الباحث القرآني
النَّوْعُ الخامِسُ: مِنَ الأُمُورِ الَّتِي كَلَّفَ اللَّهُ تَعالى بِها في هَذِهِ الآيَةِ مِنَ الأُمُورِ المُتَعَلِّقَةِ بِالنِّساءِ:
﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا﴾
قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا﴾ . وفِيهِ مَسائِلُ:
المَسْألَةُ الأُولى: قالَ ابْنُ عَبّاسٍ وجُمْهُورُ المُفَسِّرِينَ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يَتَزَوَّجُونَ بِأزْواجِ آبائِهِمْ فَنَهاهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الآيَةِ عَنْ ذَلِكَ الفِعْلِ.
المَسْألَةُ الثّانِيَةُ: قالَ أبُو حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: يَحْرُمُ عَلى الرَّجُلِ أنْ يَتَزَوَّجَ بِمَزْنِيَّةِ أبِيهِ، وقالَ الشّافِعِيُّ - رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِ -: لا يَحْرُمُ، احْتَجَّ أبُو حَنِيفَةَ بِهَذِهِ الآيَةِ فَقالَ: إنَّهُ تَعالى نَهى الرَّجُلَ أنْ يَنْكِحَ مَنكُوحَةَ أبِيهِ، والنِّكاحُ عِبارَةٌ عَنِ الوَطْءِ فَكانَ نَهْيًا عَنْ نِكاحِ مَوْطُوءَةِ أبِيهِ، إنَّما قُلْنا: إنَّ النِّكاحَ عِبارَةٌ عَنِ الوَطْءِ لِوُجُوهٍ: الأوَّلُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿فَلا تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ﴾ [البقرة: ٢٣٠] أضافَ هَذا النِّكاحَ إلى الزَّوْجِ، والنِّكاحُ المُضافُ إلى الزَّوْجِ هو الوَطْءُ لا العَقْدُ؛ لِأنَّ الإنْسانَ لا يُمْكِنُهُ أنْ يَتَزَوَّجَ بِزَوْجَةِ نَفْسِهِ لِأنَّ تَحْصِيلَ الحاصِلِ مُحالٌ، ولِأنَّهُ لَوْ كانَ المُرادُ بِالنِّكاحِ في هَذِهِ الآيَةِ هو العَقْدَ لَوَجَبَ أنْ يَحْصُلَ التَّحْلِيلُ بِمُجَرَّدِ العَقْدِ وحَيْثُ لَمْ يَحْصُلْ عَلِمْنا أنَّ المُرادَ مِنَ النِّكاحِ في هَذِهِ الآيَةِ لَيْسَ هو العَقْدَ، فَتَعَيَّنَ أنْ يَكُونَ هو الوَطْءَ؛ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ.
الثّانِي: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿وابْتَلُوا اليَتامى حَتّى إذا بَلَغُوا النِّكاحَ﴾ [النساء: ٦] والمُرادُ مِنَ النِّكاحِ هَهُنا الوَطْءُ لا العَقْدُ؛ لِأنَّ أهْلِيَّةَ العَقْدِ كانَتْ حاصِلَةً أبَدًا.
الثّالِثُ: قَوْلُهُ تَعالى: ﴿الزّانِي لا يَنْكِحُ إلّا زانِيَةً﴾ [النور: ٣] فَلَوْ كانَ المُرادُ هَهُنا العَقْدَ لَزِمَ الكَذِبُ.
الرّابِعُ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«ناكِحُ اليَدِ مَلْعُونٌ» “، ومَعْلُومٌ أنَّ المُرادَ لَيْسَ هو العَقْدَ بَلْ هو الوَطْءُ. فَثَبَتَ بِهَذِهِ الوُجُوهِ أنَّ النِّكاحَ عِبارَةٌ عَنِ الوَطْءِ، فَلَزِمَ أنْ يَكُونَ قَوْلُهُ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ أيْ: ولا تَنْكِحُوا ما وطِئَهُنَّ آباؤُكم، وهَذا يَدْخُلُ فِيهِ المَنكُوحَةُ والمَزْنِيَّةُ، لا يُقالُ: كَما أنَّ لَفْظَ النِّكاحِ ورَدَ بِمَعْنى الوَطْءِ فَقَدْ ورَدَ أيْضًا بِمَعْنى العَقْدِ قالَ تَعالى: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢] ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣] ﴿إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ﴾ [الأحزاب: ٤٩]، وقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«وُلِدْتُ مِن نِكاحٍ ولَمْ أُولَدْ مِن سِفاحٍ» “ فَلِمَ كانَ حَمْلُ (p-١٦)اللَّفْظِ عَلى الوَطْءِ أوْلى مِن حَمْلِهِ عَلى العَقْدِ ؟
أجابُوا عَنْهُ مِن ثَلاثَةِ أوْجُهٍ:
الأوَّلُ: ما ذَهَبَ إلَيْهِ الكَرْخِيُّ، وهو أنَّ لَفْظَ النِّكاحِ حَقِيقَةٌ في الوَطْءِ مَجازٌ في العَقْدِ، بِدَلِيلِ أنَّ لَفْظَ النِّكاحِ في أصْلِ اللُّغَةِ عِبارَةٌ عَنِ الضَّمِّ، ومَعْنى الضَّمِّ حاصِلٌ في الوَطْءِ لا في العَقْدِ، فَكانَ لَفْظُ النِّكاحِ حَقِيقَةً في الوَطْءِ، ثُمَّ إنَّ العَقْدَ سُمِّيَ بِهَذا الِاسْمِ لِأنَّ العَقْدَ لَمّا كانَ سَبَبًا لَهُ أُطْلِقَ اسْمُ المُسَبَّبِ عَلى السَّبَبِ، كَما أنَّ العَقِيقَةَ اسْمٌ لِلشَّعْرِ الَّذِي يَكُونُ عَلى رَأْسِ الصَّبِيِّ حالَ ما يُولَدُ، ثُمَّ تُسَمّى الشّاةُ الَّتِي تُذْبَحُ عِنْدَ حَلْقِ ذَلِكَ الشَّعْرِ عَقِيقَةً فَكَذا هَهُنا.
واعْلَمْ أنَّهُ كانَ مَذْهَبُ الكَرْخِيِّ أنَّهُ لا يَجُوزُ اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ الواحِدِ بِالِاعْتِبارِ الواحِدِ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ مَعًا، فَلا جَرَمَ كانَ يَقُولُ: المُسْتَفادُ مِن هَذِهِ الآيَةِ حُكْمُ الوَطْءِ، أمّا حُكْمُ العَقْدِ فَإنَّهُ غَيْرُ مُسْتَفادٍ مِن هَذِهِ الآيَةِ، بَلْ مِن طَرِيقٍ آخَرَ ودَلِيلٍ آخَرَ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ مِنَ النّاسِ مَن ذَهَبَ إلى أنَّ اللَّفْظَ المُشْتَرَكَ يَجُوزُ اسْتِعْمالُهُ في مَفْهُومَيْهِ مَعًا، فَهَذا القائِلُ قالَ: دَلَّتِ الآياتُ المَذْكُورَةُ عَلى أنَّ لَفْظَ النِّكاحِ حَقِيقَةٌ في الوَطْءِ وفي العَقْدِ مَعًا، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ نَهْيًا عَنِ الوَطْءِ وعَنِ العَقْدِ مَعًا، حَمْلًا لِلَّفْظِ عَلى كِلا مَفْهُومَيْهِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ في الِاسْتِدْلالِ: وهو قَوْلُ مَن يَقُولُ: اللَّفْظُ المُشْتَرَكُ لا يَجُوزُ اسْتِعْمالُهُ في مَفْهُومَيْهِ مَعًا، قالُوا: ثَبَتَ بِالدَّلائِلِ المَذْكُورَةِ أنَّ لَفْظَ النِّكاحِ قَدِ اسْتُعْمِلَ في القُرْآنِ في الوَطْءِ تارَةً وفي العَقْدِ أُخْرى، والقَوْلُ بِالِاشْتِراكِ والمَجازِ خِلافُ الأصْلِ، ولا بُدَّ مِن جَعْلِهِ حَقِيقَةً في القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَهُما وهو مَعْنى الضَّمِّ حَتّى يَنْدَفِعَ الِاشْتِراكُ والمَجازُ، وإذا كانَ كَذَلِكَ كانَ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ نَهْيًا عَنِ القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ هَذَيْنِ القِسْمَيْنِ، والنَّهْيُ عَنِ القَدْرِ المُشْتَرَكِ بَيْنَ القِسْمَيْنِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ كُلِّ واحِدٍ مِنَ القِسْمَيْنِ لا مَحالَةَ، فَإنَّ النَّهْيَ عَنِ التَّزْوِيجِ يَكُونُ نَهْيًا عَنِ العَقْدِ وعَنِ الوَطْءِ مَعًا، فَهَذا أقْصى ما يُمْكِنُ أنْ يُقالَ في تَقْرِيرِ هَذا الِاسْتِدْلالِ.
والجَوابُ عَنْهُ مِن وُجُوهٍ:
الأوَّلُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ اسْمَ النِّكاحِ يَقَعُ عَلى الوَطْءِ، والوُجُوهُ الَّتِي احْتَجُّوا بِها عَلى ذَلِكَ فَهي مُعارَضَةٌ بِوُجُوهٍ:
أحَدُها: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«النِّكاحُ سُنَّتِي» “، ولا شَكَّ أنَّ الوَطْءَ مِن حَيْثُ كَوْنِهِ وطْئًا لَيْسَ سُنَّةً لَهُ، وإلّا لَزِمَ أنْ يَكُونَ الوَطْءُ بِالسِّفاحِ سُنَّةً لَهُ، فَلَمّا ثَبَتَ أنَّ النِّكاحَ سُنَّةٌ، وثَبَتَ أنَّ الوَطْءَ لَيْسَ سُنَّةً، ثَبَتَ أنَّ النِّكاحَ لَيْسَ عِبارَةً عَنِ الوَطْءِ، كَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ: ”«تَناكَحُوا تَكْثُرُوا» “ ولَوْ كانَ الوَطْءُ مُسَمًّى بِالنِّكاحِ لَكانَ هَذا إذْنًا في مُطْلَقِ الوَطْءِ وكَذَلِكَ التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى مِنكُمْ﴾ [النور: ٣٢]، وقَوْلِهِ: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣] .
لا يُقالُ: لَمّا وقَعَ التَّعارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الدَّلائِلِ فالتَّرْجِيحُ مَعَنا، وذَلِكَ لِأنّا لَوْ قُلْنا: الوَطْءُ مُسَمًّى بِالنِّكاحِ عَلى سَبِيلِ الحَقِيقَةِ لَزِمَ دُخُولُ المَجازِ في دَلائِلِنا، ومَتى وقَعَ التَّعارُضُ بَيْنَ المَجازِ والتَّخْصِيصِ كانَ التِزامُ التَّخْصِيصِ أوْلى.
لِأنّا نَقُولُ: أنْتُمْ تُساعِدُونَ عَلى أنَّ لَفْظَ النِّكاحِ مُسْتَعْمَلٌ في العَقْدِ، فَلَوْ قُلْنا: إنَّ النِّكاحَ حَقِيقَةٌ في الوَطْءِ لَزِمَ دُخُولُ التَّخْصِيصِ في الآياتِ الَّتِي ذَكَرْناها، ولَزِمَ القَوْلُ بِالمَجازِ في الآياتِ الَّتِي ذُكِرَ النِّكاحُ فِيها بِمَعْنى العَقْدِ، أمّا لَوْ قُلْنا: إنَّ النِّكاحَ فِيها بِمَعْنى الوَطْءِ فَلا يَلْزَمُنا التَّخْصِيصُ، فَقَوْلُكم يُوجِبُ المَجازَ (p-١٧)والتَّخْصِيصَ مَعًا، وقَوْلُنا يُوجِبُ المَجازَ فَقَطْ، فَكانَ قَوْلُنا أوْلى.
الوَجْهُ الثّانِي مِنَ الوُجُوهِ الدّالَّةِ عَلى أنَّ النِّكاحَ لَيْسَ حَقِيقَةً في الوَطْءِ: قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«وُلِدْتُ مِن نِكاحٍ ولَمْ أُولَدْ مِن سِفاحٍ» “ أثْبَتَ نَفْسَهُ مَوْلُودًا مِنَ النِّكاحِ وغَيْرَ مَوْلُودٍ مِنَ السِّفاحِ، وهَذا يَقْتَضِي أنْ لا يَكُونَ السِّفاحُ نِكاحًا، والسِّفاحُ وطْءٌ، فَهَذا يَقْتَضِي أنْ لا يَكُونَ الوَطْءُ نِكاحًا.
الوَجْهُ الثّالِثُ: أنَّهُ مَن حَلَفَ في أوْلادِ الزِّنا: أنَّهم لَيْسُوا أوْلادَ النِّكاحِ لَمْ يَحْنَثْ، ولَوْ كانَ الوَطْءُ نِكاحًا لَوَجَبَ أنْ يَحْنَثَ، وهَذا دَلِيلٌ ظاهِرٌ عَلى أنَّ الوَطْءَ لَيْسَ مُسَمًّى بِالنِّكاحِ عَلى سَبِيلِ الحَقِيقَةِ. الثّانِي: سَلَّمْنا أنَّ الوَطْءَ مُسَمًّى بِالنِّكاحِ، لَكِنَّ العَقْدَ أيْضًا مُسَمًّى بِهِ، فَلِمَ كانَ حَمْلُ الآيَةِ عَلى ما ذَكَرْتُمْ أوْلى مِن حَمْلِها عَلى ما ذَكَرْنا ؟
أمّا الوَجْهُ الأوَّلُ: وهو الَّذِي ذَكَرَهُ الكَرْخِيُّ فَهو في غايَةِ الرَّكاكَةِ، وبَيانُهُ مِن وجْهَيْنِ:
الأوَّلُ: أنَّ الوَطْءَ مُسَبَّبُ العَقْدِ، فَكَما يَحْسُنُ إطْلاقُ المُسَبَّبِ عَلى السَّبَبِ مَجازًا فَكَذَلِكَ يَحْسُنُ إطْلاقُ اسْمِ السَّبَبِ عَلى المُسَبَّبِ مَجازًا، فَكَما يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: النِّكاحُ اسْمٌ لِلْوَطْءِ ثُمَّ أُطْلِقَ هَذا الِاسْمُ عَلى العَقْدِ لِكَوْنِهِ سَبَبًا لِلْوَطْءِ، فَكَذَلِكَ يُحْتَمَلُ أنْ يُقالَ: النِّكاحُ اسْمٌ لِلْعَقْدِ، ثُمَّ أُطْلِقَ هَذا الِاسْمُ عَلى الوَطْءِ لِكَوْنِ الوَطْءِ مُسَبَّبًا لَهُ، فَلِمَ كانَ أحَدُهُما أوْلى مِنَ الآخَرِ ؟ بَلِ الِاحْتِمالُ الَّذِي ذَكَرْناهُ أوْلى؛ لِأنَّ اسْتِلْزامَ السَّبَبِ لِلْمُسَبَّبِ أتَمُّ مِنِ اسْتِلْزامِ المُسَبَّبِ لِلسَّبَبِ المُعَيَّنِ، فَإنَّهُ لا يَمْتَنِعُ أنْ يَكُونَ لِحُصُولِ الحَقِيقَةِ الواحِدَةِ أسْبابٌ كَثِيرَةٌ، كالمِلْكِ فَإنَّهُ يَحْصُلُ بِالبَيْعِ والهِبَةِ والوَصِيَّةِ والإرْثِ، ولا شَكَّ أنَّ المُلازَمَةَ شَرْطٌ لِجَوازِ المَجازِ، فَثَبَتَ أنَّ القَوْلَ بِأنَّ اسْمَ النِّكاحِ حَقِيقَةٌ في العَقْدِ مَجازٌ في الوَطْءِ، أوْلى مِن عَكْسِهِ.
الوَجْهُ الثّانِي: أنَّ النِّكاحَ لَوْ كانَ حَقِيقَةً في الوَطْءِ مَجازًا في العَقْدِ، وقَدْ ثَبَتَ في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّهُ لا يَجُوزُ اسْتِعْمالُ اللَّفْظِ الواحِدِ في حَقِيقَتِهِ ومَجازِهِ مَعًا، فَحِينَئِذٍ يَلْزَمُ أنْ لا تَكُونَ الآيَةُ دالَّةً عَلى حُكْمِ العَقْدِ، وهَذا وإنْ كانَ قَدِ التَزَمَهُ الكَرْخِيُّ لَكِنَّهُ مَدْفُوعٌ بِالدَّلِيلِ القاطِعِ؛ وذَلِكَ لِأنَّ المُفَسِّرِينَ أجْمَعُوا عَلى أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ هو أنَّهم كانُوا يَتَزَوَّجُونَ بِأزْواجِ آبائِهِمْ، وأجْمَعَ المُسْلِمُونَ عَلى أنَّ سَبَبَ نُزُولِ الآيَةِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ داخِلًا تَحْتَ الآيَةِ، بَلِ اخْتَلَفُوا في أنَّ غَيْرَهُ هَلْ يَدْخُلُ تَحْتَ الآيَةِ أمْ لا ؟
وأمّا كَوْنُ النُّزُولِ داخِلًا فِيها فَذاكَ مُجْمَعٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الأُمَّةِ، فَإذا ثَبَتَ بِإجْماعِ المُفَسِّرِينَ أنَّ سَبَبَ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ هو العَقْدُ لا الوَطْءُ، وثَبَتَ بِإجْماعِ المُسْلِمِينَ أنَّ سَبَبَ النُّزُولِ لا بُدَّ وأنْ يَكُونَ مُرادًا، ثَبَتَ بِالإجْماعِ أنَّ النَّهْيَ عَنِ العَقْدِ مُرادٌ مِن هَذِهِ الآيَةِ، فَكانَ قَوْلُ الكَرْخِيِّ واقِعًا عَلى مُضادَّةِ هَذا الدَّلِيلِ القاطِعِ، فَكانَ فاسِدًا مَرْدُودًا قَطْعًا.
أمّا الوَجْهُ الثّانِي: مِمّا ذَكَرُوهُ وهو أنّا نَحْمِلُ لَفْظَ النِّكاحِ عَلى مَفْهُومَيْهِ، فَنَقُولُ: هَذا أيْضًا باطِلٌ، وقَدْ بَيَّنّا وجْهَ بُطْلانِهِ في أُصُولِ الفِقْهِ.
أمّا الوَجْهُ الثّالِثُ: فَهو أحْسَنُ الوُجُوهِ المَذْكُورَةِ في هَذا البابِ، وهو أيْضًا ضَعِيفٌ لِأنَّ الضَّمَّ الحاصِلَ في الوَطْءِ عِبارَةٌ عَنْ تَجاوُرِ الأجْسامِ وتَلاصُقِها، والضَّمُّ الحاصِلُ في العَقْدِ لَيْسَ كَذَلِكَ؛ لِأنَّ الإيجابَ والقَبُولَ أصْواتٌ غَيْرُ باقِيَةٍ، فَمَعْنى الضَّمِّ والتَّلاقِي والتَّجاوُرِ فِيها مُحالٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ ثَبَتَ أنَّهُ لَيْسَ بَيْنَ الوَطْءِ وبَيْنَ العَقْدِ مَفْهُومٌ مُشْتَرَكٌ حَتّى يُقالَ: إنَّ لَفْظَ النِّكاحِ حَقِيقَةٌ فِيهِ، فَإذا بَطَلَ ذَلِكَ لَمْ يَبْقَ إلّا أنْ يُقالَ: لَفْظُ النِّكاحِ مُشْتَرَكٌ بَيْنَ الوَطْءِ وبَيْنَ العَقْدِ، ويُقالَ: إنَّهُ حَقِيقَةٌ في أحَدِهِما مَجازٌ في الآخَرِ، وحِينَئِذٍ يَرْجِعُ الكَلامُ إلى (p-١٨)الوَجْهَيْنِ الأوَّلَيْنِ، فَهَذا هو الكَلامُ المُلَخَّصُ في هَذا.
الوَجْهُ الثّانِي: في الجَوابِ عَنْ هَذا الِاسْتِدْلالِ أنْ نَقُولَ: سَلَّمْنا أنَّ النِّكاحَ بِمَعْنى الوَطْءِ، ولَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ المُرادُ مِنهُ المَنكُوحَةُ ؟ والدَّلِيلُ عَلَيْهِ إجْماعُهم عَلى أنَّ لَفْظَةَ ”ما“ حَقِيقَةٌ في غَيْرِ العُقَلاءِ، فَلَوْ كانَ المُرادُ مِنهُ هَهُنا المَنكُوحَةَ لَزِمَ هَذا المَجازُ، وإنَّهُ خِلافُ الأصْلِ، بَلْ أهْلُ العَرَبِيَّةِ اتَّفَقُوا عَلى أنَّ ”ما“ مَعَ ما بَعْدَها في تَقْدِيرِ المَصْدَرِ، فَتَقْدِيرُ الآيَةِ: ولا تَنْكِحُوا نِكاحَ آبائِكم، وعَلى هَذا يَكُونُ المُرادُ مِنهُ النَّهْيَ عَنْ أنْ تَنْكِحُوا نِكاحًا مِثْلَ نِكاحِ آبائِكم، فَإنَّ أنَكِحَتَهم كانَتْ بِغَيْرِ ولِيٍّ ولا شُهُودٍ، وكانَتْ مُؤَقَّتَةً، وكانَتْ عَلى سَبِيلِ القَهْرِ والإلْجاءِ، فاللَّهُ تَعالى نَهاهم بِهَذِهِ الآيَةِ عَنْ مِثْلِ هَذِهِ الأنْكِحَةِ، وهَذا الوَجْهُ مَنقُولٌ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ في تَفْسِيرِ هَذِهِ الآيَةِ.
الوَجْهُ الثّالِثُ في الجَوابِ عَنْ هَذا الِاسْتِدْلالِ: سَلَّمْنا أنَّ المُرادَ مِن قَوْلِهِ: ﴿ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ المَنكُوحَةُ، والتَّقْدِيرُ: ولا تَنْكِحُوا مَن نَكَحَ آباؤُكم، ولَكِنَّ قَوْلَهُ: مَن نَكَحَ آباؤُكم لَيْسَ صَرِيحًا في العُمُومِ بِدَلِيلِ أنَّهُ يَصِحُّ إدْخالُ لَفْظَيِ الكُلِّ والبَعْضِ عَلَيْهِ، فَيُقالُ: ولا تَنْكِحُوا كُلَّ ما نَكَحَ آباؤُكم ولا تَنْكِحُوا بَعْضَ مَن نَكَحَ آباؤُكم، ولَوْ كانَ هَذا صَرِيحًا في العُمُومِ لَكانَ إدْخالُ لَفْظِ الكُلِّ عَلَيْهِ تَكْرِيرًا، وإدْخالُ لَفْظِ البَعْضِ عَلَيْهِ نَقْصًا، ومَعْلُومٌ أنَّهُ لَيْسَ كَذَلِكَ، فَثَبَتَ أنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ لا يُفِيدُ العُمُومَ، وإذا لَمْ يُفِدِ العُمُومَ لَمْ يَتَناوَلْ مَحَلَّ النِّزاعِ.
لا يُقالُ: لَوْ لَمْ يُفِدِ العُمُومَ لَمْ يَكُنْ صَرْفُهُ إلى بَعْضِ الأقْسامِ أوْلى مِن صَرْفِهِ إلى الباقِي، فَحِينَئِذٍ يَصِيرُ مُجْمَلًا غَيْرَ مُفِيدٍ، والأصْلُ أنْ لا يَكُونَ كَذَلِكَ.
لِأنّا نَقُولُ: لا نُسَلِّمُ أنَّ بِتَقْدِيرِ أنْ لا يُفِيدَ العُمُومَ لَمْ يَكُنْ صَرْفُهُ إلى البَعْضِ أوْلى مِن صَرْفِهِ إلى غَيْرِهِ، وذَلِكَ لِأنَّ المُفَسِّرِينَ أجْمَعُوا عَلى أنَّ سَبَبَ نُزُولِهِ إنَّما هو التَّزَوُّجُ بِزَوْجاتِ الآباءِ، فَكانَ صَرْفُهُ إلى هَذا القِسْمِ أوْلى، وبِهَذا التَّقْدِيرِ لا يَلْزَمُ كَوْنُ الآيَةِ مُجْمَلَةً، ولا يَلْزَمُ كَوْنُها مُتَناوِلَةً لِمَحَلِّ النِّزاعِ.
الوَجْهُ الرّابِعُ: سَلَّمْنا أنَّ هَذا النَّهْيَ يَتَناوَلُ مَحَلَّ النِّزاعِ، لَكِنْ لِمَ قُلْتُمْ: إنَّهُ يُفِيدُ التَّحْرِيمَ ؟ ألَيْسَ أنَّ كَثِيرًا مِن أقْسامِ النَّهْيِ لا يُفِيدُ التَّحْرِيمَ، بَلْ يُفِيدُ التَّنْزِيهَ ؟ فَلِمَ قُلْتُمْ: إنَّهُ لَيْسَ الأمْرُ كَذَلِكَ ؟ أقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ: هَذا عَلى خِلافِ الأصْلِ، ولَكِنْ يَجِبُ المَصِيرُ إلَيْهِ إذا دَلَّ الدَّلِيلُ، وسَنَذْكُرُ دَلائِلَ صِحَّةِ هَذا النِّكاحِ إنْ شاءَ اللَّهُ تَعالى.
الوَجْهُ الخامِسُ: أنَّ ما ذَكَرْتُمْ هَبْ أنَّهُ يَدُلُّ عَلى فَسادِ هَذا النِّكاحِ، إلّا أنَّ هَهُنا ما يَدُلُّ عَلى صِحَّةِ هَذا النِّكاحِ وهو مِن وُجُوهٍ:
الحُجَّةُ الأُولى: هَذا النِّكاحُ مُنْعَقِدٌ فَوَجَبَ أنْ يَكُونَ صَحِيحًا، بَيانُ أنَّهُ مُنْعَقِدٌ أنَّهُ عِنْدَ أبِي حَنِيفَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - مَنهِيٌّ عَنْهُ بِهَذِهِ الآيَةِ، ومِن مَذْهَبِهِ أنَّ النَّهْيَ عَنِ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلى كَوْنِهِ في نَفْسِهِ مُنْعَقِدًا وهَذا هو أصْلُ مَذْهَبِهِ في مَسْألَةِ البَيْعِ الفاسِدِ وصَوْمِ يَوْمِ النَّحْرِ، فَيَلْزَمُ مِن مَجْمُوعِ هاتَيْنِ المُقَدِّمَتَيْنِ أنْ يَكُونَ هَذا النِّكاحُ مُنْعَقِدًا عَلى أصْلِ أبِي حَنِيفَةَ، وإذا ثَبَتَ القَوْلُ بِالِانْعِقادِ في هَذِهِ الصُّورَةِ وجَبَ القَوْلُ بِالصِّحَّةِ؛ لِأنَّهُ لا قائِلَ بِالفَرْقِ، فَهَذا وجْهٌ حَسَنٌ مِن طَرِيقِ الإلْزامِ عَلَيْهِمْ في صِحَّةِ هَذا النِّكاحِ.(p-١٩)
الحُجَّةُ الثّانِيَةُ: عُمُومُ قَوْلِهِ تَعالى: ﴿ولا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُؤْمِنَّ﴾ [البقرة: ٢٢١] نَهْيٌ عَنْ نِكاحِ المُشْرِكاتِ ومَدَّ النَّهْيَ إلى غايَةٍ وهي إيمانُهُنَّ، والحُكْمُ المَمْدُودُ إلى غايَةٍ يَنْتَهِي عِنْدَ حُصُولِ تِلْكَ الغايَةِ، فَوَجَبَ أنْ يَنْتَهِيَ المَنعُ مِن نِكاحِهِنَّ عِنْدَ إيمانِهِنَّ، وإذا انْتَهى المَنعُ حَصَلَ الجَوازُ، فَهَذا يَقْتَضِي جَوازَ نِكاحِهِنَّ عَلى الإطْلاقِ، ولا شَكَّ أنَّهُ يَدْخُلُ في هَذا العُمُومِ مَزْنِيَّةُ الأبِ وغَيْرُها، أقْصى ما في البابِ أنَّ هَذا العُمُومَ دَخَلَهُ التَّخْصِيصُ في مَواضِعَ يَبْقى حُجَّةً في غَيْرِ مَحَلِّ التَّخْصِيصِ، وكَذَلِكَ نَسْتَدِلُّ بِجَمِيعِ العُمُوماتِ الوارِدَةِ في بابِ النِّكاحِ كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأنْكِحُوا الأيامى﴾ [النور: ٣٢] وقَوْلِهِ: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣] وأيْضًا نَتَمَسَّكُ بِقَوْلِهِ تَعالى: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾، ولَيْسَ لِأحَدٍ أنْ يَقُولَ: إنَّ قَوْلَهُ: ﴿ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ ضَمِيرٌ عائِدٌ إلى المَذْكُورِ السّابِقِ، ومِن جُمْلَةِ المَذْكُورِ السّابِقِ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ وذَلِكَ لِأنَّ الضَّمِيرَ يَجِبُ عَوْدُهُ إلى أقْرَبِ المَذْكُوراتِ، وأقْرَبُ المَذْكُوراتِ إلَيْهِ هو مِن قَوْلِهِ: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكم أُمَّهاتُكُمْ﴾، فَكانَ قَوْلُهُ: ﴿وأُحِلَّ لَكم ما وراءَ ذَلِكُمْ﴾ عائِدًا إلَيْهِ، ولا يَدْخُلُ فِيهِ قَوْلُهُ: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ وأيْضًا نَتَمَسَّكُ بِعُمُوماتِ الأحادِيثِ كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«إذا جاءَكم مَن تَرْضَوْنَ دِينَهُ فَزَوِّجُوهُ» “، وقَوْلِهِ: ”«زَوِّجُوا بَناتِكُمُ الأكْفاءَ» “ فَكُلُّ هَذِهِ العُمُوماتِ يَتَناوَلُ مَحَلَّ النِّزاعِ.
واعْلَمْ أنّا بَيَّنّا في أُصُولِ الفِقْهِ أنَّ التَّرْجِيحَ بِكَثْرَةِ الأدِلَّةِ جائِزٌ، وإذا كانَ كَذَلِكَ فَنَقُولُ بِتَقْدِيرِ أنْ يَثْبُتَ لَهم أنَّ النِّكاحَ حَقِيقَةٌ في الوَطْءِ مَجازٌ في العَقْدِ، فَلَوْ حَمَلْنا الآيَةَ عَلى العَقْدِ لَمْ يَلْزَمْنا إلّا مَجازٌ واحِدٌ، وبِتَقْدِيرِ أنْ نَحْمِلَ تِلْكَ الآيَةَ عَلى حُرْمَةِ النِّكاحِ يَلْزَمُنا هَذِهِ التَّخْصِيصاتُ الكَثِيرَةُ فَكانَ التَّرْجِيحُ مِن جانِبِنا بِسَبَبِ كَثْرَةِ الدَّلائِلِ.
الحُجَّةُ الثّالِثَةُ: الحَدِيثُ المَشْهُورُ في المَسْألَةِ وهو قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ”«الحَرامُ لا يُحَرِّمُ الحَلالَ» “ أقْصى ما في البابِ أنْ يُقالَ: إنَّ قَطْرَةً مِنَ الخَمْرِ إذا وقَعَتْ في كُوزٍ مِنَ الماءِ فَهَهُنا الحَرامُ حَرَّمَ الحَلالَ، وإذا اخْتَلَطَتِ المَنكُوحَةُ بِالأجْنَبِيّاتِ واشْتَبَهَتْ بِهِنَّ، فَهَهُنا الحَرامُ حَرَّمَ الحَلالَ، إلّا أنّا نَقُولُ: دُخُولُ التَّخْصِيصِ فِيهِ في بَعْضِ الصُّوَرِ، ولا يَمْنَعُ مِنَ الِاسْتِدْلالِ بِهِ.
الحُجَّةُ الرّابِعَةُ: مِن جِهَةِ القِياسِ أنْ نَقُولَ: المُقْتَضِي لِجَوازِ النِّكاحِ قائِمٌ، والفارِقُ بَيْنَ مَحَلِّ الإجْماعِ وبَيْنَ مَحَلِّ النِّزاعِ ظاهِرٌ، فَوَجَبَ القَوْلُ بِالجَوازِ، أمّا المُقْتَضِي فَهو أنْ يَقِيسَ نِكاحَ هَذِهِ المَرْأةِ عَلى نِكاحِ سائِرِ النِّسْوانِ عِنْدَ حُصُولِ الشَّرائِطِ المُتَّفَقِ عَلَيْها، بِجامِعِ ما في النِّكاحِ مِنَ المَصالِحِ، وأمّا الفارِقُ فَهو أنَّ هَذِهِ المَحْرَمِيَّةَ إنَّما حَكَمَ الشَّرْعُ بِثُبُوتِها سَعْيًا في إبْقاءِ الوُصْلَةِ الحاصِلَةِ بِسَبَبِ النِّكاحِ ومَعْلُومٌ أنَّ هَذا لا يَلِيقُ بِالزِّنا.
بَيانُ المَقامِ الأوَّلِ: مَن تَزَوَّجَ بِامْرَأةٍ، فَلَوْ لَمْ يَدْخُلْ عَلى المَرْأةِ أبُو الرَّجُلِ وابْنُهُ، ولَمْ تَدْخُلْ عَلى الرَّجُلِ أُمُّ المَرْأةِ وبِنْتُها، لَبَقِيَتِ المَرْأةُ كالمَحْبُوسَةِ في البَيْتِ، ولَتَعَطَّلَ عَلى الزَّوْجِ والزَّوْجَةِ أكْثَرُ المَصالِحِ، ولَوْ أذِنّا في هَذا الدُّخُولِ ولَمْ نَحْكم بِالمَحْرَمِيَّةِ فَرُبَّما امْتَدَّ عَيْنُ البَعْضِ إلى البَعْضِ وحَصَلَ المَيْلُ والرَّغْبَةُ، وعِنْدَ حُصُولِ التَّزَوُّجِ بِأُمِّها أوِ ابْنَتِها تَحْصُلُ النَّفْرَةُ الشَّدِيدَةُ بَيْنَهُنَّ؛ لِأنَّ صُدُورَ الإيذاءِ عَنِ الأقارِبِ أقْوى وقْعًا وأشَدُّ إيلامًا وتَأْثِيرًا، وعِنْدَ حُصُولِ النَّفْرَةِ الشَّدِيدَةِ يَحْصُلُ التَّطْلِيقُ والفِراقُ، أمّا إذا حَصَلَتِ المَحْرَمِيَّةُ انْقَطَعَتِ الأطْماعُ وانْحَبَسَتِ الشَّهْوَةُ، فَلا يَحْصُلُ ذَلِكَ الضَّرَرُ، فَبَقِيَ النِّكاحُ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ سَلِيمًا عَنْ هَذِهِ المَفْسَدَةِ، (p-٢٠)فَثَبَتَ أنَّ المَقْصُودَ مِن حُكْمِ الشَّرْعِ بِهَذِهِ المَحْرَمِيَّةِ السَّعْيُ في تَقْرِيرِ الِاتِّصالِ الحاصِلِ بَيْنَ الزَّوْجَيْنِ، وإذا كانَ المَقْصُودُ مِن شَرْعِ المَحْرَمِيَّةِ إبْقاءَ ذَلِكَ الِاتِّصالِ، فَمَعْلُومٌ أنَّ الِاتِّصالَ الحاصِلَ عِنْدَ النِّكاحِ مَطْلُوبُ البَقاءِ، فَيَتَناسَبُ حُكْمُ الشَّرْعِ بِإثْباتِ هَذِهِ المَحْرَمِيَّةِ، وأمّا الِاتِّصالُ الحاصِلُ عِنْدَ الزِّنا فَهو غَيْرُ مَطْلُوبِ البَقاءِ، فَلَمْ يَتَناسَبْ حُكْمُ الشَّرْعِ بِإثْباتِ هَذِهِ المَحْرَمِيَّةِ، وهَذا وجْهٌ مَقْبُولٌ مُناسِبٌ في الفَرْقِ بَيْنَ البابَيْنِ، وهَذا هو مِن قَوْلِ الإمامِ الشّافِعِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عِنْدَ مُناظَرَتِهِ في هَذِهِ المَسْألَةِ مُحَمَّدَ بْنَ الحَسَنِ حَيْثُ قالَ: وطْءٌ حُمِدْتَ بِهِ، ووَطْءٌ رُجِمْتَ بِهِ، فَكَيْفَ يَشْتَبِهانِ ؟ ولْنَكْتَفِ بِهَذا القَدْرِ مِنَ الكَلامِ في هَذِهِ المَسْألَةِ.
واعْلَمْ أنَّ السَّبَبَ في ذِكْرِ هَذا الِاسْتِقْصاءِ هَهُنا أنَّ أبا بَكْرٍ الرّازِيَّ طَوَّلَ في هَذِهِ المَسْألَةِ في تَصْنِيفِهِ، وما كانَ ذَلِكَ التَّطْوِيلُ إلّا تَطْوِيلًا في الكَلِماتِ المُخْتَلِطَةِ والوُجُوهِ الفاسِدَةِ الرَّكِيكَةِ، ثُمَّ إنَّهُ لَمّا آلَ الأمْرُ إلى المُكالَمَةِ مَعَ الإمامِ الشّافِعِيِّ أساءَ في الأدَبِ وتَعَدّى طَوْرَهُ، وخاضَ في السَّفاهَةِ وتَعامى عَنْ تَقْرِيرِ دَلائِلِهِ وتَغافَلَ عَنْ إيرادِ حُجَجِهِ، ثُمَّ إنَّهُ بَعْدَ أنْ كَتَبَ الأوْراقَ الكَثِيرَةَ في التُّرَّهاتِ الَّتِي لا نَفْعَ لِمَذْهَبِهِ مِنها ولا مَضَرَّةَ عَلى خُصُومِهِ بِسَبَبِها، أظْهَرَ القَدْحَ الشَّدِيدَ والتَّصَلُّفَ العَظِيمَ في كَثْرَةِ عُلُومِ أصْحابِهِ وقِلَّةِ عُلُومِ مَن يُخالِفُهم، ولَوْ كانَ مِن أهْلِ التَّحْصِيلِ لَبَكى عَلى نَفْسِهِ مِن تِلْكَ الكَلِماتِ الَّتِي حاوَلَ نُصْرَةَ قَوْلِهِ بِها، ولَتَعَلَّمَ الدَّلائِلَ مِمَّنْ كانَ أهْلًا لِمَعْرِفَتِها، ومَن نَظَرَ في كِتابِنا ونَظَرَ في كِتابِهِ وأنْصَفَ عَلِمَ أنّا أخَذْنا مِنهُ خَرَزَةً، ثُمَّ جَعَلْناها لُؤْلُؤَةً مِن شِدَّةِ التَّخْلِيصِ والتَّقْرِيرِ ثُمَّ أجَبْنا عَنْهُ بِأجْوِبَةٍ مُسْتَقِيمَةٍ عَلى قَوانِينِ الأُصُولِ، مُنْطَبِقَةٍ عَلى قَواعِدِ الفِقْهِ، ونَسْألُ اللَّهَ حُسْنَ الخاتِمَةِ ودَوامَ التَّوْفِيقِ والنُّصْرَةَ.
* * *
المَسْألَةُ الثّالِثَةُ: ذَكَرَ المُفَسِّرُونَ في قَوْلِهِ: ﴿إلّا ما قَدْ سَلَفَ﴾ وُجُوهًا:
الأوَّلُ وهو أحْسَنُها: ما ذَكَرَهُ السَّيِّدُ صاحِبُ حَلِّ المُقِلِّ فَقالَ: هَذا اسْتِثْناءٌ عَلى طَرِيقِ المَعْنى؛ لِأنَّ قَوْلَهُ: ﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ﴾ قَبْلَ نُزُولِ آيَةِ التَّحْرِيمِ فَإنَّهُ مَعْفُوٌّ عَنْهُ.
الثّانِي: قالَ صاحِبُ ”الكَشّافِ“: هَذا كَما اسْتَثْنى ”غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم“ مِن قَوْلِهِ: ”ولا عَيْبَ فِيهِمْ“ يَعْنِي إنْ أمْكَنَكم أنْ تَنْكِحُوا ما قَدْ سَلَفَ فانْكِحُوهَ فَإنَّهُ لا يَحِلُّ لَكم غَيْرُهُ، وذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ، والغَرَضُ المُبالَغَةُ في تَحْرِيمِهِ وسَدُّ الطَّرِيقِ إلى إباحَتِهِ، كَما يُقالُ: حَتّى يَبْيَضَّ القارُ، وحَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ.
الثّالِثُ: أنَّ هَذا اسْتِثْناءٌ مُنْقَطِعٌ لِأنَّهُ لا يَجُوزُ اسْتِثْناءُ الماضِي مِنَ المُسْتَقْبَلِ، والمَعْنى: لَكِنَّ ما قَدْ سَلَفَ فَإنَّ اللَّهَ تَجاوَزَ عَنْهُ. والرّابِعُ: ”إلّا“ هَهُنا بِمَعْنى بَعْدَ، كَقَوْلِهِ تَعالى: ﴿لا يَذُوقُونَ فِيها المَوْتَ إلّا المَوْتَةَ الأُولى﴾ [الدخان: ٥٦] أيْ بَعْدَ المَوْتَةِ الأُولى.
الخامِسُ: قالَ بَعْضُهم: مَعْناهُ إلّا ما قَدْ سَلَفَ فَإنَّكم مُقِرُّونَ عَلَيْهِ، قالُوا: إنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أقَرَّهم عَلَيْهِنَّ مُدَّةً ثُمَّ أمَرَ بِمُفارَقَتِهِنَّ. وإنَّما فَعَلَ ذَلِكَ لِيَكُونَ إخْراجُهم عَنْ هَذِهِ العادَةِ الرَّدِيئَةِ عَلى سَبِيلِ التَّدْرِيجِ، وقِيلَ: إنَّ هَذا خَطَأٌ؛ لِأنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ ما أقَرَّ أحَدًا عَلى نِكاحِ امْرَأةِ أبِيهِ، وإنْ كانَ في الجاهِلِيَّةِ. رَوى البَراءُ: «أنَّ النَّبِيَّ ﷺ بَعَثَ أبا بُرْدَةَ إلى رَجُلٍ عَرَّسَ بِامْرَأةِ أبِيهِ لِيَقْتُلَهُ ويَأْخُذَ مالَهُ» .
المَسْألَةُ الرّابِعَةُ: الضَّمِيرُ في قَوْلِهِ تَعالى: ”إنَّهُ“ إلى ماذا يَعُودُ ؟ فِيهِ وجْهانِ:
الأوَّلُ: أنَّهُ راجِعٌ إلى هَذا النِّكاحِ قَبْلَ النَّهْيِ، أعْلَمَ اللَّهُ تَعالى أنَّ هَذا الَّذِي حَرَّمَهُ عَلَيْهِمْ كانَ لَمْ يَزَلْ مُنْكَرًا في قُلُوبِهِمْ مَمْقُوتًا عِنْدَهم، وكانَتِ العَرَبُ تَقُولُ لِوَلَدِ الرَّجُلِ مِنِ امْرَأةِ أبِيهِ: مَقْتِيٌّ، وذَلِكَ لِأنَّ زَوْجَةَ الأبِ تُشْبِهُ الأُمَّ، وكانَ نِكاحُ الأُمَّهاتِ مِن أقْبَحِ الأشْياءِ عِنْدَ العَرَبِ، فَلَمّا كانَ هَذا النِّكاحُ يُشْبِهُ ذَلِكَ، لا جَرَمَ كانَ مُسْتَقْبَحًا عِنْدَهم، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى (p-٢١)أنَّ هَذا النِّكاحَ أبَدًا كانَ مَمْقُوتًا وقَبِيحًا.
الثّانِي: أنَّ هَذا الضَّمِيرَ راجِعٌ إلى هَذا النِّكاحِ بَعْدَ النَّهْيِ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعالى أنَّهُ كانَ فاحِشَةً في الإسْلامِ ومَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ، وإنَّما قالَ: ”كانَ“ لِبَيانِ أنَّهُ كانَ في حُكْمِ اللَّهِ وفي عِلْمِهِ مَوْصُوفًا بِهَذا الوَصْفِ.
المَسْألَةُ الخامِسَةُ: أنَّهُ تَعالى وصَفَهُ بِأُمُورٍ ثَلاثَةٍ:
أوَّلُها: أنَّهُ فاحِشَةٌ، وإنَّما وصَفَ هَذا النِّكاحَ بِأنَّهُ فاحِشَةٌ لِما بَيَّنّا أنَّ زَوْجَةَ الأبِ تُشْبِهُ الأُمَّ فَكانَتْ مُباشَرَتُها مِن أفْحَشِ الفَواحِشِ.
وثانِيها: المَقْتُ: وهو عِبارَةٌ عَنْ بُغْضٍ مَقْرُونٍ بِاسْتِحْقارٍ، حَصَلَ ذَلِكَ بِسَبَبِ أمْرٍ قَبِيحٍ ارْتَكَبَهُ صاحِبُهُ، وهو مِنَ اللَّهِ في حَقِّ العَبْدِ يَدُلُّ عَلى غايَةِ الخِزْيِ والخَسارِ.
وثالِثُها: قَوْلُهُ: ﴿وساءَ سَبِيلًا﴾ قالَ اللَّيْثُ: ”ساءَ“ فِعْلٌ لازِمٌ وفاعِلُهُ مُضْمَرٌ، و”سَبِيلًا“ مَنصُوبٌ تَفْسِيرًا لِذَلِكَ الفاعِلِ، كَما قالَ: ﴿وحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا﴾ [النساء: ٦٩]، واعْلَمْ أنَّ مَراتِبَ القُبْحِ ثَلاثَةٌ: القُبْحُ في العُقُولِ، وفي الشَّرائِعِ، وفي العاداتِ، فَقَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً﴾ إشارَةٌ إلى القُبْحِ العَقْلِيِّ، وقَوْلُهُ: ﴿ومَقْتًا﴾ إشارَةٌ إلى القُبْحِ الشَّرْعِيِّ، وقَوْلُهُ: ﴿وساءَ سَبِيلًا﴾ إشارَةٌ إلى القُبْحِ في العُرْفِ والعادَةِ، ومَتى اجْتَمَعَتْ فِيهِ هَذِهِ الوُجُوهُ فَقَدْ بَلَغَ الغايَةَ في القُبْحِ، واللَّهُ أعْلَمُ.
{"ayah":"وَلَا تَنكِحُوا۟ مَا نَكَحَ ءَابَاۤؤُكُم مِّنَ ٱلنِّسَاۤءِ إِلَّا مَا قَدۡ سَلَفَۚ إِنَّهُۥ كَانَ فَـٰحِشَةࣰ وَمَقۡتࣰا وَسَاۤءَ سَبِیلًا"}
- أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.
أمّهات
جامع البيان
تفسير الطبري
نحو ٢٨ مجلدًا
تفسير القرآن العظيم
تفسير ابن كثير
نحو ١٩ مجلدًا
الجامع لأحكام القرآن
تفسير القرطبي
نحو ٢٤ مجلدًا
معالم التنزيل
تفسير البغوي
نحو ١١ مجلدًا
جمع الأقوال
منتقاة
عامّة
عامّة
فتح البيان
فتح البيان للقنوجي
نحو ١٢ مجلدًا
فتح القدير
فتح القدير للشوكاني
نحو ١١ مجلدًا
التسهيل لعلوم التنزيل
تفسير ابن جزي
نحو ٣ مجلدات
موسوعات
أخرى
لغة وبلاغة
معاصرة
الميسر
نحو مجلد
المختصر
المختصر في التفسير
نحو مجلد
تيسير الكريم الرحمن
تفسير السعدي
نحو ٤ مجلدات
أيسر التفاسير
نحو ٣ مجلدات
القرآن – تدبّر وعمل
القرآن – تدبر وعمل
نحو ٣ مجلدات
تفسير القرآن الكريم
تفسير ابن عثيمين
نحو ١٥ مجلدًا
مركَّزة العبارة
تفسير الجلالين
نحو مجلد
جامع البيان
جامع البيان للإيجي
نحو ٣ مجلدات
أنوار التنزيل
تفسير البيضاوي
نحو ٣ مجلدات
مدارك التنزيل
تفسير النسفي
نحو ٣ مجلدات
الوجيز
الوجيز للواحدي
نحو مجلد
تفسير القرآن العزيز
تفسير ابن أبي زمنين
نحو مجلدين
آثار
غريب ومعاني
السراج في بيان غريب القرآن
غريب القرآن للخضيري
نحو مجلد
الميسر في غريب القرآن الكريم
الميسر في الغريب
نحو مجلد
تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن قتيبة
نحو مجلد
التبيان في تفسير غريب القرآن
غريب القرآن لابن الهائم
نحو مجلد
معاني القرآن وإعرابه
معاني الزجاج
نحو ٤ مجلدات
معاني القرآن
معاني القرآن للنحاس
نحو مجلدين
معاني القرآن
معاني القرآن للفراء
نحو مجلدين
مجاز القرآن
مجاز القرآن لمعمر بن المثنى
نحو مجلد
معاني القرآن
معاني القرآن للأخفش
نحو مجلد
أسباب النزول
إعراب ولغة
الإعراب الميسر
نحو ٣ مجلدات
إعراب القرآن
إعراب القرآن للدعاس
نحو ٤ مجلدات
الجدول في إعراب القرآن وصرفه وبيانه
الجدول في إعراب القرآن
نحو ٨ مجلدات
الدر المصون
الدر المصون للسمين الحلبي
نحو ١٠ مجلدات
اللباب
اللباب في علوم الكتاب
نحو ٢٤ مجلدًا
إعراب القرآن وبيانه
إعراب القرآن للدرويش
نحو ٩ مجلدات
المجتبى من مشكل إعراب القرآن
مجتبى مشكل إعراب القرآن
نحو مجلد
إعراب القرآن
إعراب القرآن للنحاس
نحو ٣ مجلدات
تحليل كلمات القرآن
نحو ٩ مجلدات
الإعراب المرسوم
نحو ٣ مجلدات
المجمّع
بالرسم الجديد
بالرسم القديم
حفص عن عاصم
شُعْبة عن عاصم
قالون عن نافع
ورش عن نافع
البَزِّي عن ابن كثير
قُنبُل عن ابن كثير
الدُّوري عن أبي عمرو
السُّوسِي عن أبي عمرو
نستعليق