ مُجَرَّدٌ مِن مَعْنى الشَّرْطِ، وهَذا مُخالِفٌ لِكَلامِ النَّحْوِيِّينَ. بَلِ النَّحْوِيُّونَ كالمُجْمِعِينَ عَلى أنَّ (إذا) ظَرْفٌ لِما يُسْتَقْبَلُ فِيهِ مَعْنى الشَّرْطِ غالِبًا، وإنْ صَرَّحَ أحَدٌ مِنهم بِأنَّها لَيْسَتْ أداةَ شَرْطٍ فَإنَّما يَعْنِي أنَّها لا تَجْزِمُ كَأدَواتِ الشَّرْطِ، لا نَفى كَوْنَها تَأْتِي لِلشَّرْطِ. وكَيْفَ تَقُولُ ذَلِكَ، والغالِبُ عَلَيْها أنَّها تَكُونُ شَرْطًا ؟ ولَمْ تَتَعَرَّضِ الآيَةُ إلى حُكْمِ مَن أُونِسَ مِنهُ الرُّشْدُ بَعْدَ البُلُوغِ، ودُفِعَ إلَيْهِ مالُهُ، ثُمَّ عادَ إلى السَّفَهِ، أيَعُودُ الحَجْرُ عَلَيْهِ أمْ لا ؟ وفِيهِ قَوْلانِ: قالَ مالِكٌ: يَعُودُ. وقالَ أبُو حَنِيفَةَ: لا يَعُودُ، والقَوْلانِ عَنِ الشّافِعِيِّ. ﴿ولا تَأْكُلُوها إسْرافًا وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا﴾ تَقَدَّمَ أنَّهُ يُعَبَّرُ بِالأكْلِ عَنِ الأخْذِ؛ لِأنَّ الأكْلَ أعْظَمُ وُجُوهِ الِانْتِفاعِ بِالمَأْخُوذِ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَقِلَّةٌ. نَهاهم تَعالى عَنْ أكْلِ أمْوالِ اليَتامى وإتْلافِها بِسُوءِ التَّصَرُّفِ، ولَيْسَتْ مَعْطُوفَةً عَلى جَوابِ الشَّرْطِ، لِأنَّهُ وشَرْطَهُ مُتَرَتِّبانِ عَلى بُلُوغِ النِّكاحِ. وهو مُعارِضٌ لِقَوْلِهِ: ﴿وبِدارًا أنْ يَكْبَرُوا﴾، فَيَلْزَمُ مِنهُ مَشَقَّةٌ عَلى ما تَرَتَّبَ عَلَيْهِ، وذَلِكَ مُمْتَنِعٌ. وبِهَذا الَّذِي قَرَّرْناهُ يَتَّضِحُ خَطَأُ مَن جَعَلَ ﴿ولا تَأْكُلُوها﴾ عَطْفًا عَلى فادْفَعُوا، ولَيْسَ تَقْيِيدُ النَّهْيِ بِأكْلِ أمْوالِ اليَتامى في هاتَيْنِ الحالَتَيْنِ مِمّا يُبِيحُ الأكْلَ بِدُونِهِما، فَيَكُونُ مِن بابِ دَلِيلِ الخِطابِ. والإسْرافُ الإفْراطُ في الإنْفاقِ، والسَّرَفُ الخَطَأُ في مَواضِعِ الإنْفاقِ. قالَ: ؎أعْطَوْا هُنَيْدَةَ تَحْدُوها ثَمانِيَةٌ ∗∗∗ ما في عَطائِهِمْ مَنٌّ ولا سَرَفُ أيْ: لَيْسَ يُخْطِئُونَ مَواضِعَ العَطاءِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وغَيْرُهُ: ومُبادَرَةُ كِبَرِهِمْ أنَّ الوَصِيَّ يَسْتَغْنِمُ مالَ مَحْجُورِهِ فَيَأْكُلُ، ويَقُولُ: أُبادِرُ كِبَرَهُ لِئَلّا يَرْشُدَ ويَأْخُذَ مالَهُ. وانْتَصَبَ ﴿إسْرافًا وبِدارًا﴾ عَلى أنَّهُما مَصْدَرانِ في مَوْضِعِ الحالِ، أيْ: مُسْرِفِينَ ومُبادِرِينَ. والبِدارُ مَصْدَرُ بادَرَ، وهو مِن بابِ المُفاعَلَةِ الَّتِي تَكُونُ بَيْنَ اثْنَيْنِ. لِأنَّ اليَتِيمَ مُبادِرٌ إلى الكِبَرِ، والوَلِيُّ مُبادِرٌ إلى أخْذِ مالِهِ، فَكَأنَّهُما مُسْتَبِقانِ. ويَجُوزُ أنْ يَكُونَ مِن واحِدٍ، وأُجِيزَ أنْ يَنْتَصِبا عَلى المَفْعُولِ مِن أجْلِهِ، أيْ: لِإسْرافِكم ومُبادَرَتِكم. و(أنْ يَكْبَرُوا) مَفْعُولٌ بِالمَصْدَرِ، أيْ: كِبَرُكم؛ كَقَوْلِهِ: أوْ إطْعامٌ يَتِيمًا وفي إعْمالِ المَصْدَرِ المُنَوَّنِ خِلافٌ. وقِيلَ: التَّقْدِيرُ: مَخافَةَ أنْ يَكْبَرُوا، فَيَكُونُ أنْ يَكْبَرُوا مَفْعُولًا مِن أجْلِهِ، ومَفْعُولُ (بِدارًا) مَحْذُوفٌ. (p-١٧٣)﴿ومَن كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ ومَن كانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالمَعْرُوفِ﴾ ظاهِرُ هَذِهِ الجُمْلَةِ يَدُلُّ عَلى أنَّهُ تَقْسِيمٌ لِحالِ الوَصِيِّ عَلى اليَتِيمِ، فَأمَرَهُ تَعالى بِالِاسْتِعْفافِ عَنْ مالِهِ إنْ كانَ غَنِيًّا، واقْتِناعِهِ بِما رَزَقَهُ اللَّهُ تَعالى مِنَ الغِنى، وأباحَ لَهُ الأكْلَ بِالمَعْرُوفِ مِن مالِ اليَتِيمِ إنْ كانَ فَقِيرًا، بِحَيْثُ يَأْخُذُ قُوتًا مُحْتاطًا في تَقْدِيرِهِ. وظاهِرُ هَذِهِ الإباحَةِ أنَّهُ لا تَبِعَةَ عَلَيْهِ، ولا يَتَرَتَّبُ في ذِمَّتِهِ ما أخَذَ مِمّا يَسُدُّ جَوْعَتَهُ بِما لا يَكُونُ رَفِيعًا مِنَ الثِّيابِ، ولا يَقْضِي إذا أيْسَرَ، قالَهُ إبْراهِيمُ، وعَطاءٌ، والحَسَنُ، والسُّدِّيُّ، وعَلى هَذا القَوْلِ الفُقَهاءُ. وقالَ عُمَرُ وابْنُ عَبّاسٍ، وعُبَيْدَةُ، والشَّعْبِيُّ، ومُجاهِدٌ، وأبُو العالِيَةِ، وابْنُ جُبَيْرٍ: يَقْضِي إذا أيْسَرَ، ولا يَسْتَلِفُ أكْثَرَ مِن حاجَتِهِ. وبِهِ قالَ الأوْزاعِيُّ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ أيْضًا وأبُو العالِيَةِ، والحَسَنُ، والشَّعْبِيُّ: إنَّما يَأْكُلُ بِالمَعْرُوفِ إذا شَرِبَ مِنَ اللَّبَنِ، وأكَلَ مِنَ التَّمْرِ، بِما يَهْنَأُ الجَرْباءَ ويَلِيطُ الحَوْضَ، ويَجُذُّ التَّمْرَ وما أشْبَهَهُ. فَأمّا أعْيانُ الأمْوالِ وأُصُولُها فَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أخْذُها. وقالَتْ طائِفَةٌ: المَعْرُوفُ أنْ يَكُونَ لَهُ أجْرٌ بِقَدْرِ عَمَلِهِ وخِدْمَتِهِ، وهَذِهِ رِوايَةٌ عَنِ الإمامِ أحْمَدَ. وفَصَّلَ الحَسَنُ بْنُ حَيٍّ فَقالَ: إنْ كانَ وصِيَّ أبٍ فَلَهُ الأكْلُ بِالمَعْرُوفِ، أوْ وصِيَّ حاكِمٍ فَلا سَبِيلَ لَهُ إلى المالِ بِوَجْهٍ، وأُجْرَتُهُ عَلى بَيْتِ المالِ. وفَصَّلَ أبُو حَنِيفَةَ وصاحِباهُ فَقالُوا: إنْ كانَ وصِيُّ اليَتِيمِ مُقِيمًا فَلا يَجُوزُ لَهُ أنْ يَأْخُذَ مِن مالِهِ شَيْئًا، وإنْ كانَ مُسافِرًا فَلَهُ أنْ يَأْخُذَ ما يَحْتاجُ إلَيْهِ، ولا يَقْتَنِي شَيْئًا. وفَصَّلَ الشَّعْبِيُّ فَقالَ: إنْ كانَ مُضْطَرًّا بِحالِ مَن يَجُوزُ لَهُ أكْلُ المَيْتَةِ أكَلَ بِقَدْرِ حاجَتِهِ ورَدَّ إذا وجَدَ، وإلّا فَلا يَأْكُلْ لا سَفَرًا ولا حَضَرًا. وقالَ مُجاهِدٌ: هَذِهِ الإباحَةُ مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أمْوالَ اليَتامى ظُلْمًا﴾ [النساء: ١٠] . وقالَ أبُو يُوسُفَ: لَعَلَّها مَنسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: ﴿ولا تَأْكُلُوا أمْوالَكم بَيْنَكم بِالباطِلِ﴾ [البقرة: ١٨٨] فَلَيْسَ لَهُ أنْ يَأْخُذَ قَرْضًا ولا غَيْرَهُ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والنَّخَعِيُّ أيْضًا: هَذا الأمْرُ لَيْسَ مُتَعَلِّقًا بِمالِ اليَتِيمِ، والمَعْنى: أنَّ الغَنِيَّ يَسْتَعْفِفُ بِغِناهُ، وأمّا الفَقِيرُ فَيَأْكُلُ بِالمَعْرُوفِ مِن مالِ نَفْسِهِ، ويَقُومُ عَلى نَفْسِهِ بِمالِهِ حَتّى لا يَحْتاجَ إلى مالِ يَتِيمِهِ. واخْتارَ هَذا القَوْلَ مِنَ الشّافِعِيَّةِ إلْكَيا الطَّبَرِيُّ. وقِيلَ: إنْ كانَ مالُ اليَتِيمِ كَثِيرًا يَحْتاجُ إلى قِيامٍ كَثِيرٍ عَلَيْهِ بِحَيْثُ يَشْغَلُ الوَلِيَّ عَنْ مَصالِحِ نَفْسِهِ ومُهِمّاتِهِ فُرِضَ لَهُ في مالِ اليَتِيمِ أجْرُ عَمَلِهِ، وإنْ كانَ لا يَشْغَلُهُ فَلا يَأْكُلْ مِنهُ شَيْئًا، غَيْرَ أنَّهُ يُسْتَحَبُّ لَهُ شُرْبُ قَلِيلِ اللَّبَنِ، وأكْلُ قَلِيلِ الطَّعامِ والسَّمْنِ، غَيْرَ مُضِرٍّ بِهِ ولا مُسْتَكْثِرٍ مِنهُ عَلى ما جَرَتْ بِهِ العادَةُ والمُسامَحَةُ. وقالَتْ طائِفَةٌ، مِنهم رَبِيعَةُ ويَحْيى بْنُ سَعِيدٍ: هَذا تَقْسِيمٌ لِحالِ اليَتِيمِ، لا لِحالِ الوَصِيِّ. والمَعْنى: مَن كانَ مِنهم غَنِيًّا فَلْيَعِفَّ بِمالِهِ، ومَن كانَ مِنهم فَقِيرًا فَلْيُقْتِرْ عَلَيْهِ بِالمَعْرُوفِ والِاقْتِصادِ. ويَكُونُ مِن خِطابِ العَيْنِ، ويُرادُ بِهِ الغَيْرُ. خُوطِبَ اليَتامى بِالِاسْتِعْفافِ والأكْلِ بِالمَعْرُوفِ، والمُرادُ الأوْلِياءُ. لِأنَّ اليَتامى لَيْسُوا مِن أهْلِ الخِطابِ، فَكَأنَّهُ قالَ لِلْأوْلِياءِ والأوْصِياءِ: إنْ كانَ اليَتِيمُ غَنِيًّا فَأنْفِقُوا عَلَيْهِ نَفَقَةَ مُتَعَفِّفٍ مُقْتَصِدٍ لِئَلّا يَذْهَبَ مالُهُ بِالتَّوَسُّعِ في نَفَقَتِهِ، وإنْ كانَ فَقِيرًا فَلْيُنْفِقْ عَلَيْهِ بِقَدْرِ مالِهِ لِئَلّا يَذْهَبَ فَيَبْقى كَلًّا مُضْعَفًا. فَهَذِهِ أقْوالٌ، مُلَخَّصُها: هَلْ تَقْسِيمٌ في الوَلِيِّ أوِ الصَّبِيِّ ؟ قَوْلانِ: فَإذا كانَ في الوَلِيِّ فَهَلِ الأمْرُ مُتَوَجِّهٌ إلى مالِ نَفْسِهِ، أوْ مالِ الصَّبِيِّ ؟ قَوْلانِ. وإذا كانَ مُتَوَجِّهًا إلى مالِ الصَّبِيِّ، هَلْ ذَلِكَ مَنسُوخٌ أمْ لا ؟ قَوْلانِ. وإذا لَمْ يَكُنْ مَنسُوخًا، فَهَلْ يَكُونُ تَفْصِيلًا بِالنِّسْبَةِ إلى الأكْلِ أوِ المَأْكُولِ ؟ قَوْلانِ. فَإذا كانَ بِالنِّسْبَةِ إلى الأكْلِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِوَلِيِّ الأبِ، أوْ بِالمُسافِرِ، أوْ بِالمُضْطَرِّ، أوْ بِالمُشْتَغِلِ بِذَلِكَ عَنْ مُهِمّاتِ نَفْسِهِ ؟ أقْوالٌ. وإذا كانَ بِالنِّسْبَةِ لِلْمَأْكُولِ، فَهَلْ يَخْتَصُّ بِالتّافِهِ أمْ يَتَعَدّى إلى غَيْرِهِ ؟ قَوْلانِ. وإذا تَعَدّى إلى غَيْرِهِ، فَهَلْ يَكُونُ أُجْرَةً أمْ لا ؟ قَوْلانِ. وإذا لَمْ يَكُنْ أُجْرَةً فَأخَذَ، فَهَلْ يَتَرَتَّبُ دَيْنًا في ذِمَّتِهِ يَجِبُ قَضاؤُهُ إذا أيْسَرَ أمْ لا ؟ قَوْلانِ. ودَلائِلُ هَذِهِ الأقْوالِ مَذْكُورَةٌ في مَسائِلِ الخِلافِ. ولَفْظَةُ ﴿فَلْيَسْتَعْفِفْ﴾ أبْلَغُ مِن فَلْيَعِفَّ؛ لِأنَّ فِيهِ طَلَبَ زِيادَةِ العِفَّةِ. ﴿فَإذا دَفَعْتُمْ إلَيْهِمْ أمْوالَهم فَأشْهِدُوا عَلَيْهِمْ﴾ أمَرَ تَعالى (p-١٧٤)بِالإشْهادِ لِحَسْمِ مادَّةِ النِّزاعِ، وسُوءِ الظَّنِّ بِهِمْ، والسَّلامَةِ مِنَ الضَّمانِ والغُرْمِ عَلى تَقْدِيرِ إنْكارِ اليَتِيمِ، وطَيَّبَ خاطِرَ اليَتِيمِ بِفَكِّ الحَجْرِ عَنْهُ، وانْتِظامِهِ في سِلْكِ مَن يُعامَلُ ويُعامِلُ. وإذا لَمْ يَشْهَدْ فادَّعى عَلَيْهِ صُدِّقَ مَعَ يَمِينِهِ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ وأصْحابِهِ. وعِنْدَ مالِكٍ والشّافِعِيِّ: لا يُصَدَّقُ إلّا بِالبَيِّنَةِ. فَكانَ في الإشْهادِ الِاحْتِرازُ مِن تَوَجُّهِ الحَلِفِ المُفْضِي إلى التُّهْمَةِ، أوْ مِن وُجُوبِ الضَّمانِ إذْ لَمْ يُقِمِ البَيِّنَةَ. وظاهِرُ الأمْرِ أنَّهُ واجِبٌ. وقالَ قَوْمٌ: هو نَدْبٌ. وظاهِرُ الآيَةِ الأمْرُ بِالإشْهادِ عَلَيْهِمْ إذا دَفَعَ إلَيْهِمْ أمْوالَهم، وهي المَأْمُورُ بِدَفْعِها في قَوْلِهِ: ﴿فَإنْ آنَسْتُمْ مِنهم رُشْدًا فادْفَعُوا إلَيْهِمْ أمْوالَهُمْ﴾ وقالَ عَمْرُو بْنُ جُبَيْرٍ: هَذا الإشْهادُ إنَّما هو عَلى دَفْعِ الوَلِيِّ ما اسْتَقْرَضَهُ مِن مالِ اليَتِيمِ حالَةَ فَقْرِهِ إذا أيْسَرَ. وقِيلَ: فِيها دَلِيلٌ عَلى وُجُوبِ القَضاءِ عَلى مَن أكَلَ مِن مالِ اليَتِيمِ، المَعْنى: أقْرَضْتُمْ أوْ أكَلْتُمْ فَأشْهِدُوا إذا غَرِمْتُمْ. وقِيلَ: المَعْنى إذا أنْفَقْتُمْ شَيْئًا عَلى المَوْلى عَلَيْهِ فَأشْهِدُوا، حَتّى لَوْ وقَعَ خِلافٌ أمْكَنَ إقامَةُ البَيِّنَةِ، فَإنَّ مالًا قُبِضَ عَلى وجْهِ الأمانَةِ بِإشْهادٍ لا يُبْرَأُ مِنهُ إلّا بِإشْهادٍ عَلى دَفْعِهِ. ﴿وكَفى بِاللَّهِ حَسِيبًا﴾ أيْ كافِيًا في الشَّهادَةِ عَلَيْكم. ومَعْناهُ: مُحْسِبًا مِن أحْسَبَنِي كَذا، أيْ كَفانِي، قالَهُ الأعْمَشُ والطَّبَرِيُّ. فَيَكُونُ فَعِيلًا بِمَعْنى مُفْعِلٍ، أوْ مُحاسِبًا، أوْ حاسِبًا لِأعْمالِكم يُجازِيكم بِها، فَعَلَيْكم بِالصِّدْقِ، وإيّاكم والكَذِبَ. فَيَكُونُ في ذَلِكَ وعِيدٌ لِجاحِدِ الحَقِّ. وحَسِيبٌ فَعِيلٌ بِمَعْنى مُفاعِلٍ، كَجَلِيسٍ وخَلِيطٍ، أوْ بِمَعْنى فاعِلٍ، حُوِّلَ لِلْمُبالَغَةِ في الحُسْبانِ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ والسُّدِّيُّ ومُقاتِلٌ: مَعْنى حَسِيبًا شَهِيدًا. وفي كَفى خِلافٌ: أهِيَ اسْمُ فِعْلٍ، أمْ فِعْلٌ ؟ والصَّحِيحُ أنَّها فِعْلٌ، وفاعِلُهُ اسْمُ اللَّهِ، والباءُ زائِدَةٌ. وقِيلَ: الفاعِلُ مُضْمَرٌ وهو ضَمِيرُ الِاكْتِفاءِ، أيْ: كَفى هو، أيِ الِاكْتِفاءُ بِاللَّهِ، والباءُ لَيْسَتْ بِزائِدَةٍ، فَيَكُونُ (بِاللَّهِ) في مَوْضِعِ نَصْبٍ، ويَتَعَلَّقُ إذْ ذاكَ بِالفاعِلِ. وهَذا الوَجْهُ لا يَسُوغُ إلّا عَلى مَذْهَبِ الكُوفِيِّينَ، حَيْثُ يُجِيزُونَ إعْمالَ ضَمِيرِ المَصْدَرِ كَإعْمالِ ظاهِرِهِ. وإنْ عَنى بِالإضْمارِ الحَذْفَ فَفِيهِ إعْمالُ المَصْدَرِ وهو مَوْصُولٌ، وإبْقاءُ مَعْمُولِهِ وهو عِنْدَ البَصْرِيِّينَ لا يَجُوزُ، أعْنِي: حَذْفَ الفاعِلِ وحَذْفَ المَصْدَرِ. وانْتَصَبَ (حَسِيبًا) عَلى التَّمْيِيزِ لِصَلاحِيَّةِ دُخُولِ (مِن) عَلَيْهِ. وقِيلَ: عَلى الحالِ. و(كَفى) هُنا مُتَعَدِّيَةٌ إلى واحِدٍ وهو مَحْذُوفٌ، التَّقْدِيرُ: وكَفاكُمُ اللَّهُ حَسِيبًا. وتَأْتِي بِغَيْرِ هَذا المَعْنى، فَتُعَدِّيهِ إلى اثْنَيْنِ كَقَوْلِهِ: ﴿فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ﴾ [البقرة: ١٣٧] .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب