الباحث القرآني

﴿ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ﴾ تَقَدَّمَ ذِكْرُ شَيْءٍ مِن سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ في قَوْلِهِ: ﴿لا يَحِلُّ لَكم أنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهًا﴾ [النساء: ١٩] وقَدْ ذَكَرُوا قِصَصًا، مَضْمُونُها أنَّ مِنَ العَرَبِ مَن كانَ يَتَزَوَّجُ امْرَأةَ أبِيهِ، وسَمَّوْا جَماعَةً تَزَوَّجُوا زَوْجاتِ آبائِهِمْ بَعْدَ مَوْتِ آبائِهِمْ، فَأنْزَلَ اللَّهُ تَحْرِيمَ ذَلِكَ. وتَقَدَّمَ الخِلافُ في النِّكاحِ: أهُوَ حَقِيقَةٌ في الوَطْءِ، أمْ في العَقْدِ، أمْ مُشْتَرَكٌ ؟ قالُوا: ولَمْ يَأْتِ النِّكاحُ بِمَعْنى العَقْدِ إلّا في ﴿فانْكِحُوهُنَّ بِإذْنِ أهْلِهِنَّ﴾ [النساء: ٢٥] وهَذا الحَصْرُ مَنقُوضٌ بِقَوْلِهِ: ﴿إذا نَكَحْتُمُ المُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أنْ تَمَسُّوهُنَّ﴾ [الأحزاب: ٤٩] . واخْتُلِفَ في (ما) مِن قَوْلِهِ: ما نَكَحَ. فالمُتَبادَرُ إلى الذِّهْنِ أنَّها مَفْعُولُهُ، وأنَّها واقِعَةٌ عَلى النَّوْعِ كَهي في قَوْلِهِ تَعالى: ﴿فانْكِحُوا ما طابَ لَكم مِنَ النِّساءِ﴾ [النساء: ٣] أيْ: ولا تَنْكِحُوا النَّوْعَ الَّذِي نَكَحَ آباؤُكم. وقَدْ تَقَرَّرَ في عِلْمِ العَرَبِيَّةِ أنَّ (ما) تَقَعُ عَلى أنْواعِ مَن يَعْقِلُ، وهَذا عَلى مَذْهَبِ مَن يَمْنَعُ وُقُوعَها عَلى آحادِ مَن يَعْقِلُ. أمّا مَن (p-٢٠٨)يُجِيزُ ذَلِكَ فَإنَّهُ يَتَّضِحُ حَمْلُ (ما) في الآيَةِ عَلَيْهِ، وقَدْ زَعَمَ أنَّهُ مَذْهَبُ سِيبَوَيْهِ. وعَلى هَذا المَفْهُومِ مِن إطْلاقِ (ما) عَلى مَنكُوحاتِ الآباءِ تَلَقَّتِ الصَّحابَةُ الآيَةَ واسْتَدَلُّوا بِها عَلى تَحْرِيمِ نِكاحِ الأبْناءِ حَلائِلَ الآباءِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كانَ أهْلُ الجاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ ما يَحْرُمُ إلّا امْرَأةَ الأبِ، والجَمْعَ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ في ذَلِكَ. وقالَ ابْنُ عَبّاسٍ: كُلُّ امْرَأةٍ تَزَوَّجَها أبُوكَ دَخَلَ بِها أوْ لَمْ يَدْخُلْ، فَهي عَلَيْكَ حَرامٌ. وقالَ قَوْمٌ: ما مَصْدَرِيَّةٌ. والتَّقْدِيرُ: ولا تَنْكِحُوا نِكاحَ آبائِكم أيْ: مِثْلَ نِكاحِ آبائِكُمُ الفاسِدِ، أوِ الحَرامِ الَّذِي كانُوا يَتَعاطَوْنَهُ في الجاهِلِيَّةِ كالشِّغارِ وغَيْرِهِ، كَما تَقُولُ: ضَرَبْتُ ضَرْبَ الأمِيرِ أيْ: مِثْلَ ضَرْبِ الأمِيرِ. ويُبَيِّنُ كَوْنَهُ حَرامًا أوْ فاسِدًا قَوْلُهُ: ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً﴾ واخْتارَ هَذا القَوْلَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ قالَ: ولَوْ كانَ مَعْناهُ ولا تَنْكِحُوا النِّساءَ اللّاتِي نَكَحَ آباؤُكم، لَوَجَبَ أنْ يَكُونَ مَوْضِعَ ما مِن. وحَمَلَ ابْنُ عَبّاسٍ وعِكْرِمَةُ والسُّدِّيُّ وعَطاءٌ النِّكاحَ هُنا عَلى الوَطْءِ؛ لِأنَّهم كانُوا يَرِثُونَ نِكاحَ نِسائِهِمْ. وقالَ ابْنُ زَيْدٍ في جَماعَةٍ: المُرادُ بِهِ العَقْدُ الصَّحِيحُ، لا ما كانَ مِنهم بِالزِّنا. انْتَهى. والِاسْتِثْناءُ في قَوْلِهِ: إلّا ما قَدْ سَلَفَ مُنْقَطِعٌ، إذْ لا يُجامِعُ الِاسْتِقْبالُ الماضِيَ، والمَعْنى: أنَّهُ لَمّا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أنْ يَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُهم، دَلَّ عَلى أنَّ مُتَعاطِيَ ذَلِكَ بَعْدَ التَّحْرِيمِ آثِمٌ، وتَطَرَّقَ الوَهْمُ إلى ما صَدَرَ مِنهم قَبْلَ النَّهْيِ ما حُكْمُهُ ؟ فَقِيلَ: ﴿إلّا ما قَدْ سَلَفَ﴾ أيْ: لَكِنْ ما قَدْ سَلَفَ، فَلَمْ يَكُنْ يَتَعَلَّقُ بِهِ النَّهْيُ فَلا إثْمَ فِيهِ. ولَمّا حَمَلَ ابْنُ زَيْدٍ النِّكاحَ عَلى العَقْدِ الصَّحِيحِ، حَمَلَ قَوْلَهُ: إلّا ما قَدْ سَلَفَ، عَلى ما كانَ يَتَعاطاهُ بَعْضُهم مِنَ الزِّنا، فَقالَ: إلّا ما قَدْ سَلَفَ مِنَ الآباءِ في الجاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنا بِالنِّساءِ، فَذَلِكَ جائِزٌ لَكم زَواجُهم في الإسْلامِ، إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا، وكَأنَّهُ قِيلَ: ولا تَعْقِدُوا عَلى مَن عَقَدَ عَلَيْهِ آباؤُكم إلّا ما قَدْ سَلَفَ مِن زِناهم، فَإنَّهُ يَجُوزُ لَكم أنْ تَتَزَوَّجُوهم، ويَكُونُ عَلى هَذا اسْتِثْناءً مُنْقَطِعًا. وقِيلَ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ: إنَّ مَعْنى الآيَةِ النَّهْيُ أنْ يَطَأ الرَّجُلُ امْرَأةً وطِئَها أبُوهُ إلّا ما قَدْ سَلَفَ مِنَ الأبِ في الجاهِلِيَّةِ مِنَ الزِّنا بِالمَرْأةِ، فَإنَّهُ يَجُوزُ لِلِابْنِ تَزَوُّجُها، فَعَلى هَذا يَكُونُ ﴿إلّا ما قَدْ سَلَفَ﴾ اسْتِثْناءً مُتَّصِلًا، إذْ (ما قَدْ سَلَفَ) مُنْدَرِجٌ تَحْتَ قَوْلِهِ: ما نَكَحَ، إذِ المُرادُ: ما وطِئَ آباؤُكم. وما وطِئَ يَشْمَلُ المَوْطُوءَةَ بِزِنًا وغَيْرِهِ، والتَّقْدِيرُ: ما وطِئَ آباؤُكم إلّا الَّتِي تَقَدَّمَ هو أيْ: وطْؤُها بِزِنًا مِن آبائِكم فانْكِحُوهُنَّ. ومَن جَعَلَ (ما) في قَوْلِهِ: ما نَكَحَ مَصْدَرِيَّةً كَما قَرَّرْناهُ، قالَ: المَعْنى إلّا ما تَقَدَّمَ مِنكم مِن تِلْكَ العُقُودِ الفاسِدَةِ فَمُباحٌ لَكُمُ الإقامَةُ عَلَيْهِ في الإسْلامِ، إذا كانَ مِمّا تَقَرَّرَ الإسْلامُ عَلَيْهِ. وقالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإنْ قُلْتَ: كَيْفَ اسْتَثْنى ﴿ما قَدْ سَلَفَ﴾ مِن ﴿ما نَكَحَ آباؤُكُمْ﴾ ؟ قُلْتُ: كَما اسْتَثْنى (غَيْرَ أنَّ سُيُوفَهم) مِن قَوْلِهِ: (ولا عَيْبَ فِيهِمْ) . يَعْنِي: إنْ أمْكَنَكم أنْ تَنْكِحُوا ما قَدْ سَلَفَ فانْكِحُوهُ، فَلا يَحِلُّ لَكم غَيْرُهُ، وذَلِكَ غَيْرُ مُمْكِنٍ. والغَرَضُ المُبالَغَةُ في تَحْرِيمِهِ وسَدُّ الطَّرِيقِ إلى إباحَتِهِ، كَما يُعَلَّقُ بِالمَجالِ في التَّأْبِيدِ في نَحْوِ قَوْلِهِمْ: حَتّى يَبْيَضَّ القارُّ، وحَتّى يَلِجَ الجَمَلُ في سَمِّ الخِياطِ. انْتَهى كَلامُهُ. وقالالأخْفَشُ: المَعْنى: تُعَذَّبُونَ بِهِ إلّا ما قَدْ سَلَفَ، فَقَدْ وضَعَهُ اللَّهُ عَنْكم. وقِيلَ: في الآيَةِ تَقْدِيمٌ وتَأْخِيرٌ، تَقْدِيرُهُ: ولا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكم مِنَ النِّساءِ إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا إلّا ما قَدْ سَلَفَ، وهَذا جَهْلٌ بِعِلْمِ النَّحْوِ، وعِلْمِ المَعانِي. أمّا مِن حَيْثُ عِلْمِ النَّحْوِ فَما كانَ في حَيِّزِ (إنَّ) لا يَتَقَدَّمَ عَلَيْها، وكَذَلِكَ المُسْتَثْنى لا يَتَقَدَّمُ عَلى الجُمْلَةِ الَّتِي هو مِن مُتَعَلَّقاتِها بِالِاتِّصالِ أوِ الِانْقِطاعِ، وإنْ كانَ في هَذا خِلافٌ، ولا يُلْتَفَتُ إلَيْهِ. وأمّا مِن حَيْثُ المَعْنى فَإنَّهُ أخْبَرَ أنَّهُ فاحِشَةٌ ومَقْتٌ في الزَّمانِ الماضِي، فَلا يَصِحُّ أنْ يُسْتَثْنى مِنهُ الماضِي، إذْ يَصِيرُ المَعْنى هو فاحِشَةٌ في الزَّمانِ الماضِي، إلّا ما وقَعَ مِنهُ في الزَّمانِ الماضِي فَلَيْسَ بِفاحِشَةٍ، وهَذا مَعْنى لا يُمْكِنُ أنْ يَقَعَ في القُرْآنِ، ولا في كَلامٍ عَرَبِيٍّ لِتَهافَتِهِ. والَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الآيَةِ أنَّ كُلَّ امْرَأةٍ نَكَحَها أبُو الرَّجُلِ بِعَقْدٍ أوْ مِلْكٍ فَإنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ أنْ يَنْكِحَها بِعَقْدٍ أوْ مِلْكٍ، لِأنَّ النِّكاحَ يَنْطَلِقُ عَلى المَوْطُوءَةِ بِعَقْدٍ (p-٢٠٩)أوْ مِلْكٍ، لِأنَّهُ لَيْسَ إلّا نِكاحٌ أوْ سِفاحٌ، والسِّفاحُ هو الزِّنا، والنِّكاحُ هو المُباحُ، وأشارَ إلى تَحْرِيمِ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ. * * * ﴿إنَّهُ كانَ فاحِشَةً ومَقْتًا وساءَ سَبِيلًا﴾ أيْ أنَّ نِكاحَ الأبْناءِ نِساءَ آبائِهِمْ هو فاحِشَةٌ أيْ: بالِغَةٌ في القُبْحِ. ومَقْتٌ: أيْ يَمْقُتُ اللَّهُ فاعِلَهُ، قالَهُ أبُو سُلَيْمانَ الدِّمَشْقِيُّ. أوْ تَمْقُتُهُ العَرَبُ أيْ: مُبْغَضٌ مُحْتَقَرٌ عِنْدَهم، وكانَ ناسٌ مِن ذَوِي المُرُوآتِ في الجاهِلِيَّةِ يَمْقُتُونَهُ. قالَ أبُو عُبَيْدَةَ وغَيْرُهُ: كانَتِ العَرَبُ تُسَمِّي الوَلَدَ الَّذِي يَجِيءُ مِن زَوْجِ الوالِدِ - المَقْتِيَّ؛ نِسْبَةً إلى المَقْتِ. ومَن فَسَّرَ ﴿إلّا ما قَدْ سَلَفَ﴾ بِالزِّنا جَعَلَ الضَّمِيرَ في (إنَّهُ) عائِدٌ عَلَيْهِ، أيْ: أنَّ ما قَدْ سَلَفَ مِن زِنا الآباءِ كانَ فاحِشَةً، و(كانَ) يُسْتَعْمَلُ كَثِيرًا بِمَعْنى لَمْ يَزَلْ، فالمَعْنى: أنَّ ذَلِكَ لَمْ يَزَلْ فاحِشَةً، بَلْ هو مُتَّصِفٌ بِالفُحْشِ في الماضِي والحالِ والمُسْتَقْبَلِ، فالفُحْشُ وصْفٌ لازِمٌ لَهُ. وقالَ المُبَرِّدُ: هي زائِدَةٌ. ورَدَّ عَلَيْهِ بِوُجُودِ الخَبَرِ، إذِ الزّائِدَةُ لا خَبَرَ لَها. ويَنْبَغِي أنْ يُتَأوَّلَ كَلامُهُ عَلى أنَّ كانَ لا يُرادُ بِها تَقْيِيدُ الخَبَرِ بِالزَّمَنِ الماضِي فَقَطْ، فَجَعَلَها زائِدَةً بِهَذا الِاعْتِبارِ. ﴿وساءَ سَبِيلًا﴾ هَذِهِ مُبالَغَةٌ في الذَّمِّ، كَما يُبالَغُ بِبِئْسَ. فَإنْ كانَ فِيها ضَمِيرٌ يَعُودُ عَلى ما عادَ عَلَيْهِ ضَمِيرُ (إنَّهُ)، فَإنَّها لا تَجْرِي عَلَيْها أحْكامُ بِئْسَ. وإنْ كانَ الضَّمِيرُ فِيها مُبْهَمًا كَما يَزْعُمُ أهْلُ البَصْرَةِ فَتَفْسِيرُهُ (سَبِيلًا)، ويَكُونُ المَخْصُوصُ بِالذَّمِّ إذْ ذاكَ مَحْذُوفًا، التَّقْدِيرُ: وبِئْسَ سَبِيلًا سَبِيلُ هَذا النِّكاحِ، كَما جاءَ: بِئْسَ الشَّرابُ، أيْ: ذَلِكَ الماءُ الَّذِي كالمُهْلِ. وبالَغَ في ذَمِّ هَذِهِ السَّبِيلِ، إذْ هي سَبِيلٌ مُوَصِّلَةٌ إلى عَذابِ اللَّهِ. «وقالَ البَراءُ بْنُ عازِبٍ: لَقِيتُ خالِي ومَعَهُ الرّايَةُ، فَقُلْتُ: أيْنَ تُرِيدُ ؟ قالَ: أرْسَلَنِي رَسُولُ اللَّهِ إلى رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأةَ أبِيهِ مِن بَعْدِهِ أنْ أضْرِبَ عُنُقَهُ» .
    1. أدخل كلمات البحث أو أضف قيدًا.

    أمّهات

    جمع الأقوال

    منتقاة

    عامّة

    معاصرة

    مركَّزة العبارة

    آثار

    إسلام ويب