الباحث القرآني

فِيهِ أَرْبَعُ مَسَائِلَ: الْأُولَى- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ﴾ يُقَالُ: كَانَ النَّاسُ يَتَزَوَّجُونَ امْرَأَةَ الْأَبِ بِرِضَاهَا بَعْدَ نُزُولِ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً﴾ حَتَّى نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ) فَصَارَ حَرَامًا فِي الْأَحْوَالِ كُلِّهَا، لِأَنَّ النِّكَاحَ يَقَعُ عَلَى الْجِمَاعِ وَالتَّزَوُّجِ، فَإِنْ كَانَ الْأَبُ تَزَوَّجَ امْرَأَةً أَوْ وَطِئَهَا بِغَيْرِ نِكَاحٍ حَرُمَتْ عَلَى ابْنِهِ، عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. الثَّانِيةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿مَا نَكَحَ﴾ قِيلَ: الْمُرَادُ بِهَا النِّسَاءُ. وَقِيلَ: الْعَقْدُ، أَيْ نِكَاحُ آبَائِكُمُ الْفَاسِدُ الْمُخَالِفُ لِدِينِ اللَّهِ، إِذِ اللَّهُ قَدْ أَحْكَمَ وَجْهَ النِّكَاحِ وَفَصَّلَ شُرُوطَهُ. وَهُوَ اخْتِيَارُ الطَّبَرِيِّ. فَ (مِنَ) مُتَعَلِّقَةٌ بِ (تَنْكِحُوا) وَ (مَا نَكَحَ) مَصْدَرٌ. قَالَ: وَلَوْ كَانَ مَعْنَاهُ وَلَا تَنْكِحُوا النِّسَاءَ اللَّاتِي نَكَحَ آبَاؤُكُمْ لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَوْضِعُ (مَا) (مَنْ). فَالنَّهْيُ عَلَى هَذَا إِنَّمَا وَقَعَ عَلَى أَلَّا يَنْكِحُوا مِثْلَ نِكَاحِ آبَائِهِمُ الْفَاسِدِ. وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ، وَتَكُونُ (مَا) بِمَعْنَى (الَّذِي) وَ (مَنْ). وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الصَّحَابَةَ تَلَقَّتِ الْآيَةَ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى، وَمِنْهُ اسْتَدَلَّتْ عَلَى مَنْعِ نِكَاحِ الْأَبْنَاءِ حَلَائِلَ الْآبَاءِ. وَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ قَبَائِلُ قَدِ اعْتَادَتْ أَنْ يَخْلُفَ ابْنُ الرَّجُلِ عَلَى امْرَأَةِ أبيه، وَكَانَتْ هَذِهِ السِّيرَةُ فِي الْأَنْصَارِ لَازِمَةً، وَكَانَتْ فِي قُرَيْشٍ مُبَاحَةً مَعَ التَّرَاضِي. أَلَا تَرَى أَنَّ عَمْرَو بْنَ أُمَيَّةَ خَلَفَ عَلَى امْرَأَةِ أَبِيهِ بَعْدَ مَوْتِهِ فَوَلَدَتْ لَهُ مُسَافِرًا وَأَبَا مُعَيْطٍ، وَكَانَ لَهَا مِنْ أُمَيَّةَ أَبُو الْعِيصِ وَغَيْرُهُ، فَكَانَ بَنُو أُمَيَّةَ إِخْوَةَ مُسَافِرٍ وَأَبِي مُعَيْطٍ وَأَعْمَامَهُمَا. وَمِنْ ذَلِكَ صَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ تَزَوَّجَ بَعْدَ أَبِيهِ امْرَأَتَهُ فَاخِتَةَ بِنْتَ الْأَسْوَدِ بْنِ الْمُطَّلِبِ بْنِ أَسَدٍ، وَكَانَ أُمَيَّةُ قُتِلَ عَنْهَا. وَمِنْ ذَلِكَ مَنْظُورُ بْنُ زَبَّانَ خَلَفَ عَلَى مُلَيْكَةَ بِنْتِ خَارِجَةَ، وَكَانَتْ تَحْتَ أَبِيهِ زَبَّانَ بْنِ سَيَّارٍ. وَمِنْ ذَلِكَ حِصْنُ بْنُ أَبِي قَيْسٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ كُبَيْشَةَ بِنْتَ مَعْنٍ. وَالْأَسْوَدُ بْنُ خَلَفٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةَ أَبِيهِ. وَقَالَ الْأَشْعَثُ بْنُ سَوَّارٍ: تُوُفِّيَ أَبُو قَيْسٍ وَكَانَ مِنْ صَالِحِي الْأَنْصَارِ فَخَطَبَ ابْنُهُ قَيْسٌ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَقَالَتْ: إِنِّي أَعُدُّكَ وَلَدًا، وَلَكِنِّي أَتَى رَسُولَ اللَّهِ ﷺ أَسْتَأْمِرُهُ، فَأَتَتْهُ فَأَخْبَرَتْهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ هَذِهِ الْآيَةَ. وَقَدْ كَانَ فِي الْعَرَبِ مَنْ تَزَوَّجَ ابْنَتَهُ، وَهُوَ حَاجِبُ بْنُ زُرَارَةَ تَمَجَّسَ وَفَعَلَ هَذِهِ الْفَعْلَةَ، ذَكَرَ ذَلِكَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ فِي كِتَابِ الْمَثَالِبِ. فَنَهَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ آبَاؤُهُمْ مِنْ هَذِهِ السِّيرَةِ. الثَّالِثَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ﴾ أَيْ تَقَدَّمَ وَمَضَى. وَالسَّلَفُ، مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ آبَائِكَ وَذَوِي قَرَابَتِكَ. وَهَذَا اسْتِثْنَاءٌ مُنْقَطِعٌ، أَيْ لَكِنَّ مَا قَدْ سَلَفَ فَاجْتَنِبُوهُ وَدَعُوهُ. وَقِيلَ: (إِلَّا) بِمَعْنَى بَعْدَ، أَيْ بَعْدَ مَا سَلَفَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى) أَيْ بَعْدَ الْمَوْتَةِ [[راجع ج ١٦ ص ١٥٤.]] الْأُولَى. وَقِيلَ: (إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ) أَيْ وَلَا مَا سَلَفَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً [[راجع ص ٣١١ من هذا الجزء.]]) يَعْنِي وَلَا خَطَأً. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ تَقْدِيمٌ وَتَأْخِيرٌ، مَعْنَاهُ: وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ. وَقِيلَ: فِي الْآيَةِ إِضْمَارٌ لِقَوْلِهِ (وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ) فَإِنَّكُمْ إِنْ فَعَلْتُمْ تُعَاقَبُونَ وَتُؤَاخَذُونَ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ. الرَّابِعَةُ- قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا﴾ عَقَّبَ بِالذَّمِّ الْبَالِغِ الْمُتَتَابِعِ، وَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ فِعْلٌ انْتَهَى مِنَ الْقُبْحِ إِلَى الْغَايَةِ. قَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ: سَأَلْتُ ابْنَ الْأَعْرَابِيِّ عَنْ نِكَاحِ الْمَقْتِ فَقَالَ: هُوَ أَنْ يَتَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ أَبِيهِ إذا طلقها أو مات عَنْهَا، وَيُقَالُ لِهَذَا الرَّجُلِ: الضَّيْزَنُ [[الضيزن: الذي يزاحم أباه في امرأته.]]، وَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: كَانَتِ الْعَرَبُ إِذَا تَزَوَّجَ الرَّجُلُ امْرَأَةَ أَبِيهِ فَأَوْلَدَهَا قِيلَ لِلْوَلَدِ الْمَقْتِيُّ. وَأَصْلُ الْمَقْتِ الْبُغْضُ، مِنْ مَقَتَهُ يَمْقُتُهُ مَقْتًا فَهُوَ مَمْقُوتٌ وَمَقِيتٌ. فَكَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ لِلرَّجُلِ مِنَ امْرَأَةِ أَبِيهِ: مَقِيتٌ، فَسَمَّى تَعَالَى هَذَا النِّكَاحَ (مَقْتاً) إِذْ هُوَ ذَا مَقْتٍ يَلْحَقُ فَاعِلَهُ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ بِالْآيَةِ النَّهْيُ عَنْ أَنْ يَطَأَ الرَّجُلُ امْرَأَةً وَطِئَهَا الْآبَاءُ، إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ مِنَ الْآبَاءِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنَى بِالنِّسَاءِ لَا عَلَى وَجْهِ الْمُنَاكَحَةِ فَإِنَّهُ جَائِزٌ لَكُمْ زَوَاجُهُنَّ. وَأَنْ تَطَئُوا بِعَقْدِ النِّكَاحِ مَا وَطِئَهُ آبَاؤُكُمْ مِنَ الزِّنَى، قَالَ ابْنُ زَيْدٍ. وَعَلَيْهِ فَيَكُونُ الِاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، وَيَكُونُ أَصْلًا فِي أَنَّ الزِّنَى لَا يُحَرِّمُ عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ. والله أعلم.
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب